أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم، بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ومولانا محمّد بن عبد الله الصّادق الأمين، وعلى آله الأيمّة المعصومين، الشّهداء المظلومين، واللعن الدّائم على أعدائهم إلى يوم الدّين.
في عيون أخبار الرِّضا عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: مَا قَالَ فِينَا قَائِلٌ بَيْتَ شِعْرٍ حَتَّى يُؤَيَّدَ بِرُوحِ الْقُدُسِ.
إن كثيرًا من الأبيات الشّعرية ولا سيما تلك الّتي كتبت في ندبة المولى الحسين عليه السّلام قد كُتب لها الخلود في ذاكرة الشّيعي، فهي تخاطب تلك الجمرة الملتهبة والحرارة المتوهّجة في قلب المؤمن يسلو بها عن الفرح وينشغل بها عن الأهل والبنين، فيتذاكرها بدعوة من فطرته الإيمانية ويكررها بدافع طينته الطّاهرة فتراه يناغي أفراحه بقول الشّاعر:
أحسين بعدك لا هنا عيش ولا لذّت مشارب
ويواسي أحزانه بقول الآخر:
أنست رزيّتكم رزايانا التي سلفت وهونت الرزايا الآتية
ولكنّ أبياتًا بزغ شجاها من أرضنا الطّاهرة - التي أوقفت نفسها وكل ما عليها لمحمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم- أبت إلّا أن تجمع للمؤمن مفاصل حزنه على السبط المذبوح بإيجاز يكون له مفزعا في كل حال، فإن أراد إيقاظ جرح الحسين في قلبه ردّد:
فمن الواجب عينا لبس سربال الأسى
واتخاذ النوح وردا كل صبح ومسى
واشتعال القلب أحزانا تذيب الأنفسا
وقليل تتلف الأرواح في رزء الحسين
وإن أراد أن يتعزّى بالحسين على مصائب الدهر تذكّر:
أحرم الحجّاج عن لذاتهم بعض الشهور
وأنا المحرم عن لذاته كل الدهور
كيف لا أحرم دأبًا ناحرا هدي السرور
وأنا في مشعر الحزن على رزء الحسين
هي قصيدة العالم الفذ المؤيد بروح القدس الخالد بخلود مصاب الحسين عليه السّلام الشّيخ حسن الدّمستاني رحمه الله، والّتي سطّرت بدموع المصاب مشاعر الألم ونظمت بضجيج الجزع مقتل سادة الأمم.
لقد أخَذَتْ منذ الطفولة بعضُ مربعات تلك القصيدة بتلابيب القلوب، فقد نشأنا على عزاء (ذو الجناح) الّذي تُقرأ فيه هذه الملحمة ونُقشِت في ضمائرنا:
أيها المهر توقّف لا تحم حول الخيام
فعشنا في حرارة أبياتها وكبرنا على لهفة صورها، كيف لا وقد أرسى أجدادنا أوتادها إذ جعلوا لها ليلة لا يمر العام إلا وتذكر فيه وهي ليلة التروية التي خرج فيها الحسين من أرض آبائه طريدا خائفا، فلابدّ وأن تطرق أبياتها مسامعك في كل عام، ومن الطّبيعي أن ترن أجراس فكرك عند بعض أبياتها، وقد أوقفني في بعض الأعوام السّابقة قول شيخنا الدّمستاني:
بأبي أنجم سعد في هبوط وصعود
طلعت من فلك المجد وغابت في اللحود
سعدت بالذبح والذابح من بعض السعود
كيف لا تسعد في حال اقترانٍ بالحسين
فماذا يعني بقوله (والذابح من بعض السعود)؟ فمرّت علينا موجة برد قارس أشار بعض الفلكيين أنّه لطالع سعد الذّابح وهو نجم يقارن في طلوعه بعض التقلّبات الجويّة ففزع -كما ذكرتُ- بعض المؤمنين لقصيدة الدّمستاني الفاخرة فذكروا هذه الأبيات، عندها تساءلت عن معنى إتيانه بهذه الصّورة في هذا المورد، وحملت سؤالي لكثير من الإخوان المهتمّين باللغة والخطباء فوجدتُ آراءً متفاوتة وصورا لطيفة ووجوها لا يمكن ردّها، فأحببت أن أشاركها لما فيه من بعض الصّور عالية المعاني، مختلفة المذاقات تفضّل الأعزّة بها عليّ وقد علقتُ على بعضها بما استهوته نفسي مع الجزم بأنّي لست من أهل التقييم ولكنها استحسانات وجدتّ في عرضها شيئًا من المساهمة في مذاكرة هذه القصيدة فأقول مستعينًا بالله:
١| جاء الشّيخ بها كمعلومة فلكيّة عرضيّة يثبت بها بعض قدراته العلميّة في علم الهيئة وهذا ممّا جرى على لسان غير واحد من الشّعراء ليحقّق به نوع جذب للقارئ لما يجده من سعة اطّلاع الشاعر وقد استدعتها المناسبة فإنّه شبّه الأنصار رضوان الله تعالى عليهم بالأنجم واستطرد في تشبيهه إذ جعلهم في هبوط، وصعود، وطلوع، وغياب.
