لقد قيل الكثير عن الأسباب المعرفية للإلحاد، فمنها ما يكمن في عدم الالتفات الى حقيقة الإيمان بالإله كضرورة لا تنفك منها البشرية، وما قيل من أن هناك أسباباً نفسية هي أخلاط وتراكمات الطفولة، تحوّلت إلى بركان متمرّد فيما بعد، وما قيل من أن الشهوات البشرية وانفلاتها هي سبب رئيس لذلك، وكذلك ما يمكن أن يقال بأنك تحتاج إلى التفاتة وعي قد غفلت عنها، ولذلك يعذرك العاذرون.
كل تلك الأسباب أو بعض منها أو غيرها، نطلق عليه بفقدان (الهدى)، نعم بحسب ما نراه كأصحاب دين سماوي، نعتقد أنك - كملحد - لست على هدى.
قبل أن تستفزك الكلمة، سأبدأ معك بأسئلة ونقاط قد تفتح أمامك باباً للتمرّد على الإلحاد وقبول التغيير، وبذلك ستكون قد اخترت طريقك بنفسك.
أعرني عقلك قليلاً..
1- عندما قرأت كلمة (الهدى) ما لذي جال بخاطرك من توصيف لهذه العبارة؟
هل ستتفق معي عليها؟، أم ستعبّر عنها بكلمة بديلة مثل (الضلال)؟ أي المعنى المعاكس لها تماماً.
وقد لا ترغب في الدخول ضمن اصطلاحات تؤطّر العقل كما قد يحلو للبعض صياغتها، فيمكن أن تطلق على كلمة (الهدى) مثلاً (الوهم) أو ما يقاربها، لتوصل رسالة لي أنك خارج ذلك التأطير المفاهيمي.
على أي خيار كان استقرارك، سأخبرك بأمر مهم جداً.
سواء وصفت ما نعتقد أنه (هداية) بالضلال أو بالوهم، ففي كلا الحالين أنت تمتلك رؤية، وهذه الرؤية جعلتك توصف نفسك أو توصفني بعبارة لها أفق معنوي، إن كنت أنا (ضالاً) أو (واهماً) أو أي وصف تختاره، فهذا يعني أنك كونت هذه الفكرة عني بناء على محدّدات استخدمتَ للتعبير عنها مفاهيم معينة.
أتعرف ما يعني ذلك؟ انك صاحب دين، لقد قال البعض أن الإلحاد هو اللا دينية، وقال بعض أنه نوع منه، كل ذلك لا يهمنا كثيراً، الأهم هي النتيجة التي خلصنا لها، وهي أنك صاحب دين، فإذا كنت تمتلك رؤية معرفية يمكنك من خلالها صياغة المفاهيم والتوصيفات التي تراها مناسبة اعتماداً على تلك الرؤية، فهذا هو الدين، لتسمه ما شئت، ولكنه دين.
2- احتفظ بتوصيفك لي، ولنأتي لصاحبك الذي يدّعي الإلحاد في شرق الأرض أو غربها، ولنسأله: ما لذي يقوله عني، بماذا سيوصفني؟ هل سيتفق معك؟ أم سيختلف في نتيجة توصيفك لي؟
إن اتفق معك، فأنتما تمتلكان منظومة معرفية وهي الدين، وإن لم تطلقوا عليه مسمّى الدين. وإن لم يتفق معك، فكل واحد منكما له توصيفه الخاص، قد تكون بالنسبة له على (هدى) وقد تكون على ضلال. هذا يثبت إما أنكما أصحاب دين، وإما أن لكليكما دينه الخاص، ويتلخّص الفرق في أنك تهرّبت من الدين ذي المنظومة الواضحة الذي يجتمع عليه العديد من الناس، وانهلت عليه بالنقد، ولجأت إلى دين شخصي واريت عنه النقد.
أتعرف ما نتيجة ذلك؟ لابد أن تواجه الأمر الذي فررت منه، إنك بحاجة لرؤية عامة تثبت بها صحة دينك، لا مفر من ذلك، فالخدعة الكبرى التي تتلخص في الإلحاد ولا يلتفت إليها من يسمون أنفسهم ملحدون، هي أنهم يتهربون من الرؤية التي تتطلب منهم البرهان، ويلجأون إلى الرؤية التي لا يسألون فيها أنفسهم عن البرهان.
ملخص الفكرة الإلحادية أن وجود الإله ووجود الدين، هو الذي يحتاج إلى الدليل، وأن الآخرين هم المطالبون بالبراهين القاطعة، أما هم فيسبحون في أجواء خدعة أنستهم أنهم مطالبون بالأدلة كغيرهم.
هل عرفت الآن لماذا يذهب البعض إلى أن الإلحاد هو تهرّب عن المسؤولية وإيغالاً في الملذات دون محددات؟ قد لا تكون من أولئك الذين تتضح لديهم الصورة بهذه الرغبات النفسية، ولكن هذه نتيجة معرفية استخلصها العقل من الفرار من الإثبات والاكتفاء بهدم المثبت.
