
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على محمّد سيّد الخلق أجمعين وعلى آله سبل النجاة الهداة الميامين.
قد وجدتُ عند تلخيصي لبحث الشّيخ يوسف رحمه الله فائدةً لا أجدها في غير التلخيص مِنْ طُرُقٍ لِتَقرير البحوث وآراء الأعلام، وتعود هذه الفائدة عليّ بالنّفع أوّلًا وعلى إخوتي طلبة العلم ثانيًا، إذ تجمع لهم الموجزات أطراف البحث وموارد الأخذ والرّد، وتكون في بعض الأحيان أبين لمقصود الباحث فتشعّب المسألة وإطالة الاستدلال قد يذهل منها المبتدئ عن أسّ المطلب، وقد وجدتُ كذلك تعطّشا في نفسي لمطالعة مسألة تعدّد الغسلات بعدما وجدته من بحث صاحب الحدائق رحمه الله، ووقع نظري حينها على كتاب إحياء معالم الشّيعة لأخيه الشّيخ عبد علي رحمه الله فراق لي ما سطّره وجذبتني دقّته مع إطالته في بحثه الّذي قارب الثّلاثين صفحة فعمدت لإيجاز بحثه متمّما لبحث أخيه صاحب الحدايق إذ حوى ما لم يتطرّق له أخوه وأفاد في بعض الأسناد وتطرّق لبعض مناشئ الخلاف، هذا مع ضعف الهمّة والتّسويف في القيام بمثل هذه الخدمة ولكنّ التوكّل على الله وطلب العون من سادة الأمّة يبعث المتهاون للوصول لأعلى قمّة، فنسأله سبحانه التّسديد والتّوفيق لما فيه الخير والصّلاح في عفو منه وعافية.
هذا وقد رتّبت كلامه في مباحث:
[البحث الأوّل: الأقوال في المسألة]
اتّفقت كلمة الفقهاء على بدعيّة الغسلة الثّالثة في الوضوء، واضطربت في الثّانية:
القول الأوّل: ظاهر قدمائنا استحباب وحدة الغرفة وإن جازت التّثنية وبه صرّح أحمد البزنطي كما عن ابن إدريس[1]، وهو المفهوم من الكليني[2].
القول الثّاني: ربّما يُفهم من كلام الفقيه[3] عدم جواز التّثنية وإن أمكن تأويله.
القول الثّالث: الشّيخان[4] على استحباب التّثنية وكذا المتأخّرون[5].
القول الرّابع: ذهب الفيض[6] إلى استحباب الغرفة الثّانية لا الغسلة واحتمله فاضل الذّخيرة[7].
[البحث الثّاني: الأخبار الواردة في المسألة]
وإنّما نشأ اختلافهم لاختلاف الرّوايات في المقام، فمنها طائفة صريحة في رجحان وحدة الغرفة وأخرى واضحة في التّثنية، أمّا الأولى فهي:
1/ الرّوايات الحاكية لوضوء المعصوم[8].
2/ صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: "إِنَّ اللهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ، فَقَدْ يُجْزِئكَ مِنَ الْوُضُوءِ ثَلَاثُ غُرُفَاتٍ، وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَاثْنَتَانِ لِلذِّرَاعَيْن[9]".
