رسائلي العَشْر في:
[عَشَرةِ مُحرّمِ الحسين عليه السلام]
أفكارٌ عَلَى طَرِيق تقويمِ العملِ الحسيني
**************
الرسالة الأولى.. حول:
الفصل بين العَبْرة والعِبْرة في القضيّة الحسينيّة
ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): {إِنَّ الحُسَيْنَ مِصْبَاحُ الهُدَى وَسَفِينَةُ النّجاةَ وَإمَامُ خَيْرٍ وَيُمْنٍ وَعِزٍّ وَفَخْرٍ وَبَحْرِ عِلْمٍ وَذُخْر}.
وعلى ضوئه يجب أن نستضيئ بنور الحسين (عليه السلام) في الهداية الربّانيّة.. وأن نركبَ سفينته لِنَنجوَ نجاةً حقيقيّة وليس على الوَهْم وخداع النفس.. وأن نتخذَه إمامَ خيرٍ.. دون ممارسة الشرّ باسمه.. وهو إمامُ يُمْن.. لنصير به أمناء ميامين مُبارَكين أينما حَلَلْنا أو ارتحلنا.. وأن نتخذَه إمامَ عزٍّ.. رافضين الذلّةَ بالمعاصي واتّباع الهوى.. وأن نتخذَه إمامَ فخرٍ.. نفخر به في التزامنا الخالص لوجه الله لا لتسويق الشخصنة الذاتيّة على المنبر أو الموكب أو البروز في الواجهات.. وأن نَبْحَرَ في بَحْر عِلْمه ونتخذَه ذخرًا لنا في الدنيا وذخيرةً لآخرتنا يوم يُحضِرُنا اللهُ لا مالٌ ينفعُنا ولا بنونٌ قد أتْعَبْنا أنفسَنا لأجلهم إلا تلك الأعمال النابعة مِن قلبٍ سليمٍ لا سواد الخُبث فيه ولا المَكْر السيّء...
سؤالٌ هنا: تلك إذن هي الصورة الكاملة للإمام الحسين (عليه السلام) فلماذا هنالك أفرادٌ يحسبون أنفسهم خدّامًا في إحياء ذكر الإمام الحسين (عليه السلام) وأفرادٌ يحسبون أنفسهم ثوريّين على طريق الحسين (عليه السلام) لا يتصفون بتلك الصفات التي ذَكَرَها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وَصْفِ سبطه الشهيد بكربلاء.. أليس المأمومُ يكون على خُطى إمامه ولفظةُ الشيعة تعني الاحتذاءَ والمُشايِعة؟!
أقول: لمّا كانت قضيّةُ الحسين (عليه السلام) ذات بُعْدَيْن الإطار والشكل في بُعْدٍ والمحتوى والمضمون في بُعْدٍ آخر راح الشعائريّون يؤطِّرون أنفسَهم بالشكل العاطفي وظَهَرَ كلٌّ منهم حسب رغباته الشخصيّة تاركًا البُعْدَ الثاني عن محتوى الرسالة الحسينيّة ذات المضمون الإيماني والتقوائي والأخلاقي والمقاصدي والأخروي التي قدّم الحسين (عليه السلام) نفسَه قربانًا لأجلها إلى الله (عزّ وجل).. وكذلك فَعَلَ الثوريّون حينما أخذوا من الحسين (عليه السلام) ما يُحمِّسهم لمشروعهم السياسي وأهملوا البُعْدَ العاطفي والبكائي في الشعائر الحسينيّة المقدّسة.
اتجاهان لم يعرفا حقيقةَ الحسين (عليه السلام) حقَّ المعرفة في أفكاره وأخلاقه وعباديّاته وأهدافه، بل عَرَفا أنفسَهما من خلال التَّمَوْضُعات الخاصة بهما بالفصل بين العَبْرة والعِبْرة.. فأهلُ العَبْرة تركوا المواقف التي تُكلِّفهم راحتَهم وأهلُ العِبْرة تركوا الشعائر واحتسبوها شكليّاتٍ عاطفيّة لا حاجة لهم إليها في مشروعهم السياسي الثوري!!
هل يعني هذا أنّ جمهورًا من الشيعة يعانون من مشكلةٍ عميقةٍ في فهمهم الشموليّ لشخصيّة الإمام الحسين (عليه السلام)؟
نعم ومع شديد الأسف.. هي مشكلة الفَصْل بين العَبْرة والعِبْرة في التعاطي مع القضيّة الحسينيّة بينما الصحيح هو جَعْلُ العَبْرة إطارًا لمحتوى العِبْرة.. لِيندمجَ الوجدانُ بالفكر والإيمان ويَنْدكُّ البكاءُ في الرّفض والإباء.. فَهُما معًا يُبقِيانِ على جذوةِ القضيّة الحسينيّة.
لتوضيح هذه الرؤيةَ أستعين بمثالٍ ضَرَبَه أحدُ الخطباء الأفاضل من أصدقائي الأعزّاء حيث شَبَّهَ الشعائر البكائيّة بالإطار وشَبَّهَ محتوى الأهداف الحسينيّة بالكتابة أو الرّسمة أو الصورة التي توضع في الإطار.. ثم قال: وهل هناك عاقلٌ يعلِّق على جدار صالة منزله مثلًا صورةً بلا إطار أو إطارًا بلا صورة أم يضع الصورة في الإطار ليحافظ الإطار على الصورة؟! وكذلك العَبْرة الشعائريّة إطارٌ يحافظ على محتوى العِبْرة البصائريّة فتتكاملان في تخليد القضيّة الحسينيّة بمعناها الشموليِّ العميق.
هنا نعرف محلّ الإشكال عند الذين يتمسّكون بِبُعْدِ العاطفة والدّمعة ويتركون بُعْدَ الرسالة والفكرة وأيضًا عند الذين يعكسون الأمر.. كلاهما قَطَّعَا رسالةَ الحسين (عليه السلام) كما قَطَّعَ قَتَلَتُه (عليه السلام) بدنَه الشريف.
سؤالٌ آخر ينبري هنا: من أين أتتْ هذه المشكلة في فهم القضيّة الحسينيّة أساسًا؟
إنّها من نتاج الأفكار السطحيّة الداعية إلى فصل الدّين عن الحياة ومن الأفكار السياسيّة الداعية إلى فصل الحياة عن الدّين.. وقد تأثّر بالاتجاهيْن بعضُ العلماء واتّبعهم بعضُ الخطباء ورَسَّخَها في ثقافة الناس بعضُ الشّعراء ثم زاد عليه فَجْوةً الذين وَجَدوا في أفكار الطرفيْن مَنْفَذًا للهروب عن المسؤوليّات الكاملة التي ألقاها الإمام الحسين (عليه السلام) على عواتقهم والأمّة...
بهذا النسيج المتداخل تمّتْ صناعةُ الشعائر الخالية عن البصائر.. فأنتج هذا المصنعُ نمطيْن من الشيعة على حساب النمط الثالث حسب البيان التالي:
1/ نمطًا بظاهرةِ البكاء من أجل البكاء.. وظاهرةِ العزاء من أجل العزاء.. وظاهرةِ اللطم مِن أجل اللطم.. حتى وصلتْ إلى ظاهرةِ التجمُّع بلا تفاعُلٍ مَعرَفي أحيانًا.. وظاهرةِ الخدمة الشعائريّة بلا التزامات فقهيّة غالبًا.
2/ نمطًا بظاهرةِ السياسة الحسينيّة لأجل السياسة.. ويرى أنّه لا حاجة إلى البكائيّات واللطميّات.
3/ نمطًا يحاول السعي للتوافُق بين العَبْرة والعِبْرة.. والتناسُق بين الشعائر والبصائر.. واضعًا العِبْرة والبصيرة في إطار العَبْرة والشعيرة.. معتقدًا أنّ بقاء القضيّة الحسينيّة وتفاعلاتها المستمرة عبر القرون إنّما من بركة الإطار الشعائري الذي حافظ على المحتوى البصائري.
هذا النمط الثالث هو الأصيلُ وهو المطلوبُ نشرُه في الناس والترويجُ له بين الشباب والشابات خاصّة. وإلا فالحسين (عليه السلام) عند النمط الأوّل قضيّةٌ يجوز فيها التهاونُ في الصلاة ولا تهمّ معها تقوى الله مادام البكاء هنا والشفاعة بالانتظار هناك!! وكذلك الحسين (عليه السلام) عند النمط الثاني قضيّةٌ يجوز معها اللّاتَقْوائيّة باعتبار الغاية تبرّر الوسيلة ما داموا يخدمون مشروعًا سياسيًّا يتوهّمونه ضدّ الظلم وظُلْمُ بعضِهم البعض مغفورٌ له!!
كلاهما يعتقدان ما داما يحبّان الحسين (عليه السلام) بطريقتهما فهذا يكفي ولا حاجة لتغيير أنفسهما بما يريده الإمام (عليه السلام) منهما مِن إسلامٍ كامل الأجزاء.
وكلاهما يعلمان ما نَقَله التاريخ بأنّه (صلوات الله عليه) عند وصوله إلى كربلاء اشترى منطقة الحائر هناك ليكون مدفنُه ومدفنُ أولاده وأصحابه في أرضٍ غير مغصوبة.. ثم طلب من أصحابه الذين سيُستشهَدون معه أن لا يكون فيهم مَن في ذمّته دَيْنٌ ماليٌّ لأحد وأمَر بتسديد ديون العاجزين منهم. كما أيضًا ينقل التاريخ أنّه (عليه السلام) كان في وسط المعركة في ظهيرة يوم عاشوراء فوقف يصلّي بأصحابه جماعة والسّهامُ تَقصدُهم مِن كلّ ناحية وبعضُهم وقف يحمي المصلّين ببدنِه إلى أن أُثْخِنَ بالجراح فلبّى نداءَ الله واستُشِهد بالفوز والفلاح...
هذا الحسينُ (بأبي هو وأمّي) يتمّ التعامل معه عند النمطيْن الأوّل والثاني معًا بفصله عن ورعِه ودينِه وفقهِه وفكرِه الذي استُشهِد لأجله!! وهما يستسهلان أحيانًا كثيرة مخالفاتٍ شرعيّةً في الوقت الذي يقول جدُّه النبيُّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): {لَا يُطاعُ اللهُ مِن حَيْثُ يُعْصَى}.
لذا كان طريقُ الحسين (عليه السلام) صعبًا منذ اليوم الذي اجتمع معه بعضُ شيعتِه في كربلاء.. فذهب عنه أكثرُهم وتركوه مع واحدٍ وسبعين مخلِصًا ومخلَصًا من أولاده وأصحابه.. حتى انطبق عليهم قوله (عليه السلام): {النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون}.
هذه الرواية الشريفة دقيقةٌ في ميزان معرفة خطوط التمايُز بين تلك الأنماط الثلاثة من الشيعة.. وبها يستطيع كلُّ شيعيّ أن يكتشف نفسَه.. ثم يجعل عَبْرةَ النَّوْح والبكاء والشعائر سبيلَه إلى عِبْرةِ الفقه والأخلاق والبصائر.
هذا.. وفي الحدّ الأدنى من ذلك أن يسير النّمطان الأوّل والثاني في خطَّيْن متوازيَيْن بعيدًا عن خطوط التّصادُم بالإثارات والثارات!!
وفي الخاتمة أقول:
لا يتبادر إلى الذّهن بأنّ المقصود من العِبْرة هو البُعْدُ السياسي والجهادي من حياة الإمام سيّد الشهداء (عليه السلام).. لأنّني أرى التأسّي في هذا البُعْد يخضع لتكليف كلّ إنسان حسب موقعه الجغرافي ومرجعه الجامع لشروط الفتوى.. وإنّما الأبعاد الأخرى من شخصيّته (عليه السلام) هي الأساسُ حسب ما التزم به الأئمة المعصومون (عليهم السلام) من وُلْدِ الحسين (عليه السلام).. أبعاد المعرفة العقائديّة والفقه والأخلاق والتربية والأسرة والمجتمع والإدارة والبيئة والتجارة...
داعيكم:
عبد العظيم المهتدي البحراني
١/شهر محرّم/١٤٤٤
2022/7/31
**************
الرسالة الثانية.. حول:
الاستبدادُ بالرأي في إدارةِ المشاريع الحسينيّة..
يشكو بعضُ مُعزّي أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) من استبداد الرأي عند بعض رؤساء الحسينيّات والعاملين فيها وبعض رؤساء مواكب العزاء ومنظِّميها وبعض الرواديد ومحبّيهم المتعصّبين.. ولا يستثنون من هذه القائمة بعضَ الخطباء الذين يتعصّبون لآرائهم ويبرزونها أحيانًا بأسلوبٍ فـجّ وكأنّها الوحيُ المُنزَل عليهم -كما يقولون-!!
توضيحًا لهذا الموضوع يجب في البدء أن نُفرِّقَ بين الاستبداد وبين الانضباط.. الانضباط مطلوبٌ في إدارة الأمور.. وهو غير الاستبداد الذي يعني الإصرارَ على الرأي الشخصي أو فرضَ الرأي الفئوي على الأكثريّة. وعند التمييز بينهما يستطيع الإنسان مراجعةَ نفسِه إنْ كان ما فيه استبدادٌ أم انضباط.
فبينما الانضباط فضيلةٌ يكون الاستبدادُ رذيلةٌ.. ولكنْ في السياق هنا رذيلةٌ أخرى أشدّ فتكًا بالقيم من الاستبداد نفسه.. وهي أن يرى المُستبِد صفةَ الاستبداد في غيره فينتقدها ولا يراها في نفسه ليصلحها!!
وهذه من التناقضات التي يعيشها كثيرٌ من البشر وكثيرٌ من المسلمين (شيعةً وسنّة) في عموم قضاياهم على نحو (أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَـٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ).
