-مقدمة: عاشوراء في وجدان كل مؤمن ومؤمنة..
ما إن تلوح في الافق تلك الرايات السوداء، واليافطات المرفوعة المسطرة بكلمات جميلة في حب الحسين (ع) تارة، وأخرى في وعي ثورة كربلاء، يهفو قلب كل مؤمن ومؤمنة، وتغرورق العين بعبرة على الإمام الذي بذل دمه في سبيل إعلاء دين الله عزّ وجل.
أجل تُقبل عاشوراء في كل عام وهي كحالها مُختَزَنَة في وجدان كل مؤمن ومؤمنة، بحرارة ولوعة على ما جرى، وحماس واندفاع نحو الأهداف التي رسمها لنا الحسين (ع).
حرارة حكاها النبي الأعظم (ص): (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا)، وهي منسجمة مع قول الباري عزّ وجل في محكم كتابه المجيد: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران .
فعاشوراء باقية مادام القرآن باقيا بروحه في قلوب المؤمنين الذين يَعُونه ويطبّقونه، وعندما نجد قلوبا أو عقولا تقتل الشهداء وتنساهم فلنعلم أنّها القلوب والعقول التي لم تعش القرآن، بل مات القرآن من نفوسهم أو ممن جعلوه عضين يأخذون قسما ويذرون قسما: (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الحجر.
-الإحياء نصرة للحسين (ع) وللشهداء ولخط الله:
القارئ لأحاديث أهل البيت (ع) يجد روايات عديدة تتحدث عن إحياء ذكراهم (ع)، كمثل قولهم (ع): (رحم الله من أحيا أمرنا ودعا لذكرنا).
ويبدو أن هناك مشكلة وعقدة لدى البعض من أتباع المذاهب الأخرى من مثل هذه المرويات، وتتفاقم المشكلة سوءا عندما يحاول ذلك البعض تصوير عقيدة الإحياء بالبدعة والشرك ونحوها من مسميات مخيفة الغرض منها إبعاد أتباعهم بعيدا قدر الإمكان من ذكرى أهل البيت (ع)، ولعل ذلك خوفا مما قاله الإمام الرضا (ع): (فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا).
وبالعودة إلى القرآن الكريم نفسه نلاحظه كثيرا ما يعتني بنقل قصص الماضين والسالفين، ذلك لما تحوي تلك القصص من عبرة تحاكي واقعا مماثلا يعيشه الإنسان رغم اختلاف الأجيال، لأنّها سنن وأنظمة إلهية تحكم الحياة في شتى جوانبها.
وهكذا هي ثورة الإمام الحسين (ع)، ثورة اختزنت تجربة كبيرة في عطاءاتها وأهدافها، فهي تجربة ينهل منها الغيور على دينه، والسائر على درب الإصلاح لأي انحراف عن نهج الشرع القويم.
فالإحياء لذكرى عاشوراء ليس احتفالية جامدة لا حركة فيها، وإنّما هي احتفالية بثورة تحتوي أهدافا حركية يمكن لها أن تحرك جمود واقعنا المعاصر، ونستفيد منها في مواجهة أسباب الفساد والانحراف.
-الإحياء كما أراده أهل البيت (ع):
يعد عنصر التفاعل العاطفي مكونا أساسيا دعا له أهل البيت (ع) من خلال أحاديث عديدة لجعله ركيزة أساسية في إحياء ذكراهم (ع)، ولا يعني أهل البيت (ع) بالتفاعل العاطفي ذاك الذي يبقى ساكنا في القلب دون أن يُفرز شيئا على أفعال وتصرفات الإنسان المحب لهم (ع)، فعندما حرّك أهل البيت (ع) الشيعة والموالين لهم نحو العاطفة كالبكاء على مصابهم أرادوا من ذلك الربط العاطفي والقلبي الذي ينعكس على الوعي العقلي وتأكيد الارتباط الولائي بهم.
فهم (ع) يدعون إلى ذلك الحب القرآني الذي يعبر عنه المولى سبحانه وتعالى بقوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، المحبة التي تحرك العاشق نحو اقتفاء المعشوق وإتّباعه في سلوكه وأقواله.
فلا يكفي بالإنسان أن يحب فقط، ويؤكد هذا المعنى الإمام الباقر (ع) في حديث طويل له مع الصحابي جابر الأنصاري فيقول (ع) لجابر: (يا جابر، أيكتفي من انتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في جميع الأشياء.
قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحدا بهذه الصفة، فقال: يا جابر لا تذهبن بك المذاهب حسب الرجل أن يقول: أحب عليا وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعالا، فلو قال: إني أحب رسول الله صلى الله عليه وآله فرسول الله خير من علي عليه السلام ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئا.
فاتقوا الله واعملوا لما عند الله ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عزّ وجل وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته.
ثم قال: من كان لله مطيعا فهو لنا ولي ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع).
إذن المحبة التي يرسمها أهل البيت (ع) هي هذه التي تُحركنا نحو الاقتداء والعمل بما يقولون لأنّ العاشق دومًا يخشى من أن يُؤذي معشوقه أو أن يقوم بما لا يرتضيه، وأهل البيت (ع) لا يرضون بترك الصلاة أو ترك الصوم أو إتيان المعصية وما يسخط الله.
-مكانة البكاء عند أهل البيت (ع):
يحكي لنا الشاعر المعروف دعبل الخزاعي قصة يتضح لنا من خلالها حجم الاعتناء بالبكاء والإبكاء عند أهل البيت (ع).
قال دعبل: (دخلت على سيدي ومولاي علي بن موسى الرضا (ع)، في مثل هذه الأيام فرأيته جالسا جلسة الحزين الكئيب وأصحابه من حوله، فلما رآني مقبلا قال: مرحبا بك يا دعبل مرحبا بناصرنا بيده ولسانه. ثم إنّه وسّع لي في مجلسه وأجلسني إلى جانبه، ثم قال لي: يا دعبل أحب أن تنشدني شعرا، فإنّ هذه الأيام أيام حزن كانت علينا أهل البيت، وأيام سرور كانت على أعدائنا خصوصا بني أمية، يا دعبل من بكى أو أبكى على مصابنا ولو واحدا كان أجره على الله، يا دعبل من ذرفت عيناه على مصابنا وبكى لما أصابنا من أعدائنا حشره الله معنا في زمرتنا، يا دعبل من بكى على مصاب جدي الحسين (ع) غفر الله له ذنوبه البتة.
ثم إنه (ع) نهض وضرب سترا بيننا وبين حرمه، وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدهم الحسين (ع)، ثم التفت وقال: يا دعبل إرث الحسين (ع)، فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيا، فلا تقصّر عن نصرتنا ما استطعت).
وفي هذه الرواية نقاط مهمة جدا وهي:
- الاجتماع للبكاء على مصاب الإمام الحسين (ع) في مثل هذه الأيام أي أيام عاشوراء كان سيرة لدى الأئمة (ع)، ولم ينشأ من قبل أتباعهم هكذا بصورة عفوية وتلقائية بعيدة عن الإتباع لهم (ع) وللشرع القويم.
- إنّ إظهار مظاهر الحزن في هذه الأيام، والبكاء على مصاب الإمام الحسين (ع) ركيزة أساسية في طريقة الإحياء الذي يتناسب وعاشوراء الحسين (ع).
- إنّ المنشد والراثي لأهل البيت (ع)، والساعي لإبكاء الآخرين قد أعطاه الإمام وسام الناصر لهم، وله أجر عظيم عند الله.
-الخطيب والرادود والشاعر عصب عاشوراء:
بعدما ذكرنا الرواية السابقة وهي ليست الرواية الوحيدة في هذا المجال، فالروايات الواردة بخصوص التأكيد على مكانة البكاء عند إحياء ذكرى عاشوراء عديدة ومنها ما روي عن الإمام الحسين (ع) نفسه عندما قال: (أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى)، وما روي عن الإمام الصادق (ع): (من أنشد في الحسين (ع) شعرا فبكى وأبكى عشرة كتب لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين (ع) شعرا فبكى وأبكى خمسة كتب له الجنة، ومن أنشد في الحسين (ع) شعرا فبكى وأبكى واحدا كتب لهم الجنة، ومن ذكر الحسين (ع) عنده فخرج من عينيه مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله عز وجل ولم يرض له بدون الجنة).
ولا ينبغي الاستغراب من هذه الأحاديث أبدا، ذلك أنّ من يتربى على البكاء لمصابهم ويرتبط بمجالس مآتمهم، وينهل من عطاءاتها ووعيها، يكون على درجة من القابلية ليكون وعاءً مستعدا لقبول الإيمان الإلهي والمعارف الربانية.
