نادر الملاح
2 محرم 1444 هـ، 1 أغسطس 2022
بيَّنا في الحلقة الماضية من البحث، أن إعلان الإمام الحسين عليه السلام (أمضي على دين النبي)، لم يكن مجرد شعارٍ حاله حال الشعارات التي يرفعها أصحاب الثورات والحركات التحررية أو حتى حركات التمرد، بل هو رسالة دقيقة تجسد واقعاً كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر به في جملة ما كان قد أخبر به من مغيبات وأمور مستقبلية، حيث قال (وأنا من حسين)، في إشارة إلى إحياء دين الله تعالى وشريعته التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتبدأ مسار الخلود الذي وعد به الله جل شأنه.
وعلى هذا، فإن هذه الرسالة في كلام سيد الشهداء عليه السلام، جاءت لتؤكد صدق لسان الصادق الأمين، وأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى. بَيْدَ أنه إلى جانب هذا البُعد الرئيس هناك عدة أبعاد أخرى تضمنتها هذه الرسالة، نتناول في هذه الحلقة أحدها، وهو بُعد الانتماء والهوية العقائدية.
فبالنظر في بعض أدبيات حركة الحسين عليه السلام، نجده، ومنذ بداية التحرك في اتجاه رفض الانحراف، قد دأب على التأكيد على هذا المنهج. وكان أول تلك الترجمات لمنهجه عليه السلام رده على والي المدينة، الذي عقد فيه مقارنة بليغة، حيث قال: "إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم الله" هذا في الجانب الأول، أما الجانب المقابل فقوله: "ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق"، ومحصلة هذه المقارنة أن "مثلي لا يبايع مثله". بهذه العبارة قطع الحسين عليه السلام الطريق امام التفسيرات والتأويلات العليلة، التي للأسف لايزال بعض السذج يتبنونها، كاعتبار الجانب السياسي المتمثل في المطالبة بالخلافة سبباً في خروج الحسين عليه السلام، وكذلك اعتبار التعصب والسعي لاحتكار إمامة الأمة باعتبار الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وغيرها من الترهات. فهذه المقارنة وضعت الأمور في نصابها، وسمَّت الأشياء بمسمياتها الصريحة، إذ أن أحد الخصمين عاملٌ بالكتاب والسنة المحمدية، والخصم المقابل فاسق معلن بالفسق، والفسق لغةً هو الخروج عن حدود الشرع وعصيان الأوامر الإلهية والفجور والانغماس في الملذات الدنيوية.
وتَبِع هذا البيان، ما جاء في رده عليه السلام على مروان بن الحكم، حيث قال: "على الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمة براعٍ مثل يزيد"، ثم ما جاء في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية: "... وإني لم أخرج أشراً ولا بطرا، ولا مفسداً ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي". وهذا البيان الذي جاء مع تقدم الأحداث، وصدور بعض الأصوات الناصحة للحسين عليه السلام بعدم الخروج، وعدم إدراك البعض للغرض من خروجه عليه السلام، عمد الحسين عليه السلام فيه إلى المزيد من البيان والتفصيل، بمقارنة أخرى أبعد فيها الشخوص وأحلَّ محلها المبدأ "وإني لم أخرج أشراً ولا بطرا، ولا مفسداً ولا ظالما" وهي صورة الفسق، "وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله" وهي صورة الإيمان والالتزام بأوامر الشارع المقدس. وإمعاناً في البيان والتوضيح من جهة، وبيان هوية الحركة الحسينية وانتمائها من الجهة الأخرى، أتبعها عليه السلام بقوله: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، إذ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب مفروض قرنه الله جل شأنه بالإيمان به سبحانه وتعالى وباليوم الآخر فقال عز من قائل: "يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ" (آل عمران: 114)، منتقلاً بعدها لتحديد منهجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحديداً لا يقبل التأويل ولا يسمح بنعته بالاجتهاد، ليقول قائل أن الحسين اجتهد فأخطأ، فقال عليه السلام: "وأسير بسيرة جدي وأبي علي". وعلى هذا، يكون خروج الحسين عليه السلام خروج معسكر الإيمان لمقارعة معسكر الفسق والفجور وفق المنهج المحمدي الأصيل الذي تمثَّله ومثَّله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
وهنا التفاتة لابد من الانتباه إليها، وهي أن قول الحسين عليه السلام "وأسير بسيرة جدي وأبي علي"، قد أبعد المواجهة بين المعسكرين عن كل تفسير محتمل يتعلق بالمطالبة بالخلافة أو التمرد السياسي من خلال احتلال المدن والبلدات تحت مسمى الفتح الإسلامي تعزيزاً للنفوذ، حيث خلت سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ثم سيرة علي عليه السلام من بعده من هذا النوع من الحروب، والتي تنطوي عموماً تحت مسمى الفتوحات الإسلامية وتوسعة رقعة الدولة الإسلامية وغيرها من المسميات المماثلة، والتي وُجدت في الفترة الفاصلة بين استشهاد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتولي أمير المؤمنين عليه السلام الخلافة بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان. فالمعركة باختصار هي معركة الحق والباطل وإعلاء كلمة الله تعالى ولا شأن لها بالخلافات أو الاختلافات السياسية أو العقائدية.
