مقدمة
بعد أن أعلن الإمام الحسين (عليه السلام) ومن مدينة جده (صلى الله عليه وآله وسلم) موقفه الرافض لبيعة يزيد بن معاوية مبينا لوالي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان مبررات هذا الموقف وأنه نابع من صميم الشارع الأقدس[1] خرج في الثامن والعشرين من رجب[2] متوجها إلى مكة المكرمة، فوصل إليها في الثالث من شعبان وبقي فيها حتى الثامن من ذي الحجة[3]، فلما استقر فيها أخذت ترد عليه رسائل أهل الكوفة يطلبون منه فيها القيام، فبعث إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل، وكان الحسين (عليه السلام) يريد من وراء إرسال مسلم أن يستطلع أحوال أهل الكوفة ومدى استعدادهم لنصرته، هذا ما يظهر واضحا في رسالته لهم[4]، كما أنه (عليه السلام) أخذ يبعث من مكة بعدد من الرسائل لوجوه أهل البصرة يطلب فيها منهم القيام معه[5].
النقطة الأولى: هل بدل الحسين (عليه السلام) منسكه من حجة لعمرة مفردة؟
يظهر من بعض النقولات التاريخية التي تحدثت عن خروج الحسين (عليه السلام) من مكة إلى العراق أنه كان محرما لأداء الحج، غير أن التضييق الذي مارسه عليه بنو أمية في الموسم جعله يحول حجه إلى عمرة مفردة، ومن تلك النصوص ما جاء في كتاب (إعلام الورى) للشيخ الطبرسي (رحمه الله): "لما أراد الخروج إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل من إحرامه وجعلها عمرة؛ لأنه لم يتمكن من إتمام الحج مخافة أن يقبض عليه بمكة فينفذ إلى يزيد بن معاوية".
إلا أن غير واحد من فقهاء الطائفة[6] قد ردَّ تلك النقولات لمعارضتها لما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في شأن إحرام الحسين (عليه السلام)، فقد جاء عن معاوية بن عمار[7] أنه قال: قلت لأبي عبد الله (ع): من أين افترق المتمتع والمعتمر؟ فقال: "إن المتمتع مرتبط بالحج، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء، وقد اعتمر الحسين (عليه السلام) في ذي الحجة ثم راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى، ولا بأس بالعمرة في ذي الحجة لمن لا يريد الحج".
ونقولات كتب التاريخ لا يؤخذ بمضمونها إذا ما تعارض مع مضمون رواية معتبرة عن أحد المعصومين، ويزداد النقل التاريخي وهناً مع وجود قرائن أخرى عكسية، والقرينة موجودة في المقام وهي ما جاء في أحكام المصدود من كتب مناسك الحج والعمرة؛ حيث جاء فيها أن المصدود عن أداء المناسك إنما يتحلل عن إحرامه بالهدي[8]، وما ورد في النقل التاريخي من أن الحسين (عليه السلام) قد تحلل بالطواف والسعي مخالف لما جاء في الفقه بالاستناد إلى روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
نعم يمكن الجمع بين مفاد النقل التاريخي وما جاء عن الصادق (عليه السلام) -وإن كان الجمع لا يخلو من تكلف- بالقول أن الحسين (عليه السلام) كان بصدد الحج في ذلك العام، غير أن تضييق الأمويين عليه منعه من البقاء في مكة مدة أطول وبالتالي من أداء الحج، فقرر أن يأتي عوضا عن الحج بعمرة مفردة تكون بمثابة الوداع منه لبيت الله، فأداؤها لا يتطلب سوى ساعة من الزمان، خلافا للحج فهو يتطلب عدة أيام.
النقطة الثانية: شخصيات أشارت على الحسين (عليه السلام) بعدم الخروج للعراق
من المجريات الهامة التي حصلت في المرحلة المكية من عمر نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وتحديدا في نهايتها لما عزم (عليه السلام) على الخروج إلى العراق إشارة عدد من الشخصيات البارزة عليه بعدم ذلك، حتى أحصى العلامة المحقق الشيخ محمد الريشهري (رحمه الله) في كتابه (الصحيح من مقتل سيد الشهداء وأصحابه) اثنين وعشرين شخصية أشارت بذلك على الحسين (عليه السلام) في مكة وبعدها في الطريق إلى العراق.