من هنا تتبين لنا قيمة الخطيب والرادود والشاعر وحجم الأهمية التي يشغلونها، باعتبار أنّهم يمارسون الدور الأهم والمفصلي عند إحياء ذكرى عاشوراء وأهل البيت (ع)، عندما يسيرون على وفق الخط الذي خطه أهل البيت (ع) وهو تحريك الموالين نحو العاطفة والبكاء وربطهم به، ومن ثم تحريكهم نحو الأرتباط العقلي والفكري بهم (ع).
ومن هنا نؤكد على أن الربط العاطفي الذي لا يوصل إلى الربط الفكري ليس مرجوًّا عند أهل البيت (ع)، فكيف إذا كانت الدعوة للبكاء بمضمون ينفّر العقول ويُبعد الأذهان، ذلك أنّ البعض يلجأ لطرق في الإبكاء تعتمد على مضامين مقطوعٌ عدم ثبوتها عن أهل البيت (ع)، معتمدا على تخريجات (لسان الحال) أو (على ما رواه أرباب المقاتل) أو (ما تناقله الخطباء) ونحوه.
ولا نعني بذلك أن نجرّد المعصوم من إنسانيته وطبعه البشري الذي لا يتصادم والعصمة والشريعة، فلا نقول كما قالوا: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) الفرقان، ولكن القضية هي أن بعض القصص لا يتحملها العقل ويرفضها الدين، فذكرها هذه وإن كان يُبكي البعض إلا أنّها لا توصل لربط المستمع بأهل البيت (ع) فكريا وعقائديا، بل قد يكون لها مردود عكسي تماما.
ولذلك للبكاء ضابطة أساسية هي أن يكون في النطاق الموصل لربط المستمع بأهل البيت (ع) عاطفيا وفكريا.
وغريب جدا ما آلت إليه بعض مجالس التعزية والمواكب العزائية، فهي أصبحت اليوم خالية من عنصرها المهم الذي أكد عليه أهل البيت (ع)، فنحن لا نرفض معالجة بعض قضايا الساحة سواء الاجتماعية أو الإيمانية أو حتى السياسية في المواكب العزائية، ولكن أن تطغى هذه على جانب البكاء والإبكاء على مصابهم (ع) فلا، إذ يمثل ذلك انحرافا عن النهج الذي رسمه أهل البيت (ع) أنفسهم.
فلابد لنا إذن من إعادة المسيرة إلى خطّها الصحيح المتوازن، بإعطاء حجم وافر ومساحة جيدة للبكاء على أهل البيت (ع)، ومساحة جيدة أخرى لوعيهم وتعاليمهم (ع) ومعالجة قضايا الساحة المختلفة.
-أخلاقيات الرادود والخطيب:
عنونت بعض المرويات الراثي لأهل البيت (ع) بالناصر لهم (ع)، ولا شك أنّ من يكون ناصرا لأهل البيت (ع) يجب أن يكون ناصرا لهم في أفعاله وصفاته أيضا، ذلك أنّ الإنسان يجب أن يكون صادقا مع نفسه وربّه أولا قبل أن يكون صادقا مع الناس.
فمن غير اللائق جدا أن أكون ناصحا للناس في خطابي وقولي وشعري ولا أكون ناصحا لنفسي أولا، ولا أكون سائرا على طبق النصيحة والموعظة، كمثل أولئك الذين خاطبهم المولى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) البقرة.
حالة من النفاق وقدرة على الأختباء وراء أقنعة مزيّفة، ومن ورائها وجه قبيح يعيش خبثا ودناءة في السلوك والتصرفات، هكذا حال البعض، ولكن سرعان ما تسقط هذه الوجوه والأقنعة المزيفة، ليَبَان المستور وتنكشف الحقيقة أمام الناس.
فما أجمل من الصدق مع الله والنفس والناس أيضا، راحة ما بعدها راحة..، وسعادة في الدنيا والآخرة، ومعنى ذلك لابد لي كخطيب أو رادود أو شاعر لأهل البيت (ع) من مراقبة تصرفاتي وسلوكي وتقييمه، وملاحقة الهفوات التي قد أقع فيها بين الفينة والأخرى، كي أحظى حقا بلقب وبوصف الناصر لأهل البيت (ع) في قولي وفعلي.