أمّا بخصوص المشاريع الحسينيّة فالاستبداد في إدارتها رذيلةٌ قاصمةٌ لها.. لذلك وجب نبذُها كوجوب نبذِ الرذائل الأخرى. ولكن كيف؟
أعتقد أنّ بُغضَ الرذيلة هو الخطوة الأولى لتركها.. وهذا يتحقّق لو عرف الإنسان ضررَها الكبير عليه وعلى الناس في حقوقهم وعلى الدّين في تعطيل أحكامه وتحريف أهدافه وتنفير الناس عنه.
وفيما يرتبط بموضوعنا يجب أن نتذكّر دائمًا بأنّ الاستبداد كان من أهمّ الأسباب في قَتْلِ الإمام الحسين (عليه السلام) وقَتْلِ أولاده وأصحابه وسَبْي نسائه وأطفاله وفي تحريف الدّين الإسلامي ونفيه عن حياة المسلمين كما كان يريده الرسول (صلى الله عليه وآله).. فجديرٌ بنا بُغضُه إذن كبغضِنا لقَتَلَةِ الحسين (سلام الله عليه).
وكذلك عندما نرسّخ في وعيِنا خطرَ الاستبداد كرذيلة نهى عنه الإسلام بشدّة نأتي إلى طرح السؤال التالي على أنفسنا إنْ كنّا -والعياذ بالله- من المستبدّين باسم الحسين (عليه السلام) في التعامل مع الآخرين.. السؤال هو: أيّها الشيعيُّ المُستبِدُّ على أيّ قاعدةٍ تريد أن تبرّر استبدادك؟! ليست هنا قاعدةٌ تدعم الاستبدادَ إلا قاعدة: "النّاسُ عَلى دِينِ مُلُوكِهِم"؟! وإلا فإنّ رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) يقول: {أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ} ويقول أيضًا: {مُدَارَاةُ النَّاسِ نِصْفُ الإيمَانِ وَالرِّفْقُ بِهِمْ نِصْفُ الْعَيْشِ}؟!
رُبّ سائلٍ يسأل: أين المنشأ لصفة الاستبداد في شخصيّة الإنسان بشكلٍ عام؟
تشير دراساتُ علماء النفس إلى البيئة التي عاش فيها المُستبِد منذ طفولته أنّها من أهمّ الأسباب في الرغبة للسيطرةِ على الآخرين والتحكُّم فيهم. لذلك اعتبر الأطباءُ النفسانيّون الاستبدادَ مرضًا نفسيًّا.. وهو يشتدُّ مع غفلة الفرد عن تربية نفسه وتَكاسُلِه في السّعي لإصلاحها...
بهذه الخلفيّة يمارس المُستبِدّ فَرْضَ رأيه في كلّ صغيرة وكبيرة مُشبَّعًا بحسّ التملُّك المتأصِّل فيه وأحيانًا من غير وعي.. وهو حتى إذا قَبَلَ الحوار يومًا فإنّما لِيفرضَ رأيه لا لِيستمعَ إلى الرأي الآخر ويتكامَل معه.. وهذا نوعٌ من شَرْعَنةِ الاستبداد في ثوب الحوار لتمرير الأنانيّة الاستبداديّة خلافًا لصريح هذه الآية: (فَبَشِّرۡ عِبَادِ ٱلَّذِینَ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥۤ أُو۟لَـٰۤئكَ ٱلَّذِینَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُو۟لَـٰۤئكَ هُمۡ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ)!
نتقدّم بعضَ الخطوات إلى معالجة الاستبداد.. وقد دمّر الكثير من العلاقات بين المسلمين وفرّغها عن إنسانيّتها.. وهو بلا شكّ من المعاصي التي لا يجوز تعاطيها في الموسم العاشورائي المقدّس باسم الحسين المذبوح بسيف الاستبداد...
أقول: حين التدبُّر أكثر في هذه الآية نصل إلى منشأ الاستبداد.. وهو "الطاغوت" من "الطغيان" حيث قالت الآيةُ في بدايتِها: (وَٱلَّذِینَ ٱجۡتَنَبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن یَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ) ثمّ أسّستْ عليها قولَه: (فَبَشِّرۡ عِبَادِ). إذ ربطتْ البشارةُ باجتناب "الطاغوت" ومن المعلوم أنّ "الطاغوت" سلسلةٌ مترابطةٌ من "الطواغيت" وتبدأ من "طاغوت الأنا" ثم "طاغوت العائلة" ثم "طاغوت الصداقات والتحالفات" ثم "طاغوت السياسة والتحزُّبات" فإذا تَجَنَبَّ المؤمنُ الحسينيّ "طاغوت" نفسِه سيُفْضِي به تَجَنُبُّه إلى حالةِ الإنابة بين يدي الله.. وهي حالةُ الرجوع المستمر إلى طاعته جَلَّ علاه.. وهاتان مسألتان مترابطتان على نحو اللازم والملزوم.. مسألة تجنُّبه أنواع الطواغيت ومسألة النتيجة المترتّبة عليه وهي الإنابة.. عندئذ سيتجرّد عمّا سوى الله لِيصلَ إلى مستوى قبول الحقّ حيثما يجده وأينما وجده.. فهو سرعان ما ينحاز إليه حيث حرّر نفسه من مرض الاستبداد...
هكذا هو المؤمن عندما يكون حسينيًّا حُرًّا أبيًّا سليمَ النفس مع غيره وصادقًا حينما يخاطب الحسين (عليه السلام) ومَن معه: {اِنّي سِلْمٌ لِمَنْ سالَمَكُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حارَبَكُمْ وَوَلِيٌّ لِمَنْ والاكُمْ وَعَدُوٌّ لِمَنْ عاداكُمْ}.
بهذه البصيرة سوف لا يرى المؤمنُ الحسينيُّ نفسَه محتاجًا إلى الاستبداد.. وحتى لو استبدّ بقناعةٍ من قناعاته لا يغلق الباب في وجه غيره ممتنعًا عن الاستماع للبحث عن الأحسن.. خاصةً في القضايا ذات العلاقة المشتركة والمصالح العامّة للإسلام والناس والمجتمع.
مثلُ هذا الفرد المخلص حينما يخدم في قضيّة الإمام الحسين (عليه السلام) سيكون حتمًا من الذين ذكرتْهم خاتمةُ تلك الآية: (أُو۟لَـٰۤئكَ ٱلَّذِینَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُو۟لَـٰۤئكَ هُمۡ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ)؟
ومثلُ هذا الفرد لن يرتضيَ لنفسه صفةَ الاستبداد.. وكيف يرتضيها وهو يسمع إمامَه عليًّا (عليه السلام) يقول: {مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، ومَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا} وهو كيف لا ينفتح على شيعيٍّ مثلِه وأميرُه عليٌّ (عليه السلام) رَفَعَ سَقْفَ الانفتاح على الآخر حتى قال: {خُذُوا الحِكْمَةَ ولَوْ مِنَ المُشْرِكِينَ}.
وهل للإمام الحسين (عليه السلام) آليّةٌ عمليّةٌ في معالجة الاستبداد؟
نعم.. وهو قوله (سلام الله عليه) في جواب مَن سأله عن معنى التواضع: {هُوَ أنْ تَخْرُجَ مِن بَيْتِك، فَلا تَلْقَى أحَداً إلّا رَأيْتَ لَه الفَضْلَ عَلَيْك} والتواضع يتجسّد في عقيدته (عليه السلام) عبر التنازل النسبيّ من أجل الشيء الأهم حيث يقول (عليه السلام): {أيُّما اثنِيْنِ جَرَى بِيْنهُمَا كلَامٌ فَطَلَبَ أحدُهُمَا رِضَى الآخَر كَانَ سَابِقُهُ إلَى الجَنّةِ}.
فمِن العيب أن تكون لدى الشيعة مثلُ هذه المبادئ العظيمة ثم يجعل أحدُهم نفسَه مصداقًا لهذه الرواية التي قالها الإمام الصادق (عليه السلام): {قيل للنبي عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام): يَا رُوحَ اللهِ ومَا الأحْمَق؟ قال: المُعجَبُ بِرأيِه ونَفسِه الّذي يَرى الفَضْلَ كُلَّه لَه لَا عَلَيْه، ويُوجِبُ الحقَّ كُلَّه لِنفسِه، ولَا يوجِبُ عَلَيْها حقًّا، فَذَلِك الأحْمَقُ الّذي لَا حِيلةَ فِي مُداوَاتِه}.
وهكذا نؤكّد أنّ مِن الخطأ إقناعَ الذات بأنّك على الصواب دائمًا.. والصوابُ الدائم في مكانٍ آخر.. هو عند المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) فقط.. وما كان على غيرهم إلا أن يعتمدوا قيمةَ الاستماع إلى الأقوال الأخرى في سبيل الوصول إلى الأحسن بينها.
هذا الحلُّ لمعالجة مرض الاستبداد إنْ كان واجبًا في عموم القضايا فهو في العمل الحسيني تحديدًا وفعاليات الموسم العاشورائي والمشاريع المرتبطة باسم الحسين (سلام الله عليه) واجبٌ مؤكَّدٌ بلا ريب لأنه (عليه السلام) كان ضحيّة الاستبداد وهو شهيد الحرّية والإصلاح.
داعيكم:
عبد العظيم المهتدي البحراني
٢/شهر محرّم/١٤٤٤
**************
الرسالة الثالثة.. حول:
مَرَضُ المُغالَـطة!!
كلمةٌ مأخوذةٌ من "الغَلَط" وتُطلَق علميًّا على المناورة القوليّة والفعليّة بالاستدلال غير الصحيح من أجل إظهار الخطأ صوابًا والتّمْوِيه على الصواب بأنّه خطأ وذلك إمّا لخداع النفس أو مخادعة الآخرين.. فإنْ كان ذلك بقصدٍ فهو دليلُ خُبْث.. وإنْ كان بغير قصد فهو دليلُ الجهل المركَّب واتّباع الهوى.
أكثر الأفكار والأفعال التي يحملها الناس أو يعملون بها هي مِن جنس المغالطات التي أخبر عنها الرسول (صلى الله عليه وآله) حينما قال لأصحابه: {كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَتْ نِسَاؤُكُمْ وَفَسَقَ شُبَّانُكُمْ، وَلَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنِكَرِ؟! فَقِيلَ لَهُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: نَعَمْ، وَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟! قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ؟! قَالَ: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً}؟!
كثيرةٌ هي المغالطات في حياتنا.. ومنها ما تَسلَّل إلى شؤون العمل الحسيني.. كهاذيْن النموذجيْن:
النّموذج الأوّل.. ما سمعتُه في مقطع فيديو لخطيبٍ بحراني ينتقد تقليدَ فعّاليات "رَفْعِ العَلَم" في ليلة الحادي من شهر محرّم.. يقول إنّ هذا هناك "لعله يقصد كربلاء" فأنت هنا "يقصد البحرين" لماذا ترفع العَلَم؟!
نَسِيَ الشيخ حديثَ الإمام الصادق (عليه السلام): {أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ سَنَّ سُنَّةَ هُدًى كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ}. فإذا كان "رَفْعُ العَلَم" في بلدٍ سُنّةٌ حسنة -كما في حرم الإمام الحسين بكربلاء- فهل الأمر الحَسَن تَحُدُّه جغرافيّاتُ البلدان ولا يجوز استنساخُه بالتقليد مع العلم أنّ الثقافات بين البشر الحسنة منها والسيّئة تنتقل بالتقليد.. والأمر طبيعيٌّ جدًّا في ظلّ القاعدة الفقهيّة المتفَق عليها باسم "أصالة الإباحة" فلماذا يُنازِع الشيخُ المؤمنين في حرّياتهم ويحاول مصادرةَ حقِّهم في التقليد الشعائريّ المسموح فَتْوائيًّا؟!
ويواصل مُنتقِدًا بعضَ الشعائر التي يمارسها الناس حُبًّا للحسين (عليه السلام) خالطًا بين الجائز منها عند المراجع وغير الجائز!! وهذا إفتاءٌ من اختصاص المرجع الدّيني وليس للخطيبِ أن يفتي!!
ولكنّه واصَلَ يفتي أيضًا بحُرمة ما يُستخدَم في مواكب العزاء مِن البُوق والطَّبْل والصِّنْج والدمّام مُعتبِرًا أنّها من الموسيقى دون أن ينتقدها في أمورٍ أخرى واضحةِ المِصْداق!
لقد راح عن ذهن الشيخ بأنّ ذلك مما أجازه جمهرةٌ مِن الفقهاء الذين أيّدوا فتوى الميرزا النائيني (قُدِّسَ سرُّه) بأنّ هذه المذكورات ليست من آلات اللّهو والعَزْف فأجازوا استخدامَها في إحياء الشعائر الحسينيّة.
وانتقد أيضًا العَصابة التي يربطها المُعزّون على جباهِهم.. ناسيًا حديث الإمام الصادق (عليه السلام): {كُلُّ شَيْءٍ هُوَ لَكَ حَلاَلٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ…} والذي استخرج منه الفقهاء قاعدةً فقهيّةً أسمَوْها قاعدة "أصالة الحِلّية" والتي يعتمدونها في جواز كلّ أنواع الممارسات الشعائريّة التي تجمع الناسَ حول راية الإمام الحسين (عليه السلام) الخالدة!!
النّموذج الثاني.. ما سمعتُه في مقطع فيديو لمتكلمٍ ايرانيّ يُثِيرُ فكرةً خلاصتها أن اظهار الأنبياء وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) عاطلين عن العمل في الكدّ المعيشي ما هو إلا مؤامرةٌ على الحقيقة.. يريد به العلماءُ والخطباءُ والرواديد تبريرَ ارتزاقهم من الناس عبر الخُمس وأجرة المنبر واللطميات!!
مُضيفًا ومُستنتِجًا: إنّ هذا هو بيعُ الدّين مقابل المال، وإلا فالأنبياء والأئمة كانوا يعملون رعاةً للمواشي وفلّاحين ومزارعين وغير ذلك...
