{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[1]
هكذا يخاطب ربّ الأرباب عباده، فيفتح لهم باب الدعاء ويعدهم بالإجابة بلا قيد أو شرط، ثمّ يحذّرهم من الاستكبار عن دعائه فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[2]، فقد روى زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير هذه الآية قال: (هُوَ اَلدُّعَاءُ، وَأَفْضَلُ اَلْعِبَادَةِ اَلدُّعَاءُ)[3].
والدعاء ركنٌ مهمٌّ في حياة المؤمن، فالدعاء (سِلَاحُ الْأَنْبِيَاءِ) و(سِلَاحُ المُؤْمِنِ) و(عَمُودُ الدِّينِ) و(نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) و(أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) وهو (شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ)[4]. وقد (كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلاً دَعَّاءً)[5].
قبورهم صلوات الله عليهم مواضعٌ لاستجابة الدعاء.
ثمّ إنّ الله قد جعل مواضع خاصّة يحبّ أن يُدعى فيها ويستجيب للداعين فيها، فقد روي أنّ الإمام الهادي عليه السلام حينما مرض أمر بأن يُبعثَ رجلٌ من مواليه إلى الحائر الحسيني ليدعو له، فقال الرجل: السمعَ والطاعةَ، ولكنّني أقول إنّه -أي الإمام- أفضل مِن الحائر إذْ كان بمنزلة مَن في الحائر، ودعاؤُه لنفسه أفضلُ مِن دعائي له بالحائر. فقال الإمام عليه السلام: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَاعاً يُحِبُّ أَنْ يُدْعَى فِيهَا فَيَسْتَجِيبَ لِمَنْ دَعَاهُ وَاَلْحَائِرُ مِنْهَا[6].
وكذلك قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقد روى الشيخ الكليني بإسناده عن معاوية بن عمّار أنّه قال: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ اَلدُّعَاءِ عِنْدَ قَبْرِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فَائْتِ اَلْمِنْبَرَ فَامْسَحْهُ بِيَدِكَ وَخُذْ بِرُمَّانَتَيْهِ وَهُمَا اَلسُّفْلاَوَانِ وَاِمْسَحْ عَيْنَيْكَ وَوَجْهَكَ بِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ شِفَاءُ اَلْعَيْنِ وَقُمْ عِنْدَهُ فَاحْمَدِ اَللَّهَ وَأَثْنِ عَلَيْهِ وَسَلْ حَاجَتَكَ فَإِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ قَالَ: مَا بَيْنَ مِنْبَرِي وَبَيْتِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ اَلْجَنَّةِ[7].
وكذلك هي قبور عترته الطاهرة، إذ نقول في الزيارة الجامعة الكبيرة: (أُشْهِدُ اللهَ وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي مُؤْمِنٌ بِكُمْ ... مُسْتَجِيرٌ بِكُمْ زَائِرٌ لَكُمْ لَائِذٌ عَائِذٌ بِقُبُورِكُمْ مُسْتَشْفِعٌ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِكُمْ وَمُتَقَرِّبٌ بِكُمْ إِلَيْهِ وَمُقَدِّمُكُمْ أَمَامَ طَلِبَتِي وَحَوَائِجِي وَإِرَادَتِي فِي كُلِّ أَحْوَالِي وَأُمُورِي)[8].
وقد شهد بذلك المخالفون أيضاً؛ فقد روى الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد عن الحسن بن إبراهيم الخلّال أنّه قال: ما همّني أمرٌ فقصدت قبرَ موسى بن جعفر فتوسّلت به إلّا سهّل الله تعالى لي ما أحبّ[9].
وقال ابن حبّان في ترجمته للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: من سادات أهل البيت وعقلائهم وجلة الهاشميين ونبلائهم ... وقبره بسنا باذ خارج النوقان مَشْهُور يزار بِجنب قبر الرشيد قد زرتُه مرَاراً كَثِيرَة، وَمَا حلت بِي شدَّة فِي وَقت مقَامي بطوس فزرتُ قبر عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا صلوَات الله على جدّه وَعَلِيهِ ودعوت الله إِزَالَتهَا عَنى إِلَّا أستجيبُ لي وزالت عَنّي تِلْكَ الشدَّة، وَهَذَا شَيْء جربته مرَاراً فَوَجَدته كَذَلِك[10].