-هفوات.. الخطيب والرواديد غرق وإغراق:
ورد عن الإمام علي (ع) قوله:(زلّة العالم كانكسار السفينة تَغرق، وتُغرق) هكذا هي الزلة من العالم، فآثارها التدميرية لا تقتصر على الصعيد الشخصي وإنّما تتعدى لتدمّر أشخاصا آخرين قد لا تكون لهم أيّ علاقة مباشرة بذلك العالم، ذلك أن العالم لمّا اكتسى ثوب العالِمية اكتسى بذلك ثوب القدوة والأسوة أيضا، وأُمّل منه الخير والسير على نهج الصراط المستقيم، وأرقى من ذلك أيضا حيث يكون هو الممسك بأيدي الآخرين والسائر بهم نحو ما فيه صلاحهم.
وإذا بالناس تُفاجئ به سالكا لوجهة مغايرة تماما، فتحدث صدمة قوية في نفوسهم فمنهم من يزيغ كما زاغ، ومنهم من يبقى على الثبات، وهذا هو مكمن خطورة زلّة العالم.
والأمر ليس مقتصر على العالم وحده، فقد ورد التعبير ذاته في حق الملك والقاضي وغيرهم، إذ أنّهم يتفقون في حيثية الخطورة ذاتها (الغرق والإغراق).
ويمكننا أن نقول أن مكمن الخطورة هذا (الغرق والإغراق) موجود في مثل الخطيب والرادود أيضا ذلك أن النّاس تنظر إليهم نظرة القدوة والأسوة التي يُقتدى ويتأسّى بها، وإذا تَفاجئ الناس بزّلة أو هفوة منه تكون الآثار وخيمة لا تقتصر على الخطيب أو الرادود ذاته، فيجب أن يُدرك الخطباء والرواديد ذلك، ويتحملوا مسؤولياتهم كما يجب.
-هفوات وقع فيها البعض:
1- الغناء:
يقول الباري: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) الحج، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) لقمان.
هكذا كان وضوح حديث الباري سبحانه عن الغناء، فلا إشكال في حرمته، وإنّما المشكلة في بيان حقيقته وما يتحقق به الغناء المحرّم لنتحقق بعد ذلك من بعض المرثيات واللطميات والأناشيد لبعض رواديدنا ومدى وقوعها أو ابتعادها عن الغناء.
وسنذكر في تحقيق معنى الغناء ما ذهب له جملة كبيرة من فقهائنا الأعاظم، ونبتعد عن الآراء الأخرى التي قد تكون أكثر تشددا.
يقول سماحة السيد الخوئي (قده): (إنّ الغناء المحرم عبارة عن الصوت المرجع فيه على سبيل اللهو والباطل والإضلال عن الحق، سواء تحقق في كلام باطل أم في كلام حق).
ثمّ يقول (قده): (وعلى هذا فكل صوت كان صوتا لهويا ومعدودا في الخارج من ألحان أهل الفسوق والمعاصي، فهو غناء محرم، ومن أظهر مصاديقه الأغاني الشائعة بين الناس في الراديوات ونحوها) مصباح الفقاهة ج1.
فالمعيار كما يطرحه السيد الخوئي (قده) هو خروج الصوت في النتيجة بنحو يؤلف صوتا بكيفية لهوية متماثلة مع تلك الأصوات التي يستعملها اللهاة والبطّالون في مجالس لهوهم ورقصهم ومعاصيهم وشربهم للمحرم، تلك المجالس المنعوتة في لسان الفقهاء بمجالس الفسوق.
وهذا المعيار كما نلاحظ لا يركّز على مضمون الصوت، وإنّما يركز على كيفية الصوت وطريقة ترجيعه، فقد يكون المضمون حقا كدعاء أو رثاء ولا أجمل، ورغم ذلك يتغنّى به البعض عندما يقرؤه بكيفية لهوية بنحو الألحان المستعملة في مجالس اللهو والفسوق.
2- استعمال الموسيقى:
بعدما اتضحت حقيقة الغناء، ووجدنا المكوّن الأساسي للغناء هو كونه بكيفية تتناسب والكيفية واللحن المستعمل في مجالس أهل الفسوق، نقول:
إنّ الغناء كما قد يكون بالصوت المجرد (صوت الحنجرة) قد يكون بالصوت والآلة الموسيقية معا، أو بالآلة الموسيقية وحدها، أو بالمؤثرات الصوتية التي تستعمل حديثا.
إذ قد يقول القارئ أبياتا هي لوحدها ومجرّدة عن الآلات الموسيقية لا تشكل غناء لأنّ مستوى الترجيع مثلا عاديا لم يبلغ حدّ الكيفية اللهوية، وبعدما تضاف له الموسيقى والمؤثرات الصوتية وتتمازج معه يتشكل لحنا لهويا فيكون غناء.
