بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد
المسألة:
أفاد السيد الخوئي رحمه الله تعالى في بحث البراءة في مقام تقريب الاستدلال بقوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾(1) على حجيَّة أصالة البراءة: أنَّ جملة (ما كنا) وما ماثلها من هذه المادَّة مستعملة في نفي الشأنيَّة ونفي اللياقة:
قال رحمه الله: "إنَّ جملة ما كان أو ما كنَّا وأمثالهما من هذه المادَّة مستعملةٌ في أنَّ الفعل غيرُ لائقٍ به تعالى، ولا يُناسبه صدوره منه جلَّ شأنه، ويظهرُ ذلك من استقراء موارد استعمالها، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾(2) وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(3) وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾(5) إلى غير ذلك، فجملة الفعل الماضي من هذه المادَّة منسلخة عن الزمان في هذه الموارد فيكون المراد أنَّ التعذيب قبل البيان لا يليقُ به تعالى، ولا يُناسبُ حكمته وعدله"(6).
والسؤال: هل ما أفاده مطَّردٌ في جميع موارد استعمال مادَّة (ما كنَّا) و(ما كان) و(ما كنت) كما يظهر من كلامه؟
الجواب:
ما أفاده (قدَّس الله نفسه) وإنْ كان صحيحاً -ظاهراً- في الأمثلة التي ذكرها بل هو كذلك في تمام الموارد المشابهة أي في موارد الكون المنفي عن الله جلَّ وعلا كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾(7) وقوله تعالى: ﴿ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾(8) وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ﴾(9) وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾(10) وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾(11).
ففي تمام هذه الموارد يكون الفعل الماضي مُنسلخاً عن الزمان -كما أفاد- ويكون المنفيُّ هو الشأنيَّة واللِّياقة أو الإمكان، فمعنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ هو أنَّه تعالى لا يليقُ به الظلم وليس ذلك من شأنِه ولا من صفاته جلَّ وعلا، لذلك فالآيةُ لا تنفي الظلم عن الله تعالى في الزمن الماضي وحسب بحيث يمكن أن يتَّصف به فيما يُستقبل من الزمان بل هي تنفي أن يكون ذلك من شأنه مطلقاً وهكذا هو مدلول سائر الآيات.
فالكَونُ المنفيُّ المضافُ لله تعالى منسلخٌ عن الزمان، ومستَعمَلٌ في تمام موارده في نفي الشأنيَّة ونفي المناسبة أو نفي الإمكان لكنَّ ذلك ليس مطَّرداً في تمام موارد استعمال جملة: (ما كان) و(وما كنَّا) و(وما كنت) إذا لم يكن الكون المنفيُّ مضافاً لله تعالى.
وذلك يتَّضح من ملاحظة موارد استعمال هذه الجمل في القرآن الكريم، ولنذكر لذلك عدداً من النماذج:
النموذج الأول: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ / وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ / وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾(12).
فهذه الآياتُ تُخاطب النبيَّ الكريم (ص) بأنَّه لم يكن حاضراً حينما قُضي لموسى (ع) الأمر، وأنَّه لم يكن ثاوياً ومقيماً في أهل مدين حينما كان شعيب (ع) يُبلِّغهم رسالات الله تعالى، وأنَّه (ص) لم يكن حاضراً حينما نُودي موسى (ع) مِن قِبَل الله تعالى بجانب الطور.
فالفعلُ الماضي (كنتَ) المنفي في هذه الآيات ليس مُنسلخاً عن الزمان، وليس معناه نفي الشأنية بل معناه نفي الحضور والشهود في الزمان الماضي الذي حدَّدته الآيات.
وعلى سياق هذه الآيات جاء قوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾(13) وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾(14) أي وما كنتَ عند أبناء يعقوب حين أجمعوا على المكر بيوسف (ع) وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾(15) أي وما كنتَ عندهم حين اقترعوا لتحديد من يتولَّى كفالة مريم(ع).