3/ مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه السّلام: "الْوُضُوءُ وَاحِدَةٌ فَرْضٌ، وَ اثْنَتَانِ لَا يُؤْجَرُ وَ الثَّالِثَةُ بِدْعَةٌ.[10]"
4/ صحيح مُيسّر عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ: "اَلْوُضُوءُ وَاحِدَةٌ وَاحِدَةٌ.[11]"
5/ صحيح البزنطي عن عبد الكريم عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سَأَلْتُه عَنِ الْوُضُوءِ، فَقَالَ لي: "مَا كَانَ وُضُوءُ عَلِيٍّ عليه السّلام إِلَّا مَرَّةً مَرَّةً.[12]"
6/ محمد بن أبي نصر البزنطي عن عبد الكريم يعني ابن عمرو عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السّلام فِي الْوُضُوءِ قَالَ: "اعْلَمْ أَنَّ الْفَضْلَ فِي وَاحِدَةٍ، وَ مَنْ زَادَ عَلَى اثْنَتَيْنِ لَمْ يُؤْجَرْ.[13]"
7/ عن يونس بن عمَّار قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السّلام عَنِ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ: "مَرَّةٌ مَرَّةٌ.[14]"
8/ في الفقيه قال الصّادق عليه السّلام: "وَاللهِ مَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللهِ إِلَّا مَرَّةً مَرَّةً. وَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ ﷺ مَرَّةً مَرَّةً فَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ.[15]"
9/ قال الصّادق عليه السّلام: "مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ لَمْ يُؤْجَرْ.[16]"
10/ معتبرة، بل صحيحة عثمان بن زياد أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السّلام فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنِّي سَأَلْتُ أَبَاكَ عَنِ الْوُضُوءِ، فَقَالَ مَرَّةً مَرَّةً فَمَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ ّعليه السّلام: "إِنَّكَ لَنْ تَسْأَلَنِي عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِلَّا وَ أَنْتَ تَرَى أَنِّي أُخَالِفُ أَبِي، تَوَضَّأْ ثَلَاثاً وَ خَلِّلْ أَصَابِعَكَ[17]"
11/ في الصّحيح عن الفضل بن شاذان فيما كتب الرّضا عليه السّلام للمأمون في شرائع الدّين: "ثُمَّ الْوُضُوءُ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعالى فِي كِتَابِهِ، غَسْلُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً[18]"
12/ في البحار عن فقه الرّضا: "وَ نَرْوِي أَنَّ جَبْرَئِيلَ عليه السّلام هَبَطَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِغَسْلَيْنِ وَمَسْحَيْنِ غَسْلِ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ بِكَفٍّ كَفٍّ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ بِفَضْلِ النُّدُوَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ فِي يَدَيْكَ مِنْ وَضُوئِكَ[19]"
وأمّا الثّانية، ففيها:
1/ صحيحة معاوية بن وهب قال: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السّلام عَنِ الْوُضُوءِ فَقَالَ مَثْنَى مَثْنَى.[20]"
2/ في الصّحيح عن يونس بن يعقوب قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السّلام: "الْوُضُوءُ الَّذِي افْتَرَضَهُ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ، لِمَنْ جَاءَ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ بَالَ، قَالَ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيُذْهِبُ الْغَائِطَ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.[21]" وقد طُعن في سند هذه الرّواية من جهة فطحيّة يونس[22] الّتي نصّ عليها ابن بابويه[23] وقد شهد النّجاشيّ برجوعه عنها[24] ويُثبِت ذلك ما روي فيه من مدح[25] فالأقوى نظم حديثه في الصّحيح.
3/ في الصّحيح عن أحمد بن محمّد عن صفوان عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: "الْوُضُوءُ مَثْنَى مَثْنَى.[26]"
وقد عدّها من الصّحيح العلّامة في المختلف[27] والمنتهى[28]، إلّا أنّ عدّة إشكالات تنافي الصّحة على ما اشترطه العلّامة ومن حذا حذوه يعاني منها الخبر، قد ذكرها صاحب المنتقى[29]، وحاصلها:
أ. صفوان إن كان هو ابن مهران فينبغي أن يكون أحمد بن محمّد هو ابن أبي نصر لأنه الرّاوي الثّقة عنه بغير واسطة أمّا غير ابن أبي نصر ممّن يروي من دون واسطة لم يُنص على توثيقهم، وإذا ثبت ذلك فإنّ طريق الشّيخ لأحد كتابي ابن أبي نصر غير صحيح وقد يكون هذا الخبر من ذاك الكتاب فلا نستطيع الاعتماد عليه من هذه الجهة.
ب. صفوان إن كان ابن يحيى فروايته عن أبي عبد الله عليه السّلام إنّما تكون بواسطة، وعدم ذكرها هنا يقضي بالتّوقف كذلك.
