نادر الملاح
1 محرم 1444 هـ، 31 يوليو 2022
لم تكن ملحمة الطف الحسينية أول الملاحم الدموية المؤلمة في تاريخ البشرية، ولم تكن، بل ولن تكون آخرها قطعاً، إلا أنها بين كل الملاحم، وعبر الزمن، ظلت قائمةً شامخة، لم تتمكن أيدي الجبروت والقتل والقهر والاستبداد التي تناوبت عليه أيدي الأنظمة والطغم الحاكمة من جهة، والتيارات الدينية والأفكار المنحرفة والمتطرفة، سواءً التي حاولت طمسها أو تلك التي حاولت حرفها عن مسارها، من الجهة الأخرى من بلوغ مرامها. بل لعلها الملحمة الوحيدة في التأريخ التي سُخِّرت الأموال والقوى لوأد ذكرها، لكنها أبت إلا أن تزداد تجذُّراً ونمواً، في واقعٍ كانت قد وصفته عقيلة آل أبي طالب صلوات الله عليهم بكلمات يسيرة نزلت على طاغوت زمانه كما الحسام القاطع، حين أعلنتها في مجلسه وهي تقف موقف الأسير بين يدي السجان: "فكِدْ كيدك واسعَ سعيك، وناصِبْ جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمَدَنا"… واقعٌ يُجسِّد حرفياً وصفاً قد مر عليه أكثر من ألف وثلاثمائة وثمانين سنة حتى الآن.. فما سر هذا الخلود؟ وما هو مصدر تلك الثقة وذلك اليقين في توصيف العقيلة زينب صلوات الله وسلامه عليها لما سيكون على امتداد الزمن؟!
لعل السؤال حول سر خلود هذه الملحمة العظيمة يمتد في عمره بامتداد عمر الملحمة نفسها، إذ كلما مر الزمان تجدد ذات السؤال، واجتهد الناس، الموالي منهم والمعارض، والمحب والحاقد، والباحث الذي ليس له من شيء لا في الولاء ولا الحب ولا البغض ولا غيره، في محاولة الوقوف على عوامل ذلك الخلود، فمنهم من رأى السر في ما شهدته واقعة كربلاء من فظائع يندى لها جبين البشرية، ومنهم من رآه في حالة الصمود والثبات على المبادئ، ومنهم من رأى البُعدين معاً، ومنهم من رأى بُعداً ثالثاً تمثل في كون هذا الحدث في حينه أضخم حالة معارضة سياسية في تأريخ الدولة الإسلامية الفتية، ومنهم من رأى أن الحدث في حدث ذاته لم يكن ليُخلَّد في ذاكرة التأريخ لولا ما جرى بعده من أفعالٍ مشينة كان أولها محاولة إبادة النساء والأطفال، ثم حمل الرؤوس على الرماح والسير بها في طرقات السفر من بلد إلى بلد، وتكبيل النساء والأطفال بالأصفاد والحديد وإدخالهن على مجالس الولاة والحكام على خلاف ما كان يستسيغه العرب حينها رغم ما كانوا فيه من جاهلية، إلى غير ذلك من التأويلات والتفسيرات، والتي لا تخلو إجمالاً من الصواب، جزئياً أو كلياً.. إلا أن نظرةً خاطفةً في صفحات التأريخ تُظهر أن أياً من تلك الأبعاد لم تتفرد به واقعة كربلاء. فالقتل والتنكيل وتقطيع الأجساد وحمل الرؤوس وسبي النساء والمواجهات الحربية لدواعٍ سياسية، والفجور في الخصومة، والإسراف في القتل أو الأسر، أو غيرها، كلها كان لها مكان في غير هذه الملحمة، سواء في ذلك الوقت أو في الأزمان اللاحقة. فعلى سبيل المثال، في سنة 67 هجرية، أي بعد ست سنوات فقط من واقعة كربلاء، أمر مصعب بن الزبير بعد استشهاد المختار الثقفي في الكوفة وأسر جيشه، بقطع رؤوس سبعة آلاف رجل من أتباع المختار، وكان ذلك في يوم واحد فقط. وقد أرَّخ هذا الحدث الفظيع جملةٌ من المؤرخين كابن كثير في البداية والنهاية حيث نقل عن أبي مخنف عن محمد بن يوسف أن مصعباً لقي عبدالله بن عمر بن الخطاب فسلم عليه، فقال ابن عمر: من أنت؟ قال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير، فقال له ابن عمر: نعم، أنت قاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة؟ عش ما استطعت، فقال له مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عِدلهم غنماً من تراث أبيك لكان ذلك سَرَفاً!! (البداية والنهاية، ابن كثير، ج8 ص289)، وعلى هذا المثال تُقاس الأبعاد والتفسيرات الأخرى.
