بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
ينبعثُ الإنسانُ نحو ما يسدُّ به نواقِصِهِ مِنْ الواقعِ الأصيل لنفسِ النقص والضعف؛ إذ أنَّ شعوره وإدراكه للنقص والضعف كافيان لنشوء بواعث البحث عن كلِّ ما يتعلَّق بسدِّ النقص ودفع الضعف، وهذا أمرٌ عقليٌّ يرجع إلى فطرة دفع الألم والسعي لتحصيل اللذة.
من التكوينات الأولية الموافقة لهذه الفطرة السليمة تعلُّق البشر ببعضهم البعض، وهو تكوينٌ يقوم على حقيقة التكامل بينهم في مختلف الجهات بما يحقِّق الغاية الأصيلة؛ وهي الفرار من ألم النقص والضعف إلى لذَّة الكمال والقوَّة، ولذا نرى أنَّ الجاهل يبحث عن الأعلم، والمتشائم عن المتفائل، ومن يعاني نقصًا في الاحتضان العاطفي يبحث عن مَنْ يفيض عليه حنانًا وعاطفةً، وفي المقابل أيضًا يبحثُ العالِمُ عن طالبٍ لعلمه، وصاحب العاطفة عن مَنْ يحتاجها منه؛ حيث إنَّ العطاءَ حَاجَةٌ تكوينية. وهكذا ينجذب الإنسانُ نحو مَنْ يتكامل معه بنحو من أنحاء التكامل.
عن الإمام عليِّ بن الحسين (عليهما السَّلام)، قال:
"نحن أئمَّةُ المسلمين، وحُجج الله على العالمين، وسادةُ المُؤمنين، وقادَةُ الغُرِّ المُحَجَّلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمانُ أهل الأرض كما أنَّ النُّجومَ أمانٌ لأهل السَّماء، ونحن الذين بنا يُمسكُ اللهُ السَّماء أنْ تقع على الأرض إلَّا بإذنه، وبنا يُمسكُ الأرضَ أنْ تَميدَ بأهْلِها، وبنا يُنْزِلُ الغيث، وبنا يَنْشُرُ الرحمة، ويُخرِجُ بركات الأرض. ولو لا ما في الأرض مِنَّا لَسَاخَتْ بأهلِهَا"[1].
الإمامة، والحجَّة، والسِّيادة، والقيادة، والولاية، والأمان.. كلُّها حاجات أصيلة لكلِّ من هو دون المُطلق منها، بل والمطلق مطلقٌ بالنظر إلى من دونه مِنَ الخلق، وإلَّا فهو حقيقةُ افتقارٍ بالنسبة إلى الخالق جلَّ في علاه، وبذلك يبقى سريان الحاجة في هذا الوجود المخلوق، ولا انقطاع إلَّا إلى عند الله سبحانه وتعالى.
ثُمَّ أنَّ مَن هو دون الأئمة (عليهم السَّلام) مِنْ سائر البشر يحتاج إلى مَن فوقه منتهيًا عندهم (عليهم السَّلام).
عن إسحاق بن يعقوب، قال: "سألتُ مُحَمَّد بن عثمان العمري (رحمه الله) أنْ يُوصِل لي كتابًا قد سألتُ فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فَوَرَدَ التوقيعُ بِخَطِّ مولانا صَاحِبِ الزَّمان (عليه السَّلام):
أمَّا مَا سألتَ عنه أرْشَدَكَ اللهُ وثَبَّتَكَ، وَوَقَاكَ مِنْ أمْرِ المُنْكِرينَ لي من أهل بيتنا وبني عمنا. فاعلم، أنَّه ليس بين الله عزَّ وجلَّ وبين أحدٍ قَرَابَةٌ، وَمَنْ أنْكَرَني فليس مِنِّي، وسبيلُهُ سَبيلُ ابنِ نوح"، إلى أنْ قالَ (عليه السَّلام): "وأمَّا الحَوادِثُ الواقِعَةُ فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنَّهم حُجَّتِي عليكم وأنا حُجَّةُ الله"[2]. وروى في عوالي اللئالي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: "الأنبياءُ قادَةٌ، والعُلمَاءُ سَادَةٌ، ومجالستُهم عِبَادَةٌ"[3].