٢| نجم سعد الذّابح من النجوم الّتي يسعد بها العرب ويتفأّل بها فشبّه الشّاعر سعادة أنصار الحسين عليه وعليهم السّلام بساعدة من طلع عليهم ذلك النّجم فيكون تقدير البيت: سعدت بالذّبح كما يُسعد بسعد الذّابح.
٣| وفي نفس التّشبيه بالسّعادة قال آخرُ بأنّ الشاعر أتى باسم الفاعل "الذّابح" وأراد اسم المفعول أي المذبوح وشبهه بأنّه من بعض السّعود إشارة لسعد الذّابح لما فيه من سعادة من طلع عليهم ذلك النّجم.
٤| أنّه كسابقيه من السّعادة، ولكنّه أراد باسم الفاعل المصدرَ أي الذّبح وفي هذا ترقّي وتضمين لمعنى جليل وهو أنّ الذّبح دون الحسين عليه السّلام من مصادر السّعادة بغض النّظر عن المذبوح وزمن الذّبح إنّما استفدناها من تلك الصّفوة الطّاهرة فهو قد بدأ بيته بوصف حالهم ثمّ أطلق حكما عامًّا يسع كل من أراد تلك السّعادة.
٥| أتى الشّاعر بكلمة الذّابح وأراد بها أمرين الأمر الأوّل الذّابح الحقيقيّ والثّاني النّجم نجم سعد الذّابح وهو من نجوم الشؤم عند العرب فضمّن البيت طباقًا بالمقابلة بين سعادة المذبوح وشؤم الذّابح كما يُتشاءم بذلك النّجم.
والتّوجيهان يصحّان باختلاف جهات النّظر فإنّ طالع أنجم السّعود من طوالع السّعد على الإنسان لعلاقته الغيبيّة بمنازل القمر وغيرها من الفلكيّات في قبال أنجم النحوس وكذلك كان المزارعون يستبشرون بسعد الذّابح إذ أنّ أوّل أيّامه تسمّى بذرة السّتّ وهي ستّة أيّام تورق فيها الأشجار وتصلح للبذر وتظهر فيها الكمأ، أمّا عامّة النّاس فيرون أيّامه أيّام قصّاب يذبح ذبائحه من شدّة البرد فمن ظريف ما يُحكى: كان يوماً عند أحد الملوك رجلٌ، فدخل عليه آخر اسمه سعد الدين، وكانت بينهما وحشة، فقال الملك: ما تقول يا فلان في سعد الدين؟ فقال: إذا كان عندك فهو سعد السعود، وإذا كان على السماط فهو سعد بلع، وفي الخيام عند الضيوف سعد الأخبية، وعند المريض سعد الذابح. فكانوا يشبّهون به للذّمّ والشّؤم.
ولعلّ إرادة المعنيين من لفظ واحد مستهجن في مثل مقام السّرد الّذي صبّ فيه الشّيخ قصيدته فضلًا عن نقاشهم في إمكانه أصوليّا فوجّه آخر:
٦| بأنّ الذّابح أراد به القاتل نفسه ومن بعض السّعود إشارة لتشبيهه بنجم من نجوم السّعود وهو سعد الذّابح وقد استعمل كلمة الذّابح لا القاتل مثلًا أو الطّاعن إشارة لما أراده من تشبيه.