فحريٌّ بنا أن ننتهز الفرصة عند زيارتنا لمشاهدهم الشريفة فنطلب من الله وندعوه بحقّهم وجاههم.
ولكن ماذا نطلب عند قبورهم؟
أوّلاً: طلب الحوائج الكبرى.
نزل رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل الإسلام على رجل بالطائف فأكرمه الرجل، وبعد أن بُعثَ النّبيّ صلّى الله عليه وآله أتاه هذا الرجل فقال له: أتعرفني؟ فقال رسول الله: وَمَنْ أَنْتَ؟ فقال: أنا ربُّ المنزل الذي نزلت به بالطائف في الجاهلية يوم كذا وكذا فأكرمتُكَ.
فقال له رسول الله: مَرْحَباً بِكَ، سَلْ حَاجَتَكَ، فقال الرجل: أسألك مائتي شاة برُعاتِها، فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وآله بما سأل، ثمّ قال لأصحابه: مَا كَانَ عَلَى هَذَا اَلرَّجُلِ أَنْ يَسْأَلَنِي سُؤَالَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؟
فقالوا: وما سألَتْ عجوز بني إسرائيل لموسى؟
فقال صلّى الله عليه وآله: إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ أَوْحَى إِلَى مُوسَى أَنِ اِحْمِلْ عِظَامَ يُوسُفَ مِنْ مِصْرَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْمُقَدَّسَةِ بِالشَّامِ، فَسَأَلَ مُوسَى عَنْ قَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فَجَاءَهُ شَيْخٌ فَقَالَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَعْرِفُ قَبْرَهُ فَفُلاَنَةُ.
فَأَرْسَلَ مُوسَى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا جَاءَتْهُ قَالَ: تَعْلَمِينَ مَوْضِعَ قَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَدُلِّينِي عَلَيْهِ وَلَكِ مَا سَأَلْتِ. قَالَتْ: لاَ أَدُلُّكَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِحُكْمِي. قَالَ: فَلَكِ اَلْجَنَّةُ. قَالَتْ: لاَ إِلاَّ بِحُكْمِي عَلَيْكَ.
فَأَوْحَى اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى: لاَ يَكْبُرُ عَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا حُكْمَهَا. فَقَالَ لَهَا مُوسَى: فَلَكِ حُكْمُكِ. قَالَتْ: فَإِنَّ حُكْمِي أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي دَرَجَتِكَ اَلَّتِي تَكُونُ فِيهَا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِي اَلْجَنَّةِ.
فقال صلّى الله عليه وآله: مَا كَانَ عَلَى هَذَا لَوْ سَأَلَنِي مَا سَأَلَتْ عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟[11]
فمن المهمّ بمكان أن نكون أصحاب هِمَمٍ عالية حينما ندعو الله عزّ وجلّ، فنسأله في تلك المواضع المباركة الحوائج الكبرى والمهمّة، وفي زياراتهم صلوات الله عليهم إشارات لبعض تلك الحوائج مثل:
- غفران الذنوب: فقد ورد في زيارة رسول الله صلّى الله عليه وآله: اَللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّٰهَ - وَاِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً وَإِنِّي أَتَيْتُ نَبِيَّكَ مُسْتَغْفِراً تَائِباً مِنْ ذُنُوبِي- وَإِنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ نَبِيِّ اَلرَّحْمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَى اَللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكَ بِكَ لِيَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي[12].
