أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم، بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله المتفضّل علينا بأجلّ النّعم والباعث لنا سيّد الأمم، سيدنا محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله أولياء النّعم وسلاطين الكرم.
أمّا بعد فقد صادفتنا في دراستنا لكتاب اللمعة مسألة تعدّد الغسلات وكان قد خطر على مسامعي أنّ الشّيخ صاحب الحدائق أعلى الله درجاته يحرّم الغسلة الثّانية، فرجعت لما حبّره في حدائقه وأحببت أن أهدي ما وجدته لأصحابي في الدّرس فإنّ المشهور شهرة عظيمة بيننا اليوم استحبابها، وما ذهب له الشّيخ قد يكون غريبًا علينا، فأوجزتُ بحثه تنبيهًا لإخوتي على وجود المخالف في الفتوى وتنويهًا على أهمّية بحثها، فرتّبت فصول الكلام وقدّمت وعنونت ما يفيد المقام سائلًا المولى سبحانه التّوفيق والتّسديد وأن يجعلنا من خدّام شريعة سيّد الأنام جدّنا المصطفى خاتم الرسل وآله الكرام صلوات الله عليهم والسّلام.
[البحث الأوّل: الأقوال في تثنية الغسلات]
القول الأوّل: الاستحباب، وادّعى عليه ابنُ إدريس رحمه الله الإجماع.
القول الثّاني: التّحريم.
القول الثّالث: عدم الاستحباب، ونسب لـ: الشّيخ الصّدوق والكلينيّ.
تحقيق قول الصّدوق عليه الرّحمة:
استفيد عدم الاستحباب ممّا ورد في الفقيه ومستطرفات السّرائر:
١. "والوُضوءُ مَرّةٌ مَرّةٌ، وَمَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ لَمْ يُؤْجَرْ وَمَنْ تَوَضَّأَ ثَلَاثاً فَقَدْ أَبْدَعَ "
٢. "عَنِ الْبَزَنْطِيِّ عَنِ الْمُثَنَّى عَنْ زُرَارَةَ وَأَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السّلام وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَضْلَ فِي وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ زَادَ عَلَى اثْنَتيْنِ لَمْ يُؤْجَرْ. "
والحقّ أنّ المستفاد هو التّحريم؛ لأمرين:
١. القاعدة: لا مباح في العبادة، بل ولا تتصوّر الإباحة في العبادة؛ فمتى انتفى الأجر لزم زيادتها، وعدم كونها من الوضوء؛ فتكون محرّمة.
٢. أقوال الصّدوق في مواضع أخرى:
فمثلا: كلامه في الفقيه بعد الرّواية الثّالثة في باب "صفة وضوء رسول الله ﷺ" من تفسير الرّوايات الدّالّة على المرّتين وبيان حملها، ففي مرسلة أبي جعفر الأحول عمن رواه عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: "فَرَضَ اللهُ الْوُضُوءَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلنَّاسِ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ." فسّر قوله عليه السّلام "ووضع رسول الله ﷺ" على السّؤال الاستنكاريّ لا الإخبار ودليل هذا التّفسير: ما روي من أنّ الوضوء من حدود الله، وقول الله تعالى: "وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ " فلا يصحّ أن يتعدّى المعصوم حدود الله.
وحمل مرسلة عمرو بن أبي المقدام قال حدثني من سمع أبا عبد الله يقول "إِنِّي لَأَعْجَبُ مِمَّنْ يَرْغَبُ أَنْ يَتَوَضَّأَ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَقَدْ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، فَإنَّ النَّبيَّ ﷺ كانَ يُجدِّدُ الوضوءَ لِكُلِّ فريضَةٍ ولِكُلِّ صَلَاةٍ " -وغيرها مما سيأتي- على التّجديد، أي تجديد الوضوء، وفي آخر كلامه (أعلى الله مقامه) قال معلّقًا على حديث الصادق عليه السّلام: "مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ لَمْ يُؤْجَرْ.": "يعني به: أتى بغير الّذي أُمر به ووُعِدَ الأجر عليه، فلا يستحقّ الأجر." انتهى.