ولعلّ هذا البيان أقرب للنّفس من سابقه في التّركيب وإن كان المعنى يصبّ في اتّجاه واحد.
أمّا أنّه أراد السّعد بالذّبح كما يسعد بالنّجم فهو بعيد لقلّة استعماله في المدح عند التّشبيه خصوصًا وأنّ الشّيخ نفسه ذكر سعد الذّابح في قصيدته كذلك في مورد الحزن فقال:
ما دروا إذ خرّ عن ظهر الجواد السابح
أحسين خرّ أم برج السماك الرامح
أم هو البدر وقد حلّ بسعد الذّابح
أم هو الشّمس وأين الشمس من نور الحسين
٧| إذا رجعنا للتّفسير الثّاني والثّالث والرّابع نستطيع أن نستدرك عليه بأنّه أراد من "بعض السّعود" نجم سعد السّعود لا سعد الذّابح فإنّ سعد السعود من أنجم البركة والخير والاستبشار إذ به تهلّ طلائع الرّبيع، وقد ضمّنه الشّعراء في أبياتهم مثل الكميت رحمه الله إذ قال:
ولم يك نشؤك لي إذ نشأت
كنوء الزباني عَجاجا ومُورا
ولكن بنجمك سعد السعود
طبقت أرضي غيثاً دَرورا
وبذلك تخرج عن البُعد بقلّة الاستعمال
٨| أراد الشّيخ هنا الإشارة لأنساب قتلة الحسين وأصحابه صلوات الله عليه وعليهم وإنّهم من العرب بقوله: "من بعض السّعود" فالسّعود في القبائل العربية كثيرة كما أشار لذلك ابن منظور في لسان العرب، وإنّما اختار السّعود لكثرتهم في مختلف القبائل كسعد تميم وسعد بكر وغيرها فأتى بالخاص وهي بعض القبائل وأراد العام وهم العرب إشارة لتنكّرهم للحسين عليه السّلام وتناسيهم بأنّه ابن رسول الله ﷺ وهو الّذي قال: "تقتله أمّتي من بعدي".
ولعلّ سياق الأبيات وتناسبها الفلكيّ إذ أشار لطلوع النّجوم وهبوطها وأنجم السّعد والاقتران الّذي هو حالة من حالات القمر مع الكواكب يدفع هذا الاحتمال.
٩| جاء الشّيخ بهذه الصّورة الفلكيّة إشارة لاقتران الأنصار بالحسين عليه السّلام الّذي ينصّ عليه في البيت الأخير، فقد كان العرب يقسمون القبّة السماوية إلى أجزاء ويسمون النجوم بأسماء، وبذلك يعرفون أحوال الطقس وكذلك باقتران القمر بهذه النجوم وهي منازله.
فاستعار الشاعر هذه الصورة وأعاد تشكيل العلاقة بمصرع أنصار الحسين عليهم السلام فوصف أهل الحسين وأنصاره بأنجم السعد التي هي منازل يقترن بها القمر، وضمّن في بيته جناسًا بين اسم النجم (سعد الذابح) وبين سعادة الأنصار واستبشارهم بالذبح، وقد ذكر أن سبب السعادة هو اقترانهم بالحسين عليه السّلام.
١٠| أنّ هذا البيت إنّما هو مقاربة من خلال توظيف ما للشيخ من دراية ومعرفة بالفلك والأنجم في تلك المأساة الّتي وقعت في ظاهرها على الحسين عليه السّلام وأصحابه تنتج لنا معنى آخر متولّد وهو معنى السّعادة الحقيقة الّتي أشار لها كذلك في بيت آخر إذ قال:
شاهدوا الجنة كشفًا ورأوها رأي عين
وإنّما التّعبيرات في البيت جاءت ليقول بأنّ على تكثر الجهات من ذبح ومذبوح وذابح قد ذبح إلّا أنّ ذلك المعنى العظيم هو المراد لهم عليهم السّلام.
اللهمّ ثبّت لي قدم صدق عندك مع الحسين وأصحاب الحسين الّذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليهم السّلام، وارزقنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم، والحمد لله ربّ العالمين.
السيّد علي بن السيّد محمّد العلوي
٢٠ من ذي القعدة ١٤٤٣هـ