روى شيخُنا الصدوق (نوَّر اللهُ مرقده الشريف) بسنده عن ميمون القدَّاح، عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال:
"أيمَا عبد من عباد الله سَنَّ سُنَّةَ هُدىً كان له أجرٌ مِثلَ أجرِ مَنْ عَملَ بذلك من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ، وأيمَا عبد من عباد الله سَنَّ سُنَّةَ ضلالٍ كان عليه مِثلُ وزرِ مَنْ فَعَلَ ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ"[1].
وقد جاءت السُنَّة في النصوص الشريفة اسمًا للمطلوب لله تعالى وجوبًا أو استحبابًا ببيانٍ عن جهة التشريع، وما لم يصدر عنها، ولا يرجع إلى عموم شرعي، فهو بِدعَةٌ مُحَرَّمة بنسبته إلى الدين، وما لم يُنسب إليه فهو على الإباحة الأصلية في قبال القول بأصالة الحظر، فتخرج (سُنَّةُ الهُدى) عن كونها كذلك ما لم ترجع هي كفعلٍ إلى وجههٍ شرعي، وإلَّا فإنَّها إمَّا بدعة لنسبتها إلى الدين، وإمَّا فعل دنيوي لا ثواب فيه في نفسه ولا عقاب.
تفصيل الكلام:
السُّنَّةُ، والكلامُ في سُنَّةِ الهُدى، تشريع إلهي إمَّا فرضُ واجبٍ، ومثاله ما في العِلل عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السَّلام)، قال: "سألتُه عن رمي الجمار لِمَ جُعِلَ؟
قال (عليه السَّلام): لأنَّ إبليس اللعين كان يتراءى لإبراهيم (عليه السَّلام) في موضع الجمار فَرَجَمَهُ إبراهيمُ، فَجَرَتِ السُّنَّةُ بذلك"[2].
أو مُستحبٌّ، ومثاله ما في المحاسن عن أبي أسامة، قال: "كنتُ عند أبي عبد الله (عليه السَّلام) فَسَألَهُ رَجُلٌ مِنَ المُغيريَّةِ عن شيءٍ مِنَ السُّنَنِ، فقال (عليه السَّلام): ما مِنْ شَيءٍ يحتاج إليه أحدٌ مِنْ ولد آدم إلَّا وقد جَرَتْ فيه مِنَ الله وَمِنْ رَسُولِهِ سُنَّةٌ، عَرَفَهَا مَنْ عَرَفَهَا، وَأنْكَرَهَا مَنْ أنْكَرَهَا.
قال الرجلُ: فَمَا السُّنَّةُ في دخول الخلاء؟
قال (عليه السَّلام): تذكر اللهَ وتَتَعَوذ مِنَ الشيطانِ، فإذا فَرَغْتَ قُلْتَ: الحمد لله على ما أخرج عَنِّي مِنَ الأذى في يُسْرٍ مِنْه وعافية"[3].
ويعمُّهما ما في الكافي عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: "إِنَّ السُّنَّةَ لَا تُقَاسُ؛ ألَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةً تَقْضِي صَوْمَهَا ولَا تَقْضِي صَلَاتَهَا؟! يَا أَبَانُ، إِنَّ السُّنَّةَ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَ الدِّينُ"[4]، وأمثاله، وإن كان مثاله (عليه السَّلام) في الواجب؛ فلاحظ أنَّ المَحْقَ واقِعٌ بتدخل الإنسان في التشريع على أيِّ وجه كان.