وهذا الكلام صريح في إنكاره الثّانية، وقولِه ببدعيّتها.
ب) تحقيق قول الكلينيّ رحمه الله:
الّذي يظهر من عبارته القول بالتّحريم، حيث إنّه حمل أخبار المرّة على الوضوء الشّرعي المأمور به. وأخبار المرّتين على من أراد السنّة في الإسباغ ولم تقنعه المرّة في ذلك فيغسل حينئذ مرّتين وهذا هو أقصى الحدّ في الوضوء، ومنتهى الرّخصة في الزّيادة فيه. وأخبار الثّلاث الدّالّة على عدم الأجر بعد تجاوز الغسلتين على من تجاوز حدّ الرّخصة؛ فإنّه يأثم وليس له وضوء؛ إذ أنّ الغسلة الثّالثة لا مدخلية لها في الوجوب ولا في الاستحباب بعد أن امتثل وغسل بالثّانية إسباغا.
ونصّه: "هذا دليل على أنّ الوضوء إنّما هو مرّة مرّة لأنه عليه السّلام كان إذا ورد عليه أمران كلاهما لله طاعة أخذ بأحوطهما وأشدّهما على بدنه. وإن الذي جاء عنهم عليهم السّلام أنه قال: "الوضوء مّرتان" انه هو لمن لم يقنعه مرّة واستزاده فقال: "مرّتان" ثمّ قال: "ومن زاد على مرّتين لم يؤجر". وهو أقصى غاية الحدّ في الوضوء الّذي من تجاوزه أثم ولم يكن له وضوء وكان كمن صلّى الظّهر خمس ركعات ولو لم يطلق عليه السّلام في المرّتين لكان سبيلهما سبيل الثّلاث. " فلعلّ ما توهّموه من نسبة القول بالاستحباب له ناش من فهمهم عود الضّمير "وهو" إلى الحديث "ومن زاد" بمعنى أنّ الزّيادة على المرّتين أقصى غاية الحد في حين أنّها عائدة إلى كلامه السّابق ومضمونه أنّ الوضوء مرّة مرّة والمرّتين لمن لم يقتنع بأداء الوجب كاملا، فالمرّتين عبارة عن غسلة واحدة فالزّيادة عليها وإن كانت على دفعتين باطلة من هنا ظهر أنّه يوافق قول الصّدوق في تعدّي الحدّ بالتّثنية.
[البحث الثّاني: الأخبار الواردة في المسألة]
وهي على قسمين:
أ) الدّال على الواحدة
١: روايات الوضوء البياني الّتي تضمنت الغسل بكفّ كف لكل من الأعضاء المغسولة.
٢: صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: "إِنَّ اللهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ، فَقَدْ يُجْزِئكَ مِنَ الْوُضُوءِ ثَلَاثُ غُرُفَاتٍ، وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَاثْنَتَانِ لِلذِّرَاعَيْن."
٣: حديث مُيسّر عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ: "اَلْوُضُوءُ وَاحِدَةٌ وَاحِدَةٌ."
٤: عن يونس بن عمّار قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السّلام عَنِ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ: "مَرَّةٌ مَرَّةٌ."
٥: صحيحة الأخوين زرارة و بكير أَنَّهُمَا سَأَلَا أَبَا جَعْفَرٍ عليه السّلام عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَدَعَا بِطَشْتٍ -إلى أن قالا:
"أَصْلَحَكَ اللهُ، فَالْغُرْفَةُ الْوَاحِدَةُ تُجْزِي لِلْوَجْهِ وَغُرْفَةٌ لِلذِّرَاعِ؟ قَالَ عليه السّلام نَعَمْ إِذَا بَالَغْتَ فِيهَا، وَالثِّنْتَانِ تَأْتِيَانِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ."