وحاول الفاضل صاحب الذّخيرة[30] تصحيحها بما حاصله:
أ. كتاب ابن أبي نصر من الكتب المشهورة المعوّل عليها فجهالة الواسطة غير ضائرة في صحّة رواياته.
ب. صفوان بن يحيى ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما صحّ عنهم فكونه هو صفوان المقصود في الرّواية يثبت صحّتها، حتّى لو سقطت الواسطة وعلاوة على ذلك فعلو شأنه وجلالته تقضي بعدم روايته عن غير الثّقّة، فسقوط الواسطة غير مؤثّرة، حتّى لو علمنا بأنّها راوٍ منصوص على تضعيفه.
إلّا أنّها محاولة لا تدفع الاعتراض بحسب ما اختاروه من مبانٍ، وإن كان ما ذكره في النّقطة الأولى هو الحق؛ فالكتاب إن كان معلوم الانتساب لصاحبه ككتابي ابن أبي نصر هنا فلا يُحتاج لمعرفة طريقه ويدلّ عليه رواية أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ اَلْحَلاَّلِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ اَلرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِنَا يُعْطِينِي اَلْكِتَابَ وَ لاَ يَقُولُ اِرْوِهِ عَنِّي يَجُوزُ لِي أَنْ أَرْوِيَهُ عَنْهُ قَالَ فَقَالَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ اَلْكِتَابَ لَهُ فَارْوِهِ عَنْهُ[31]. والمعلوم من الشّيخ رحمه الله أنّه إذا علّق الخبر يكون أخذه من كتاب المعلّق عليه لا من حفظه.
أمّا بالنّسبة للنّقطة الثّانية فهي موضع نظر، فأولًا في العصابة المجمع على تصحيح ما يصحّ عنهم فأن أقصى ما تفيده القاعدة تصحيح النّقل عن الرّاوي المباشر لا الوسائط التّالية له؛ لأنّ المباشر هو ما ينطبق عليه "صحّ عنه" أما نقل الواسطة عن غيرها أو عن الإمام فغير معلومة ولا تشملها القاعدة.
وأمّا كون حاله وجلالة شأنه أن لا يروي إلّا عن الثّقاة فهو إنّما يجدي إذا علم المنقول عنه باسمه ولم يطعن فيه أحد، أما مع عدم العلم باسمه أو مع الطّعن فهو غير كاف لجواز روايته عن غفلة عن حاله أو لحسن حاله عنده وفسقه عند غيره.
وبالجملة لا ريب في أنّ رواية الثّقة ظاهرة في حسن حال المروي عنه لكن بشرط عدم المعارض إذا كان مصرّحا باسمه وأمّا مع عدم التّصريح فلا اعتماد على الخبر[32].
