نادر الملاح
4 محرم 1444 هـ، 3 أغسطس 2022
ظهر جلياً من خلال الحلقات السابقة من البحث أن الحراك الحسيني إنما كان إحياءً للشريعة السماوية التي جاء بها سيد الأنبياء والمرسلين عليه وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام، وأن الشعار الذي رفعه الحسين عليه السلام (أمضي على دين النبي) لم يكن مجرد شعار لا يتصل بالواقع، بل إنه متجذِّرٌ فيه، ولذلك كان التطابق التام بين الشعار والواقع العملي أمراً بارزاً للعيان، إلا من اختار العمى لجهل أو حقد أو مآرب أخرى. في هذه الحلقة نتناول جانباً آخر من جوانب النهج المحمدي في الثورة الحسينية، والذي يتمثل في حالة الثبات والصمود في مواجهة الباطل.
ينقل الشيخ الأميني رضوان الله تعالى عليه في الغدير (ج7 ص359)، أنه لما بلغ أمر الجهر بالرسالة السماوية إلى سيد الخلق صلى الله عليه وآله، فنزل الوحي الأمين بقوله تعالى "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ" (الحجر:94)، بادر صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة العامة ممتثلاً أمر المولى عز وجل، ومع ذلك لم يبعد عنه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا على عداوته إلا من كان قد آمن منهم، وهم قلة حينها. ولأن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان ينعم بحماية عمه أبي طالب عليه السلام، ما شكَّل رادعاً للقوم عن الإيذاء المباشر للنبي صلى الله عليه وآله في بادئ الأمر، فأجمعوا أمرهم على أن يقصدوا أبي طالب ليفاوضوه في دفع محمد (ص) للإحجام عما يقوم به من دعوة، فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، فابقِ علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال (ص): يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته. قال: ثم استعبر رسول الله (ص)، وهمَّ بالمغادرة، فناداه عمه أبو طالب قائلاً: أقبل يا بن أخي، فأقبل (ص)، فقال عليه السلام: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.
وروى جابر بن عبدالله الأنصاري أن قريشاً أرسلت عتبة بن ربيعة الذي كان يُعرف بينهم بالهدوء ورزانة الرأي ليعرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يصده به عن دعوته، فلما جلس إلى رسول الله (ص) ذكر مكانته في قريش وعلو نسبه، ثم عرض عليه أموراً، وطلب منه أن يختار منها، حيث قال: "إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً، سوَّدناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريدُ مُلكاً ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ"، فما كان جواب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله إلا أن قرأ عليه قوله تعالى: "حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ…" إلى قوله تعالى: "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ" (فصلت: 1-13). فثبت صلى الله عليه وآله أمام مغريات القوم كما ثبت أمام تهديداتهم ومكائدهم، وفشل المشركون في ردعه عن تبليغ رسالة ربه، رغم أن تلك المحاولات والمساومات استمرت، حتى قد بلغ القوم أن يعرضوا عليه إسلامهم بشرط أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا الله سنة، فأنزل الله تعالى سورة الكافرون وقرأها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله على كفار قريش، فأيقنوا أن هذا الأسلوب لا يجدي نفعاً مع محمد صلى الله عليه وآله.
ومن المساومة إلى الإيذاء الجسدي واللفظي والسخرية من النبي ومن آمن معه، وغيرها من الأساليب. فقد نقل ابن شهرآشوب في المناقب أن النبي صلى الله عليه وآله إذا خرج من بيته تبعه أحداث المشركين يرمونه بالحجارة حتى أدموا كعبه وعرقوبيه. كما نقل عن الصادقين عليهما السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد كان لقيَ من قومه بلاءً شديداً حتى أتوه ذات يوم وهو ساجد فطرحوا عليه رحم شاة، وأنه صلى الله عليه وآله قد شُج وكُسِرت رباعيته، وأن مغيرة بن العاص رماه بحجر فأصاب يده الشريفة فسقط السيف من يده، ثم رماه بحجر فأصاب جبهته، وفي يوم أُحُد حمل الأعداء عليه صلى الله عليه وآله وسلم حملة رجل واحد ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ورمياً بالنبل ورضخاً بالحجارة. والكثير الكثير من أشكال الأذى مما يملأ بطون كتب التأريخ والسيرة، حتى أن النبي صلى الله عليه وآله قال، وقوله الحق: "ما أوذي نبيٌّ مثل ما أُوذيت" (مستدرك سفينة البحار، للشيخ علي الشاهرودي، ج1 ص102).