إذا كان ما تقدَّم واضحًا مفهومًا، فإنَّ العالِمَ لا يفرض نفسه على الناس قائدًا، بل هم يبحثون عنه طلبًا للأمان والطمأنينة، وقد قِيلَ: (إذا صَلُحَ العالِمُ صَلُحَ العالَمُ، وإذا فَسَدَ العَالِمُ فَسَدَ العَالَمُ)، وما ذاك إلَّا لتعلُّق العباد به، ووضعهم لأمرهم بيده، وجعلهم لثقتهم فيه. وكلَّما كان بقدر الثقة والمسؤولية، اطمَأنوا وانصرفوا لصلاح دينهم وديناهم وقد استندوا إلى ركن وثيق.
إنَّها حالة طبيعية يسلكها المجتمع البشري في كلِّ زمان ومكان، ولأنَّها كذلك فإنَّنا رأينا ونشهد انفصامَ عُرى القِيَم والاستقرار عند اختلال معادلة (الكبير في القوم)، فيؤول أمرهم (القوم) إلى شتات وضياع. فكان مِن أهمِّ الموانع والروادع ضدَّ محاولات تضعيف وإقصاء نظرية (الكبير) إظهار الكبير لما يجعله مستحقًّا لموقعه في الناس، ولكونه ركنًا وثيقًا يسكنون إليه، ويرفعون به رايةَ رُشْدِهِم.
عندما يكون الحديث عن المسلمين فمِنَ الواضح أنَّ الكبير فيهم هو العالِمُ الذي يرونه امتدادًا للنبي الأكرم وأوصيائه الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وهذه ثقافة إسلامية أصيلة؛ فقد روى الشَّيخ الكليني (علا برهانه) بسنده إلى أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ؛ وذَاكَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُورِثُوا دِرْهَمًا ولَا دِينَارًا، وإِنَّمَا أَوْرَثُوا أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ. فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَظًّا وَافِرًا. فَانْظُرُوا عِلْمَكُمْ هَذَا عَمَّنْ تَأْخُذُونَه، فَإِنَّ فِينَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي كُلِّ خَلَفٍ عُدُولاً يَنْفُونَ عَنْه تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ"[4].
يأخذ تعلُّقُ الناس بطالب العِلم في الابتناء بمجرَّد تلبُّسه بالمبدأ، فيحظى في أوَّل أمره باحترامهم وتقديرهم له، ثُمَّ يبدأون بالرجوع إليه في المسائل الشرعية التي يُبلِّغها عن الفقهاء الأعلام، ثُمَّ في غيرها إنْ كان من أهل الجِدِّ في التحصيل، ولكنَّ علاقتهم به تضعف في المسائل الخطيرة، إلَّا أن يَرَونَ فِيهِ العَالِمَ الباحِثَ، والمحَقِّقَ المُدَقِّقَ، وكلَّما ظهر في هذه المقامات العلمية، كان مُؤهَّلًا لثقة العباد وركونهم إليه. وهنا تَنْبيهٌ مُهِمٌّ؛ وهو الالتفات إلى أنَّ حاجةَ النَّاس مُتَوَجِّهةٌ إلى ما يظهر لهم من علمية العالِم، وهذا أمر مختلف تمامًا عن كون ما يظهره في بحثٍ أو تحقيقٍ أو ما نحو ذلك قد استوفاه غيرُه من العلماء في حواضرنا العلمية؛ فالمؤمنون يحتاجون إلى عالِمٍ ظاهرٍ بينهم بِعلمِهِ، ولا علاقة لهم، في هذا البُعدِ، بغيره من العلماء في شرق الأرض وغربها.