ونَسِيَ أو تناسى هذا المتكلّم المِنْطِيق بأنّ علومَ الأنبياء والأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) لم تكن اكتسابيّة مما يتطلّب تفرُّغَهم للدراسة، بل كانت وَحْيًا من الله تعالى تارةً وإلهامًا تارة أخرى. بينما العالِم والخطيب وحتى الرادود إذا راح يعمل لمعاشه لا يكون له من الوقت لكي يدرس الدّين على سعته وعمقه ويطالع الكتب ويحفظ النصوص ويتباحث فيها مع زملائه وأساتذته لِتتبلْوَر عنده المفاهيم من عدّة جوانبها.. فكيف يوجّه العالِمُ الناسَ أو يرتقي الخطيبُ المنبرَ أو يخدم الرادودُ المعزّين إنْ لم تتوفّر لديه المادّةُ العلميّة الكافية والمحتوى الخطابي المطلوب والأداء المَوْكبي الجيّد جدًّا؟!
ثمّ إنّ العلماء والخطباء والرواديد بشرٌ.. لهم احتياجاتُهم البشريّة مثل ما لغيرهم من البشر.. ودَوْرُهم في هداية الأجيال نوعٌ من العمل التخصّصي مثل دور المعلِّمين في المدارس ودور الأطباء النفسانييّن في توجيهاتهم لمرضاهم و...
نعم.. يجب عليهم أن لا يشترطوا مبلغًا من المال مقابل تبليغهم لدين الله عزّ وجل.. فما يعطيهم المؤمنون وأصحابُ الحسينيّات يأخذونه كهديّة.. وإنْ لم يعطوهم لا يستاؤوا ويحرقوا أجرَهم عند الله باعتراض أو نقاش على الأجرة!!
هذا هو الواجب الأخلاقيّ في جانب العلماء والخطباء والرواديد.. وأمّا الواجب الأخلاقيّ على الناس أن يقدّروا حال هؤلاء "البشر" الذين يخدمونهم في دينهم وهدايتهم وإرشاد أبنائهم وفي ذلك سعادتهم دنيويًّا وأخرويًّا. هذه الخدمة أعظم من كلّ الخدمات المادّية التي يدفعون عليها أموالًا طائلة!
ومن الواضح إنّ العلماء والخطباء والرواديد كلّما فرّغوا أوقاتهم لزيادة العلم ومتابعة الجديد فيه من جهة وتوعية المجتمع وإحياء الشعائر الحسينيّة من جهة أخرى كلّما أصبح نتاج عطائهم أفضل وبات عطاؤهم أكمل.
بعض الناس يرون العالِم يلقي محاضرةً في ساعة.. والخطيبَ يدير مجلسًا حسينيًّا في ساعة.. والرادود يقود جموعًا من المعزّين في ساعة.. ولا يرون ما وراء ذلك من ساعات قد بَذَلَها هؤلاء من أعمارهم وأعصابهم وصحّتهم في الدراسة والمطالعة والتمرين وحفظ الآيات والروايات والنصوص وطريقة الإلقاء وتحسين الأداء ومتابعة أيّ جديد في مجال تخصُّصهم.. ومن ذلك صرفهم أموالًا لشراء الكتب ومصاريف السفر إلى الحوزات العلميّة وما أشبه.. وأحيانًا كثيرة يقومون بذلك على حساب عوائلهم وراحة عيالهم.. وهم في النهاية بشرٌ أيضًا!!
فأيّ ضَيْرٍ إذن في أخْذِهم هديّةً ماليّةً أو مكافأة يديرون بها احتياجاتهم البشريّة واحتياجات عيالهم وهم مسؤولون عنهم أم يظنّ البعض أنّهم من جنس الملائكة لا يأكلون ٱلطَّعَامَ ولا یَمۡشُونَ فِی ٱلۡأَسۡوَاقِ؟!
بل لو أردنا أن ننصف هؤلاء الخدّام الحسينييّن سوف نجد الانصافَ يتجاوز حقوقَهم الماليّة مقابل أتعابهم ويصل إلى حقوقهم الماليّة في مرحلة تَقاعُدهم عند كِبَر سنّهم أو ابتلائهم بما يمنعهم عن التبليغ والخطابة والرادوديّة. وهذه الفكرة أثارها أحد كبار علمائنا الكرام وهي جديرةٌ بالاهتمام.
يقول حمزة بن حمران: سمعتُ أبا عبد الله -الإمام الصادق- (عليه السلام) يقول: {مَنِ اسْتَأْكَلَ بِعِلْمِهِ افْتَقَرَ}. فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ فِي شِيعَتِكَ وَمَوَالِيكَ قَوْمٌ يَتَحَمَّلُونَ عُلُومَكُمْ وَيَبُثُّونَهَا فِي شِيعَتِكُمْ فَلاَ يَعْدَمُونَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمُ الْبِرَّ وَالصِّلَةَ وَالْإِكْرَامَ. فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): {لَيْسَ أُولَئِكَ بِمُسْتَأْكِلِينَ إِنَّمَا الْمُسْتَأْكِلُ بِعِلْمِهِ الَّذِي يُفْتِي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاَ هُدًى مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ لِيُبْطِلَ بِهِ الْحُقُوقَ طَمَعاً فِي حُطَامِ الدُّنْيَا}.
وحتى النبيُّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي كان يعمل راعيًا للمواشي في مكّة ثم عمل مستثمرًا لأموال السيّدة خديجة (رضوان الله عليها) لمّا زادتْ مسؤوليّاته في أواخر أيّامه بمكّة وفي المدينة المنوّرة أصبح لا يعمل للكدّ.. لأنه أصبح مشغولًا بتبليغ الدّين وإدارة شؤون الدولة ورفعة الأمّة.. ولكنّه (صلى الله عليه وآله) في الوقت نفسه كان يقبل الهديّة وله مِن بيت مال المسلمين حصّتُه.. وكذلك كان أوصياؤه الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) وهم مع ذلك كانوا يطلبون من شيعتهم دَفْع الأخماس اليهم ليديروا شؤون أصحابهم وطلّابهم وشيعتهم كما يفعله اليوم نوّابُهم المراجعُ العدول.. ولم نجدهم (صلوات الله عليهم) يقولون لأصحابهم اذهبوا واعملوا لمعاشكم.. لأنهم (سلام الله عليهم) يعلمون عدم استطاعة غيرهم الجمع بين الدراسة والتبليغ والكدّ للمعاش.
وفي ذات السياق نجد أئمّتنا الأطهار (عليهم السلام) كانوا يقدّمون هدايا نقديّةٍ وغير نقديّةٍ للشعراء الذين يأتونهم ويَرْثُون جدّهم أبا عبدالله الحسين (عليه السلام).. والروايات والقصص كثيرة في هذا الأمر.
فهل أهلُ المعروف يعملون منكرًا لو عملوا بقول الإمام الحسين (عليه السلام) هذا: {اعْلَمُوا أَنَ حَوَائِجَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فَلَا تَمَلُّوا النِّعَمَ فَتَحُوزُوا نِقَماً، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَعْرُوفَ يَكْسِبُ حَمْداً، وَيُعَقِّبُ أَجْراً، فَلَوْ رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ رَجُلًا رَأَيْتُمُوهُ حَسَناً جَمِيلًا يَسُرُّ النَّاظِرِينَ وَيَفُوقُ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ رَأَيْتُمُ اللُّؤْمَ رَجُلًا رَأَيْتُمُوهُ سَمِجاً مُشَوَّهاً تَتَنَفَّرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ وَ تُغَضُ دُونَهُ الْأَبْصَارُ}؟!
نعم.. كلّ هذا لا يمنع من أن يرتّب عالمُ الدّين وطالبُ العلوم الحوزويّة والخطيبُ الحسيني وكذلك الرادودُ والمُنشِدُ مواردَ اقتصاديّة لنفسه تدرّ عليه مالاً يقوّي به استقلاليّته في التعبير عمّا يمليه عليه ضميرُه وقناعاتُه العلميّة وتقواه الدّيني بلا خوفٍ مِن أن يُقطَع عنه المَدَدُ المالي.. فوجود المورد المعاشيّ المستقل لا شك أنه يوفّر له العزّةَ و الكرامةَ وراحةَ النفس وحرّيةَ الكلام. وهذا أمرٌ مهمٌّ جدًّا وهو الأفضل للمبلِّغين.
كتبتُ حول هذا الموضوع في كتابي (العلم والعلماء في الكتاب والسنّة) المطبوع في سنة (1986).. وفي كتابي (شؤون علمائيّة بين السائل والمجيب) المطبوع في سنة (2004) يمكنكم مراجعة التفاصيل فيهما.
داعيكم:
عبد العظيم المهتدي البحراني
٣/شهر محرّم/١٤٤٤
**************
الرسالة الرابعة.. حول:
ما ينبغي للخطيب الحسيني وما لا ينبغي له...
1/ ينبغي له أن يختارَ المعلومةَ التاريخيّةَ من السيرة والقضيّة بتوجيه مستمعيه إلى إسقاطاتها التطبيقيّة على واقع الحياة وبأسلوبٍ فيه الكثير من اللباقة واللطف المقرون بالإبداع اللغويّ الجذّاب.. مضافًا إلى المحتوى الوَعْـظي المُلامِس للقلوب عسى النفوس تستفيق عن غفلتها.
فـلا ينبغي له: أن يقدّم مادّةَ السيرة من دون استنطاقها بما يُمكِّن مستمعيه على صناعة الحياة الطيّبة المُنبثِقة مِن وحي القضيّة الحسينيّة المقدّسة...
2/ ينبغي له أن يقوم بالتحضير المسبق حول موضوعه بمنهجيّةٍ متدرّجةٍ هادفة لكيلا يشرِّق ويغرِّب من دون تركيز.
فـلا ينبغي له: أن يُسهِبَ ويُطيل ويُكرِّرَ ويُعِيد ولا يرتكز على محورٍ مفيد...
3/ ينبغي له أن يحدّد الوقت الذي يستغرقه حتى وصوله إلى مجلسه مع دقائق احتياطيّة قبل البدء في القراءة حسب الساعة المعلنة.
فـلا ينبغي له: أن يتأخّر عن موعد صعوده المنبر.. فإنّ التأخير من غير دليل دليلُ عدم احترامه أوقات الناس. يمكنه الإحساس باستياء المستمعين لو وَضَعَ نفسَه محلّهم وتأخّر الخطيب!!
4/ ينبغي له أن لا يرفع صوته أكثر من اللازم.. أو يقسوَ على مستمعيه بالكلام الجارح.. أو يُفرِط في حركة رأسه وبدنه يمينًا وشمالًا فيبتعد عن السمّاعة وإذا بالمستمع يفقد متابعتَه لتسلسل الموضوع.
فـلا ينبغي له: ذلك.. وعلى المسؤول في الحسينيّة أن ينبِّهه أو يضع له لاقطةً عند فمه تكون معه حيثما يكون!!
5/ ينبغي له أن يكون علميًّا في نقله المعلومات ويذكر المصدر عند طرحه فكرةً جديدة. ويكون متأسّيًا برسول الله (صلى الله عليه وآله) في تكليم الناس على قدر عقولهم...
فـلا ينبغي له: نقلُ معلومات لا تستوعبه أفهامُ المستمعين.. أو استخدامُ مصطلحاتٍ حوزويّة أو أجنبيّة من دون شرحٍ وحاجةٍ قصوى فيكون على حساب الجالسين تحت منبره للاستفادة...
6/ ينبغي له أن تكون نصائحُه بخطابٍ عام.. ولا يتهجّم على خيارات المراجع الآخرين ومقلِّديهم.. فإنّ لكلّ مرجعٍ احترامَه ولمُحبِّيه احترامَهم.
فـلا ينبغي له: أن يثير خلافات بين الناس بانحيازه إلى رأيٍ ضدّ رأي فيما يرتبط بالتجاذبات المحلّية أو قضايا المرجعيّة أو نقد الشعائر الحسينيّة التي تستند في شرعيّتها إلى فتاوى أيّ مرجعٍ من المراجع العدول. ولا أن يأخذَه الحماسُ والغرورُ فيُفتي مِن جَيْبه واضعًا نفسَه في موضع المرجع الدّيني!!
7/ ينبغي له إذا ذَكَرَ قصةً من الأحلام أن لا تكون مخالفةً للأدلة النقليّة *"القرآن والسنّة المطهَّرة"* وللأدلة العقليّة.
فـلا ينبغي له: المُزايِدة على طرح الأحلامَ والإكثارُ منها في الاستدلال وكأنّها جزءٌ من منظومة الأدلة الشرعيّة...
8/ ينبغي له أن يرتّب عمامتَه عن الاعوجاج مثلًا.. وأن يمشِّط لحيته عن الانفلات مثلًا.. وأن يختار لونَ لباسِه وعباءتِه من الأسود أو ما يناسب الحزنَ والحِداد.. وأن يتطيّب بالعطر أو لا يكون برائحةٍ مزعجة...
فـلا ينبغي له: أن يهمل مظهرَه وهندامَه وأن لا يهتمّ بتطييب رائحته...
9/ ينبغي له أن يكون قدوةً في أدب المجالس المُقامة لمصائب سبط النبيّ الكريم وفاجعة الطفّ الحزينة...
فـلا ينبغي له: أن يُضحِكَ المستمعين في ليالي الحزن بذكر الطرائف مثلًا.
10/ ينبغي له أن يراعيَ حالَ الباكين بأخذ الوسطيّة في مدّة الإبكاء.. ولا يخالف قاعدة: "الزّيادةُ كالنُّقْصان".
فـلا ينبغي له: بعد أن يأخذ الدّمعةَ من مستمعيه يواصل في النّعْي دون أن يلتفت إلى عدم تفاعلهم مع الزيادة...
11/ ينبغي له أن لا تتجاوز مدّةُ خطابِه حدودَ ساعةٍ واحدة.
فـلا ينبغي له: أن يُثقِلَ أذهانَ المستمعين بأكثر من قدرتِها الاستيعابيّة.