4/ عمرو بن أبي المقدام قال حدثني من سمع أبا عبد الله يقول "إِنِّي لَأَعْجَبُ مِمَّنْ يَرْغَبُ أَنْ يَتَوَضَّأَ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَقَدْ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ.[33]"
5/ رواية ابن يقطين: "تَوَضَّأ من الْآنَ كَمَا أَمرَكَ اللهُ؛ اغْسِل وَجْهَكَ مَرّةً فرِيْضَةً، والأُخْرَى إِسْباغًا، واغْسِل يَدَيْكَ مِنَ المِرْفَقينِ كذلك.[34]"
6/ رواية داود الشّبيهة بحادثة ابن يقطين عن أبي عبد الله عليه السّلام: "يَا دَاوُدَ بْنَ زُرْبِيٍّ تَوَضَّأْ مَثْنَى مَثْنَى، وَلَا تَزِدَنَّ عَلَيْهِ، فَإِنَّكَ إِنْ زِدْتَ عَلَيْهِ فَلَا صَلَاةَ لَكَ.[35]"
7/ رواية صَفْوَانَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السّلام: -إلى أن قال:- "فَكَيْفَ الْغَسْلُ؟ قَالَ عليه السّلام: هَكَذَا أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَيَصُبَّهُ فِي الْيُسْرَى ثُمَّ يَفُضَّهُ عَلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ يَمْسَحَ إِلَى الْكَفِّ قُلْتُ لَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ فَقَالَ عليه السّلام: كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَرَّتَيْن.[36]"
8/ رواية زرارة عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: "الْوُضُوءُ مَثْنَى مَثْنَى، مَنْ زَادَ لَمْ يُؤْجَرْ عَلَيْهِ وَ حَكَى لَنَا وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَغَسَلَ وَجْهَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً.[37]"
9/ رواية عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السّلام قال: "جَلَسْتُ أَتَوَضَّأُ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ حِينَ ابْتَدَأْتُ فِي الْوُضُوءِ، فَقَالَ لِي تَمَضْمَضْ وَاسْتَنْشِقْ، وَاسْتَنَّ ثُمَّ غَسَلْتُ وَجْهِي ثَلَاثاً فَقَالَ، قَدْ يُجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَّتَانِ، قَالَ فَغَسَلْتُ ذِرَاعَيَّ وَمَسَحْتُ بِرَأْسِي مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ قَدْ يُجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَّةُ، وَ غَسَلْتُ قَدَمَيَّ قَالَ فَقَالَ لِي يَا عَلِيُّ، خَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ لَا تُخَلَّلْ بِالنَّارِ[38]."
10/ عن علي بن أبي حمزة قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ كَيْفَ يَتَوَضَّأُ قَالَ عليه السّلام: "مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ قُلْتُ يَمْسَحُ قَالَ مَرَّةً مَرَّةً قُلْتُ مِنَ الْمَاءِ مَرَّةً قَالَ نَعَمْ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَالْقَدَمَيْنِ قَالَ اغْسِلْهُمَا غَسْلًا.[39]"
11/ مرسلة الأحول عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: "فَرَضَ اللهُ الْوُضُوءَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلنَّاسِ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ.[40]"
[البحث الثّالث: ما حمل عليه الأصحاب ومناقشة تفسيرهم]
أ) جمع الشّيخ الكليني رحمه الله:
حمل الشّيخ أخبار التّثنية على من لم تقنعه الواحدة وإن كانت الواحدة أفضل، والتّثنية أقصى غاية الحدّ في الوضوء.
وقد أصاب الشّيخ رحمه الله في أفضلية الواحدة، ولكن حمل الاثنتين على من لم تقنعه لا ينساق مع كلّ الأخبار.
ب) جمع الشّيخ الصّدوق رحمه الله:
حمل الشّيخ ما ثبت له من أخبار التّثنية على تجديد الوضوء ثانيةً وأيّدها بروايات مناسبة مثل "من توضّأ مرتين لم يؤجر" وغيرها، وردّ إخبار "مرّتين، مرّتين" لانقطاع السّند، وحمل مرسلة الأحول على إنكار الإمام عليه السّلام على من يقول بإنّ رسول الله ﷺ وضع أو زاد لأنّ حدود الله لا تبديل فيها، والقول بالزّيادة تعدٍّ على حدود الله.
والنّظر فيه من وجوه:
أولًا: الأخبار الصّريحة في المرتين فيها ما هو صحيح صحيحة ابن يعقوب، وغير منحصر بما ردّه الشّيخ رحمه الله.
