نادر الملاح
5 محرم 1444 هـ، 4 أغسطس 2022
من أكثر صفات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم شيوعاً وذيوعاً بين الناس قبل بعثته الشريفة، الصادق الأمين، فكان أهل مكة يضعون عنده ودائعهم لأمانته وصدقه. ولم يكن أحدٌ يجهل أو يجحد هاتين الصفتين فيه. روى البخاري (ح4492) ومسلم (ح208) عن ابن عباس أنه لما نزل قوله تعالى "وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ" (الشعراء:214) صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بين فهر، يا بني عدي، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مُصدِّقيَّ؟ قالوا: نعم، ما جَرَّبنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟! فنزل قوله تعالى: " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ…".
هذا، وتزخر كتب السيرة النبوية الشريفة بالكثير من الأحداث والقصص التي لا تترك مجالاً لغير القول بأنه وقبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله، إذا قيل الصادق أو الأمين أو الصادق الأمين، انصرف ذهن السامع إلى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، لشدة ما كان يُعرف بهاتين الصفتين. لكن، ما أن جهر النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه بالدعوة، وأحس أصحاب الأطماع الدنيوية بالخطر على نفوذهم وسلطتهم، حتى ظهر العناد، واتهموا الصادق الذي يعرفونه حق المعرفة بالكذب والسحر. قال تعالى: "وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ" (فاطر:4). فالمسألة لم تكن قناعة منهم بكذب محمد صلى الله عليه وآله، وإنما هي مغالطة كان الغرض منها محاربة رسالة السماء ليقينهم أن سيادة هذه الرسالة، إنما تعني تضرر مصالحهم الشخصية ليس أكثر. ويدلل على هذا الأمر ما ورد في مساوماتهم العديدة مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والتي بلغت حداً عرضوا فيه إسلامهم بشروط تضمن بقاء سلطتهم، كما تقدم في الحلقة الماضية من البحث (الحلقة الرابعة).
ذات المشهد، وذات الصورة، يقف فيها الحسين عليه السلام على امتداد حراكه الثوري ضد الضلال والانحراف العقائدي والسلوكي. فهذا مروان بن الحكم الذي يعلم من يكون الحسين عليه السلام علم اليقين، كيف لا وقد استشفع الحسن والحسين عليهما السلام إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لما أُخذ مروان أسيراً يوم الجمل، فخلى سبيله إكراماً لهما (نهج البلاغة، الخطبة 70). يقف مروان هذا ناصحاً الحسين عليه السلام ببيعة يزيد، قائلاً: "يا أبا عبدالله، إني لك ناصح فأطعني ترشد وتسدد"، فقال الحسين عليه السلام: "وما ذلك؟ قل حتى أسمع". فقال: "أقول إني آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد فإنه خوَّلك في دينك ودنياك". فاسترجع الحسين عليه السلام ثم قال: "على الإسلام السلام، إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد" (كتاب الفتوح، لأحمد بن أعثم الكوفي، ج5 ص17).