12/ ينبغي له أن لا يستنكفَ الاعتذارَ مِن مُستمعيه إذا تَجاسَر عليهم بقصدٍ أو بغير قصد أو إذا أعطاهم معلومةً بالخطأ أن لا يخجل من تصحيحها لهم.
فـلا ينبغي له: أن يخسرَ وُدَّهم بالتكبُّر والتكابُر.. فإنّهم سيرون في شجاعة الاعتذار والتصحيح احترامًا لعقولهم.
13/ ينبغي له أن يواصلَ الدراسة إن كان خطيبًا شابًّا ولا يهمل المطالعة إنْ كان خطيبًا متقدِّمًا في العمر.. ذلك لطلبِ المزيد من علوم محمد وآل محمد (صلوات الله عليه وعليهم) ومواكبة أيّ جديدٍ ذي صِلَةٍ بالمنبر الحسيني والارتقاء بالأداء حيث قال الله تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدۡنِی عِلۡمࣰا).
فـلا ينبغي له: أن يتوقّف عن تقوية علميّته مُكتفِيًا بما لديه وما تَعَوَّد عليه.. أو أن لا يواكب أخبارَ الناس والعلمَ بقضايا المجتمع.. لأن الطبيبَ الدوّار بطبِّه يجب أن يعرف حالَ مريضِه جيّدًا وما يحتاج إليه.
14/ ينبغي له أن لا يغفل عن ربط الناس بإمامِ زمانِهم المُنتظَر الموعود (عَجَّلَ اللهُ فَرَجَه الشّريف) وهو المُعزّى في مجالس جدّه الإمام الحسين (عليه السلام).
فـلا ينبغي له: حرمانهم عن جُرُعاتِ الأمل الواعد بيومِ الخلاص من جور الظالمين...
وفي الختام:
لقد كَتَبَ الإمامُ الحسين (عليه السَّلام) لابن عباس: {لَا تَتَكَلَّمَنَّ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْوِزْرَ، وَلَا تَتَكَلَّمَنَّ فِيمَا يَعْنِيكَ حَتَّى تَرَى لِلْكَلَامِ مَوْضِعاً، فَرُبَّ مُتَكَلِّمٍ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْحَقِّ فَعِيبَ. وَلَا تُمَارِيَنَّ حَلِيماً وَلَا سَفِيهاً، فَإِنَّ الْحَلِيمَ يَقْلِيكَ وَالسَّفِيهَ يُؤْذِيكَ. وَلَا تَقُولَنَّ فِي أَخِيكَ الْمُؤْمِنِ إِذَا تَوَارَى عَنْكَ إِلَّا مَا تُحِبُّ أَنْ يَقُولَ فِيكَ إِذَا تَوَارَيْتَ عَنْهُ. وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالْإِجْرَامِ، مَجْزِيٌّ بِالْإِحْسَانِ، وَالسَّلَامُ}.
داعيكم:
عبد العظيم المهتدي البحراني
٤/شهر محرّم/١٤٤٤
2022/8/3
**************
الرسالة الخامسة.. حول:
مُثلَّث الآفات.. حُبّ الرئاسة وحُبّ الشُّهرة.. واللامبالاة!!
هنا ثلاثُ آفاتٍ تنسف أجرَ العاملين في ساحة الشعائر الحسينيّة المقدّسة وتمنع بركاتِها عنهم:
الآفة الأولى.. حُبّ الرئاسة.
وقد حذّر منه رسولُ الله (صلى الله عليه و آله) بقوله: {إِنَّ أَوَّلَ مَا عُصِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ سِتٌّ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَحُبُّ الرِّئَاسَةِ، وَحُبُّ الطَّعَامِ، وَحُبُّ النَّوْمِ، وَحُبُّ الرَّاحَةِ، وَحُبُّ النِّسَاءِ}.
ولخطورته على الدّين والمجتمع صَعَّدَ الإمام الصادق (عليه السلام) من تحذيره إلى حدّ قوله: {مَلْعُونٌ مَنْ تَرَأَّسَ، مَلْعُونٌ مَنْ هَمَّ بِهَا، مَلْعُونٌ کلُّ مَنْ حَدَّثَ بِهَا نَفْسَهُ}.
نعم.. لا غرابةَ في حرص أهل الدّنيا على الترؤّس للدول واللّهث وراء الصدارة في المناصب.. فذلك من طبيعة المتنازعين على حطام الدّنيا وقد تَعَوَّدَ الناسُ أن يسمعوا قصصهم التافهة، وما الحروب وسفك الدماء المحرَّمة والأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والفساد الإداري والمالي في داخل الدول إلا شيءٌ من افرازات حُبّ السيطرة الرئاسيّة والقيادة في بسط النفوذ.. وفي ذلك من حُبّ الدّنيا وحُبّ الطعام وحُبّ النوم وحُبّ الراحة وحُبّ النساء ما لا تخفى أخبارُه!!
لكنّ الغريبَ أن تَسْرِيَ هذه الآفةُ إلى أهل الدّين الذين يُفترَض أنهم متّقون ويعملون للآخرة.. وإذا بهم تتحوّل هِمَمُهم وصراعاتُهم وتجاذباتُهم إلى الترؤّس على بضعة أفراد في مأتمٍ أو مسجدٍ أو مركزٍ من المراكز الدينيّة أو مشروعٍ من المشاريع الإسلاميّة وبعضها ممتلكات وقفيّة يتمّ التعامل فيها كأملاكٍ شخصيّة أو عائليّة، ولا يفكّرون فيما يترتّب على سلوكهم الاستحواذيّ مِن ضررٍ على سمعة الدّين ومِن حسابٍ عسيرٍ في الآخرة.
إنّ الذين يغريهم بريقُ الترؤّس يجب أن لا ينسوا ما تُخبِئ لهم الأيّام من افتضاح الأمر مهما غلّفوا رغباتهم بمظاهر الدّين والشعائر فإنّ ضربةَ القَدَر ستُباغِتُهم عند ساعة الحسم بدليل قول الإمام الصادق (عليه السلام) هذا: {مَنْ أَرَادَ الرِّئَاسَةَ هَلَكَ}.
الآفة الثانية.. حُبّ الشُّهرة.
يا ليت عُشّاقَ الظهور على شاشات التلفاز والبروزِ في مواقع التواصل و"الكليبات" وعدسات التصوير و"المايْكات" وكثرة المشاهدين يفقهون حديثَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا: {حَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ النَّاسُ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ} وإذا فقهوا مغزاه راحوا يهذّبون أنفسهم بالجهاد الأكبر ويلتزمون بتقوى العمل للحسين (عليه السلام).
على ذلك نَصَحَ الإمام الصادق (عليه السلام) بعضَ أصحابه قائلًا: {إِنْ قَدَرْتُمْ أَنْ لَا تُعْرَفُوا فَافْعَلُوا وَ مَا عَلَیْك إِنْ لَمْ یُثْنِ النَّاسُ عَلَیْك وَ مَا عَلَیْك أَنْ تَکُونَ مَذْمُوماً عِنْدَ النَّاسِ إِذَا کُنْتَ مَحْمُوداً عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَك وَ تَعَالَى}.
نعم.. إنّ حُبّ الشُّهرة من أشدّ الآفات التي تهدّد إخلاصَ الخطباء والرواديد في الموسم الحسيني وعندئذ سيهدّدون الموسم بالفشل!!
وحتى المخلص إنْ لم يراقب إخلاصَ قلبِه باستمرار ولا يغذّيه على الدوام بما يثبّتُه في إخلاصه سيكون معرَّضًا للانزلاق ولو في مراحل قادمةٍ من حياته حينما تحيطه مغرياتُ المدح، وكثرةُ الجمهور، وزيادةُ المال، والوجاهة.. لقد كانت هذه مقبرة الذين توعّدهم إبليس في محضر الله عزّ وجل: (قَالَ رَبِّ بِمَاۤ أَغۡوَیۡتَنِی لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِینَ).
المُخلَص -بفتح اللام- أعلى درجات الإخلاص التي يصلها المُخلِص -بكسر اللام- ما يعني أنّ الإخلاص يمكن أن ينهار في مرحلة من المراحل.. لذا كان الإخلاص صعبًا في بدايته وأصعب منه هو الاستمرار عليه.. فكم ممن كانوا يحسبون أنفسهم خدّامًا للشعائر حرقوا أنفسهم بحُبِّ الشهرة ثم لم يشفع لهم تاريخُهم السابق في خدمة أبي عبدالله الحسين (عليه السلام)!!
وكم مِن خطيب ومِن رادود جَرَفَه حُبُّ الشُّهرة فبرّر لنفسه صعود المنبر في مأتمٍ غصبيّ أو المشاركة في لطميات هناك بذريعة أيّ مكان يُذكَر فيه الإمام الحسين (عليه السلام) أنا خادم هناك!! بينما الصلاة الواجبة في الأرض المغصوبة تكون باطلة فكيف بالمستحب والإمام استُشهِد لتطبيق أحكام الدّين.. ولكنّ الشيطان دائمًا يَنْفُذ إلى محبّي الشّهرة من نافذة الخدمة لأبي عبدالله!!!
الآفة الثالثة.. اللامبالاة.
وهي أن لا يشعرَ الإنسانُ بالمسؤوليّة تجاه قضايا دينِه ومجتمعِه.. ومنه عدم إحساسه بما يجب عليه تجاه مظلوميّة الحسين (عليه السلام) وإحياء شعائره العظيمة.
على مثل هذا الإنسان أن يفهم بأنّ الإسلامَ دينُ المواقف المسؤولة وقد كان التخاذُل والتكاسُل في طول التاريخ من عوامل قَتْلِ الأنبياء والأوصياء والصالحين من عباد الله وتعطيل أحكام الله في الحياة.. لذلك خاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمّتَه: {كُلُّكمْ رَاعٍ وكُلُّكمْ مَسْؤولٌ عَن رَعِيَّتِهِ}.
وعلى الرّغم من أنّ اللا مبالين بمسؤوليّاتهم الشرعيّة في زماننا يعلمون بأنّ لامبالاة الشيعة في زمن الإمام الحسين (عليه السلام) كانت من أهمّ أسباب الجريمة التي نُفّذتْ ضدّه في كربلاء فإنهم -أي اللا مبالين اليوم- لم يستفيقوا من خطورةِ أن تتحوّل لامبالاتُهم إلى دينٍ ودَيْدَن حيث يمشون وكأنّهم لا يدرون!!
بهذه الحالةِ اللّا مبالاتيّة تتراكم المشكلاتُ وتتورّم فيها النفوسُ بالعداوات ثم لا تعالجها الندامةُ ولا تنفع معها الحَسَرات.. وكيف لهؤلاء المتقاعسين أن ينظروا غدًا في عين رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم يأتون إلى آخرتهم ويجدون الله يُسائِلُهم عن كلّ صغيرةٍ وكبيرة من حقوق الناس.. وهو القائل: (إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰۤئكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا).
وأخيرًا..
إنّ الموسم الحسيني بالتفاعل الإيجابي مع شعائره المقدّسة كان عبر القرون مُلهِمًا لمحبّي أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) كي يسموا إلى بعض درجات أصحابه الأبرار فيفوزوا بذلك الفوز العظيم كما فاز أولئك الذين كانوا معه حينما أدركوا عمقَ معنى ما كَتَبَه (عليه السلام) إلى بَني هاشم: {بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ، مِنَ الحُسَيْن بْنِ عَلِيّ إلَى بَني هَاشِم: أمّا بَعْد، فإنّه مَنْ لَحِقَ بِي مِنْكُم اسْتُشْهِد، وَمَن تَخَلّفَ عَنّي لَمْ يَبْلُغِ الفَتْحَ، والسّلام}.
وإنّما بلوغُ الفتح مع الحسين (عليه السلام) وبدليل الآية (قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ...) يكون في اتّباعِ فكرِه وتقواه وأخلاقِه وحكمتِه وشجاعتِه واستقامتِه وإلا فالبكاء فقط على مصائبه فقد بكاهُ أيضًا كلُّ الذين تخلّفوا باللامبالاة عن اللّحاق به في كربلاء حتى خاطبتْهم السيّدة زينب (سلام الله عليها) في الكوفة وهم يبكون: {… أَتَبْكُونَ أَخِي أَجَلْ وَاللَّهِ فَابْكُوا فَإِنَّكُمْ أَحْرَى بِالْبُكَاءِ فَابْكُوا كَثِيراً وَاضْحَكُوا قَلِيلًا فَقَدْ أَبْلَيْتُمْ بِعَارِهَا، وَمَنَيْتُمْ بِشَنَارِهَا...}.
فالبكاء الذي أدانتْه زينبُ الكبرى سفيرةُ الحسين (عليه السلام) كان من المتخاذلين في نصرته وهو بكاءٌ مرفوضٌ أينما كان وفي أيّ موقعٍِ زَمَني وقع.. لأن قضيّةَ الحسين (عليه السلام) عابرةُ الأزمنةِ كلِّها ولا يَحُدُّه عنصرُ الزمان كما هو حالُ القرآن الحيّ الطريّ لكلّ زمان...
فاللّاهِثُ وراء الرئاسات في السيطرة على الحسينيّات والمواكب والمضائف وشُهْرة الواجهات الإعلاميّة.. ومعه اللّا مبالون أيضًا يجب أن ينتبهوا جميعًا إلى هذه الآية الشريفة: (تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوࣰّا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادࣰاۚ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ).. وقبل فوات الأوان.. ذلك لأنّ الحياةَ كلّها ابتلاءٌ وامتحان. وهذا مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: {أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الدُّنْيَا دارُ مَجَازٍ، وَالْآخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ، فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ، وَلاَ تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُم، وَأَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ، فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ، ولِغِيْرِهَا خُلِقْتُمْ}.