إذن، البُعد الملحمي وغيره مما تقدم من أبعاد، رغم حضورها في واقعة الطف، ورغم ما لها من صلة بالواقع وبعض الأثر في مسألة الخلود، لا تكاد تفي بالإجابة على السؤال حول سر هذا الخلود، لذا، يظل السؤال قائماً..
ولكي نقف على بعض جوانب الإجابة على هذا التساؤل، ولا نزعم أنها كل الإجابة، إذ سيظل السؤال يُطرح ويُبحث جيلاً بعد جيل، لابد وأن نحوِّل النظر إلى مسألة الوعد الإلهي بحفظ وخلود خاتم الأديان وكتابه المعظم، ومفتاح البحث في هذا الاتجاه هو قول الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه وآله الطاهرين: "حسين مني وأنا من حسين" (بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج43 ص271)..
فالمقطع الأول (حسين مني)، رغم ما في بطنه من معانٍ يطول فيها المقام والمقال، إلا أن ظاهره إما أن يكون البُعد النَّسَبي، وهو الوجود المادي، إذ أن الحسين هو سبط الرسول الأكرم من ابنته فاطمة وابن عمه علي بن طالب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أو أن يكون تعبيراً عن صدق الاتباع والإخلاص في الإيمان كما في قوله تعالى على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام "رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (إبراهيم:36)، حيث عبَّر عن صدق الاتباع بالمِنِيَّة (مِنِّي)، أو كلا المعنيين وهو الأرجح دون ريب لصحة كليهما، فالحسين ابن الرسول صلى الله عليه وآله، وهو ممن لا شك في صدق إيمانهم، بل هو وأخوه عليهما السلام سيدا شباب أهل الجنة كما قال لسان الوحي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.
أما المقطع الآخر (وأنا من حسين)، فإنه مدعاةٌ للتوقف والتأمل، إذ كيف يكون الرسول صلى الله عليه وآله من الحسين عليه السلام، وواقع الحال أنه صلى الله عليه وآله متبوعٌ لا تابع، ووالدٌ لا مولود؟! وحيث يلزم الانصراف عن هذين المعنيين، يكون رأس المعاني لهذا التعبير النبوي الشريف هو الوجود المعنوي المتحصِّل من إقامة الدين المحمدي والشريعة والمنهج السماوي الذي جاء به سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم.
قد يقول قائل إن الأخذ بهذا المعنى ينفي دور أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه الإمام الحسن عليهما السلام من بعده، أو على أقل تقدير فإن فيه إجحاف في حق الدور الذي قام به الاثنان مع أن عقيدة الشيعة فيهما أنهما إمامان معينان من الله تعالى ذكره. وهذا الرأي عليلٌ دون أدنى ريب لما فيه من قصر نظر وقلة فهم. فالإمام علي عليه السلام، رغم عدم توليه موقع الخلافة بصورة مباشرة بعد استشهاد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، إلا أنه ظل يمارس دور الإمامة وإقامة اعوجاج المجتمع وانحراف الأحكام حتى آلت إليه الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان الذي خلَّف دولةً مهترئة متصدعة، فكان دوره عليه السلام دور متابعةٍ واستكمالٍ لخط النبوة، كما كان قد بيَّنه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال: "ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصيي، يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله" (موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، ج5 ص48 ح2039)، بل وما فصَّله صلى الله عليه وآله في حديثه لأم المؤمنين أم سلمة رضوان الله تعالى عليها حيث قال: "يا أم سلمة اسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين. قلتُ (والقول لأم سلمة): يا رسول الله مَنِ الناكثون؟ قال: الذين يبايعونه بالمدينة وينكثونه بالبصرة. قلتُ: مَنِ القاسطون؟ قال: معاوية وأصحابه من أهل الشام. قلت مَنِ المارقون؟ قال: أصحاب النهروان" (معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ص204). ثم كان دور الإمام الحسن امتداداً لما كان قد بدأه أبوه عليهما السلام، حيث استمر في مواجه معاوية وجيش الشام حتى كان الصلح الذي انتهت به خلافة الإمام الحسن عليه السلام سنة 41 هجرية، وهنا يأتي الانعطاف الأول الذي حرف مسار الدولة المحمدية. فالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة للهجرة المباركة، وخلافة الحسن عليه السلام انتهت في السنة الحادية وأربعين للهجرة، أي أن الفارق بين الأجلين هو ثلاثين سنة، وهي المدة عبر عنها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم باسم (الخلافة)، حيث قال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً". وهذا التمييز بين الحقبتين لا يمكن أن يمر مرور الكرام، فالحقبة الأولى بحسب وصف النبي (ص) هي حقبة الخلافة، والتي تفيد باستمرار المنهج الإسلامي، ومدتها ثلاثون سنة، تقوم بعدها حقبة المُلك لا الخلافة، أي أن خلافة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حيث تقام شريعته تنتهي بعد ثلاثين سنة. وتأسيساً على هذا الحديث الشريف، والسيرة الحسنية الشريفة، يعتبر أهل السنة والجماعة الإمام الحسن عليه السلام الخليفة الراشد الخامس، الذي تنتهي الخلافة النبوية بانتهاء خلافته. قال ابن كثير: "والدليل على أنه أحد الخلفاء الراشدين الحديث الذي أوردناه في دلائل النبوة من طريق سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً]، وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي" (البداية والنهاية، ابن كثير، ج8 ص18)، وقال أبو بكر بن العربي: "فنفذ الوعد الصادق في قوله: [إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين]، وبقوله: [الخلافة ثلاثون سنة ثم تعود ملكاً]، فكانت لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وللحسن منها ثمانية أشهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً، فسبحان المحيط لا رب غيره" (كتاب أحكام القرآن، القاضي أبو بكر بن العربي، ج4 ص152).