ثانيًا: إنّ حمله خبر الأحول على التّعجّب حقيقٌ بالتّعجّب؛ لأن هذا المضمون قد رواه أيضًا داود الرّقّي عن أبي عبد الله عليه السّلام كما في الكشّي على وجه لا يصحّ حمله عليه فقال بعد السّؤال عن عدّة الطّهارة: "مَا أَوْجَبَهُ اللهُ فَوَاحِدَةٌ وَ أَضَافَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَاحِدَةً لِضَعْفِ النَّاسِ[41]"
ثالثًا: إن حصر التجديد في الوضوء الثاني مع إطلاق الأخبار باستحبابه والأمر به من غير معارض لا وجه له. ومع ذلك فقوله "التجديد بعد التجديد لا أجر له كالأذان" إن أراد به التجديد من غير تخلّل زمان وإرادة صلاة فالتّجديد الأوّل أيضاً لا أجر له، بل هو ليس بتجديد؛ لأنّ وضوءه جديد، وإن أراد به التجديد مع تخلّل زمان وإرادة صلاة ونحوهما كما في الأذان الذي أورده في المثال فقوله: "لا أجر له" ليس بمستقيم؛ كيف وهو نفسه يروي عن النبي ﷺ أنه كان «يجدد الوضوء لكل فريضة ولكل صلاة".
رابعًا: والتّهويل على وضع النّبي ﷺ وزيادته في الوضوء إن كان من باب منع التّفويض له ﷺ فليس بمستقيم حيث أورد الشّيخ نفسه وغيره روايات في زيادة النّبي ﷺ في الفرائض وغيرها من النّظائر، وإن كان من باب آخر لا نفهمه فذاك أمر آخر.
ج) جمع الشّيخ في كتابيه وأكثر متأخري الأصحاب:
حملوا أخبار التّثنية على الاستحباب والوحدة على الفرض، وأمّا رواية الفقيه "مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ لَمْ يُؤْجَرْ" فأوّلها بما إذا اعتقد فرضيتهما.
وهذا الجمع قاصر لوجوه:
أوّلًا: أخبار الوضوء البيانيّ صريحة في الوحدة وهي دالّة كذلك على مداومتهم عليهم السّلام على تلك الكيفية الّتي ذُكرت فكيف تصحّ مداومتهم على ترك السّنّة وهي التثنية بحسب دعوى الجمع.
ثانيًا: صحيحة زرارة وحمّاد صريحتان في أفضلية الوحدة، بل هما ظاهران في مرجوحيّة التّثنية، وأصرح منهما في ذلك رواية زرارة وأبي حمزة المنقولة من كتاب البزنطي، فراجع.
ثالثًا: استُدِلَّ بصحيح الأخوين[42] وهي إنّما تدلّ على جواز الغرفتين، بل استحبابها لا الغسلة كما فهموه.
رابعًا: حمل عدم الأجر الوارد في رواية الفقيه وغيرها على ما لو اعتقد فرضيتها بعيد فقد تضمّنت بعض نظائره فرضية الواحدة وعدم الأجر على الثّانية وبدعيّة الثّالثة، وإرادة التّقييد في أحد الخصال وإبقاء الباقي على إطلاقه تعسّف ظاهر، ولا يستدل للتقييد برواية ابن بكير عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: "مَنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ أَنَّ وَاحِدَةً مِنَ الْوُضُوءِ تُجْزِيهِ لَمْ يُؤْجَرْ عَلَى الثِّنْتَيْنِ.[43]" لضعف سندها.
خامسًا: وصف الغسلتين بالإسباغ لا يُعطي استحبابها لعدم انحصار الإسباغ فيه، فقد يحصل بالواحدة مع مزيد عناية كما في صحيحة الأخوين.
ولو سلّمنا بنهوض دلالة بعض الرّوايات في الاستحباب فهي قاصرة عن معارضة ما دلّ على رجحان الوحدة دلالة وعددًا وسندًا.
د) حمل الشيخ البهائيّ:
احتمل الشّيخ احتمالًا راجحًا بأن يكون معنى «مثنى، مثنى» عينه ما ورد في أن الوضوء غسلتين ومسحتين.
ولا يجري هذا الحمل في كثير من الأخبار لصراحتها في تثنية الغرفة.
هـ) جمع الفيض الكاشانيّ:
وقد جمع الفيض بحمل أخبار جواز التّثنية على الغرفة، وتحريمها على الغسلة.