داعيكم:
عبد العظيم المهتدي البحراني
٥/شهر محرّم/١٤٤٤
2022/8/4
**************
الرسالة السادسة.. حول:
بناءُ الجيلِ الحسينيِّ القادم مسؤوليّةُ الجميع
لقد دعا الإمامُ الحسنُ الزكيُّ المجتبى (عليه السلام) بَنيهِ وبَني أخيهِ واجتمع بهم يقول: {إنّكُم صِغارُ قَوْمٍ ويُوشِكُ أن تَكُونُوا كِبارَ قَوْمٍ آخَرِينَ، فَتَعَلَّمُوا العِلْمَ، فَمَن لَم يَستَطِعْ مِنْكُم أنْ يَحفَظَهُ فَلْيَكْتُبْهُ وليَضَعْهُ فِي بَيْتِهِ}.
هكذا كان أئمتُنا الأطهار (عليهم السلام) يؤسِّسون الأجيالَ المؤمنة ليحملوا مشاعلَ الطريق إلى الله عزّ وجل بالعلم والمعرفة.. وما نحن اليومَ إلا وقد كنّا صغارًا سابقين وصغارُنا اليوم هم كبارٌ لاحقون...
مسيرةٌ مباركةٌ ابتدأتْ مُذْ جَمَعَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) شبابًا يافعين يتقدّمُهم عليُّ بن أبي طالب أوّلُ المؤمنين به.. ولاتزال ولن تزول إلى يوم الظهور ثم إلى آخر إنسان على وجه الأرض والمسيرةُ صاعدة...
في شروط الالتحاق بهذه المسيرة الربّانيّة على صعيد الأجيال القادمة ماذا أعددنا اليوم لمواجهة الهجمة الغربيّة ونشرها ثقافةَ التفاهة والالحاد العَقَائدِي والانحلال الجنسي والتفكيك الأسري؟
لا نتردّد القولَ بأنّ الاهتمامَ بالأطفال والشباب اليافعين وجيل الشباب واجبٌ عينيٌّ على أنفسهم وكفائيٌّ على كلّ مَن لديه قَدَرٌ مِن الوقت والجهد والمال وقدرة التوجيه والخدمات العامّة بما يصبّ في هداية هذا الجيل المُستهدَف بمختلف أسلحة الحرب الناعمة التي تنبّأ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) بواحدٍ من أخطر تلك الأسلحة حين نَظَرَ إِلى بعضِ الأَطفال فقال: {وَيْلٌ لِأَطْفَالِ آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ آبَائِهِمْ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ آبَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: لَا مِنْ آبَائِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُعَلِّمُونَهُمْ شَيْئاً مِنَ الْفَرَائِضِ، وَإِذَا تَعَلَّمُوا أَوْلَادُهُمْ مَنَعُوهُمْ وَرَضُوا عَنْهُمْ بِعَرَضٍ يَسِيرٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَأَنَا مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنِّي بِرَاءٌ}.
تحذيرٌ بهذا المستوى من التصعيد يدعونا جميعًا إلى التفكير الجماعي والتنسيق العملي على خطّ الدفاع وقايةً وعلاجًا من أجل مستقبل أبنائنا وبناتنا وهُم أفلاذُ أكبادِنا وأجزاءٌ منّا وأماناتٌ بأيدينا.
قبل ساعاتٍ كتبتْ لي مسؤولةُ القسم النسائي في إحدى الحسينيّات أنّها توفّقتْ من خلال محاضرة ألقتْها إلى هداية الفتيات اللاتي لم يلتزمن بالحجاب الكامل ويأتين حسينيّتها ببعض الألوان على وجوههن وأحمر الشّفاه.. وبعد هذا النجاح جاءتْها بعضُ أمّهاتهن ينتقدنها: لماذا جعلتِ بناتِنا يلتزمن هكذا.. هُنّ صاحباتُ القرار الحُرّ!!!
فتذكّرتُ الحديثَ النبويَّ المذكور.. نحن أيّها المؤمنون أيّتها المؤمنات نعيش في ظلّ تحدّياتٍ مصيريّة وهذا الموقف من بعض الأمهات جزءٌ منها وستكون رسالتي يوم غدٍ بإذن الله إليهنّ...
أمّا اليوم فإني أوجِّه رسالتي إلى الشباب الذين يقضون ساعاتِهم في خارج الحسينيّات بالكلام مع بعضهم البعض أو النظر والتّحْدِيق في هواتفهم والخطيبُ في الداخل يلقي مواضيع ذات فوائد جمّة.. ولو عرفوا أهمّيتَها في ترسيم خرائطِ النجاح الإسلامي وأثرِها الجميل على حياتِهم وفي آخرتِهم لَدخلوا وجلسوا واستمعوا واستفادوا...
يا ليت هؤلاءَ الأحبّة يعلمون كم في المجالس الحسينيّة من بركاتٍ معنويّة ومعلوماتٍ تساعدُهم على صياغة النجاح بالتفوُّق والامتياز في مختلف المجالات.. هذا ما عدا أجرَهم في الآخرة (یَوۡمَ لَا یَنفَعُ مَالࣱ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبࣲ سَلِیمࣲ).
يا ليتهم يقرّرون الجلوسَ ساعةً داخل الحسينيّات.. واذا اختاروا الجلوسَ خارجَها أن يستمعوا من السمّاعة الخارجيّة ولا يشغلوا أنفسَهم بما فيه قلّةُ احترامٍ للشعائر الحسينيّة ما يُفوِّت عليهم الفائدةَ التي في غيابِها يسقط الإنسانُ سقوطَ الجاهلين ويتخبّط...
فليتصوّروا لو كانوا في زمن الإمام الحسين (عليه السلام) هل كانوا كأصحابه الأبرار المتلهِّفين للجلوس بين يَدَيْ إمامهم المعصوم للاستماع إلى أحاديثه؟
يا ليت هؤلاء الشباب يدخلون الحسينيّات ويستفيدون من كلام الخطباء ويبكون على مصائب سيّد الشهداء (عليه السلام).. أو يكونون كالذين يجلسون مثل الجموع التي تجلس خارجَ الحسينيّات وتستمع في صمتٍ وإصغاءٍ وتفكُّر. فإنّ هذا المنظرَ الرائع حينما تُرسلُها عدساتُ التصوير إلى الفضائيّات ومواقع التواصل سيكون نوعًا من نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) وقضيّته العظيمة بأبعادها الإسلاميّة والإنسانيّة.. بعكس ما لو نقلتْ صورَ اللّاهين عن قدسيّة الموسم.. فإنّ هذا الاستخفافَ بالشعائر سينظرون إليه بمثابةِ قلّةِ أدبٍ أمامَ عظمةِ الإمام، وفي هذا إساءةٌ غيرُ مقصودة لإعطاء صورةٍ سلبيّةٍ عن شيعته للعالَم. على هؤلاء الشباب أن لا يغفلوا عن هذه النتائج السلبيّة من حيث لا يشعرون.
والنصيحةُ نفسُها أرجو أن يتقبّلها الإخوةُ الأعزّاء المتفرِّجون على مواكب العزاء أو الذين يقفون خارجَ حلقاتِ المُعزّين من دون تَفاعُل.. ماذا يمنعُهم عن المشاركة ولو باللطم الخفيف من مكان وقوفِهم إحساسًا بعزاء الحزن لأشرف إنسانٍ مظلومٍ ذُبِحَ عطشاناً غريبًا دعانا جدُّه النبيُّ الأعظم وأهلُ بيته (عليه وعليهم الصلاة والسلام) إلى كلّ أنواع الجزع باستثناءٍ خَاصٍّ له (سلام الله عليه). ومن هذا الاستثناء كان بكاء جدّه وأبيه وأمّه قبل ولادته وبعدها.. وأيضًا من هذا الاستثناء الخاصّ بالحسين (عليه السلام) أنّ سفينتَه هي الأوسع بين سُفُنِ الأطهار وهي الأسرع في لُجَـجِ البحار...
الموسمُ الحسيني فرصةٌ لكلّ الشباب والشابات أن يتزوّدوا من ساعاته التي تتنزّل فيها الملائكةُ لتشاركَ المعزّين في إحيائِهم الشعائر الحسينيّة وفي المجالس والمواكب وفي جميع الفعاليات وهي -أي الملائكةُ- عند رجوعها ترفعُ أسماءَهم إلى الله تعالى لِتَقَـرَّ أعينُهم غدًا بحسناتِهم في صحيفة أعمالهم. وقد رأى أحدُ الفقهاء الربّانيين في عالَم الرؤيا مرجعًا من كبار مراجع الدّين يقول له: "إنّ الحسينَ عليه السلام هنا هو المَلِك.. قَوُّوا علاقتَكم به في الدّنيا".
فلا يجدر بأحدٍ أن يتهاون.. فلربما لا تتكرّر له هذه الفرصةُ على مائدة الحسين (عليه السلام) حيث لا يعلم أحدُنا إنْ كان اللهُ سيمدّ في عمره إلى العام المُقبِل فتنتهي فُرَصُه: (وَمَا تَدۡرِی نَفۡسࣱ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدࣰاۖ وَمَا تَدۡرِی نَفۡسُۢ بِأَیِّ أَرۡضࣲ تَمُوتُۚ)؟!
هي ساعاتٌ لها قيمتُها العظيمة.. لا ينبغي لعاقلٍ تفويتها على نفسه إذا عرف معنى هذه الآية: (ذَ ٰلِكَ ٱلَّذِی یُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِۗ قُل لَّاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِی ٱلۡقُرۡبَىٰۗ وَمَن یَقۡتَرِفۡ حَسَنَةࣰ نَّزِدۡ لَهُۥ فِیهَا حُسۡنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ شَكُورٌ).
إنّ لقاءَ أصدقائِكم والمسامرةَ في الحديث معهم وكذلك متابعة ما في هواتفكم لها مِن مُتّسَع الوقت قبل أو بعد انتهاء الخطيب.. فما حديثُ الخطيب إلا ساعةً واحدةً من كلّ ليلة إلى الليلة الثالثة عشر.. فيكون المجموع ثلاثُ عشرةِ ساعة على مدار سنةٍ كاملة.. فلا تبخلوا بها على أنفسكم وهذا مولانا الإمام علي (عليه السلام) يقول: {إِنَّ هذهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاة، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِق، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيح، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْن وَثِيق...}.
اليوم يعيش الشابّ أمام ثلاثة خيارات:
1/ إمّا أن يكون عالمًا ربّانيًّا.
2/ أو يكون متعلِّمًا على سبيل نجاة.
3/ أو يكون مِن الهَمَج الرُّعاع.. كلمةٌ تأخذه يمينًا وأخرى تأخذه شمالًا.. والجميع يضحك عليه وهو لا يدري عن نفسه.. ثم يجد نفسه في الآخرة لمن الخاسرين!!
أعيذُك بالله أن تكون من الهَمَج أيّها الشيعيّ.. وقد كان منهم كلّ الذين ارتكبوا تلك الجرائمَ البشعة بحقّ الإمام الحسين (عليه السلام) وأولاده، وأصحابه، ونسائه، وأطفاله.
فلكي لا توظّفك الجهاتُ المعادية من حيث تعلم أو لا تعلم يجب عليك خَلْقُ مناعةٍ بداخلك ترتقي بها في وعيِك الإسلامي.. ومِن سُبُل الارتقاء بهذا الوعي استماعُك إلى الخطيب الجيّد وتفاعلُك مع العزاء الحسيني.. تنفيذًا لدعوة الإمام الحسين (عليه السلام): {أَيُّهَا النَّاسُ نَافِسُوا فِي الْمَكَارِمِ، وَ سَارِعُوا فِي الْمَغَانِمِ … وَ اكْتَسِبُوا الْحَمْدَ بِالنُّجْحِ، وَ لَا تَكْتَسِبُوا بِالْمَطْلِ ذَمّاً}.
هكذا سنبني الجيلَ الذي يلبّي نداءَ الإمام الحسين (عليه السلام) الذي قال في ساعاته الأخيرة من حياته: {أَلَا هَلْ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُنَا}. وهو الجيل الذي سينصر حفيدَه الإمام المهدي "أرواحنا لتراب مَقدَمه الفداء".
تحقيق هذه المقدّمات مسؤوليّة جميع العلماء والخطباء والمثقفين والوجهاء والعاملين و(بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ) والجدال (بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُۚ). لا بالّتي هي أخشَن!!!
داعيكم:
عبد العظيم المهتدي البحراني
٦/شهر محرّم/١٤٤٤
2022/8/5
**************
الرسالة السابعة.. حول:
الغَافِلات والمُتَنَمِّرات، وأمّهاتٌ في وادٍ آخر...
مع الشُّكرِ الجزيل لكلّ الأمّهات القائمات بواجباتهن في تربية بناتهن.. ولكلّ الفتيات المحجَّبات الملتزمات دينيًّا والمؤدَّبات في تصرّفاتهن.. وما أكثرَهن.. ولكنْ كلمتي في هذه الرسالة إلى اللّاتي يُشَكِّلْنَ خطرًا على أنفسهنّ وأهاليهنّ والمجتمع والخطر الأكبر على دين الشباب إذا كانوا عزّابًا وإذا كانوا متزوجين فالخطر يتهدّد زوجاتِهم وأطفالهم إنِ انزلقوا مع الإغراءات التي تظهر بها غيرُ الملتزمات!! فما أكثر البيوت التي خرّبتْها الفتياتُ المائعات والنساءُ المتبرّجات...
هنا يتجلّى واجبُ السائرين على نهج الإمام الحسين (عليه السلام) في إطلاق النصيحة والتحذير عملًا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وهو من أهداف النهضة الحسينيّة المباركة.
إلا أنّ المشكلةَ الكبيرةَ التي تواجههم تَكْمُنُ في صعوبة التعامل مع الأنثى لحسّاسية طبيعتها المليئة بالعاطفة مما تجعلُها سريعةَ الانزلاق مع كلمات الخداع الدنيويّة وبطيئةَ التأثّر بالكلمات الدينيّة.. وأضِفُ إلى ذلك عُدْوانيّتَها إذا ما رَسَمَتْ للمكيدة، والقرآن أقرّ بذلك: (إِنَّ كَیۡدَكُنَّ عَظِیمࣱ).
قِيلَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلاَنَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): {لاَ خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ،} قَالُوا: وَفُلاَنَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلاَ تُؤْذِي أَحَدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): {هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ}.
ولقد اشتدّتْ هذه الصعوبةُ في ظلّ "السوشيال ميديا" وإدمانِ تلك الفتيات على متابعة محتوياته البرّاقة بالزّيفِ المخطَّط له حتى زاد عددُ اللّاهيات عن الدّين وزاد عددُ المُتَنَمِّرات منهنّ والملسونات ما يقوّي الاعتقادَ بأنّ الأيادي الخفيّة التي تُهندِسُ للنشر التضليلي في مواقع التواصل الاجتماعي قد نجحتْ في توظيف هذه الفئة من الفتيات والنساء لتخريب الأجواءِ الإيمانيّة لمراسمِ إحياء الشعائر الحسينيّة وهي نفسها الأيادي التي تكـثِّـف أنشطتَها اللّهْوِيّة في شهر رمضان لأجل سَلْبِ المسلمين حلاوةَ العبادةِ في شهر الله العظيم.
إنّ فتنةَ الأنثى من الثوابت المعروفة في التاريخ وقد دلّتْ عليها الآياتُ والأحاديثُ والقصصُ والوقائعُ حيث كانت تُستخدَم كعنصرٍ أساسٍ للإغراء والإفساد وصيد الرّجال وتسخين مجالس اللعب واللّهو وكانت وسيلةً للمنظّمات السريّة والمخابرات الدوليّة في خلق الفتن والأزمات والاختراق والتجسُّس...
لذا فصعوبة التعامل مع الأنثى المُتنمِّرة بشكلٍ عام وخاصةً من جيل "الميديا" المتعلِّمات على فنون الردّ السريع والبذيء مما أتعب العلماء والمثقفين العاملين في دائرة التوجيه والإرشاد.
فعلى صعيد الموسم الحسيني تبرز هذه الصعوبة للعلن عندما يُقال لإحداهُنّ مثلًا:
1/ نرجو أن تتستّري عن أبصار الشباب في الشارع ولا تضحكي معهم أو تتمايعي في مَشْيِك أمامهم.. فإنّ هذا السلوك يجرّهم إلى الفساد.. وهو سلوكٌ يخرّب معنويّات موسم الشعائر.
2/ نرجو أن لا تتكلّمي أثناء حديث الخطيب.. ولا تستخدمي هاتفك أو تتصفّحي مواقع التواصل وأنت في مجلس أبي عبدالله الحسين (عليه السلام).. فهذا التصرّف يُشتِّت أذهانَ الأخريات فيقطع عليهن التركيز في الاستماع.
3/ نرجو أن تحترمي النساء المُسنّات إذا دخلن الحسينيّة ولا يجدن كرسيًّا فارغًا وأنتِ جالسة.. فالإيثارُ فضيلةٌ.
ما أنْ يُقال لها هذا الكلام حتى ترُدّ بغيرِ أدب: ما يخصّك.. أنا حُرّة.. اذهبْ وشأنك.. البلد فيه قانون.. لا تتدخّل فيما لا يعنيك.. الطريق ليس لأبيك...
هذه الحالات من الانفلات الأخلاقي لدى الفتيات المُتنمِّرات والنساء الملسونات لازالتْ تؤرِّقُ العلماءَ والخطباءَ والمثقّفين والموجِّهين التربوييّن ونشطاءَ المناسبات الإسلاميّة والناشطاتِ المحترمات، لأنهم مسؤولون أمام الله للحفاظ على دين الله من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى لكيلا تَصِلَ نيرانُ الانحراف إلى بناتِهم وأعراضِهم إنْ لم يطفئوها في غيرهن.. ولأنّ أهلَ الهوى لم يتركوا نشرَهم للفساد فكيف لأهل الهُدى أن يتركوا نشرَهم للصلاح؟! وشياطينُ الحضارةِ الماديّة يعملون ليلًا ونهارًا في التشجيع على الشذوذ الجنسي وعلى الإلحاد والكفر وتِيه اللّا هدفيّة وثقافة التفاهة ويسعون للإيقاع بالفتيات الناشئات باعتبارهن أقوى وسيلة لمشاريعهم؟!
ولكنْ ما هو السبب في أنّ البنتَ الشيعيّة عائليًّا وغيرَ الشيعيّة سلوكيًّا تتنمّر إذا ما طُلِبَ منها الالتزامُ بالدّين ولاسيّما في الحجاب والاحتشام وأدب الكلام؟
عدّةُ أسباب هنا.. منها إهمالُ الآباء والأمّهات تربيةَ بناتِهم على المفاهيم الإسلاميّة منذ طفولتهن.. هذا غير إهمال الأدعية الخاصة بأيام الحمل والتي تضخّ في نفسيّة الجنين روحَ السكينة وطيبَ النفس.. ومن هذا الإهمال عدم اهتمامهم بخَلْق أجواءٍ دينيّة في المنزل.. حيث يلتقط الطفل من أبيه وأمّه نوعَ التفكير ونمطَ السلوك والعادات.
ونتيجةُ هذا الإهمال هي فَقْدُ السيطرةِ على أبنائهم وبناتهم في سنّ "المراهقة" وما بعدها حينما ينفتحون على الدراسة الجامعيّة وبأيديهم الهواتف الذكيّة!!
علمًا أنّ تسميةَ هذه المرحلة بـ "المراهقة" مستوردةٌ من الثقافة الأجنبيّة لتبرير الانفلات الأخلاقي في الجيل الناشئ ويُراد منها تأسيسُه في قوالب للمراحل الآتية من المخطَّط لها مسبقًا.. فالهدفُ من هذه التسمية هو إسكات الآباء والأمهات عن سلوكِ أبنائهم وبناتهم في منعطف سنّ البلوغ إذا ما خالفوا الدّين والأخلاق والآداب والتقاليد الحسنة، وعند هذا المنعطف يتطبّع الناشئ على طبائع إمّا الحسنة وإمّا السيّئة!!
ومن أسباب ظاهرة التنمُّر عند هذه الفتيات غفلةُ الأمّهات عن توعية أنفسهن الدينيّة مسبقًا.. لأنّ الأمّ لو كانت تهتمّ بتأسيس نفسها على التديُّن الحقيقي لَكانت تعرف أهمّيةَ تعليمِ ابنتِها مسائلَ الدّين وترغيبِها على التديُّن وتعرف الأسلوبَ الأمثل في التعامل معها.. لكنّها أهملتْ نفسَها فأصبحتْ مصداقًا لقاعدة "فاقدُ الشيء لا يعطيه"
والشاعر يقول:
الأُمُّ مَـدرَسَـةٌ إِذَا أَعْــدَدْتَـهـا
أَعْدَدْتَ شَعْباً طَيِّبَ الأَعْراقِ
حسنًا.. إلى هنا عرفنا المشكلة وأهمّ أسبابها.. ولكنْ أين الحلَّ؟
أقترح ما يلي:
1/ عقدُ لجانٍ نسائيّة من المؤمنات لمصادقة تلك الفتيات والأمهات.. ومن خلالِها يتمّ توجيهُهنّ بالقيم الدينيّة وبِلُغةٍ وَعْـظِـيّة جميلة.
2/ تسييرُ دوراتٍ تثقيفيّة وترفيهيّة معهنّ ودعوةُ الكفاءات التربويّات لإلقاء محاضراتٍ عليهن.. ودعوةُ العلماءِ المتميّزين في التوجيه لمثل هذه الأعمار.
3/ إعطاؤهن كتبًا إسلاميّةً سهلةً وجذّابةً تناسب أعمارَهنّ ويُطلَب منهن تلخيصُ محتوى تلك الكتب للتأكُّد من قراءتهن لها ولأنّ الكتابةَ ترسّخ المفاهيمَ في أذهانهن. وكذلك الأمر بالنسبة للمحاضرات وتلخيصها. وغير ذلك من تِقَنِيّات التثقيف العصريّ الخالية عن المحرّمات.
4/ إنشاءُ مجموعةٍ واتسابيّة خاصةٍ بهنّ للتواصل الفكري دينيًّا والثقافي أسَريًّا وتبادُل الأخبار الاجتماعيّة المفيدة ومقاطع الفيديو النافعة وما أشبه لتنضيج عقولهن بالتجارب.
5/ تجنُّبُ أسلوبِ التعنيف، وعدمُ استخدام لغةِ الأوامر في نصيحتهن.. خاصةً مع الفتيات المتنمّرات وعند رفضهنّ يُستخدَم معهن أسلوبُ التجاهل، وهذا يحتاج إلى قدرةٍ عاليةٍ في ضبط الأعصاب!!
يقول الشاعر:
وإنْ بُلِيتَ بِشَخْصٍ لاَ خَلاقَ لَهُ
فَكُـنْ كأنَّكَ لمْ تَسْمَعْ ولمْ يَـقُلِ
وفي الخاتمة:
هل يمكنني أن أرجو من الغافلات العمل بقول الإمام الحسين (عليه السلام) لِمَن سأله: مَن أشرف الناس؟ قال (عليه السلام): {مَنْ اتَّعَظَ قَبْلَ أَنْ يُوعَظَ، وَاسْتَيْقَظَ قَبْلَ أَنْ يُوقَظَ}؟
هل يمكنني أن أرجو من المتنمّرات العمل بقول الامام الحسين (عليه السلام) هذا: {إِنَّ الْحِلْمَ زِينَةٌ، وَالْوَفَاءَ مُرُوَّةٌ، وَالصِّلَةَ نِعْمَةٌ، وَالِاسْتِكْبَارَ صَلَفٌ، وَالْعَجَلَةَ سَفَهٌ، وَالسَّفَهَ ضَعْفٌ، وَالْعُلُوَّ وَرْطَةٌ، وَمُجَالَسَةَ الدُّنَاةِ شَيْنٌ، وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْفِسْقِ رِيبَةٌ}..
هل يمكنني أن أرجو من الأمّهات اللّاتي في وادٍ آخر أن يتّخذنَ سيّدةَ نساء العالمين فاطمة وابنتَها السيّدة زينب (عليهما السلام) النموذجَ المتميّزَ في بناء الحياة برجالٍ صالحين ونساءٍ صالحات؟
داعيكم:
عبد العظيم المهتدي البحراني
٧/شهر محرّم/١٤٤٤
2022/8/6
**************
الرسالة الثامنة.. حول:
النّظْم.. وثِمارُ النّظمِ الشعائري
بشكلٍ عام.. يؤكِّد الإسلامُ على قيمة النّظم والتنظيم في إدارة المشاريع وفي جميع شؤون الحياة على المستوى الفردي والعائلي والاجتماعي والتجاري والسياسي وغيره حتى الأمور العباديّة جَعَلَها منتظمةً بالوقت وبالمقدار.. وكذلك الخدماتُ الشعائريّة لأبي عبدالله الحسين (عليه السلام) النّظمُ فيها يأتي أوّلًا وأخيرًا بكلّ تأكيد...
وفي ذلك قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لولديْه الحسن والحسين (عليهما السلام) ولشيعته والبشريّة جمعاء: {أُوصِيكُمَا، وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ...}.
دائمًا تأتي الوصيّةُ بالتقوى في مقدّمةِ التوجيهات الدينيّة.. لأنّ العمل بلا تقوى سيكون جهدًا ضائعًا ولا أجرَ عليه.. ودليلُه أداةُ التوكيد والحصر في قوله تعالى: (إِنَّمَا یَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِینَ).
وهنا بعد الوصيّة بالتقوى جاءتْ الوصيّةُ بنظم الأمر بلا استثناء.. ثم جاءتْ الوصيّةُ بصلاح الناس والإصلاحِ بينهم...
لو ندقّق في الوصيّة الأولى (التقوى) والثالثة (صلاح ذات البَيْن) سنجدُهما لا تنفصلان عن الثانية (النّظم).. ذلك لأن العمل بالتقوى يحتاج إلى النّظم كما أنّ الصلاحَ والإصلاح كذلك.. وبهذا نفهم أهمّيةَ النّظم الذي تُقابِلُه الفوضى.. والفوضى تساوي الفشلَ وضياعَ الجهود ثم لا تقوى ولا صلاح.
النّظم.. كفاه مِن الأهمّية أنّه قانونٌ في الخليقة ويسير عليه الكونُ بحساباتٍ رياضيّةٍ عاليةِ الدقّة.. وهو مِن سُنَن الله في الحياة كلّها.. وله من المكانة المتميّزة في منظومة البراهين العقائديّة أنّه أحدُ البراهين في إثبات وجود الله (جلّتْ عظمتُه).. سُمِّيَ بـ "بُرْهان النّظم".
وللنّظم في إسلامنا العظيم أنواعٌ لابدّ أن نتعلّمها ونجعلها ثقافةً في حياتنا.. كلٌّ منّا حسب موقعه الذي هو فيه.. فهناك:
1/ النّظم العلمي والمعلوماتي والتعليمي.
2/ النّظم العبادي والتربوي.
3/ النّظم العائلي والعلاقات الاجتماعيّة.
4/ النّظم الصحّي والغذائي على صعيد الوقاية والعلاج.
5/ النّظم التنافسي.. في مجال تحدّيات الساحة الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة والتجاريّة...
6/ النّظم الإعلامي لتقوية الصفوف الأماميّة في التأثير السريع.
7/ النّظم الإداري.. والذي يعني توزيع الأدوار على المدراء والأفراد ورعاية المستويات الاداريّة وسُلّم الطبقات العاملة.. وضَبْط التخطيط للعمل قبل التنفيذ وتقييم الأداء بعد التنفيذ.. ويعني محدِّداتِ الطاعة والانضباط وساعاتِ العمل والحضور والغياب وتدوين المَحاضِر وتسجيل النقاط والتوثيق والترتيب...