٦: موثّقة عبد الكريم قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السّلام عَنِ الْوُضُوءِ، فَقَالَ: "مَا كَانَ وُضُوءُ عَلِيٍّ عليه السّلام إِلَّا مَرَّةً مَرَّةً."
٧: مضمرة الفقيه المرسلة قال عليه السّلام: "مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ لَمْ يُؤْجَرْ."
٨: مرسلة الفقيه عن الصادق عليه السّلام: "وَاللهِ مَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللهِ إِلَّا مَرَّةً مَرَّةً. وَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ ﷺ مَرَّةً مَرَّةً فَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ."
ب) الأخبار المعارضة ظاهرا:
١: صحيحة معاوية بن وهب قال: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السّلام عَنِ الْوُضُوءِ فَقَالَ مَثْنَى مَثْنَى."
٢: صحيحة صفوان عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: "الْوُضُوءُ مَثْنَى مَثْنَى."
٣: رواية زرارة عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: "الْوُضُوءُ مَثْنَى مَثْنَى، مَنْ زَادَ لَمْ يُؤْجَرْ عَلَيْهِ."
٤: موثّقة يونس بن يعقوب قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السّلام: "الْوُضُوءُ الَّذِي افْتَرَضَهُ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ، لِمَنْ جَاءَ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ بَالَ، قَالَ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيُذْهِبُ الْغَائِطَ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ."
٥: ما رواه مستطرفات السّرائر عن أبي عبد الله عليه السّلام فِي الْوُضُوءِ قَالَ: "اعْلَمْ أَنَّ الْفَضْلَ فِي وَاحِدَةٍ، وَمَنْ زَادَ عَلَى اثْنَتَيْنِ لَمْ يُؤْجَرْ."
٦: مرسلة مؤمن الطّاق عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: "فَرَضَ اللهُ الْوُضُوءَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلنَّاسِ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ."
٧: مرسلة عمرو بن أبي المقدام قال حدثني من سمع أبا عبد الله يقول "إِنِّي لَأَعْجَبُ مِمَّنْ يَرْغَبُ أَنْ يَتَوَضَّأَ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَقَدْ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ."
٨: مضمرة الفقيه المرسلة قال: "مَا روي فِي مَرَّتَيْنِ أَنَّهُ إِسْبَاغٌ."
٩: مرسلة محمد بن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: "الْوُضُوءُ وَاحِدَةٌ فَرْضٌ، وَاثْنَتَانِ لَا يُؤْجَرُ وَالثَّالِثَةُ بِدْعَةٌ."
١٠: رواية ابن بكير عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: "مَنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ أَنَّ وَاحِدَةً مِنَ الْوُضُوءِ تُجْزِيهِ لَمْ يُؤْجَرْ عَلَى الثِّنْتَيْنِ."
١١: حسنة داود بن زربي قال: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السّلام عَنِ الْوُضُوءِ، فَقَالَ لِي تَوَضَّأْ ثَلَاثاً ثَلَاثاً قَال: ثُمَّ قَالَ لِي أَلَيْسَ تَشْهَدُ بَغْدَادَ وَعَسَاكِرَهُمْ، قُلْتُ بَلَى قَالَ فَكُنْتُ يَوْماً أَتَوَضَّأُ فِي دَارِ الْمَهْدِيِّ، فَرَآنِي بَعْضُهُمْ وَأَنَا لَا أَعْلَمُ بِهِ فَقَالَ، كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّكَ فُلَانِيٌّ وَأَنْتَ تَتَوَضَّأُ هَذَا الْوُضُوءَ، قَالَ فَقُلْتُ لِهَذَا وَاللهِ أَمَرَنِي."
١٢: عن عثمان بن زياد أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السّلام فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ، "إِنِّي سَأَلْتُ أَبَاكَ عَنِ الْوُضُوءِ، فَقَالَ مَرَّةً مَرَّةً فَمَا تَقُولُ أَنْتَ، فَقَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْأَلَنِي عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِلَّا وَأَنْتَ تَرَى أَنِّي أُخَالِفُ أَبِي، تَوَضَّأْ ثَلَاثاً وَخَلِّلْ أَصَابِعَكَ."