ويرد عليه:
أوّلًا: أنّه لا ينساق الحمل في مثل مرسلة الأحول إذ من المعلوم أنّ الإثنتين هي تلك الواحدة الّتي فرضها الله مع مثلها، وخبر الأخوين لا دلالة فيه على أنّ الواحدة والمرّة هي الغسلة، بل هي بالدّلالة على الغرفة أشبه.
ثانيًا[44]: إن الحمل على ما ذكره مع كونه جمعا بغير اشاهد سوى ما توهّمه من خبر الأخوين وهو لا يدل على استحباب تثنية الغرفة كما يفهم من جملة وصرّح به فى مفاتيحه بل إنَّما يدل على أنه يكمل بهما غسل العضو بغير مبالغة وهو عن الاستحباب بمراحل لايتفق به جمع الأخبار كما زعمه، فإن صدر صحيحة زرارة وعجز صحيحة حمّاد لدلالة فحوى الأوّل على كراهة تثنية الغرفة والثاني على التعدّي بها ومواظبة باب العصمة على الغرفة الواحدة وتصريح رواية زرارة وأبي حمزة بِأَنّ الفضل فيها مما يدفعه لدلالة ما ذكرنا على الجواز المطلق لتثنية الغرفة إن لم يدل على المرجوحية سيما وقد روت التثنية المخالفون في أصحّتهم عن النبي ﷺ وأجمع أكثرهم على أفضليّتها، وإن كان الأكمل عندهم التثليث وعليه استعمالهم في هذه الأعصار، وحينئذ فالتّحقيق أنّ أخبار الوحدة مع بعدها عن مذاهب العامّة لمرجوحيتها عندهم، أوضح سندا وأكثر عددا وأصرح دلالة، فقواعد التّرجيح المرويّة عن أرباب العصمة يقتضي الأخذ بها وطرح ما خالفها، فلا حاجة بنا إلى هذه المكلّفات المستلمة لطرح أكثر الرّوايات.
و) حمل الفاضل الخراساني وصاحب الحدائق:
فسّر الشيخان المبالغة في صحيحة الأخوين بملئ الكفّ وجعل لام الثنتين في قوله عليه السّلام «والثنتان» عهديّة، أي إشارة للغرفتين المذكورتين أوّلًا.
وفيه:
أنّ الأنسب عند أرباب اللسان -ولو كان ما ذُكر صحيحا- تبديل الواو بالفاء.
على أنّ الّذي يظهر لي من التّدبّر في جميعها:
أوّلًا: رجحان الغرفة الواحدة وجواز الغرفتين، كما تبينه صريحا رواية داود الرّقّي في الكشي؛ إذ أنّها تبيّن أنّ حصول ما أمر الله به من الغسل يتحقّق بالغرفة الواحدة -بل بأقل منها- لكن لمّا كان الإسباغ بالمرّة يحتاج لمزيد عناية والنّاس ضعفاء عن ذلك أضاف لهم رسول الله ﷺ غرفة ثانية.
ثانيا: ما جاء في أخبار التّثنية فهو بيان حدّ الجواز، وإنّما بُيّن للردّ على أهل الخلاف في تجويزهم التّثليث.
ثالثًا: يظهر لنا نتيجة ما انتهينا إليه أنّ ما أورده العلّامة[45] ومن تبعه من أنّ من لم يكفه كف واحد لاستيعاب العضو وجب الثّاني والثّالث وهكذا غيرُ مستقيم فصحيحة الأخوين صريحة في أنّ الغرفة الواحدة كافية مع المبالغة وأنّ الثنتين يأتيان على الجميع.
وقد استدلّ العلّامة لقوله بالإجماع في حين أنّ ظاهر الصّدوق حرمة الثّانية، وقد صرّح الكليني بأنّها لمن لم يقنع بالأولى وهي غاية حد الجواز، وكذا كثير من أعيان المتقدّمين والمتأخرين صراحة أو احتياطًا فبالجملة القول بجواز الغرفة الثّالثة -بعد التّسليم بحال الغسلات- خلاف المعلوم من مذهب أيمّتنا الأبدال، وفيما ذكرنا كفاية من أنصف من الرجال، وقد أطلنا الكلام في هذا المقام لأنّه من أمّهات الأحكام ومطارح أنظار الأعلام الّذي زلّت فيه أقدام أقوام، وعثرت فيه أفهام أعلام.