البيان الرابع في هذا الحراك الحسيني، ورد في خطبته عليه السلام في مكة المكرمة، والذي انتقل فيه من أسلوب المقارنة إلى أسلوب التقرير. لذا، جاءت بداية الخطبة لتقرر حقيقتين لا مفر منهما، الأولى أن الموتَ واقعٌ على كل الخلق لا محالة، إذ قال الله جل شأنه "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ" (الرحمن: 26-27)، وهذه الحقيقة عبَّر عنها عليه السلام بقوله: "خُط الموت على وُلدِ آدم مَخَطَّ القلادة على جِيدِ الفتاة"، وهو تقريرٌ غيبيٌ قائم يشهده الناس مؤمنين كانوا أو كافرين. أما الحقيقة الثانية فهي أنه لا مفر من قضاء الله تعالى الذي كتب فيه أن الحسين عليه السلام مقتولٌ في هذا الخروج لا محالة، وهو ما أخبره به المصطفى الأمين صلوات الله وسلامه عليه وآله، والتي عبَّر عنها عليه السلام بقوله: "وخِيرَ لي مَصْرَعٌ أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عُسُلان الفلاة بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشا جوفاً وأجربة سُغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم"، وهو تقريرٌ غيبي قصير المدى، سرعان ما يتكشف للعيان، فيكون عند حدوثه بعد إخبار الحسين عليه السلام به تأكيداً على صدقه في مُدَّعاه. وبهذين التقريرين المشهودين، يتقرر بالنتيجة الأمر الثالث، الذي ربما جهله البعض أو اختلفوا فيه، وهو أن "رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين. لن تشذ عن رسول الله لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القُدُس، تقر بهم عينه، وتنجز لهم وعده". ومن هذا التقرير الثالث، البالغ الأهمية، ينتقل عليه السلام إلى الدعوة، عملاً بما تقدم من بيان في شأن اتِّباع سيرة النبي الأكرم ووصيه علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيُطلق دعوةً مفتوحةً أمام الجميع بعد ما تبين الحق من الباطل، فيقول: "فمن كان فينا باذلاً مهجته، مُوطِّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى". ونلحظ في هذه الكلمات المنتقاة منه عليه السلام، عدة أمورٍ منها أن لا مطامع دنيوية تُؤمَّل من الالتحاق بمعسكره عليه السلام، إذ أنه مقتول لا محاله، ومقتولٌ كلُّ من سيخرج معه “فمن كان فينا باذلاً مهجته، مُوطِّناً على لقاء الله نفسه”، وهو نفيٌ آخر لإمكانية ادعاء أن سبب خروجه عليه السلام هو التمرد أو المطالبة بالحكم والخلافة. ومنها أيضاً التأكيد على هوية هذه الحركة، وهي الهوية الربانية على نهج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في قوله "رضى الله رضانا أهل البيت".
أما البيان الخامس، فكان في طريقه إلى كربلاء لما وصله خبر استشهاد سفيره مسلم بن عقيل ومن معه من المؤمنين، حيث لم يعمد عليه السلام إلى إخفاء هذا الأمر عن أصحابه ومن سار معه، فخطب فيهم وأخبرهم بمقتل مسلم وهانئ بن عروة وعبدالله بن يقطر، وخذلان الناس له، ثم أطلق الدعوة للجميع بقوله: "فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حَرَج، ليس عليه ذمام"، فانصرف عنه الكثير من الناس بالفعل، وبقي معه من صحبه من المدينة ونفرٌ يسير ممن انضموا إليه في مكة. فلو كان خروجه عليه السلام طلباً للرئاسة والإمارة، لكان الأحرى به أن يُخفي عن أصحابه هذا الخبر، وأن يعمد إلى تعزيز ثقتهم وشد عزيمتهم، لا أن يعلن براءة ذمتهم من العهد والبيعة، ويترك لهم حرية الانصراف. وهنا التفاتة أخرى جديرة بالتوقف عندها، وهي أنه عليه السلام بما يعلم من حقيقة المواجهة بين معسكره ومعسكر الباطل، وما تؤول إليه الأمور الظاهرية من هزيمة، وما تؤول إليه في المستقبل من انتصار الحق على الباطل وبقاء الشريعة النقية، لم يكن ليترك المجال لضعاف النفوس ومتذبذبي الإيمان لأن يكونوا أعلاماً تقتدي بهم الأمم اللاحقة. فخلود الحق يحتاج إلى قلوب يغمرها الإيمان ولا يداخلها الشك والانهزام أو التعلق بملذات الدنيا وزخرفها.
وهكذا تتابع الأحداث والبيانات، الواحد تلو الآخر، على طول الطريق إلى كربلاء، لتؤكد حقيقة واحدة هي أن هذا الحراك إنما هو حراكٌ محمدي بامتياز، ليس له هدف سوى ما كان قد بينه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من أن انتهاء الخلافة وقيام الملك محلها لن يمحو دين الحق، وأن وعد الله تعالى بخلود الشريعة الحقة التي جاء بها، أمرٌ لا ريب فيه ولا شك، فـ"أنا من حسين..".
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين. اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.