١٣: ممّا كتبه الرّضا عليه السّلام للمأمون: "ثُمَّ الْوُضُوءُ كَمَا أَمَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، غَسْلُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً."
وروي مِثْلَهُ في موضع آخر إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ "إِنَّ الْوُضُوءَ مَرَّةً فَرِيضَةٌ وَاثْنَتَانِ إِسْبَاغٌ ".
١٤: عن داود الرقي قال: "دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السّلام فَقُلْتُ لَهُ، جُعِلْتُ فِدَاكَ كَمْ عِدَّةُ الطَّهَارَةِ، فَقَالَ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ فَوَاحِدَةٌ وَأَضَافَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِﷺ وَاحِدَةً لِضَعْفِ النَّاسِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ ثَلَاثاً ثَلَاثاً فَلَا صَلَاةَ لَهُ، أَنَا مَعَهُ فِي ذَا حَتَّى جَاءَهُ دَاوُدُ بْنُ زُرْبِيٍّ، فَسَأَلَهُ عَنْ عِدَّةِ الطَّهَارَةِ، فَقَالَ لَهُ ثَلَاثاً ثَلَاثاً، مَنْ نَقَصَ عَنْهُ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، قَالَ فَارْتَعَدَتْ فَرَائِصِي وَكَادَ أَنْ يَدْخُلَنِيَ الشَّيْطَانُ، فَأَبْصَرَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السّلام إِلَيَّ وَ قَدْ تَغَيَّرَ لَوْنِي، فَقَالَ اسْكُنْ يَا دَاوُدُ، هَذَا هُوَ الْكُفْرُ أَوْ ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ، قَالَ فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، وَكَانَ ابْنُ زُرْبِيٍّ إِلَى جِوَارِ بُسْتَانِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ قَدْ أُلْقِيَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ أَمْرُ دَاوُدَ بْنِ زُرْبِيٍّ، وَأَنَّهُ رَافِضِيٌّ يَخْتَلِفُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ إِنِّي مُطَّلِعٌ إِلَى طَهَارَتِهِ، فَإِنْ هُوَ تَوَضَّأَ وُضُوءَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَإِنِّي لَأَعْرِفُ طَهَارَتَهُ حَقَّقْتُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ وَقَتَلْتُهُ، فَاطَّلَعَ وَدَاوُدُ يَتَهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ، فَأَسْبَغَ دَاوُدُ بْنُ زُرْبِيٍّ الْوُضُوءَ ثَلَاثاً ثَلَاثاً، كَمَا أَمَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السّلام فَمَا تَمَّ وُضُوؤُهُ حَتَّى بَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فَدَعَاهُ، قَالَ فَقَالَ دَاوُدُ فَلَمَّا أَنْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ رَحَّبَ بِي، وَقَالَ يَا دَاوُدُ قِيلَ فِيكَ شَيْءٌ بَاطِلٌ، وَمَا أَنْتَ كَذَلِكَ، قَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى طَهَارَتِكَ، وَلَيْسَ طَهَارَتُكَ طَهَارَةَ الرَّافِضَةِ، فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ، وَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، قَالَ فَقَالَ دَاوُدُ الرَّقِّيُّ، الْتَقَيْتُ أَنَا وَدَاوُدُ بْنُ زُرْبِيٍّ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السّلام فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ بْنُ زُرْبِيٍّ، جُعِلْتُ فِدَاكَ حَقَنْتَ دِمَاءَنَا فِي دَارِ الدُّّنْيَا، وَنَرْجُو أَنْ نَدْخُلَ بِيُمْنِكَ وَ بَرَكَتِكَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السّلام فَعَلَ اللهُ ذَلِكَ بِكَ، وَبِإِخْوَانِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السّلام لِدَاوُدَ بْنِ زُرْبِيٍّ، حَدِّثْ دَاوُدَ الرَّقِّيَّ بِمَا مَرَّ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَسْكُنَ رَوْعَتُهُ، فَقَالَ فَحَدَّثْتُهُ بِالْأَمْرِ كُلِّهِ، قَالَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السّلام لِهَذَا أَفْتَيْتُهُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَشْرَفَ عَلَى الْقَتْلِ مِنْ يَدِ هَذَا الْعَدُوِّ، ثُمَّ قَالَ يَا دَاوُدَ بْنَ زُرْبِيٍّ تَوَضَّأْ مَثْنَى مَثْنَى، وَلَا تَزِدَنَّ عَلَيْهِ، فَإِنَّكَ إِنْ زِدْتَ عَلَيْهِ فَلَا صَلَاةَ لَكَ."