وربما يتشكل اللحن اللهوي من الموسيقى لوحدها بعيدة عن الأبيات وصوت الحنجرة.
إذن نلاحظ أن الغناء يمكن أن يحصل بثلاثة أمور:
- بصوت الحنجرة وحدها.
- بصوت الآلات الموسيقية والمؤثرات الصوتية وحدها.
- بكليهما.
كلّ ذلك متى ما تحققت الكيفية اللهوية المتناسبة ومجالس البطالين.
-كيف نحدد الألحان الغنائية من غيرها؟
من الواضح أنّ تحديد كون هذا اللحن متناسب مع مجالس البطالين أو لا؟ موكول للعرف الذي يمتلك التمييز والخبرة بين هذا وذاك، ومعنى ذلك أنّ أفضل من يشخّص الألحان اللهوية من غيرها هم العصاة الذين يستمعون لهذا وذاك.
ولا يكفي ما يفعله البعض من عرض الأشرطة على بعض المؤمنين أو بعض مكاتب المشايخ والفقهاء وأخذ إجازة عليها، فإنّ هذه المكاتب لو كانت هي من تستمع وتقيّم فهي تقع في الخطأ بلا ريب، وذلك أنّهم لم يستمعوا لما لدى مجالس البطالين، وما يحدثونه من تجديد في ألحانهم اللهوية.
نعم هناك قسم من الألحان واضح جدا اندراجها في الغناء لزيادة الخفة والترجيع والتأثير الصاخب والموسيقي فيها.
ولذلك يجب على الإنسان أن يحتاط في هذا الجانب قدر الإمكان فقد وُجدت بعض الأشرطة لبعض المنشدين ممن حاول أن يستوثق قدر الإمكان فعَرض أناشيده وشريطه على بعض المكاتب وأجازوه، ومن ثم يأتي الكثير من الأخوة فيشيرون إلى أنّ هذا اللحن يتماثل ويتطابق وأغنية ذلك المغني أو ذاك.
ويبدو لي أنّ مشكلة الوقوع في الغناء من قبل بعض المنشدين في هذا الزمان أصبحت مؤرّقة وعويصة، فلابد من الحذر البالغ في التعامل مع الموسيقى والمؤثرات الصوتية.
حيث أنّ البعض قد جُرّ لسماع الغناء بسبب بعض الأشرطة المحسوبة على بعض المنشدين والمقرئين الحسينيين.
موضوع شائك يحتاج لتنظيم مؤسساتي يُشرف على حركة إنتاج هذه الأشرطة.
ويجب على المكلف وسط غياب هذا التنظيم من أن يراقب نفسه إذ قد يمتلك هو نفسه إمكانية التشخيص لبعض الأناشيد فلا تتساهل مع نفسك ولا تتكّل على كون الأنشودة في الله أو في حب أهل البيت (ع) ونحوه.
و لا ينبغي أن يفهم البعض من كلامنا السابق أننا ضدّ تحسين الصوت أو اختيار الألحان الحزينة أو نحوها مما يكون له وقع في النفس والروح فكما يقول السيد الخوئي (قده) (لا ريب أنّ للصوت تأثيرا في النفوس، فإن كان إيجاده للحزن والبكاء وذكر الجنة والنار بقراءة القرآن ونحوه لم يكن غناء ليحكم بحرمته، بل يكون القاري مأجورا عند الله، وإن كان ذلك للرقص والتلهي كان غناء وسماعا ومشمولا للروايات المتواترة الدالة على حرمة الغناء) مصباح الفقاهة. فمتى ما سرنا على الضوابط لا مشكلة لدينا إطلاقا.
وهذه المسألة ليعلم الجميع أنّها ليست ملقاة على الرواديد فحسب وإلا فالرواديد جزاهم الله خيرا يبذلون جهودا كبيرة في خدمة الدين، فمن غير اللائق التحامل عليهم وتحميلهم كل المسؤولية، وليس الغرض من كتابتنا لهذا المقال ذلك إطلاقا، فدعاؤنا لهم دوما بالتوفيق لكل خير، وإنّما أثرنا الموضوع لنتباحث حول هذه القضية العويصة وكيف نضع حلولا لها.
ووفق الله الجميع لخدمة الدين وأهله، وأخذ بأيدينا جميعا لطريق هدايته إنّه على ذلك لقدير.