ونأتي إلى النّظم في إدارة الحسينيّات ولِجانِها وحركة المواكب ورواديدها وفي مختلف الأنشطة الشعائريّة مثل فعّاليات رَفْع العَلَم ونَصْبِ الإعلانات ونَشرِ الثقافة العاشورائيّة وضَبْط المضائف والإطعام والتعامل مع الأجانب المتفرّجين والترحيب بهم إذا دخلوا الحسينيّات أو المضائف.. وهكذا تنظيف الطرق والساحات التي تُحيىٰ فيها الشعائر وغير ذلك.. فإنّ النّظمَ فيها مما يسرّ قلبَ مولانا الإمام الحجّة (عَجَّلَ اللهُ فَرَجَه الشّريف) حينما يرى في محبّيه نضجًا متقدِّمًا لتحسين أداء العمل الحسيني.
فلا ينبغي للعاملين في مجال الشعائر الحسينيّة أن يغفلوا عن النّظم في الأمور المذكورة ولاسيّما ترتيب الصفوف في المواكب والمجالس...
ولقد كان النّظمُ حاصلًا في أمر الإحياء الحسيني على مرّ العصور.. ولكنّه بَلَغَ في عصرنا مراحلَ مُتقدِّمةِ الجودة في كلّ العالَم، إلا أنّ هذا المقدار لا يكفي لمواجهة التحدّيات المضادّة.. ولأنّ الحسين (عليه السلام) يستحقّ أنْ نطوّر خدماتنا الشعائريّة له أكثرَ وفي مقدّمتها نشر الوعي والأخلاق.. فبالنّظم ستصل الخدماتُ الشعائريّة ذروتَها في التكامل الجاذب للجماهير وفي كسب المزيد منها إلى حُبّ الحسين، وأفكاره، وأخلاقه، وأهدافه.
وهذا يدعو الذين يخدمون الشعائرَ الحسينيّة أن يتخذوا دروسَ النّظم العملي من صاحبِ الموسم نفسِه أبي عبدالله الحسين (عليه السلام).. حيث كانت سيرتُه كلُّها نظمًا مدروسًا بالتخطيط المسبق.. وأكثر ما تجلّى عقلُه التنظيميُّ الرائد هو في مسيرته التي انطلق بها من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة ثم إلى كربلاء المقدّسة وإلى ساعة استشهاده بِظُهْر عاشوراء.. بل وأكثر من ذلك عندما رَسَمَ خطوطَه التنظيميّة وخرائطَها التنفيذيّة لأخته السيّدة زينب (سلام الله عليها) كيف تقود المسيرةَ من بعده.. فكانت نِعْم القائدة للمهامّ الصعبة في هذه المرحلة الثقيلة ونِعْم المديرة الحكيمة لأصعب المهامّ وأثقلها حيث أثمرتْ بقاءَ الرسالة الحسينيّة إلى زماننا وهي مستمرةٌ نحو الأفضل.
هكذا كان عاملُ النّظم والتخطيط المُتقَن عند الإمام الحسين (عليه السلام) واحدًا من عوامل انتصاره الباهر والعابر لأزمنة القرون.. وبكلّ تلك العوامل مجتمعةً كَـتَـبَ اللهُ النصر للحسين (عليه السلام) وإلى يوم القيامة.
ويختصر الإمامُ الحسين (عليه السلام) روحَ النّظم في أمريْن:
الأوّل.. معرفة الإمام المعصوم.
الثاني.. طاعة الإمام المعصوم.
ذلك ما رواه الإمام الصادق (عليه لسلام) قائلًا: {خَرَجَ الْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْماً إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ مَا خَلَقَ الْعِبَادَ إِلَّا لِيَعْرِفُوهُ، فَإِذَا عَرَفُوهُ عَبَدُوهُ وَ اسْتَغْنَوْا بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ سِوَاهُ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ مَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَعْرِفَةُ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ إِمَامَهُمُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ}.
فمِن معرفة الإمام وطاعتِه (عليه السلام) أن نمتثلَ أمرَه في الامتثال بفتوى نوّابه الفقهاء الجامعين للشرائط.. ومن ذلك فتاواهم في الشعائر الحسينيّة والتي بها يُمنَع حدوثُ الفوضى والأمور المخالفة للشّرع مثل عَزْفِ الموسيقى اللّهْوِيّة في العزاء أو إدخال الغناء فيها أو التَشَبُّه بالرّقص الصُّوفي أو نحو ذلك من أمورٍ محرَّمة واستنساخاتٍ هابطة. فإنّ الالتزام بالفتاوى يكفل عدم ظهور هذه التصرّفات اللا مسؤولة تحت عنوان الشعائر فيسهل حينئذ الفرزُ بين الجائزة منها وغير الجائزة المتسلِّلة إليها.. وبذلك -كما شرحنا في كتابنا (المسائل الحسينيّة.. بين جريمة التحريف وفريضة التصحيح)- سوف لا يُخلَط بين ما هو ذوقٌ شخصيٌّ أو مزاجٌ فِئَويٌّ أو ما هو مُنْطَوٍ تحت عنوان الحرّية المشروعة واحترام التعدّدية المرجعيّة وعدم احتكار الحسين في جهة ومَنْعِه عن جهة...
فطاعةُ الفتوى هي ليست فقط حجّةٌ شرعيّةٌ لمقلِّدي أيّ مرجع جامعٍ للشرائط، بل هي نظمٌ للأمر فيما يجوز وما لا يجوز مِن الشعائر وغير الشعائر.. ثمّ هي السبيل إلى التنوُّع الإيجابي في تعظيم الشعائر الحسينيّة وتجسيد معنى الحرّية وإثمارها التّعْبَوِيّ النافع بإذن الله.
داعيكم:
عبد العظيم المهتدي البحراني
٨/شهر محرّم/١٤٤٤
2022/8/7
**************
الرسالة التاسعة.. حول:
التقلُّب السّلبي والتحوُّل عن الحقّ...
يستغرب البعضُ مِن البعضِ كيف ينقلب المسلم أو المؤمن على قناعتِه الإسلاميّة أو الإيمانيّة فيتحوّل إلى قناعةٍ مضادّةٍ لِما كان عليه بدرجة مئةٍ وثمانين باتجاه التطرُّف أو ينقص عنه باتجاه التَطفُّل...!!
أقول لا غرابةَ ولا استغراب.. لأن الاستقامةَ على قِيَم الحقّ من أصعب الأمور التي تقصم ظَهْرَ مَن يُخفي التذبذبَ في داخله وتفضح مَن لم يُقَوِّ مناعتَه بالعبادة والتفكّر وبقراءة الأدعية والتزام مجالس الصالحين والتواصل مع المتقين.. وإذا به في ظرفٍ من الظروف المؤاتية للانقلاب يُظهِرُ ما كان يُضمِرُه...
لا غرابةَ ولا استغراب.. ولقد كان الانقلاب من معسكر الحقّ إلى معسكر الباطل منذ القِدَم.. كقِدَمِ الاهتداء إلى معسكر الحقّ ممن جعلوا معسكرَ الباطل خلف ظهورهم وتابوا إلى الله دون تردّد...
فما أكثرَ الأشخاص قديمًا وحديثًا الذين غيّروا طريقَهم نحو الهُدى.. وما أكثرَ الذين غيّروا طريقَهم نحو الهوى...
فلا تستغرب مثلًا أن يُخيِّرَ الحُرُّ بن يزيد الرياحي نفسَه بين الجنة والنار وهو من طلائع قيادات الجيش الذي أتى إلى كربلاء لقتال الإمام الحسين (عليه السلام) وإذا به في ساعاته الأخيرة عَزَمَ على الرحيل إلى حُسْن العاقبة فاستُشهِد في الدفاع عن الحسين (عليه السلام).. بينما آخرون كانوا مع الحسين (عليه السلام) فتركوه عائدين إلى بيوتهم ودنياهم.. كالذين كانوا في معسكر الحقّ مع أخيه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ثم التحقوا بمعسكر الباطل وكان فيهم مِن قيادات الشيعة.. بل وعرضوا على مَن اشترى ذِمَمَهم بالمال الحرام: هل تريد أن نأتيَ إليك بالحسن بن عليّ حيًّا أم نضع بين يديك رأسَه؟!
إلى هذا الحضيض تصل الخساسةُ والنذالةُ والدناءةُ في بعض المُنقلِبين على أعقابِهم والمُتحوِّلين إلى الباطل بتطرُّفٍ وانبطاحٍ ومزايدات...
إذا كان هذا في ذلك الزّمن البعيد فماذا عمّا في زماننا هذا الرّديء، بل الرّديء جدًّا؟
سؤالٌ كفلتْ هذه الرسالة الإجابةَ عليه حسب التالي: يحدث الانقلابُ السّلبي في زماننا على مستوياتٍ بين الكُلّي والجُزئي حسب مستوى الفرد في حُبِّه للدّنيا وتَذَبْذُبِه الدّيني، وهذا ما نراه في سلوك البعض المتقلّب بما لا يدع الشكّ في وجود خللٍ فكريٍّ ومرضٍ نفسيٍّ وعَطَلٍ في التربية..
هذه الظاهرة السلبيّة قد نراها في انقلابات الأرحام على بعضها البعض فتتجاوز حدَّ القطيعة وعدم السّلام إلى حدّ العداوة والبغضاء بعد أن كانوا أودّاءً يتعانقون...
كيلا يحدث هذا الانقلاب في الأصدقاء والأقرباء سواءً على بعضهم البعض أو على مبادئ الحقّ انغماسًا في الباطل يجب بناءُ النفس على أسُسٍ عقائديّةٍ صَلْبة تضخّ في صاحبِها البصيرةَ على الدّوام لتطبيق الدّين في حياته الفرديّة ومع الآخرين!!
ولكنْ من أين يكتسب الفردُ هذه الأسس العقائديّة المُفْضِية إلى البصيرة العمليّة؟
إنّما يكتسبها كلُّ مَن يتعلّم الدّين ويعمل على تهذيب نفسه في الخَلَوات بالعبادة والأذكار وبالأدعية والاستغفار وبالبكاء بين يدي الله في الأسحار.. يَمزِجُها بالتأمّلات الذاتيّة والتفكّر الواعي وتخويف نفسه من القبر وحساب الآخرة ويداومُ على الجهاد الأكبر لِكَبْحِ جِماح نفسه الأمّارة بالسُّوء.. ومَن لا يكون كذلك سيكون هدفًا سهلًا لإبليس وشياطينه.. يتسلّلون إليه رويدًا رويدًا فيُوَسْوِسُون له باغراءاتٍ مغلَّفةٍ بالدّين إنْ كان مِن جماعةٍ دينيّة.. وإذا به لِخُلُوِّه مِن القدرة على فَهْمِ المكائد والمصائد ينقلب على أساتذته وعلى أهله وعلى أصدقائه وعلى تاريخه وعلى... وعلى... ثم في نهاية المطاف عندما تنطفئ فيه غريزةُ الطّمع يجد نفسَه كم كان مخدوعًا وهو لا يدري.. ثم يجدُها جُثّةً هامدةٍ على سرابٍ لامـع وهو لا يقدر على شيء.
نعم.. وهذا ما قاله الإمام الحسين (عليه السلام): {أهْلَكَ النّاسَ اثْنَانِ: خَوْفُ الفَقْرِ، وطَلَبُ الفَخْرِ}.
هكذا تُقبَر القيمُ الأخلاقيّة.. وفي مقدّمتها الوفاء...
وهكذا يُذبَح شرفُ الإنسانيّة.. وفي مقدّمتها الحياء...
ثم هكذا تُدفَن الثقةُ بين الناس وتموت روحُ الأمانة بين العاملين.. وفي مقدّمتها الصفاء...
أيّها الموالون.. أيّتها المواليات:
نحن في زمنٍ عجيب.. وبسبب الفتن التي تبثّها الهواتف الذكيّة بالمعلومات الكاذبة والصور المفبركة صار البعضُ يُصدِّقها بلا تحقيقٍ ولا تَبيُّن فأصبح التقلُّب في الأفكار والتحوُّل في الأفعال بضاعةً رائجةً يتبادلها البسطاء في مجالس البطّالين وفي المجموعات الواتسابيّة المليئة بالسُّموم، ويكثر في الموسم الحسيني تسويقُها بقوّة لتفريق الشيعة وتوتير الساحة وتمزيق أواصر الأخُوّة وتخريب أجواء الشعائر الحسينيّة...
ولكنّ الشيعيَّ الواعي المتّقي المتفكِّر الفَـطِن العارف بزمانه والعارف بطبيعة العدوّ الغاشم ودَبِيبِ نَفَثِه سوف لا تهجم عليه اللّوابس حتى لو جاءتْه من صديقٍ ساذج اختلطتْ عليه خُيوطُ الحقّ والباطل.. بل ينصحُه لِيُنقِذَه مِن سذاجتِه حتى يجعله واعيًا لقول الإمام الحسين (عليه السلام) هذا: {مَن طَلَبَ رِضَا اللّه بِسَخَطِ النّاسِ كَفاهُ اللّه اُمُورَ النّاسِ، ومَن طَلَبَ رِضَا النّاسِ بِسَخَطِ اللّه وَكَلَهُ اللّه إلى النّاسِ}.
أمّا مَن يحسب نفسَه شيعيًّا بظاهر الدّين مادام هو بين الملتزمين ثم لا دين له إنْ حضرتْ لديه مصالحُه الشخصيّة فيكون مِن زمرةِ المتلوّنين على خطّ النفاق.. فقد نفى عنه الإمام الحسين (عليه السلام) صفةَ التشيّع حينما قال: {إنّ شيعَتَنا مَن سَلُمَتْ قُلُوبُهُمْ مِن كُلّ غِشٍّ وَغِلٍّ ودَغَلٍ}.
