بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين والصلاة والسلام على أشرف بريته محمد والطاهرين من عترته
من أجل توضيح المسألة أقدم بهذا الأمر:
وهو أنه بعد زمان حضور الأئمة صلوات الله عليهم وأخذ الحكم الشرعي منهم مباشرة، يكون هذا الحكم المأخوذ عنهم حكما واقعيا إذا كان صادراً من الإمام عليه السلام لبيان الحكم الواقعي ولم يكن صدور الجواب منه سلام الله عليه تحت ظروف خاصة تفرض عليه أن لا يعطي الحكم الواقعي بل صدر منه حكما ثانويا تحت ما يعرف في الفقه الشيعي الإمامي بالتقية، ففي غير هذه الحالة يكون الحكم الصادر من الإمام عليه السلام حكما واقعيا لاعتقادنا نحن الشيعة الإمامية -بحسب ما قادتنا له الأدلة - أن جميع الأحكام الواقعية هي عند الإمام عليه السلام، وبعد مرحلة الانقطاع عن مشاهدة الإمام عليه السلام المتحققة بغيبة الإمام الثاني عشر صلوات الله عليه، وبدء مرحلة الاجتهاد الشرعي المشروع، تكون استنباطات الفقهاء - أنار الله برهانهم وأعلى كلمتهم - ترجع لمجموعة من الأدلة والقواعد تختلف درجة أفادتها للحكم الواقعي أو الحكم الظني بحسب نوعية الأدلة التي يستند إليها الفقيه نمنهجها ضمن هذا الترقيم التالي:
1/ ما يستنبطه الفقيه من عمومات الكتاب والسنة وإطلاقاتهما، ولا شك في ثبوت الحجة لهذا الطريق للأدلة القطعية المقررة في بحث حجية الكتاب والسنة من أصول الفقه على لزوم العمل بمادل عليه الكتاب والسنة المطهرة الشريفة.
فهي وإن كان أغلب دلالتها من قسم الظواهر-وهو ما يحتمل أكثر من معنى، ولكن له ظهور في أحدها أقوى من الآخر - وليست من قسم النص -وهو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا لا أكثر-ولكن لا فرق في لزوم العمل بكلا القسمين للأدلة القطعية الدالة على لزوم العمل بظواهر الكتاب، فهي وإن كانت ظنية إلا أنها تنتهي لما هو مفيد للقطع، وهو الأدلة الدالة على لزوم العمل بالكتاب والسنة.
وهنا لابد من التنبيه على أمر وهو أنه وإن كانت دلالة هذه العمومات والاطلاقات من الظواهر، ولكن قد تحتفى بقرائن تجعلها من قسم النص كاستدلال الإمام المعصوم بهذه الظواهر في كلامه، فيعطي استدلال الإمام المعصوم عليه السلام بالظاهر القرآني دلالة قطعية على المطلوب، وهو كثير في روايات الفقه كما لا يخفى على المتتبع.
2/ الضرورات الفقهية والتسالم والإجماعات، من الأدلة التي يرجع لها الفقيه لإثبات الحكم الشرعي، هو الضرورة الفقهية بمعنى أن الحكم من الواضحات في الفقه بحيث لا يحتاج إثبات الحكم إلى تكلف الاستدلال، وهو أيضا يشمل مساحة جيدة من المسائل الفقهية سواء في أصول الواجبات والمحرمات أو بعض تفريعات المسائل الفقهية، وقد يرجع في مقام استخراج الحكم الشرعي إلى تسالم الفقهاء جيلا بعد جيل، على حكم شرعي مما يوجب حصول القطع بثبوت الحكم الشرعي وأخذه عن الإمام المعصوم عليه السلام، وقد تكون المسألة مورد أجماعي فقهي عند جميع طبقات الفقهاء، بحيث نعلم بأخذهم الحكم من الإمام عليه السلام، وخصوصا عندما تكون المسألة مورد إجماع عند فقهاء الغيبة الصغرى وعند قدماء الفقهاء.
3/ الرجوع للقواعد العامة التي دلت عليها الأدلة القطعية، وهي مجموعة من القواعد الثابتة في الفقه الإسلامي كقاعدة نفي الحرج وقاعدة نفي الضرر وقاعدة لا تعاد وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز وقاعدة اللزوم في العقود وقاعدة تبعية العقود للقصود وقاعدة الفراش في ثبوت النسب وغيرها من القواعد، وهي قواعد كثيرة بعضها يختص بباب فقهي وبعضها عام لجميع أبواب ومسائل الفقه.
وهذه القواعد غالبها ثابت معترف بها عند الفقهاء وإن كان هناك ثمة خلاف في تفاصيلها وشرائط جريانها كبقية المسائل العلمية، ولكن ذلك غير ضائر بإفادتها للعلم والقطع في موارد تطبيقاتها.
4/ وقد يرجع الفقيه في بعض المسائل إلى قضايا عقلية قطعية؛ كاستقلال العقل بحرمة وقبح الإضرار، واستقلاله بقبح الفساد وحرمته، وقطعه بقبح الظلم، وقطعه بأن ما يتوقف عليه الواجب يكون واجبا، وغير ذلك من القواعد العقلية المفيدة للقطع التي تتطبق على مصاديقها في أبواب الفقه المختلفة.