ثُمَّ إنَّنا نُنَبِّهُ إلى أنَّ هذا الإظهار من العَالِمِ لِعلمِهِ عامِلٌ من عوامل استقراره في الموضع محلِّ الكلام، ولا نقول بأنَّه العامل الوحيد والعِلَّة التامَّة، وإنَّما نُركِّز الكلام فيه لما تقتضيه الغاية من هذه المقالة.
محبرةُ العالِمِ أمانٌ للمؤمنين:
يتلقَّى طالبُ العالمِ ما يطلبه بإحدى طُرق التلقي والتحصيل، ثُمَّ أنَّه يسعى لاختبار أمرين؛ أوَّلهما صحَّة ما حصَّله، والثاني اختباره لضبطه وحفظه له، وهما أمران يستعصي تحصيلهما ما لم يُخرِج طالِبُ العلمِ في مواطن الفحص والاختبار ما حصَّله من علم، وهي المواطن التي يجتمع فيها مع أقرانه لتداول العلم ومذاكرته، فيُصحَّح ما حُصِّل، وتُختَبر الأفهام وضبط الأذهان.
رُويَ عن الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: "تَذَاكَرُوا، وتَلَاقَوْا، وتَحَدَّثُوا؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ جِلَاءٌ لِلْقُلُوبِ، إِنَّ الْقُلُوبَ لَتَرِينُ كَمَا يَرِينُ السَّيْفُ، جِلَاؤُهَا الْحَدِيثُ"[5]. وفائدة التذاكر، والتلاقي، والتحدُّث راجعة إلى نفس المتذاكرين، والمتلاقين، والمتحدِّثين، وتنعكس في عموم المؤمنين حينما تخرج مسائل علومهم مُنقَّحةً قد صُقِلَت أقلامها ونضحت محابرها، فتشتدُّ بها القلوب وتسكن النفوس إلى أصحابها من أهل العلم والفضل.
عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام): "اكْتُبْ، وبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ، فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ؛ فَإِنَّه يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لَا يَأْنَسُونَ فِيه إِلَّا بِكُتُبِهِمْ"[6].
يُقال:
ما أكثر ما نسمع مقولات الاستصغار للنفس وتقزيمها عند الحديث عن العلماء الأعلام، والحال انَّهم (نوَّر الله أضرحة الماضين منهم، وأدام الباقين في كرامة وعز العلم) ما كانوا ليكونوا لو لا ثقتهم في أنَّ الله تعالى يمدُّ بعطائه من يسعى إليه. قال عزَّ مِنْ قائل (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا)[7]، فمن أين جاء الاعتقاد بأنَّ أرضًا ولَّادة للعلماء، وأخرى عقيم؟
نعم، هنالك من سعى لتكوين أجواء علمية، وساعدته مجموعة من الظروف مثل وجود المشاهد المُشرَّفة (رفع الله تعالى رايتها)، ولكنَّ نفس المشاهد لو لم تكن موجودة من الأصل، فهل يعني ذلك انتهاء حقبة العلماء بعد وقوع الغيبة الكبرى؟
لقد بُنيت الحواضر العلمية في قرون اصطبغت عقودها بالجهد والصبر وتحمُّل العظائم والمشاق، ولو أنَّ حملة الرايات الشريفة توقَّفوا لأخذ النفس لانقطعت جهودهم وعاد غزلهم من بعد قوَّة أنكاثًا.
ثُمَّ أنَّ عاقلًا لا يقول بالوصول في مئة سنة إلى ما حقَّقه الماضون في ألف، ولكنَّ عاقلًا أيضًا، لا يقول بعدم السعي لتحقيق ما يتحقَّق في المئة.
وممَّا ينبغي التنبيه إليه هو أنَّ مِن سَعَادَةِ العَالِمِ عندما يصل تلميذه إلى عالي الدرجات في العلم فيكون له فيه صنوًا، بل وأكثر، وليس بذي نفسٍ شريفة مَن لا يسعى لرفع تلامذته إلى كراسي البحث والعلم ينصبونها في كل صقع مأهول بالمؤمنين، فتكون فيها لهم موئلًا وحصنًا حاميًا.