فسُنَّة الهُدى في قوله (عليه السَّلام): "أيمَا عبد من عباد الله سَنَّ سُنَّةَ هُدىً" محمول على السَّنِّ العملي لِمُطلوب إلهي قد هجره النَّاس؛ كالسِّواك، والتشمير، ولبس العِمامة، وما إلى ذلك مِنَ كثيرٍ ممَّا هجره العِباد، أو لإحداثٍ مشروعٍ لِما به تقوم السُّنَّة، كما في حملات جمع التبرعات والصدقات لعلاج المرضى، ورفع حاجات المحتاجين، وهذه مفتقرة إلى إمضاء الفقيه ولو تقريرًا؛ فما قد يراه العامَّة ممَّا تقوم به السُّنَّة قد يكون على خلاف ذلك، ونظر الفقيه العالِم بزمانه، والعارف بموارد الاحتياط دافِعٌ لمحذور المخالفة ونقض الغرض، لذا قامت سيرة المُتشرِّعة على إرجاع الأمور إلى المعصوم (عليه السَّلام) للتبيُّن حتَّى لو بَدَتْ وكأنَّها مُسلَّمة الوضوح، وفي مكاتبة محمَّد بن عبد الله بن جعفر الحِميَري إلى صاحب الأمر (عليه السَّلام) يسأله "عن سجدة الشكر بعد الفريضة؛ فإنَّ بَعضَ أصحابنا ذكر أنَّها بدعة، فهل يجوز أن يسجدها الرجلُ بعد الفريضة؟ وإن جاز، ففي صلاة المغرب هي بعد الفريضة أو بعد الأربع ركعات النافلة؟
فأجاب (عليه السلام): سجدة الشكر من ألزم السُّنَنِ وأوجَبِهَا، ولم يقل أنَّ هذه السجدة بدعة إلَّا مَنْ أرَادَ أنْ يُحْدِثَ بِدْعَةً في دِينِ الله. فأمَّا الخَبَرُ المروي فيها بعد صلاة المغرب والاختلاف في أنَّها بعد الثلاث أو بعد الأربع، فإنَّ فضل الدعاءِ والتسبيحِ بعد الفرائض على الدعاء بعقيب النوافل كفضل الفرائض على النوافل، والسجدة دعاءٌ وتسبيحٌ، فالأفضل أن تكون بعد الفرض، فإنْ جُعِلَتْ بعد النوافل أيضًا جَازَ"[5]. وتلاحظ أنَّ سجدة الشكر في عقب الفريضة ممَّا لا يخطر في أذهان العامَّة السؤال عن مشروعيتها، فهي تبدو حسنةً على أيَّة حال، إلَّا أنَّ الأمر ليس كذلك عند من يعي خطر الدين وأمره، والنظر في السجدة محلُّ الكلام على اعتبارها فِعل عبادي يؤتى به عقب الفريضة، لا على اعتبارها سجدة مستحبة متى وأين ما وقعت؛ فلو كان السؤال عنها دون تعليقها على ما يتعقب الفريضة من مستحبات لكان الجواب باستحبابها، وموضوعه مطلق السجود لله تعالى، ولكنَّ السؤال كان عنها بقيد ظرفٍ خاص، وهو عقب الفريضة، وهذا ما يحتاج إلى تشريع.
محذور البِدعة:
لو أنَّ عبدًا دأب على قراءة دعاء الفرج في قنوت فريضة الفجر، فإمَّا أنَّ فِعله لحاجة يجدها في نفسه؛ كأن يريد افتتاح يومه بهذا الدعاء العظيم، ووجد أشرف المواضع قنوت الفجر، فاتَّخذه كالورد فيها، وهذا من حيث نفس قراءته في قنوت الفجر لا يُثاب عليه ولا يُعاقب؛ إذ أنَّه لا نصَّ في كون قراءته في قنوت الفجر سُنَّةً، ولكنَّه غير مُحرَّم، وللمصلي قراءة ما شاء من الأدعية في قنوت الصلاة، فهو جائزٌ ولا إشكال فيه ما لم يُداخله شيءٌ يجعله في نفس فاعله كالَّازم الذي يضيق صدره بتركه ولو نسيانًا. أمَّا إذا جعل له حكم الاستحباب فهذا إحداث في الدين كما هو ظاهر المشهور، وليس كذلك عند المولى النراقي (رضوان الله تعالى عليه)؛ إذ يقول:
"والتحقيق: أنَّ كُلَّ فعلٍ لم يَثْبُتْ مِنْ الشرعِ لا يمكن الإتيان به باعتقاد أنَّه من الشرع، ولكن يمكن فعله بإزاء أنَّه من الشرع، أو جعله شرعًا للغير، وهو تشريع وإدخال في الدين و إن لم يعتقده المتشرع، وهذه هي (البدعة)"، ثُمَّ قال: "فالبدعة فعل قرّره غير الشارع شرعا لغيره من غير دليل شرعي، و لا شك في كون ذلك (بدعة)"، وختم بقوله: "وأمَّا الفعل الذي لم يثبت من الشرع، ويفعله أحدٌ من غير إراءةِ شَرعيتِهِ للغير، فلا يحرم من هذه الجهة أصلًا و لو قارنه شيءٌ مِنَ الاعتقاد بالشرعية. نعم قد يكون مُحَرَّمًا فِعلُهُ إذا لم يثبت من الشرع من جهة أخرى، ولا كلام فيه"[6]. فمِن غير المُتصوَّرِ، بحسب الشَّيخ النراقي، جَعْل قَارئِ دُعَاءِ الفَرجِ في قنوت الفجر حُكمَ الاستحباب لقراءة هذا الدعاء في هذا الموقع، وحتَّى لو قال بذلك فهو لا يعدو كونه لغوًا لا اعتبار له، ولا يصل إلى حدِّ الإحداث في الدين.
ينبغي التنبُّه إلى أنَّ الباعث على الابتداع مِنْ أهل الدين هو ابتغاء مرضاة الله تعالى، فالغاية حسنة، غير أنَّ ذلك لا يُبَرِّرُ بحالٍ إحداث شيء في الدين، حتَّى لو كان حسنًا وتراه الأعراف طيِّبًا. وإن حصل فهو مفتقر تمام الافتقار إلى إمضاء شرعي، كما في قوله جلَّ في علاه (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)[7]؛ قال أبو الحسن (عليه السَّلام) في معنى الرهبانية التي ابتدعوها أنَّها "صلاة الليل"[8]. ولو لا ذاك لكانت بِدْعَةً مُحرَّمة.
قال في الميزان: "والابتِدَاعُ إتيانُ مَا لَم يُسْبَقْ إليه في دِينٍ أو سُنَّةٍ أو صنْعَةٍ، و قوله: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) في معنى الجواب عن سؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ كأنَّه قِيلَ: ما معنى ابتداعهم لها؟ فقيل: ما كتبناها عليهم.
والمعنى: أنَّهم ابْتَدَعُوا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِم رَهْبَانِيَّةً مِنْ غَير أنْ نُشَرِّعَهُ نَحْنُ لَهُم".
و قوله: (إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، مَعْنَاه مَا فَرَضْنَاهَا عَليهم، لَكِنَّهُم وَضَعُوهَا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِم ابْتِغَاءً لِرضوان الله، وَطَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ فَمَا حَافَظُوا عَليهَا حَقَّ مُحَافَظَتِهَا بِتَعَدِّيهم حُدُودهَا.
وَفيهِ إشَارَةٌ إلى أنَّها كَانَتْ مَرْضِيَّةً عِنْدَهُ تَعَالى، وإنْ لَمْ يُشَرِّعْهَا، بل كَانُوا هُم المُبْتَدعِينَ لَهَا"[9]، ولو لا قيام الدليل الصريح على إمضائه عزَّ وجلَّ لما أمكن إحراز كونها مرضية شرعًا، ومع عدم إمكان إحراز الإمضاء الشرعي فهو ابتداعٌ ممنوع. فافهم.
في الكافي[10] روى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ اللَّه (عليهما السَّلام)، قَالا: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وكُلُّ ضَلَالَةٍ سَبِيلُهَا إِلَى النَّارِ".
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام) النَّاسَ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّه، يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالاً، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى، ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافٌ، ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيَجِيئَانِ مَعًا، فَهُنَالِكَ اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه، ونَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّه الْحُسْنَى".