وقد انتهيت من إيجاز كلامه رحمه الله في الثّامن من شهر ربيع الثّاني ذكرى ولادة سيّدنا ومولانا الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام ١٤٤١هـ وأنهيت تنضيده وترتيبه ومراجعة فصوله في الثامن من ذي القعدة ١٤٤٣هـ
المتعطّش لعطف سادته الأبويّ السيّد علي بن السيّد محمّد العلوي عفا الله عنه
عراد - البحرين
.............................
[1] لم أجد نقل ابن إدريس عن البزنطي، وقد أرجع محقق الإحياء للسّرائر ج١ ص١٠٠ وكذلك ما وجدت فيها هذا النّقل.
[2] الكافي (دار الحديث) ج٥ باب صفة الوضوء ذيل الحديث التّاسع ص٨٧.
[3] من لا يحضره الفقيه (مؤسسة النّشر الإسلامي) ج١ باب صفة وضوء رسول الله ﷺ ذيل الحديث الرّابع والسّابع ص٣٨ وما بعدها.
[4] الشّيخ المفيد في المقنعة (مؤسسة النّشر الإسلام) ص٤٣ و٤٦.
والشّيخ الطّوسي في النّهاية (انتشارات قدس محمدى) ص١٣.
[5] العلّامة في قواعد الأحكام (مؤسسة النّشر الإسلامي) ج١ ص٢٠٤.
الشّهيد في الذّكرى (مؤسسة آل البيت عليهم السّلام) ج٢ ص١٨٢.
[6] مفاتيح الشّرائع (مجمع الذّخائر الإسلامية) ج١ ص٥١.
[7] راجع الذّخيرة (مؤسسة آل البيت عليهم السّلام) ص٤١ وما بعدها.
[8] راجع وسائل الشّيعة للحرّ العاملي أبواب الوضوء من كتاب الطّهارة الباب 15 ح2 و3 و4 و6 و9 و10 و11.
[9] الكافي ج٥ باب صفة الوضوء ح٤.
[10] تهذيب الأحكام (دار الكتب الإسلاميّة) ج1 باب صفة الوضوء والفرض منه والسّنّة والفضيلة فيه ح61.
[11] الكافي ج٥ باب صفة الوضوء ح7.
[12] المصدر السّابق ح9.
مستطرفات السرائر المستطرف من نوادر البزنطي الحديث الأوّل.
[13] وسائل الشّيعة أبواب الوضوء من كتاب الطّهارة الباب31 ح27 نقلا عن المستطرفات، وقد نقلها صاحب الإحياء منه، قال: ”وفي السّرائر والمعتبر نقلًا عن البزنطي“ ولم أجدها في المعتبر.
[14] الكافي ج٥ باب صفة الوضوء ح6.
[15] في الفقيه ج١ باب صفة وضوء النّبي ﷺ ح3.
[16] في الفقيه ج١ باب صفة وضوء النّبي ﷺ ح١٠.
[17] مختصر بصائر الدّرجات (منشورات المطبعة الحيدريّة) ص94.
[18] عيون أخبار الرّضا عليه السّلام باب ما كتبه الرّضا عليه السّلام للمأمون في محض الاسلام وشرائع الدين ح١
[19] بحار الأنوار ج٧٧ أبواب الوضوء الباب٣ ح٢٣
[20] تهذيب الأحكام ج١ باب صفة الوضوء والفرض منه والسّنّة والفضيلة فيه ح٥٧.
[21] التّّهذيب ج١ باب آداب الأحداث الموجبة للطّهارة ح٧٣.
[22] فمثلًا عدّها الشّيخ يوسف في الحدائق موثّقة لا صحيحة.