١٥: حادثة علي بن يقطين المشهورة وفي آخرها: "وَوَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُ أَبِي الْحَسَنِ عليه السّلام ابْتَدِئْ مِنَ الْآنَ، يَا عَلِيَّ بْنَ يَقْطِينٍ وَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللهُ تَعَالَى، اغْسِلْ وَجْهَكَ مَرَّةً فَرِيضَةً، وَأُخْرَى إِسْبَاغاً، وَاغْسِلْ يَدَيْكَ مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ كَذَلِكَ، وَامْسَحْ بِمُقَدَّمِ رَأْسِكَ، وَظَاهِرِ قَدَمَيْكَ مِنْ فَضْلِ نَدَاوَةِ وَضُوئِكَ، فَقَدْ زَالَ مَا كُنَّا نَخَافُ مِنْهُ عَلَيْكَ وَالسَّلَامُ."
[البحث الثّالث: ما حمل عليه الأصحاب ومناقشة تفسيرهم]
أ) ما ذهب إليه المشهور:
١- حمل أخبار المرّتين والتّثنية على تعدّد الغسلات.
٢- حمل الغسلة الثّانية على الاستحباب بعد الغسل كاملًا بالأولى.
٣- حمل نفي الأمر بالغسلة الثّانية على ما إذا اعتقد وجوبها.
والإشكال على ذلك بأنّ روايات الوضوء البيانيّ المستفيضة خالية من الغسلة الثّانية فيبعد من ذلك الحمل على الاستحباب.
ردّ الإشكال: تلك الأحاديث إنّما وردت في مقام بيان الواجب من الوضوء خاصة.
نقول:
أولًا: هذه دعوى خالية من الدّليل، بل النّصوص المقصودة في حكاية فعل الرسول ﷺ، وفعله مشتمل على الواجب والمستحب.
ثانيًا: بعض أخبار حكایات وضوئهم عليهم السلام ظاهرة الدّلالة على عدم المرّتين.
ثالثًا: روى زرارة عن أبي عبد الله عليه السّلام"الْوُضُوءُ مَثْنَى مَثْنَى، مَنْ زَادَ لَمْ يُؤْجَرْ عَلَيْهِ وَحَكَى لَنَا وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَغَسَلَ وَجْهَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَذِرَاعَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِفَضْلِ وَضُوئِهِ وَرِجْلَيْهِ.. "، فإذا حملنا التّّثنية على حمل المشهور من استحباب الغسلة الثّانية لنافى ذلك ما حكاه الإمام عليه السّلام عن النّبي ﷺ في المرّة، فيحصل التّدافع بين صدر الخبر وعجزه.
ب) ما ذهب إليه الصّدوق:
وقد تقدّم تفصيل تفسيره للرّوایات بـ:
١- حمل المرّتين في بعض الأخبار -كمرسلة مؤمن الطّاق- على السؤال الاستنكاري مع التّسليم بأنّ المرّتين بمعنى الغسلتين.
٢- حمل مرسلة بن أبي المقدام على تجديد الوضوء، وكذلك أحاديث من زاد على المرّتين.