وقَالَ رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله): "إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَه، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْه لَعْنَةُ اللَّه".
وقال (صلَّى الله عليه وآله): "أَبَى اللَّه لِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ بِالتَّوْبَةِ.
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّه، وكَيْفَ ذَلِكَ؟
قَالَ: إِنَّه قَدْ أُشْرِبَ قَلْبُه حُبَّهَا".
وعَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ الأَوَّلِ (عليه السَّلام): "بِمَا أُوَحِّدُ اللَّه؟
فَقَالَ: يَا يُونُسُ، لَا تَكُونَنَّ مُبْتَدِعًا. مَنْ نَظَرَ بِرَأْيِه هَلَكَ، ومَنْ تَرَكَ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّه (صلَّى الله عليه وآله) ضَلَّ، ومَنْ تَرَكَ كِتَابَ اللَّه وقَوْلَ نَبِيِّه كَفَرَ".
الظاهر أنَّ مقتضى الإطلاق شمول الابتداع لكلِّ من يأتي عملًا مُلْتَزِمًا بأنَّه من الشرع، سواء جعله شرعًا للغير أم لا. نعم، قد يقتصر على مَن يأتي به، كالذي يلتزم قراءة دعاء الفرج في قنوت الفجر فيما لو كان يعتقد استحباب قراءته فيه، وقد يعم جماعة أو مجتمعًا، أو ربَّما طائفة، إلَّا أنَّ تعرُّض الأعلام للبدعة جاء في موارد التشريع للغير، وهو الموافق لما يذهب إليه المُحقِّق النراقي (رضوان الله تعالى عليه).
قال العلَّامةُ المجلسيُّ (عطَّر الله تعالى مرقده الشريف): "البِدْعَةُ في الشَّرْعِ ما حَدَثَ بعد الرسُولِ (صلَّى الله عليه وآله) ولم يَرِدْ فيه نصٌّ على الخُصُوص، ولا يكون داخلًا في بعض العُمُومات، أو وَرَدَ نَهيٌ عنه خُصُوصًا أو عُمُومًا، فلا تشمل البِدْعَةُ ما دَخَلَ في العُمُومات؛ مِثل بناء المدارس وأمثالها الداخلة في عمومات إيواء المؤمنين وإسكانهم وإعانتهم، وكإنشاء بعض الكتب العلمية والتصانيف التي لها مدخل في العلوم الشرعية، وكالألبسة التي لم تكن في عهد الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، والأطعمة المُحْدَثَة؛ فإنَّها داخِلةٌ في عُمُومات الحِلِّيَّة، ولمْ يَرِدْ فيها نَهْيٌ، وما يُفْعَلُ منها على وجه العُمُوم إذا قُصِدَ كونها مَطْلوبَةً على الخصوص كان بِدْعَةً"[11].
مَحْذُورُ الانزلاق التشريعي:
يرى الفقيه في بعض المسائل جواز توسُّع العُرف في مصاديق موضوعاتها ما لم يُعَارَض، ومن أمثلته من يقول بالتوسُّع في مظاهر إحياء أمر أهل البيت (عليهم السَّلام)؛ فالإحياء مطلوبٌ شرعًا لظهور (أحيوا أمرنا) فيه، وهو (الإحياء) يسع كلَّ ما كان إحياءً ولم يكن مُعارَضًا لحُرْمَةٍ عارِضَةٍ أو ما شابه، أمَّا ظهور السَّعة ففي دخول مصاديق لم تكن في زمن النص، ولكن لصدق العنوان كانت مرضية شرعًا، ولكنَّ المحذور في حمل المصداق المُتوسَّع فيه على حكم الوجوب أو الاستحباب ليكون في قوَّة صدق الإحياء المنصوص.