وهذا عمر بن سعد بن أبي وقاص يوازن بين إثم قتل الحسين عليه السلام ومُلك الري وجرجان، ثم يختار قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، قائلاً (اللهوف في قتلى الطفوف، للسيد ابن طاووس، ص193):
فواللهِ مــا أدرى وإنـــي لصادقٌ * أُفكِّرُ في أمري على خطريــنِ
أأتركُ مُلكَ الرَّي، والرَّيُّ مُنيتي * أم أصبحُ مأثوماً بقتلِ حُســـينِ
حُسينُ ابنُ عَمِّى والحوادثُ جَمَّةٌ * ولكنَّ لي في الرَّيِّ قُرة عــينِ
يقولــــون إنَّ الله خــالـقُ جَنـَّـــةٍ * ونارٍ وتَعذيبٍ وغَل يــديـــــنِ
فإنْ صَدَقُوا بما يقولونَ إنـَّـنـــي * أتوبُ إلى الرحمن من سنتـينِ
وإنْ كَذَبُوا فُزنا بدنياً عَظيــمــةٍ * ومُلْكٍ عَقِيمٍ دَائِمَ الحـجــلـــــينِ
وإنَّ إلهَ العَرشِ يَغْفـِـــــرُ زَلَّتي * ولو كنتُ فـيــها أظـلمَ الثَّقلـينِ
ولكِنَّها الدُّنيا بِخَيْرِ مُعَــجَّـــــــلٍ * ومَا عَاقِلٌ بَاعَ الوُجُودَ بِدَيْــــنِ
وهذا سنان بن أنس يأخذ بلحية الحسين عليه السلام لما خر صريعاً على بوغاء كربلاء، فيضرب بالسيف حلقه وهو يقول: "والله إني لأجتز رأسك وأنا أعلم أنك ابن رسول الله وخيرُ الناس أماً وأبا" (بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، ج44 ص322)، ثم لما بلغوا قصر الإمارة وأدخلوا النساء والأطفال أسارى على عبيد الله بن زياد، دخل اللعين سنان يحمل رأس الحسين عليه السلام، مرتجزاً يخاطب ابن زياد:
املأ ركابي فضة أو ذهبا
أنا قتلت السيد المحجـبا
قتلتُ خيرَ النَّاس أمَّاً وأبـا
وخيرهم إذ يُنسبونَ نسبا
وها هم قومٌ اجتمعوا لقتال ابن بنت نبيهم عارفين بمقامه ومكانته، ولو كان بينهم من يجهل ولو من باب الافتراض، فإن جهله قد تبدد بعدما خطب الحسين عليه السلام في القوم مُعرِّفاً نفسه وانتسابه إلى النبي صلى الله عليه وآله وما قاله النبي في حقه وأخيه بأنهما سيدا شباب أهل الجنة، واستشهد على حديث رسول الله ببعض الصاحبة الموجودين في معسكر ابن اسعد ممن سمعوا هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلقاءً منه للحجة عليهم قبل أن يخاطبهم بقوله: "ويلكم! على ما تقاتلوني، على حق تركتُه، أم على سُنَّةٍ غَيَّرتُها، أم على شَرِيعةٍ بَدَّلتُها؟!" فيجيبه القوم: "بل نقاتلك بُغضا منا لأبيك! وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين!" ( (موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع)، لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (ع)، ص593).
بل هذا أميرهم يزيد بن معاوية، يضرب ثنايا الرأس الشريف بمخصرته، مرتجزاً (بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، ج45ص 157):
ليتَ أشياخي بِبَدرٍ شَهِــــدوا * جَزَعَ الخزرجِ مِنْ وَقعِ الأسلْ
لأهــلــوا واستهــلوا فَـــرَحاً * ولقــالـــوا يــا يزيدٌ لا تُشَــــلْ
فجزيــنـاهم بِـبَدرٍ مِثــلَـــــها * وأقمنا مِـثــلَ بَدْرٍ فــاعــتـــدَلْ
لستُ مِنْ خُنْدُفَ إنْ لَمْ أنتقِم * مِنْ بَني أَحمدَ مَا كـــان فعلْ
فالذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كذبوه عارفين بمقام نبوته وبصدق رسالته، لكن نفوسهم المريضة لم تكن لتترك أحداً يسلبهم مقام الرئاسة والسلطة أو يقف دون ثرائهم الفاحش بجهد الضعفاء من الناس، وفجورهم وملذاتهم واسترقاقهم العبيد ولهوهم مع الغلمان والنساء. فعلى دين أعداء محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم كان دين أعداء الحسين عليه السلام، وعلى دين محمدٍ مضى الحسين، فأنار العقول وأحيا الشريعة التي أرادت قريش وأدها في مهدها فخابت مساعيها بصلابة وثبات وإخلاص النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أراد بنو أمية أن يحيوا سنة آبائهم وأجدادهم، فكان دم الحسين وقود شعلة الهداية المحمدية الممتدة عبر الزمن.
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين. اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.