5/ النصوص الخاصة بالمسائل الفقهية، حيث يرجع الفقيه في المسائل الفقهية إلى النصوص الخاصة المتعلقة بكل مسألة من مسائل الفقه، وهذه النصوص الخاصة في مسائل الفقه على أقسام:
أ/ ما يكون متواترا على الحكم الشرعي، ومن المعلوم أن التواتر يفيد العلم، وهذا القسم من النصوص مساحته قليلة في الفقه، ولكنها - أي النصوص - ليست معدومة كما هو واضح لذوي الاختصاص، فتجد مثلا فقهاء - كصاحب الجواهر (ره) والسيد الحكيم في المستمسك والسيد الخونساري في جامع المدارك - يستدلون على ثبوت الحكم بالنصوص ويعقبون على استدلالهم بالنصوص بهذه العبارة (والنصوص به متواترة).
ب/ النصوص المستفيضة، بمعنى أن المسألة الفقهية تدل عليها نصوص مستفيضة، وهي مرتبة ودرجة دون التواتر، ولا شك أن الاستفاضة إن لم توجب العلم فهي توجب الاطمئنان النوعي، وهو يعامل عند العقلاء معاملة العلم.
ج/ روايات آحاد، وهي مقابل الأخبار المتواترة والمستفيضة، ولكن معها قرائن وشواهد، كموافقه ما تضمنه الخبر من حكم للقواعد العامة أو إجماع العلماء على الحكم، فهذه الأخبار وإن كانت لا تفيد العلم بنفسها، ولكن لما قام الدليل القطعي على لزوم العمل بخبر الثقة، فيكون العمل به ليس عملا بذات الظن، بل عمل ينتهي إلى العمل بالقطع.
كما أنه في مورد احتفاف الخبر الظني بقرائن متعددة يحصل العلم بمضمون الخبر، كما هي طريقة العقلاء في تعاملاتهم اليومية، فقد يأتي مخبر بخبر، ولكن هذا الخبر يحتف بقرائن متعددة فيحصل لهم العلم بمفاده.
6/ وقد ينتهي الأمر بالفقيه في مقام الاستنباط للرجوع إلى ما يعرف بالأصول العملية، وهي مجموعة من الأدلة عندما يفقد الفقيه الأدلة المتقدمة في المسألة، فيرجع للأصول العملية من أصالة البراءة أو الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال، وهي قواعد أثبتها البحث الأصولي بنحو القطع واليقين، فاستدلال الفقيه بهذه القواعد استدلال باليقين والقطع، وقد شاع بين العلماء مقولة أن كل دليل لم يكن قطعا في نفسه ولم ينتهى إلى القطع، فلا يكون حجة، وكل دليل أنتهى إلى القطع فهو حجة ويلزم العمل به، لانتهائه لما هو قطع.
يقول آية الله السيد محمد تقي الحكيم في أصول الفقه المقارن في معرض كلام له (رحمه الله تعالى) وهو يتحدث عن القطع:
"والذي يبدو لي أن المسألة بهذه- الحدود -موضع اتفاق بين العقلاء فضلا عن المسلمين، وإن لم تصرح به جميع كلماتهم، ودليل اتفاقهم أنهم عندما يريدون أن يؤصلوا أصلاً ،أو يكتشفوا قاعدة ؛ لا يكتفون بالعمل بمقتضى مؤداها، بل يلتمسون لها قبل ذلك سندا قطعيا من شرع أو عقل، تحقيقا للجزم بالمعذرية والمنجزية.
وربما تناقشوا في إفادة الدليل للمؤدى، وناقشوا بثبوت الجعل الشرعي له وقالوا: أن الدليل لا يفيد القطع بذلك، مما يكشف عن أن القطع هو أساس جميع الحجج عندهم". (الأصول العامة للفقه المقارن ص ٣٣ -٣٤ -العلامة السيد محمد تقي الحكيم).
وخلاصة ما يقال أن القول بأن الأحكام الشرعية غالبها ظني لا يخلوا من نوع من المبالغة من خلال ما أوضحته من الطرق والقواعد التي يرجع لها الفقيه في استنباط الحكم الشرعي.
وأما إذا كان مقصود القائل بذلك عدم قيمتها لأنها ظنية - وهو بعيد بحسب حسن ظننا بالقائل سلمه الله تعالى - فهو غير صحيح إطلاقاً، وحتى لو سلمنا بأن جميع الأحكام الفقهية بنسبة ١٠٠/١٠٠ ظنية لكن ذلك لا يؤدي لفقدها قيمتها من حيث وجوب العمل بها والتعامل معها كأحكام شريعة وعدم جواز مخالفتها، وذلك من خلال قيام الأدلة القطعية على حجية الخبر الذي يفيد الظن المعروف بين الأصوليين والفقهاء بما يعرف بمسألة حجية خبر الثقة.
فإذا قام الدليل القطعي على اعتبار الخبر فهو ينتهي إلى العلم الذي يجب العمل به.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
محمود الحاج حسن آل الشيخ العالي البحراني
ليلة شهادة جواد الأئمة مولانا الإمام الجواد صلوات الله وسلامه عليه