رذيلة الخوف من الضعف والتقصير:
ترجع الكثير من الاعتناقات إلى سطوة النفس وتسلطها على الذهن، فتنتشر فيه الأوهام وتتلاعب في مقدراته التخيلات، وكلها أبعد ما تكون عن الواقع. ومنها وساوس الضعف وعدم القدرة على مجاراة الآخرين، وما نحو ذلك!
فلنتنبَّه إلى أنَّ أوَّل الخطأ إنَّما هو في المقارنة والقياس على الآخر، فإنَّ القويَّ ضعيفٌ بالقياس إلى الأقوى، والضعيفَ قويٌّ إذا ما قيس إلى الأضعف، ولا قوَّة إلَّا من بعد ضعف، ولا ذهاب لضعفٍ ما لم يُعرَّض معروضه إلى النقد والمناقشة، بل إلى الإعابة والسخرية!
إنَّ من أعظم الكتب في الفقه الاستدلالي المُوسَّع كتاب جواهر الكلام للشَّيخ محمَّد حسن النجفي (قدَّس الله نفسه)، ولكن في أحوال الأغا الدربندي يذكر الميرزا محمَّد بن سليمان التنكابني حوارًا دار بين صاحب الجواهر وبين الأغا الدربندي حين التقى معه في كربلاء، وسأل صاحب الجواهر الأغا الدربندي عن رأيه في كتاب جواهر الكلام، فقال: "يوجد الكثير من هذا في خزائننا"! ويُنقل أنَّ الشَّيخ محسن آل خنفر، وهو من كبار علماء النجف، قال لصاحب الجواهر: "أعطِ جواهرَك هذه لبائعي الفلفل والكمّون يُصِرُّونَ بِهَا"!
والقصص في مثل هذه التضعيفات كثيرة، ومن أنكسر في خضم أجوائها انتهى ولم يعد له من ذكر، أمَّا من شدَّ صلبه بحزام الهِمَّة والحِكمة فقد فاض في المؤمنين خيرًا وصلاحًا وأمنًا.
إنَّ مرحلةَ الاستصغار، والإعراض، وأكثر، قد تكون ممَّا يغلب تعرُّض أصحاب الهمم العالية له، وإنَّما الرهان حينذاك على قوَّة العزيمة، وحضور الشكيمة تحت عقال الحكمة وسعة الصدر.
زبدة المخاض:
فليسمح لي القارئ الكريم؛ فإنَّ إصرار طالب العلم على الإعراض عن إظهار تحصيله العلمي وتعريضه للمناقشة والنقد، فيه ما فيه مِنَ الأنانية، فإنَّ إظهار العلم حقٌّ للمؤمنين على العالِم، وقد حاولنا بيان وجوهه في هذه السطور. وليكن واضحًا أنَّ الإعراض تواضعًا ليس من التواضع في شيء، كما وليس فيه احترام لأستاذ أو عالم، وإنَّما ذلك من الوساوس المُعطِّلة والتوهمات الحاطِمة، وكلُّ ذلك يرجع على عموم المؤمنين بما لا خير فيه ولا صلاح.
إنَّنا في حاجة دائمة إلى علماء فقهاء في كلِّ مكان وناحية، وإلى نتاجهم العلمي لتخضر به الأرض وتزهر أشجارها، وهذه مسؤولية لا يُنتظر من مدارسنا وحوزاتنا العلمية أقل من تحملها ورفع راية ما فيها من تطلعات عالية.
ولنؤكِّد على أنَّنا لا نقصد الكتابات الثقافية وما نحوها، بل ما نتطلع إليه هو العلم وما تنضح به محابر أهله وأربابه.
نسأل الله تعالى التوفيق لكلِّ خير وصلاح.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
14 من ذي القعدة 1443 للهجرة
البحرين المحروسة
....................................
[1] - الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 252 - 253
[2] - الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 281 - 283
[3] - عوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج 4 - ص 73
[4] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 32
[5] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 41
[6] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 52
[7] - الآية 20 من سورة الإسراء