ولا يخفى عليك ما فيه من التّكلّف؛ أوّلًا: الاستنكار لا يتناسب وروایة داود الرّقّي فالزّيادة من النّبي ﷺ في الغسلات ولا تقبل التّأويل.
ثانيًا: إن لرسول الله ﷺ تفويضًا بالزّيادة وهو ما شهدت به روايات الزّيادة في الصّلاة.
ثالثًا: ما ذكره في التّجديد ممنوع لأنّ التّجديد غير مقيّد بعدد مع الأخذ بالنّظر الفصل بين كلّ وضوء.
رابعًا: حمل الإسباغ على التّجديد في مثل المضمرة مما لا يكاد یشمّ له رائحة من الأخبار ولا من كلام أحدٍ من الأصحاب؛ إذ الظّاهر المتبادر من الإسباغ هو الإكثار من ماء الوضوء لا تكراره.
ج) ما ذهب إليه الشّيخ حسن صاحب المعالم:
الحمل في التّثنية على التّقيّة؛ لأنّ العامّة تنكر الوحدة.
وهو لا بأس به بحسب الظاهر إلّا أنّه لا يشمل جميع الروايات فروايتا: علي بن يقطين وداود بن زربي تشهد أنّ التّقيّة كانت في الثّلاث وكذلك شهدت رواية داود الرّقّي أنّ زيادة الثّانية من النّبي ﷺ فهي ليست تقيّة وأخيرًا فقد عبّرت رواية كتاب الكاظم عليه السّلام لابن يقطين الثّانية بالإسباغ.
د) ما ذهب إليه الشّيخ البهائي:
أنّ مثنى مثنى تعبير ثانٍ عن غسلتين، ومسحتين.
وهو ممكن الاحتمال في بعض الرّوايات إلّا أنّه لا يجري في غيرها، فلا یحسم مادة الإشكال.
هـ) ما ذهب إليه بعض الأصحاب ومال له صاحب المدارك:
أن الغسلة الثّانية نهاية حدّ الجواز ولا أجر فيها.
والإشكال أنّ مثل هذا الحمل لا يشمل روايات الإسباغ كما هو ظاهر.
و) ما ذهب إليه الفيض الكاشاني:
حمل أحاديث الوحدة على الغسلة وأحاديث التّثنية على الغرفة.
وهذا الاحتمال أقرب من تلك الاحتمالات إلى الرّوايات لكن لا على ما يُفهم من كلامه رحمه الله من حمل لفظ الوحدة والمرّة على الغسلة كائنا ما كان بل على ما تقتضيه القرائن الحالية وتساعد عليه المقامات المقاليّة، ومن أنّ الغسلة المفروضة يستحب أن تكون بغرفتين دائما فإنّ الإشكال يتوجّه بمخالفة ذلك لما استفاض من حكاية وضوء النّبي ﷺ من أنّ الوضوء غرفة غرفة؛ إذ لو كان قد وضع الغرفتين حدًّا لتلك الغسلة بمعنى أنّه ﷺ سنّ أن تكون الغسلة بغرفتين لكان هو ﷺ أولى من لازم عليها، وأبناؤه أولى من أحيى سنّته ونهج طريقته.
وأما ما خطر بالبال العليل والفكر الكليل
فهو مبتنٍ على أمرين، الأوّل: أن الواجب في الوضوء الغسل ولو كالدّهن. الثّاني: استحباب الإسباغ، والإسباغ يتحقّق بأحد أمرين، الأوّل: الغرفة المملوءة، والثّاني الغرفتين الخفيفتين.
فعلى الإسباغ بالمعنى الثّاني تحمل روايات التّثنية وتشهد لذلك صحيحة الأخوين وبعين الحمل تحمل رواية مؤمن الطاق وما في معناها مما دلّ على أنّ الفرض واحدة وزاد رسول الله ﷺ الثّانية لسنّة الإسباغ، فيغسل بمجموعهما العضو لأجل الإسباغ، والظّاهر أنّ معنى التّّعليل في رواية داود الرّقّي: ضعف عقولهم لعدم مقاومة الوساوس في اليقين بوصول الماء عند الاكتفاء بغرفة.
