مقدمة
من الإخبارات الغيبية التي وردت في النصوص الشريفة ما جاء أن الله تبارك وتعالى سوف يعيد إلى الدنيا قبل أن تقوم الساعة أفواجا من الناس، وهو ما يصطلح عليه بالرجعة، أي رجعة جماعة من المؤمنين وأخرى من المشركين، ففي الرواية عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): ((إن الرجعة ليست بعامة وهي خاصة لا يرجع إلا من محض الإيمان محضاً أو محض الشرك محضا))[1]، وقد ذكر الشيخ الحر العاملي (رض) في كتابه (الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة) أن الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) حول الرجعة متواترة تواترا معنويا، أي أنها وإن كانت مختلفة في ألفاظها إلا أنها متحدة في معناها المتناول لهذه العقيدة، وذكر أيضا أن روايات الرجعة لا تقل عددا عن روايات النص على إمامة أحد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كالرضا (عليه السلام) -مثلا-[2]، وفي البحث نقطتان:
الأولى: في إمكان الرجعة
فمِن أظهر أدلة إمكان الرجعة عقلا عودة أشخاص إلى الحياة بعد موتهم في الأمم السابقة بل في هذه الأمة أيضا، ولذلك شواهد عديدة، منها عودة جماعة من بني إسرائيل إلى الحياة، حيث يقول تعالى: ((وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون))[3]، ومنها إحياء عزير بعد إماتته مائة عام، حيث يقول تعالى: ((فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ))[4]، ومنها إحياء عيسى (عليه السلام) للموتى، حيث يقول تعالى على لسانه: ((وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّه))[5]، فقد جاء أنه أحيى سام بن نوح النبي (عليه السلام)[6] وغيره من الناس، ومنها ما ورد أنه لما حانت ولادة السيدة خديجة (عليها السلام) بسيدة نساء العالمين (عليها السلام) بعث الله لها أربع قوابل ليلين منها ما تلي النساء من النساء وهن سارة وآسية ومريم وحواء (عليهن السلام)[7]، ومنها ما جاء عن الرضا (عليه السلام) أن قريشا طلبت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يحيي لها بعض أسلافها الذين ماتوا، فأمر عليا (عليه السلام) أن يمضي إلى الجبانة وينادي هؤلاء الأسلاف بأسمائهم وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لهم أن يقوموا بإذن الله، فقاموا ينفضون عن رؤوسهم التراب[8].
الثانية: في بعض أدلة الرجعة
فبعد أن ثبت في النقطة السابقة إمكان العودة إلى الحياة بإذن الله نتحدث في هذه النقطة عن اثنين من النصوص الدينية التي طرحها العلماء كأدلة مباشرة على عقيدة الرجعة، فالأول منها قوله تعالى: ((وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ))[9]، فإن الآية تتحدث عن حشر فوج من كل أمة لا حشر الناس جميعا، وهذا يدل على أن الحشر المراد في الآية ليس حشر يوم القيامة، لأن حشر يوم القيامة لا يكون لأفواج من الناس دون أخرى بل يكون لكل الناس، وفي هذا يقول تعالى: ((وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا))[10].
ومن القرائن على أن ما تحدثت عنه الآية المتقدمة من حشر فوج من كل أمة سوف يكون ظرفه هو عالم الدنيا أن نفس السورة وهي سورة النمل قد تحدثت عن القيامة بعد هذه الآية بثلاث آيات، وتحديدا في الآية السابعة والثمانين من السورة وفي سياق استئنافي جديد، مما يعرب عن أن السياق السابق كان يتحدث عن ظرف آخر يسبق ظرف يوم القيامة.
والدليل الثاني ما ورد في كتاب (منتخب بصائر الدرجات) عن الصادق (عليه السلام) قوله: ((أول من يرجع إلى الدنيا الحسين بن علي عليه السلام فيملك حتى يسقط حاجباه على عينيه من الكبر))، فهي واحدة من الروايات المثبتة لأصل القول بالرجعة أولا، ولكون الإمام الحسين (عليهم السلام) مفتتح عهودها -أي الرجعة- ثانيا.
وقد حشد علماؤنا في كتبهم الخاصة بعقيدة الرجعة كماً وافراً من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في المقام، وكماً من الآيات القرآنية الشريفة التي جاء تفسيرها في الروايات بالرجعة أيضا، ومن الكتب الخاصة كتاب (إثبات الرجعة) للفضل بن شاذان، ومؤلفه -الفضل- من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) كما ذكر الشيخ الطوسي (رض) في رجاله، والكتاب يعد مصدرا أصليا في بابه، ومنها ما أفرده العلامة المجلسي (رض) في البحار للبرهنة على هذه العقيدة[11]، ومنها كتاب (الشيعة والرجعة) للمحقق الشيخ محمد رضا الطبسي (رض).
تساؤل وجواب
ذكر المحقق الكبير آية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني (دام ظله) في آخر بحث الرجعة من كتابه (الإلهيات) بعض ما قد يطرح من تساؤلات حول هذه العقيدة مُردَفا بالأجوبة، ومنها ما قد يقال أن الظاهر من قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ))[12] نفي الرجوع إلى الدنيا بعد الموت، وجواب هذا التساؤل أن الآية المتقدمة وإن كانت تتحدث عن قانون كلي وضعه الله؛ إلا أن هذا القانون قابل للتخصيص من قبل واضعه تعالى كما هو شأن العديد من القوانين التي وضعها، وهذا ما حصل إذ خُصِّصَ -قانون عدم الرجوع للدنيا- في مرات عديدة كما تقدم في النقطة الأولى من البحث، وبعض هذه المرات تحدث عنها نفس القرآن الكريم.
صادق القطان
٢٢ يوليو ٢٠٢٢م
.....................................
[1] - (مختصر بصائر الدرجات) للشيخ حسن بن سليمان الحلي - من علماء القرن الهجري التاسع
[2] - الدليل الثالث من الباب الثاني في الكتاب
[3] - سورة البقرة - الآيتان ٥٥و٥٦
[4] - سورة البقرة - الآية ٢٥٩
[5] - سورة آل عمران - الآية ٤٩
[6] - (الخرائج والجرائح) لقطب الدين الراوندي
[7] - المصدر السابق
[8] - (عيون أخبار الرضا) للصدوق
[9] - سورة النمل - الآية ٨٣
[10] - سورة الكهف - الآية ٤٧
[11] - الجزء الثالث والخمسون من (بحار الأنوار) - النسخة الإلكترونية المتوفرة على موقع (المكتبة الشيعية)
[12] - سورة المؤمنين - الآيتان ٩٩و١٠٠