لقد كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يُدرك أن ثورته كانت ثورة لمقارعة الانحراف الأخلاقي وتردي القيم الإنسانية وسيادة الفوضى الاجتماعية، وذلك نتيجة ابتعاد الناس عن عبادة الله الواحد الأحد، واتباع شهوات الدنيا وملذاتها، وأن ثورة ترمي إلى تغيير ثقافة المجتمع، لاسيما مع تولي أصحاب المطامع الدنيوية مقاليد السلطة والقيادة، تحتاج إلى ثبات منقطع النظير، وإلى صبر ومقاومة يطول أمدها. وعلى هذا النهج المحمدي كانت سيرة الحسين عليه السلام في ثورته، إذ أن القوم أبناء القوم.
فجواب محمد صلى الله عليه وآله وسلم "لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته"، هو عينه جواب الحسين عليه السلام "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد"، وهو عينه جوابه عليه السلام بقوله:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسـلماً
وواسى الرجـــال الصـالحين بنفســـه * وفارق مثبوراً وخالف مجرما
فإن عِشـتُ لم أندم، وإن مِتّ لم أُلَــم * كفى بك موتاً أن تُذّلَّ وتُرغَـما
وصمود النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمام سيوف الظالمين ونبالهم ورماحهم وحجارتهم، هو عينه صمود الحسين عليه السلام لما افترق عليه القوم فرقاً تحيطه من كل جانب، ترميه إحداها بالحجارة، وأخرى بالنبال، وثالثة بالرماح، ورابعة تقارعه بالسيوف حتى خرَّ صريعاً يخور في دمه الشريف، فيناجي ربه جل شأنه: "اللهم إن كان هذا يرضيك، فخذ حتى ترضى".
وثبات النبي وإعراضه عن سباب وبذاءة الجاهلين، هو عينه ثبات الحسين عليه السلام وإعراضه عن أمثال الحصين بن نُمير عندما صاح الحسين عليه السلام بعمر بن سعد لكي يوقف الحرب ليصلي بأصحابه ثم يُستأنف القتال، فقال ابن نُمير عليه لعائن الله: "صلّ يا حسين ما بدا لك فإن الله لا يقبل صلاتك"، وأمثال شمر بن ذي الجوشن الذي قاطع خطبة الحسين عليه السلام في يوم العاشر من المحرم قائلاً: "هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما يقول"، وأمثال شبث بن ربعي وحجَّار بن أبجر وقيس بن الأشعث ويزيد بن الحارث وغيرهم لما استشهد عليهم القوم بالكتب التي بعثوها إليه ليقدم إلى الكوفة، فأنكروا وكذَّبوه عليه السلام.
وعن أي ثبات يمكن أن يتحدث متحدثٌ بعد ما كان من الحسين عليه السلام وهو يرى أولاده وإخوته وأهل بيته وأصحابه مضرجين بدمائهم على بوغاء كربلاء، بل ويرى حتى رضيعه الذي فطمته سهام الظلم والعدوان، فلا يزيده ذلك إلا عزيمةً وشكيمة، حتى كان في الميدان وحيداً فريداً، فيطلق صرخة النهاية التي يؤكد فيها أن ما هو عليه إنما هو نهج محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، فيصيح في حملته على جيش الظالمين: "أنا الحسين بن علي، آليت أن لا أنثني، أحمي عيالات أبي، أمضي على دين النبي"..
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين. اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.