فعُلم أنّ الحصر بالمرّة لا ينافي الإسباغ بالمرّتين؛ لأنّ كِلا الفعلين يتحقّق به الإسباغ بحسب مقدار الغرفة، فالواجب حينئذ حمل الأخبار الّتي تضمّنت المرّة أو الغرفة عارية عن القيد على التّقييد بالمملوّة؛ لتكون الغسلة واقعةً على الوجه الأكمل، وما تضمّن التّّثنية عاريًا حملة على الإسباغ بغرفتين خفيفتين.
ولمّا كانت سنّة الإسباغ تحصل بالغرفة الثّانية متى أضيفت للأولى وتتم به الغسلة الواجبة للعضو فالغرفة الثّالثة تكون في الحاصل بعد تمام الغسل فتوصف بالبدعة، ويلازمها عدم الأجر. وهذا معنى رواية المستطرفات أي الفضل في واحدة مملوءة أو اثنتين غير مملوءتين ومن زاد على اثنتين لم يؤجر. وأمّا معنى مرسلة بن أبي المقدام فلعلّ رسول الله ﷺ توضّأ بغرفتين خفيفتين كما توضّأ بواحدة مملوّة لما ورد من أنّه زادها للإسباغ.
أما ما تضمّنته رواية ابن بكير فتحمل على من لم يعتقد کفاية الغرفة الواحدة حتّى الخفيفة فأنّ الواجب هو كالدّهن إلّا أنّه لما لم يكن معتقدًا بالكفاية لم يؤجر. والكلام نفسه في مرسلة ابن أبي عمير والثّانية والثّالثة تشتركان في ذات الحكم وهو الحرمة والبدعة.
إلّا أنّ سبب البدعة في الثّانية هو الاعتقاد بكفاية الواحدة واعتقاد فريضة الثّانية والحال أنّها من سنّة الإسباغ، والبدعيّة في الثّالثة؛ لعدم ورود دليل عليها، بل ورد النّهي عنها أصلًا.
أمّا لفظ لا يؤجر وأنّه دالّ هنا على التّحريم فقدّمنا الكلام فيه في تحقيق قول الصّدوق، وزيادة على ما قلناه هناك فإنه مع زيادة الغسلة الثّانية مع التّّسليم بعدة جزئيّتها في العبادة كما يعترفون به فالمكلّف في حال فعله لها لا يخلو عن حالتين، إمّا أن يعتقد شرعيتها واستحبابها أو عبثيّتها أمّا في حال الأول فهو مما لا يستراب في تحريمه؛ لأنّ حتّى من لم ينسب للشيخ الصّدوق القول بالتّحريم قال عدم الاستحباب أمّا الثّاني فحاله حال المبتدع صاحب الغسلة الثّالثة، فَلِمَ حرّمتموها لبدعيّتها ولم تحرموا هذه!
ثمّ أنّ الدّليل على خروج لفظ "لا يؤجر" في المقام كناية عن التّحريم أدلّة تجاوز حد الوضوء الّتي تقدّمت في تحقيق قول الصّدوق.
أتمّ الشّيخ المسألة وألحقَها بمسألة فيها إشارات لطيفة تؤكّد بعض ما طرحه هنا.
نسأل الله العفو والعافية
والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطّاهرين.
أتممت هذا الإيجاز مع أذان ظهر السّبت الرابع من شهر ربيع الأوّل المصادف لذكرى وفاة شيخنا يوسف بن أحمد العصفور البحرانيّ ١٤٤١هـ
وأعدت ترتيبه وكتابته والإضافة عليه فجر الإثنين التّاسع من شهر رمضان المبارك ١٤٤٣هـ
السيّد علي العلوي