[23] قال الشّيخ الصّدوق في المشيخة: «وما كان فيه عن يوسف بن يعقوب، فقد رويته عن أبي (رحمه الله)، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد بن سنان، عن يوسف بن يعقوب أخي يونس بن يعقوب، وكانا فطحيين»
[24] قال النّجاشيّ: ”وكان قد قال بعبد الله، ورجع“ رجال النّجاشيّ (جماعة المدرّسين) ص٤٤٦.
[25] راجع اختيار معرفة الرّجال ما رُوي في يونس بن يعقوب.
[26] تهذيب الأحكام - ج١ - باب صفة الوضوء والفرض منه والسّنّة والفضيلة فيه - ح٥٨.
[27] مختلف الشّيعة (مؤسّسة النّشر الإسلاميّ) ج١ ص٢٨٢
[28] منتهى المطلب (مجمع البحوث الإسلاميّة) ج٢ ص١١٩
[29] منتقى الجمان (جماعة المدرّسين) ج١ ص١٤٨.
[30] ذخيرة المعاد (مؤسّسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التّراث) ج١ ص٤٠
[31] الكافي الشّريف كتاب فضل العلم باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب ح٦.
[32] فالظّاهر بأنّ المصنّف رحمه الله اعتمد أولًا على الصّحة بالمعنى القديم ولذلك عبّر عن الخبر بالصّحيح، واستبعد أن يكون الرّاوي هو صفوان بن يحيى وإلّا تعارض كلامه.
[33] الفقيه ج١ - باب صفة وضوء رسول الله ﷺ - ح٧.
[34] نقلها المصنّفُ عن الإرشاد والخرائج كما ذكر نفسه في المسألة الرّابعة من غسل اليدين، ووجدتها بنفس الألفاظ في العوالم جزء الإمام الكاظم عليه السّلام. أمّا الرّواية الّتي اعتمدها الحرّ في الوسائل عن الإرشاد: ”وَوَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُ أَبِي الْحَسَنِ عليه السّلام ابْتَدِئْ مِنَ الْآنَ، يَا عَلِيَّ بْنَ يَقْطِينٍ وَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللهُ تَعَالَى، اغْسِلْ وَجْهَكَ مَرَّةً فَرِيضَةً، وَأُخْرَى إِسْبَاغاً، وَاغْسِلْ يَدَيْكَ مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ كَذَلِكَ. وهي الّتي أرجع لها محقّق الإحياء حرسه الله.
[35] اختيار معرفة الرّجال مؤسّسة الصّادق تحقيق الشّيخ محمّد جاسم الماجدي ج٢ - باب ١٣٤ ما روي في داود بن زربي - ح١.
[36] تفسير العيّاشيّ - تفسير سورة المائدة الآية ٦ - ح٥٤.
[37] تهذيب الأحكام - ج١ - باب صفة الوضوء والفرض منه والسّنّة والفضيلة فيه - - ح٥٩.
[38] المصدر السّابق ح٩٧.
[39] تفسير العيّاشيّ - تفسير سورة المائدة الآية ٦ - ح٥٨.
[40] الفقيه ج١ - باب صفة وضوء رسول الله ﷺ - ح٤.
[41] تقدّم.
[42] عن زرارة وبكير أَنَّهُمَا سَأَلَا أَبَا جَعْفَرٍ عليه السّلام عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إلى أن قال: فَقُلْنَا أَصْلَحَكَ اللهُ، فَالْغُرْفَةُ الْوَاحِدَةُ تُجْزِي لِلْوَجْهِ وَغُرْفَةٌ لِلذِّرَاعِ، قَالَ نَعَمْ إِذَا بَالَغْتَ فِيهَا، وَالثِّنْتَانِ تَأْتِيَانِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ.
[43] تهذيب الأحكام - ج١ - باب صفة الوضوء والفرض منه والسّنّة والفضيلة فيه - ح٦٢.
[44] تعسّر عليّ فهم هذا الرّدّ ولم أستطع أن أوجزه، فأوردته بطوله كما هو في الكتاب.
[45] مختلف الشّيعة (جماعة المدرّسين) ج١ ص٢٨١