في رواية عيون الأخبار عن عبد السَّلام بن صالح الهروي، قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام) يقول: "رَحِمَ اللهُ عَبْدًا أحْيَا أمْرَنَا. فَقُلْتُ له: وَكَيفَ يُحيى أمْرَكُم؟ قال: يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإنَّ النَّاسَ لَو عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لاتَّبَعُونَا"[12]، فتعلُّم علومهم (عليهم السَّلام) وتعليمها النَّاس مطلوب في نفسه، ولا يقع إلَّا إحياء لأمرهم (عليهم السَّلام)، وليس كذلك ما لا نصَّ فيه، وإنْ وقع مصداقًا للإحياء، إلَّا أنَّه قد لا يكون منه في زمن أو مكان.
يقع الإشكال في حمل الموضوع المُتَوسَّع فيه على الطلب الشرعي في نفسه، فيُلتزَم به ويُخَاصَمُ من أجله عند أدنى نقد أو رأي مخالف لكونه مصداقًا للإحياء، وفي خصوص هذا الحمل تطرأ شبهة الابتداع، وقد روى في المحاسن عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال: "أدنى الشِّرك أنْ يَبْتَدِعَ الرَّجُلُ رَأيًا فَيُحِب عَليهِ ويُبْغِض"[13].
بيان:
عندما يأمر المعصوم (عليه السَّلام) بإحياء أمر أهل البيت (عليهم السَّلام)، ثُمَّ أنَّه (عليه السَّلام) يشير إلى تعلُّم علومهم وتعليمها النَّاس، وإلى الإنشاد والبكاء، وإلى الطبخ والإطعام على أنَّها مظاهر إحياء أمرهم (عليهم السَّلام)، فالمؤمنون حينذاك يلتزمون خصوص هذه المظاهر ولا يتوسَّعون في غيرها، أو أنَّهم ينتزعون منها جميعها مُشترَكًا يُعرِّفون به (الإحياء) ويكون هو المفهوم المُقرَّر له، ومتى ما صدق عليه مظهر كان منه على نحو انطباق المفهوم على مصداقه، أو أنَّهم يبحثون المعنى اللغوي لكلمة (الإحياء) ويلحقون به كلَّ ما ناسبه من مظاهر خارجية.
الكلام في القطع بصدق المنصوص على معنى الإحياء المطلوب، فلا يكون وقوعه في ظرف الإحياء إلَّا إحياءً، وليس كذلك في غير المنصوص، فيكون إحياءً لجهة القطع بظهور الانطباق، وينتفي بانتفاء القطع وتبدُّل النظر. أمَّا مع مساواته والمنصوص يلغى تبدُّل النظر، وأخالها دقَّةً ينبغي التنبَّه لها.
بالرغم من سلامة الدين إن شاء الله تعالى بحراسة الفقهاء الأعلام، وحرص المؤمنين، إلَّا أنَّ تنبيه النَّفس وضبطها على جادَّة الشريعة ضرورةٌ يطلبها أهل العقول من الثابتين على ولاية الحق؛ فهم ليسوا ببعيدين عن مثل مضامين ما يرويه أبو جعفر البرقي (رضوان الله تعالى عليه) في المحاسن عن ابن مسعود الميسرى، رفعه، قال: قال المَسيحُ (عليه السَّلام): "خُذُوا الحَقَّ مِنْ أهْلِ البَاطِلِ، وَلَا تَأخُذُوا البَاطِلَ مِنْ أهْلِ الحَقِّ. كُونُوا نُقَّادَ الكَلَامِ؛ فَكَمْ مِنْ ضَلَالَةٍ زُخْرِفَتْ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ كَمَا زُخْرِفَ الدِّرْهَمُ مِنْ نُحَاسٍ بالفِضَّةِ المُمَوَّهَة. النَّظَرُ إلى ذَلِكَ سَوَاء، وَالبُصَرَاءُ بِهِ خُبَرَاءُ"[14].
هذا كلامُ حقٍّ؛ فما يُبتدَعُ في الدينِ يأتي مُتَلَبِّسًا بِهِ، مُسْتَتِرًا بتشريعاته، وهو قول أمير المؤمنين (عليه السَّلام): "فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى، ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافٌ، ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيَجِيئَانِ مَعًا، فَهُنَالِكَ اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه، ونَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّه الْحُسْنَى".