من خلال دراسة ما قاله المشيرون للإمام (عليه السلام) والأرضية التي انطلقوا منها في حديثهم معه نجد أن غير واحد منهم قد انطلق في إشارته من أن الحالة العامة للمجتمع الكوفي آنذاك ليست حالة يوثق بها ويعتمد عليها، فهذه الحالة هي التي خذلت عليا والحسن (عليهما السلام)؛ وليست تجربتهما في التعاطي مع مجتمع الكوفة ببعيدة كثيرا عن زمان الحسين (عليه السلام) والفترة التي أراد فيها التوجه للكوفة، وممن كان هذا أساس إشارته على الحسين (عليه السلام) بعدم الخروج أبو سعيد الخدري[9] وعبد الله ابن عباس[10] وعبد الله بن عمر بن الخطاب[11].
إنَّ تكرُّرَ منطلق الحالة الكوفية التي لا يوثق بها في إشارة عدة شخصيات ربما يدل على أن رأيا عاما قد نشأ عند شريحة التابعين ومن كان موجودا من الصحابة آنذاك حول طبيعة مجتمع الكوفة التي تميل للدعة والراحة من جهة؛ ولا تأنف عن نكث العهود ولو كانت مغلظة من جهة ثانية.
وقد انطلق بعض من أشار على الحسين (ع) بعدم التوجه للكوفة من الخوف على شخص الإمام وما يمثله من رمزية دينية كبيرة من الانتهاك والقتل، فقد جاء في كتاب (الفتوح) لابن أعثم أن عبد الله بن جعفر قال للحسين (عليه السلام) يوم عزم على الخروج: "إنك إن قتلت أخاف أن يُطفأ نور الأرض، وأنت روح الهدى، وأمير المؤمنين".
وفي المقابل حينما ندرس ما كان يجيب به الحسين (عليه السلام) على المشيرين نجد أنه كان قد أجاب بأكثر من جواب، ويبدو أن سبب ذلك هو تباين مستوى الوعي عندهم في العقيدة وفي النظرة الحصيفة البعيدة للأحداث، فبعضم كان لا يدرك عصمة الإمام وأن دورا دينيا أناطه به الله تبارك وتعالى، وبعضهم كان ينظر للأحداث بسطحية وقصر نظر.
فمما أجاب به الإمام (عليه السلام) أنه مقتول لا محالة، خرج أم لم يخرج، فقد أجاب أمَّ سلمة (رض)[12] بذلك حينما حدثته في أمر خروجه وهو بعدُ في المدينة، ولعله (عليه السلام) يريد من وراء هذا أن الأمر ما دام هو الموت لا غير فليكن موت عز لا موت ذل، ومما أجاب به أيضا أن بينه وبين أهل الكوفة وعدا بالقدوم لهم إن قدموا البيعة لمسلم، وأنه يكره أن يخلف الوعد، فقد أجاب بهذا في حديث له مع الطرماح بن عدي[13]، وكذلك مما أجاب به أنه إنما يخرج امتثالا لأمر أمره به جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان هذا جوابه لعبد الله بن جعفر[14].
صادق القطان
٢١ يونيو ٢٠٢٢م
.................................
[1] - (اللهوف على قتلى الطفوف) للسيد علي بن طاووس
[2] - (الإرشاد) للشيخ المفيد
[3] - تاريخ الطبري
[4] - انظر (الإرشاد)
[5] - (مقتل الحسين عليه السلام) للخوارزمي
[6] - منهم السيد محمد رضا الكلبيكاني في (تقريرات بحث الحج) والسيد عبد الأعلى السبزواري في (مهذب الأحكام) والسيد الخوئي في (المعتمد في شرح العروة الوثقى)
[7] - (وسائل الشيعة) للحر العاملي
[8] - المسألتان ٤٣٩ و٤٤٠ من (مناسك الحج) للسيد علي السيستاني
[9] - (الطبقات الكبرى) لابن سعد
[10] - (مروج الذهب) للمسعودي
[11] - (العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي
[12] - (الخرائج والجرائح) لقطب الدين الراوندي
[13] - (مثير الأحزان) لابن نما الحلي
[14] - (الفتوح) لابن أعثم