ومحصلة القول في هذه المحطة، أن دور الإمامين علي وابنه الحسن عليهما السلام كان دور امتداد يمثل حقبة الخلافة، التي هي استتباع لخط النبوة، ثم كان بعدها انتهاء عهد الخلافة الذي حلت محله دولة ملك لا علاقة لها بشريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ورأس دولة الملك كان معاوية ثم ابنه يزيد. أما رأس الدولة فكان بيانه الذي صرح به في خطبته في النُخيلة: "إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون" (بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج44 ص53)، وأما ابنه يزيد فقد حكم من بعده ثلاث سنوات، قتل سيد شباب أهل الجنة في السنة الأولى، واستباح مدينة رسول الله (ص) في السنة الثانية، وأحرق الكعبة المشرفة في السنة الثالثة. وكفى بهذا الوصف بياناً لاختفاء معالم شريعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع بداية حقبة الملك التي كان قد أخبر بها (ص) إعلاماً بمغيبات الأمور التي أطلعه الله جل شأنه عليها.
أما الانعطاف الثاني، فكان انعطاف تصحيح للمسار للعودة للشريعة والمنهاج السليم الذي جاء به سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، والذي تمثل في خروج الإمام الحسين عليه السلام على الدولة المنحرفة التي ابتعد معظم الناس فيها عن الدين القويم، وأحد مؤشرات هذا الانحراف اجتماع أكثر من ثلاثين ألف مقاتل رافعين راية الدين والإسلام لقتل سبط رسول الإسلام صلى الله عليه وآله!!
ويظهر ذلك جلياً في كلمات وبيانات الإمام الحسين عليه السلام، التي بدأت قبل خروجه في المدينة المنورة، بعد أن بلغه طلب يزيد بيعته، حيث جاء في رده عليه السلام على الوليد والي يزيد على المدينة: "أيها الأمير، إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله…"، ثم قوله لمروان بن الحكم في صبيحة اليوم التالي لما نصحه ببيعة يزيد: "إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمة براعٍ مثل يزيد، ولقد سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: الخلافة محرمة على آل أبي سفيان…" (العوالم، الشيخ عبدالله البحراني، ص174-175). ثم ما جاء في وصيته التي كتبها إلى أخيه محمد بن الحنفية: "… وإني لم أخرج أشراً ولا بطرا، ولا مفسداً ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي"، وكذلك هي حال بقية العبارات والكلمات التي استمرت حتى وقت استشهاده عليه السلام، والتي لا تقبل التأويل حول مسألة سبب خروج الحسين عليه السلام المتمثلة في إحياء الدين الذي أماته معاوية وابنه يزيد، وهي ما لخصه عليه السلام في آخر كلماته لما برز إلى القتال حيث ارتجز قائلاً: "أنا الحسين بن علي، آليت أن لا أنثني، أحمي عيالات أبي، أمضي على دين النبي"..
ورغم الهزيمة العسكرية لمعسكر الحسين وفق مقاييس المعارك والحروب، حيث استُشهد الحسين ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخُلَّص المؤمنين والتابعين، إلا أن عودة الناس إلى مسار الشريعة المحمدية الخاتمة التي وعد الله بحفظها وخلودها هو الانتصار الحقيقي، وهو الوجود المحمدي الذي وصفه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "وأنا من حسين". فخلود الشريعة الإسلامية حتى اليوم وما تمثله من رعب وقلق لدول الباطل، كانت بدايته هي تلك الانعطافة التي أعادت للشريعة المحمدية وجودها بعد أن كادت تبيد بفعل الانعطافة الأولى، فكان الوجود المحمدي من الحسين، كما قال الصادق الأمين الناطق بلسان الوحي الكريم صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين. وحيثما كان خلود الشريعة المحمدية، يكون خلود الحسين عليه السلام، كما عبرت عقيلة آل أبي طالب عليها السلام بيقين صادق: "فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا"..
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين. اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.