- الشفاعة والفكاك من النار: فقد ورد في زيارة أبي عبد الله الحسين عليه السلام: أَتَيْتُكَ يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ مَكْرُوباً وَأَتَيْتُكَ مَغْمُوماً وَأَتَيْتُكَ مُفْتَقِراً إِلَى شَفَاعَتِكَ وَلِكُلِّ زَائِرٍ حَقٌّ عَلَى مَنْ أَتَاهُ وَأَنَا زَائِرُكَ وَمَوْلاَكَ وَضَيْفُكَ اَلنَّازِلُ بِكَ وَاَلْحَالُّ بِفِنَائِكَ وَلِي حَوَائِجُ مِنْ حَوَائِجِ اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ بِكَ أَتَوَجَّهُ إِلَى اَللَّهِ فِي نُجْحِهَا وَقَضَائِهَا فَاشْفَعْ لِي عِنْدَ رَبِّكَ وَرَبِّي فِي قَضَاءِ حَوَائِجِي كُلِّهَا وَقَضَاءِ حَاجَتِيَ اَلْعُظْمَى اَلَّتِي إِنْ أَعْطَانِيهَا لَمْ يَضُرَّنِي مَا مَنَعَنِي وَإِنْ مَنَعَنِيهَا لَمْ يَنْفَعْنِي مَا أَعْطَانِي فَكَاكِ رَقَبَتِي مِنَ اَلنَّارِ[13].
وغيرها من الحوائج المهمّة كالثبات على ولايتهم صلوات الله عليهم، وتعجيل فرج صاحب العصر والزمان أرواحنا له الفداء، والعافية.
ثانياً: طلب الأمور الصغيرة أيضاً.
فقد روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: عَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّكُمْ لاَ تَقَرَّبُونَ بِمِثْلِهِ، وَلاَ تَتْرُكُوا صَغِيرَةً لِصِغَرِهَا أَنْ تَدْعُوا بِهَا، إِنَّ صَاحِبَ اَلصِّغَارِ هُوَ صَاحِبُ اَلْكِبَارِ[14].
وفي حديث قدسي يخاطب الله عزّ وجلّ نبيّه موسى قائلاً: يَا مُوسَى سَلْنِي كُلَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَتَّى عَلَفَ شَاتِكَ وَمِلْحَ عَجِينِكَ[15].
فالله عزّ وجلّ مالك كلّ شيء، وكلّ الأمور بيده، صغارها وكبارها، فليطلب المؤمنُ من الله أيضاً الرزق والزوجة والبيت وكلّ ما يحتاجه في حياته، ولا يسأم ولا يخجل من طلب ذلك.
وأختم كلامي بما نقله الشيخ الكليني أعلى الله مقامه بإسناده عن هشام بن سالم الإمام الصادق عليه السلام قال: لاَ يَزَالُ اَلدُّعَاءُ مَحْجُوباً حَتَّى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ[16].
علي الصالح
2 ذي القعدة 1443 هـ.
2 يونيو 2022 م.
.......................................
[1] سورة غافر، الآية 60.
[2] سورة غافر، الآية 60.
[3] الكافي، ج2، ص 466.
[4] راجع: الكافي، ج2، الباب الأوّل والثاني والرابع من كتاب الدعاء.
[5] الكافي، ج2، ص 468.
[6] كامل الزيارات، ص 274، وقد عقد ابن قولويه رضوان الله تعالى عليه باباً أسماه: أنّ الحائر من المواضع التي يحبّ الله أن يُدعى فيها.
[7] الكافي، ج4، ص 553.
[8] راجع: الزيارة الجامعة الكبيرة.
[9] تاريخ بغداد، ج1، باب ما ذكر في مقابر بغداد المخصوصة بالعلماء والزهّاد، ص 442.
[10] الثقّات، ج8، ترجمة علي بن موسى الرضا ص 456-457.
[11] الكافي، ج8، ص 155.
[12] كامل الزيارات، باب زيارة قبر رسول الله (ص) والدعاء عنده، ص 16.
[13] المزار للشيخ المفيد، باب القول عند الوقوف على الجدث.
[14] الكافي، ج2، ص 467.
[15] عدّة الداعي، ص 134.
[16] الكافي، ج2، باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته عليهم السلام ص 491.