في حديث للإمام الرضا (عليه السَّلام) مع إبراهيم ابن أبي محمود، قال: " يا ابن أبي محمود، إذا أخذ النَّاسُ يَمينًا وشِمَالًا فَالزَمْ طَريقَتَنَا؛ فَإنَّه مَنْ لَزمَنَا لَزمْنَاهُ، وَمَنْ فَارَقَنَا فَارَقْنَاهُ. إنَّ أدْنَى مَا يَخْرُجُ بِهِ الرجُلُ مِنَ الإيمَانِ أنْ يَقُولَ لِلْحَصَاةِ هَذِهِ نَوَاةٌ ثُمَّ يَدِينُ بِذَلِكَ وَيَبْرَءُ مِمَّنْ خَالَفَهُ!"[15].
وفي دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السَّلام) كان يقول: "اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، شَجَرَةِ النُبُوَّةِ، وَمَوضِعِ الرسَالَةِ، وَمُخْتَلَفِ المَلَائِكَةِ، وَمَعْدِنِ العِلْمِ، وَأهْلِ بَيتِ الوَحيِ. اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، الفُلْكِ الجَارِيَةِ في الُّلجَجِ الغَامِرَةِ، يَأمَنُ مَنْ رَكِبَهَا، وَيَغْرَقُ مَنْ تَرَكَهَا. المُتَقَدمُ لَهُم مَارِق، وَالمُتَأخِّرُ عَنْهُم زَاهِق، والَّلازِمُ لَهُم لاحِق"[16].
والحقُّ في لزومهم (عليهم السَّلام)، وصيانة النفس على جادَّتهم، وكبح جماحها عن طوفان الشهوات الذي يأخذها لامتطاء الدين وتشريعاته للوصول إلى ما يُشبِعُ أناها، فهذا ليس بالأمر اليسير، ولا يرى أهلُ العُقُولِ والحِكْمَةِ أنفسهم في مأمن من الوقوع في مزالقه إلَّا بمنعها عَنْ تجاوز ما ثبت عنهم (عليه السَّلام) طوال ما يزيد عن ثلاثة قرون، من عصر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى وقوع أمره تبارك ذكره وغيبة إمامنا (عليه السَّلام) في الربع الأوَّل من القرن الرابع للهجرة، ويكفي الاستيعاب والشمول في رواية حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: "مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وفِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ"، وبالتزام صراط الحذر عند الإرجاع إلى عمومات مظنونة، وكيف كان فأمْرُ العَاميِّ إلى مَن يُقلِّده أعمالَه من الفقهاء الصائِنين لأنفسهم، الحافظين لدينهم، المخالفين على أهوائهم، المطيعين لأمر مواليهم (أعزَّ الله تعالى كلمتهم).
عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ سَمِعْتُه يَقُولُ: "مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي"[17].
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
24 من المُحرَّم 1444 للهجرة
البحرين المحروسة
.................................
[1] - ثواب الأعمال - الشيخ الصدوق - ص 132
[2] - علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 2 - ص 437
[3] - المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 1 - ص 278
[4] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 57
[5] - الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 308
[6] - عوائد الأيَّام في بيان قواعد استنباط الأحكام – المولى النَّراقي – عائدة في بيان معنى البدعة وبيان حرمتها
[7] - الآية 27 من سورة الحديد
[8] - علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 2 - ص 363
[9] - الميزان في تفسير القرآن – السَّيد محمَّد حسين الطباطبائي
[10] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 – ص 54 - 56
[11] - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 71 - ص 202 - 203
[12] - عيون أخبار الرضا (عليه السَّلام) - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 275
[13] - المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 1 - ص 207
[14] - المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 1 - ص 229 - 230
[15] - عيون أخبار الرضا (عليه السَّلام) - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 272
[16] - مصباح المتهجد - الشيخ الطوسي - ص 45
[17] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 391