النموذج الثاني: ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾(16).
هذه الآية تحكي خطاب اليهود للسيَّدة مريم (ع) حين جاءتهم تحملُ رضيعها، ومفاد خطابهم التوبيخ لها وأنَّه لم يكن أبوك فيما مضى من الزمان سيئاً ولم تكن أمُّك فيما مضى من الزمان بغيَّاً.
فليس معنى الآية أنَّه لم يكن من شأن أبيك أنْ يكون امرأ سوءٍ، ولم يكن يليق بأمُّك أنْ تكون بغيَّاً بل مفاد الآية هو نفي أن يكون أبوك فيما مضى امرأ سوءٍ بل كان صالحاً، ونفي أنْ تكون أمُّك فيما مضى بغيَّاً بل كانت عفيفة، فالمنتَظَر أنْ تكوني كما كان عليه أبوك وأُمُّك في زمانهما والذي قد مضى. فهم يُذكرانها -لغرض التقريع- بما كان عليه أبواها من الصلاح في الزمان الماضي.
النموذج الثالث: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾(17).
ومفاد الآية أنَّه لم يكن ولم يصدر استغفارُ إبراهيم الذي وقع في الزمان الماضي إلا عن وعدٍ وعَدَ به إبراهيم(ع) آزرَ أنْ يستغفرَ له أو إلا عن وعَدَ به آزر نبيَّ الله براهيم(ع) أنَّه سوف يؤمنُ إنْ استغفرَ له، وعلى أيِّ تقدير فالفعل (كان) ليس منسلخاً عن الزمان الماضي كما هو واضح.
وعلى هذا النسق جاء قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾(18) يعني لم يكن الجواب الذي صدر في الزمان الماضي عن قوم لوط إلا هذا الجواب: ﴿أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ فالكون المنفي ليس مُنسلخاً عن الزمان الماضي.
النموذج الرابع: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾(19).
يعني لم تكن في الزمان الماضي قبل نزول القرآن تتلو أيَّ كتاب ولم تكن تخطُّ من كتابٍ بيمينك ﴿إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ فالآيةُ صريحةٌ في إفادة نفي الكون في الزمان الماضي ونفي وقوع التلاوة لكتابٍ في الزمان الماضي.
وبذات السياق جاء قوله تعالى: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾(20) فالآية تنفي عن النبيِّ الكريم (ص) في زمنٍ ما من الزمان الماضي العلمَ بالكتاب والإيمانَ بتفاصيل المعارف التي اشتمل عليها الكتاب.
هذه مجموعة من الآيات -وثمة غيرها- استُعملت فيها جملة (ما كان، وما كنت) في غير نفي الشأنية بل في نفي الكون في الزمان الماضي كما هو مقتضى مدلولها الأولي، وبه يتَّضح أنَّ إفادة جملة ما كان لنفي الشأنية في بعض الموارد إنَّما هو لوجود قرينة خاصَّة مقتضية لذلك، نعم هذه القرينة الخاصَّة مطَّردة في تمام موارد الكون المنفي المضاف لله تعالى.
وهذه القرينة هي أنَّ الله تعالى متعالٍ عن الزمان، فحينما ينفي عن نفسه فعلاً أو صفةً فإنَّ ذلك يقتضي استظهار أنَّ تلك الصفة أو ذلك الفعل منفيٌّ عنه مطلقاً وأنَّ منشأ انتفاء ذلك الفعل أو الوصف عنه هو أنَّه لا يليق بشأنه جلَّ وعلا ولا يُناسب حكمته أو لا يُمكن صدوره عنه أو اتِّصافه به.
ولعلَّ مقصود السيد الخوئي (رحمه الله) من إفادة جملة (ما كان) لنفي الشأنيَّة في تمام موارد استعمالها هو ما لو كان مجيء الكون المنفي مضافاً لله تعالى.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
12 / ذو القعدة / 1443ه
12 / يونيو / 2022م