هؤلاء المُنقلِبون والمُتحوّلون قد ذهب عن وَعْيِهم بأنّ الحسين (عليه السلام) يُديرُ نفسَه بنفسِه، وما نحن إلا لخِدْمةِ كرامتِنا به في الدنيا وثوابِنا بها في الآخرة.. فمن ينقلب عنه ويتحوّل إنّما يترك مكانه للمخلص الحسينيّ القادم الذي سيستبدله الله به فورًا.. هكذا ومسيرةُ الإمام إلى الأمام ورايتُها لن تسقط مع تَساقُطِ المُذَبْذَبين بخريف الطّمع على سرابِ الجهل والأهواء!!
يقول الإمام الحسين (عليه السلام): {سُئِلَ أمِيرُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ (عليه السلام): ما ثَباتُ الإِيمَانِ؟ فَقالَ: الوَرَعُ. فَقيلَ لَهُ: ما زَوالُهُ؟ قالَ: الطَّمَعُ}.
فالطّمعُ في المالِ والجاه والراحة.. والطّمعُ في جَلْب الأنظار للأنا الذاتيّة.. والطّمعُ في المباهاة بالواجهات الاجتماعيّة.. هو المُنْزَلَق نحو مقبرةِ الفاشلين والدخول إلى مزبلةِ الخاسرين!!
من هنا كان {حُبُّ الدّنيا رَأسُ كُلّ خَطِيئَة} كما في الحديث الشريف.. ومن هنا أيضًا نحتاج دائمًا إلى التربية الحسينيّة في البناء الروحي والنفسي والأخلاقي على ضوء هذا الدعاء الذي تَرَنَّمَ به الإمامُ الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء: {اللَّهُمَّ اجْعَلْ غِنَايَ فِي نَفْسِي، وَالْيَقِينَ فِي قَلْبِي، وَالْإِخْلَاصَ فِي عَمَلِي، وَالنُّورَ فِي بَصَرِي، وَالْبَصِيرَةَ فِي دِينِي، وَمَتِّعْنِي بِجَوَارِحِي، وَاجْعَلْ سَمْعِي وَبَصَرِي الْوَارِثَيْنِ مِنِّي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، وَارْزُقْنِي مَآرِبِي وَثَأْرِي، وَأَقِرَّ بِذَلِكَ عَيْنِي}.
داعيكم:
عبد العظيم المهتدي البحراني
٩/شهر محرّم/١٤٤٤
2022/8/8
**************
الرسالة العاشرة.. حول:
عاشوراء الحسين المُنتصِرة وعظمتِها الأبديّة
سيِّدي.. أعظم اللهُ أجورَنا بمصابِنا فيك يا حسين.. ولَعَنَ اللهُ ظالميك وقاتليك.. (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّاۤ إِلَیۡهِ رَ ٰجِعُونَ).
سيِّدي.. قلبي مقبوضٌ عليك حُزنًا.. وعَبْرَتي تَخنُقُني فيك جَزَعًا.. لقد هاجتْ عليَّ الأحزانُ في ذكراك الفجيعة اليوم وأنا أسطِّرُ كلماتِ هذه الرسالة...
سيِّدي.. لا أدري ماذا أكتب عنك اليوم وأنت مِن العظمةِ ما قاله فيك ربُّ العظمة: (یَـٰۤأَیَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئنَّةُ * ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِیَةࣰ مَّرۡضِیَّةࣰ * فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی * وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی)...
سيِّدي.. لا أدري ماذا أكتب عنك اليوم وأنت مِن المنزلة ما قاله فيك جدُّك نبيُّ الأمّة (صلى الله عليه وآله): {حُسَيْنٌ منِّي، وأَنا مِن حُسَيْنٍ، أحبَّ اللهُ مَن أحبَّ حُسَيْنًا}...
سيِّدي.. لا أدري ماذا أكتب عنك اليوم وأنت عن مصائبك ما قاله فيك أخوك الإمامُ الحسن (عليه السلام) يوم دخلتَ عليه باكيًا وهو يجود بنفسِه مِن ألمِ كَبِدِه المقَطَّع بالسمّ الذي دَسَّتْه إليه زوجتُه الخائنة: {ما يُبكِيكَ يَا أبَا عبدِ الله}؟ فقلتَ له: {أبْكِي لِمَا يُصْنَعُ بِك}. فقال لك (عليه السلام): {ولكنْ لَا يَوْمَ كَيَوْمِكَ يَا أبَا عَبدِ الله، يَزْدَلِفُ إلَيْك ثَلاثُونَ ألْف رَجُل، يَدَّعُون أنَّهُم مِن أُمّةِ جَدِّنا مُحمّد (صلّى الله عليه وآله)، ويَنتحِلُون دينَ الإسلام، فيَجْتمِعُون عَلى قَتْلِك، وسَفْكِ دَمِك، وانْتِهَاكِ حُرْمَتِك، وسَبْيِ ذَرارِيكَ ونِسائِك...}.
سيِّدي.. لا أدري ماذا أكتب عنك اليوم وأنت الذي ما كان ينظر ابنُك الإمامُ زين العابدين (عليه السلام) إلى جزّارٍ يَذبَحُ شاةً حتّى دنى منه وسأله: {هل سَقَيْتَها ماءً}؟ وحين يُقال له نعم، كان يبكي ويقول: {لَقَدْ ذُبِحَ أبُو عَبْدِالله عَطْشَانًا}. وكذلك ما كان يَجيئُه ضَيْفٌ حتى يسأله عن ميّتٍ له: {هَل غَسَّلْتَه وكَـفَّنْتَه؟} ولمّا كان يُجيبه نعم.. يا ابن رسول الله. كان ينفجر بالبكاء ويقول: {ولقد قُتِلَ وَالِدي غَرِيبًا وبَقِيَ ثَلاثةَ أيّامٍ تَصْهُرُه الشّمسُ بِلا غُسْلٍ ولا كَفَن...}.
سيِّدي.. لا أدري ماذا أكتب عنك اليوم وأنت الذي وَصَفَ مَقْتَلَك حفيدُك الإمام محمد الباقر (عليه السَّلام) وهو صبيٌّ في كربلاء ذو ثلاثة أعوام.. قائلًا: {قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السَّلام) وَ عَلَيْهِ جُبَّةُ خَزٍّ دَكْنَاءُ، فَوَجَدُوا فِيهَا ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ، وَطَعْنَةٍ بِالرُّمْحِ، أَوْ رَمْيَةٍ بِالسَّهْمِ}.
سيِّدي.. لا أدري والله ماذا أكتب عنك اليوم وأنت الذي قال فيك حفيدُك الإمام الرضا (عليه السَّلام): {إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ فِيهِ الْقِتَالَ! فَاسْتُحِلَّتْ فِيهِ دِمَاؤُنَا، وَهُتِكَتْ فِيهِ حُرْمَتُنَا، وَسُبِيَ فِيهِ ذَرَارِيُّنَا وَنِسَاؤُنَا، وَأُضْرِمَتِ النِّيرَانُ فِي مَضَارِبِنَا، وَانْتُهِبَ مَا فِيهَا مِنْ ثِقْلِنَا، وَلَمْ تُرْعَ لِرَسُولِ اللَّهِ حُرْمَةٌ فِي أَمْرِنَا. إِنَّ يَوْمَ الْحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا، وَأَسْبَلَ دُمُوعَنَا، وَأَذَلَّ عَزِيزَنَا بِأَرْضِ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ، أَوْرَثَتْنَا الْكَرْبَ وَالْبَلَاءَ إِلَى يَوْمِ الِانْقِضَاءِ. فَعَلَى مِثْلِ الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ عَلَيْهِ يَحُطُّ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ}.
سيِّدي.. بأبي أنت وأمّي يا مولاي.. أيّها المظلومُ المُقاوِم.. الغريبُ المُسالِم.. العطشانُ الصابر.. الشهيدُ بلا ناصر.. أيّها الإمامُ وابنُ الإمام وأخُو الإمام وأبو الأئمة التّسْعة الكرام..
سيِّدي.. يا أبا الأحرار والشُّرفاء.. يا إمامَ الأبرار النُّجَباء.. يا قائدَ المخلصين وسيّدَ الشُّهداء.. يا مَن أدّيتَ الأمانةَ فوق حدِّ التصوّر وأنت تَنْزِفُ بدمائِك على رَمْضاء كربلاء.. تُودِّع الحياةَ الدّنيا إلى حياةِ الخالدين في جنةِ الله مع الأنبياء والأوصياء والأولياء.. يا مَن علّمتَنا حُبَّ الله في الشدّة والرّخاء مناجيًا ربَّ الأرض والسّماء: {اللّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ وَأَنْتَ رَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِـي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ. كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ وَشَكَوْتُهُ إلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي إلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي وَكَشَفْتَهُ وَكَفَيْتَهُ. فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ وَمُنْتَهَى كُلِّ رَغْبَةٍ}.
سيِّدي.. تَبكِيكَ عَيْنِي لَا لِأجْلِ مَثُوبَةٍ.. لَكِنَّمَا عَيْنِي لِأجْلِكَ بَاكِيَة.. تَبْتَلُّ مِنْكُم كَرْبَلا بِدَمٍ وَلَا.. تَبْتَلُّ مِنِّي بِالدُّمُوعِ الجَارِيَة!! والدّموعُ قليلةٌ في حقّك وقد بَكَتْكَ عينُ حفيدِك المهديِّ المُنتظَر ليلًا ونهارًا وبَدَلَ الدّموعِ دمًا.. وأنت القائل: {أنَا قَتِيلُ العَبَرَةِ لَا يَذْكُرُنِي مُؤْمِنٌ إلّا اسْتَعْبَرَ}.
سيِّدي.. ذِكْراك تُدمي القلب يا أبا عبدالله.. وتُدمِعُ العَيْن يا ثار الله.. وهذا يومُ عاشورائِك يابن رسول الله.. يومُ غُربتِك ولا مِن ناصرٍ يَنصُرُك.. يومُ استغاثتِك ولا مِن مُغيثٍ يُغيثُك... يومُ ناديتَ فيه أهلَ الدّين والضمائر ليَذُبّوا وحوشَ الجاهليّة عن خيام نسائِك وأطفالِك فلم يكونوا إلا مجزَّرين كالأضاحي على رمضاء كربلاء...
سيِّدي.. عَرَفْنا عاشوراءَك المُنتصِرة يومَ نَوْحٍ ورثاء وجَزَعٍ وبكاء وهَلَعٍ ودماء.. ممزوجًا بروحِ المسؤوليّةِ والنّداء والحكمةِ والإباء والبطولةِ والفداء...
فإذا تَوَقَّفَ البعضُ عند عاشوراء العزاء والدّموع ولم يتقدّم نحو عاشوراء العزّة ومشروع التغيير.. فهو ومَن يقدّم هذا ويتوقّف عن ذاك متساويان لم يعرفاك حقَّ المعرفة.. ولكنْ يا سيّدي:
1/ كلُّ التحيّة لمن أخذ عاشوراءَك المُنتصِرة بِجناحَيْها...
2/ كلُّ النصيحة لمن يقوم بتجريد عاشورائك المُنتصِرة عن الدّمعة أو تفريغها عن رسالتها...
3/ كلُّ الدّعاء والشّكر لمن يلتزم بقيمةِ الحرّية واحترام الاجتهادات المتحرّكة بفتاوى المراجع الكرام ليكونَ مع المُكلَّف الآخر حُرًّا محترمًا مكرَّمًا في دائرة تكليفه الشرعي لا في قبضة الهوى والمزاج الشخصي...
أللّهم بحقّ الحسين وَفِّقْنا لِنسمُوَ به في معناه.. ونُحلِّقَ في سَماه.. ونتسابق إليه تحت رعاية حفيده المنتظر المهديّ (أرواحنا فداه)...
أللّهم بحقّ الحسين سدِّد سعيَنا لنتّبع كاملَ مشروعِه ولا نقطِّعه كمن قطّعوه.. ولئلا ننحدرَ إلى سحيق النزاعات ونُدخِلَ السّرورَ بذلك على مَن عادوه...
أللّهم اجْعَلْنا هكذا.. لنكونَ من أهل الاستقامة إلى يوم ينادي صاحبُ الثأر: ألَا يَا أهْلَ العَالَم إِنّ جَدِّيَ الحُسَيْن سَحَقُوهُ عُدْوَانًا...
أللّهم لقد آمنّا بـ "عاشوراء المُنتصِرة وعظمتِها الأبديّة.." فاجْعَلْنا ممن تنتصر بهم لدم الحسين مع إمامٍ غائبٍ منصور وأنت القائل: (وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومࣰا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِیِّهِۦ سُلۡطَـٰنࣰا فَلَا یُسۡرِف فِّی ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورࣰا).
آجَرَك اللهُ يا بقيّةَ الله وأنت المُعزّى في مصيبة جدّك الحسين أبي عبدالله...
يَا صاحِبَ العَصرِ أدْرِكْنا فَلَيسَ لَنا
وِرْدٌ هَـنـيٌّ ولا عَـيْـشٌ لَنـــا رَغَـــدُ
طَالتْ عَلَيْنا لَيالِي الانْـتِظـارِ فَـهَـلْ
يَا ابنَ الزّكِـيِّ لِلَـيْلِ الانْـتِـظارِ غَــدُ
فاكْـحُلْ بِطَلْـعـتِكَ الغَــرّا لَنا مُـقَـلاً
يَكـادُ يَـأتِـي عَلى إنْسَانِـهـا الرَّمَـــدُ
هَا نَحنُ مَرْمىً لِنَـبْلِ النّائِباتِ وهَـلْ
يُغْنِي اصْطِبارٌ وَهَي مِن دِرْعِه الزَّرَدُ
فَانْهَضْ فَدَتْكَ بَقَايا أنفُــسٍ ظَفَـرَتْ
بِـهـا الـنّـوائِـبُ لَـمّـا خَانَـها الجَـلَــدُ
داعيكم:
عبد العظيم المهتدي البحراني
١٠/شهر محرّم/١٤٤٤
2022/8/9