بسمه تعالت أسماؤه المجيدة ، والصلاة على الساكن في العرش من الوجود ، وعلى آله الأتقياء الذين صانهم الله في ملامح الخلود ، وبعد: فقد يتصور الكثير من المسلمين الذين ما عرفوا من الإسلام إلا الصورة وابتعدوا عن المضمون والحقائق الجوهرية لهذا الكتاب العظيم، أنَّ القرآن هو مجرد نظريات يتفوه بها الإسلاميون في تحركاتهم ويتشبثون بها في حروبهم الفكرية وغيرها، على أننا لو رجعنا لحقيقة القرآن الكريم وحقيقة آياته المباركة لوجدناها تبتعد عن جو النظريات لتدخل إلى عمق الحقائق، ولذلك حين يستند الإسلاميون في حركاتهم لآيات الكتاب العظيم فإنهم يستهدون بنور حقائق الله بوعده، ووعيده وقبل الغوص في الآيات القرآنية، نلفت الانتباه على أن المراد من الإسلاميين في هذه المحاضرة هم من حرّكهم الوعيُ الدينيُ الأصيلُ النابعُ من الفطرة النقية الغير ملوثة بشوائب السياسات العفنة والتي تحركها أيدي الطواغيت في الأرض والذين أفرغوا الدين من محتواه ليجعلوه (لعقاً على ألسنتهم) كما يقول الإمام الحسين عليه السلام.
سنحاول أن نعيش مع كتاب الله وهو يستجلي الواقع الإنساني المرتبط بهذه الحياة في كل تفاصيلها وزواياها ليرسم لهذا المخلوق خطوطه العريضة، وواقعه الممنهج على أنه حقائق وليس بنظريات قابلة للتوهم والنقض بغيرها، ومن خلالها يعيش المسلم يومه بكل تفاصيله، وصراعه بكل تطلعاته، وغده بكل إشراقاته، حيث يبقى القرآن الكريم ربيعاً دائماً لحياة الإنسان، وحتى لو حاول اليأس أن ينخر في طريقه ليحبطه تارة أو يتغلغل لمفاهيمه تارة أخرى فسيبقى القرآن هو الحقيقة التي لا مجال للبس فيها وهذه مجموعة أو قل باقة من الورود الإلهية لك أيها المسلم المؤمن الذي ينتظر الصحف لتضيف لتكهناته شيئاً هنا، أو يتابع قناة لتضيف ليأسه بارقة أمل هناك، أنت أمام كتاب الله وذكره تعالى الذي وصفه سبحانه بقوله: [الذين آمنوا وتطمئنُ قلوبُهم بذكرِ الله ألا بذكرِ الله تطمئنُ القلوب] الرعد :28، فهذه أول الحقائق التي تطالعنا وهي أن مبدأ الاطمئنان والثبات النفسي هو ذكر الله جل وعلا واللجوء له سبحانه وتعالى، فالقرآن هو الذكر أيضاً بأبهى صوره، وفي المقابل فإن الابتعاد عن الذكر الإلهي هو سبب لتغلغل اليأس والهزيمة النفسية وغير النفسية، يقول الحق تبارك وتعالى: [ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون] الحشر : 19، فإننا أمام خيار مهم وهو أن يستمر اتصالنا مع الله سبحانه وتعالى دون انقطاع لأنه سببٌ مهم في بقاء الاطمئنان النفسي والثبات الذي من خلاله يكون الإنسان قوياً في حركته وتحقيق تطلعاته.
ويقول تعالى في سياق خطابه الأعلى للمؤمنين في بدر بعد المدد الإلهي [وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم] الأنفال :10، وهنا نلاحظ أنه بعد أن يتمكن الاطمئنان القلبي والنفسي من المؤمن فإنه يصبح قريباً من نصر الله تعالى، على أن الحقيقة التي يؤكدها هنا هي أنه لا نصر في واقعك أيها الإنسان سوى نصر الله لك، وكل ما سوى حقيقة النصر الإلهي هي أوهام (وما النصر إلا من عند الله) بمعنى أنه من غيره تعالى لا يكون نصر لك أيها الإنسان المؤمن.
إلى هنا حديثنا عن نفسية الإنسان المؤمن في صراعها وحركتها على أرض الواقع، ولكن هناك مواجهات لهذا المؤمن الذي هيأه الله عبر برنامجه الذي فرضه عليه من خلال منظومة الدين من عباداتها ومعاملاتها حيث يفترض أن هذا المؤمن المهيأ للصراع بتهيئة وتنشئة إلهية وبرمجة لنظامه الحياتي قد أصبح مؤهلاً لأن يجني ثمار نشأته الإيمانية وتربيته الإسلامية في خضم صراعاته وعلى كل المستويات.
لماذا يخطئ من يبحث عن نصرٍ من غير الله تعالى؟
نعم يخطئ من يبحث عنه من غير الله تعالى، لأن الله سبحانه وتعالى في نظام الكون ومنظومته، هو الواجب الذي يسبب الأسباب ويهيؤها، طبقاً لنظام عدله، وحكمته التي تتصرف في كل صغيرة وكبيرة في نظام الكون، وإن كانت خلافاً لأهواء الناس ومخططاتهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فليس لهذا الإنسان قوة تذكر إلا وهي ممنوحة له ومسلوبة عنه، فليس المرء هو عين القوة ومصدرها، وإنما الإنسان يُمنح هذه المنحة فيقوى على الحركة وهو جنين في الشهر الرابع في بطن أمه وسط ظلمات الرحم، ثم تزداد وتشتد حتى تبدأ بالتراخي وتسير نحو العدم، حيث يبدأ الإنسان في حال الاحتضار سلب القوى الممنوحة له وهذه الحقائق يذكرها القرآن في حديثه عن الإنسان، يقول الحق تبارك وتعالى: [الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير] الروم : 54، نعم هذه هي المعادلة الإلهية مع الإنسان، يمنح الله له ثم يسلب عنه، ضمن مراحل معينة من حياة الإنسان، على أن الذي يمنح ويسلب يمتلك قوة لا تنضب ولا تتبدل ولا تبلى بل كل قوة وحركة صادرة من تلك القوة هي امتداد لقوته وقدرته فلذلك تتأكد لنا هذه الحقيقة العظيمة وهي أنه [لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم] هذا الذكر الذي ورد في بعض الروايات أو الآثار أنه الاسم الأعظم، هو سر من أسرار الله لا يعيه الكثير من الناس وإن لفظته أفواههم، ولكنه في معادلة الصراع والحركة أمر يهيمن على الإنسان لينتقل من كونه مجرد ذكر لفظي إلى ذكر عملي لهذا الإنسان . ويقول العلامة السبزواري في منظومته:
أزمةُ الأمور طراً بيده * والكلُ مستمدةٌ من مدده
فكيف يبحث الإنسان في مسيره وحركته عن قوة تمنحه النصر أياً كانت هذه القوة وأياً كان مصدرها، فغير الله لا يعطيك نصراً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، إننا نثق بالله وبحكمته في إدارة نظام هذه الدنيا وإدارة أمورنا المسيرين والمخيرين فيها، لذلك لا نملك إلا أن نتوجه إليه في كل أمورنا وحياتنا وفي ختام هذا الحديث نسأله تعالى أن يمدنا بحوله وقوته إنه سميع مجيب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.