3- أما إذا رفضت أن تكون صاحب رؤية تحت أي مسمى كان، فستتحوّل بتلقائية إلى الجانب الآخر، وهو جانب (الجهل)، وأنت تتفق معي أن الجاهل عليه أن يبحث عن العلم وعن الرؤية، لكي يسير في هذه الحياة بوضوح تام.
4- في البحث عن العلم بخصوص العقيدة الإلحادية، تتلخص في البحث عن الإله، أتدري ما فعلت عندما جعلت نفسك مقياساً للأشياء؟ إنك قرّرت أنه لا يوجد شيء يمكنك إثباته كإله وخالق لهذا الكون، لكنك لو التفت قليلاً، لعرفت أنك أثبت الإله، ولكنك قمت بتغييره، في الحقيقة لقد قمت بتأليه ذاتك، جعلت نفسك هي المحور في كل شيء، هي المرجع لكل رؤية، وقد تمر عليك هذه الفكرة وتسلّم لها دون تفكير، لأن نفس الإنسان قوية ونزعاتها عارمة، عرفت معي من خلال قراءة التاريخ أن هناك من استعبد الناس، وهناك من حكم واستكبر وطغى في الأرض فساداً.. نعم قد تنخدع بتمرير فكرة أنك محور الأفكار ومالكها، لكن كيف ستمر عليك فكرة أن تلك الشمس وذلك القمر، بل تلك النجوم وما خلفها، قد صنعتها أنت؟ أو أنها جاءت نازلة علينا من (الأرض) بلا تدبير؟!
ألم تجد - في حقيقة جدّية - أنك لم تخلقها، ولم تخلق نفسك؟!، ألم تجد أن كل ذلك التدبير الذي احتاج فيه علماء الطب أن يتعلموا التنظير، ويتعلموا التشريح، ويبحثوا ليكتشفوا بعض أسرار جسمك؛ ليقوموا بشيء من التدبير في علاج أمراضك؟ فإذا احتجت إلى العلم والتدبير في المعالجة، فكيف تنفيها عن أصل المكوّن لهذا الجسم؟
قد يعتقد بعض من يدّعون الإلحاد أن عبارة جاءت في القرآن، وهي ما نسميه آية والتي ورد فيها {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (سورة الغاشية 17 - 20)، قد يعتقدون أنها مجرد تسلية للنظر لعقول ساذجة، أو يعتقدون أنه برهان بسيط ليس فيه أي عوامل الإقناع، لكنك إن وقفت جاداً عند هذا التساؤل، وأضفت إليه عبارة أخرى من آية أخرى {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} (سورة الكهف 51)، ستحيط بك إجابة واضحة ليس من العقل أن تتهرب منها، وهي: أن كل تلك الموجودات في قمة التدبير، ولست أنت المدبّر لها، بل احتاج الإنسان إلى مزيد من التدبير لكي يعرف بعض أسرارها.
لكي يتم خداع الملحد، يلجأ المنظّر الإلحادي إلى إبعاد هذه الفكرة عن بؤرة التفكير، أو يقوم بالتشويش عليها، فحتى لو قيل لك أن انفجاراً عظيماً قد حصل ثم تكوّن الكون، عليك أن تسألهم: ومن فعل ذلك الانفجار؟
5- إنك تستخدم البراهين على وجود الله تعالى ووجود الخالق في كل حياتك، نعم إنك تطبقها باستمرار، ولكنك قد لا تتنبّه لذلك، تطبّقها على كل شيء في حياتك إلا العقيدة والإيمان بالله، فتلك البناية التي مررت بها، إنك تعترف أنها ليست ملكك ولم تقم ببنائها، وقد تثبت ببعض الأدلة أنها ليس لي أنا أيضاً، ولكن هذا لا يكفي أن تحكم بأن هذه البناية ليست لأحد، ولم يبنها أحد!
أرأيت أن المشكلة تكمن في أنك فقط لا تعرف المالك والصانع؟ عندما تصل مع هذا الكون الفسيح إلى نتيجة أن له صانعاً مدبّراً، فإنك وصلت إلى الله، لأنه لابد أن يعود إلى خالق.
أعرف أن بعض الملحدين قالوا أن العلم كلما تقدّم عرفنا الأسباب التي تدّعون أن الله هو صانعها، وهذا يعني أننا نضع الإله كفكرة محل الجهل بالأسباب، ولكن هذا معاكس لما يدّعى، ألم تسأل نفسك أن الجهل عند الإنسان والذي استمر في تبديده بالعلم هو في حقيقة الأمر إثبات أو مزيد من إثبات أن المجهولات هي أكثر من المعلومات بكثير، بل بنسبة لا يمكنها أن تقاس!
الحاجة إلى الإله ليست كما فهمها بعض الملحدين في أنه الخالق الأول وحسب، ولذا يلجأون لنقد هذه الفكرة من خلال اكتشاف الأسباب في حصول الأشياء، كلا فإن الإله هو الخالق الأول، وهو المدبّر لكل الأسباب، بل وكل المخلوقات لا تستغني عنه لحظة واحدة، فمهما عرفت من أسباب وتقنيات لاستمرار الروح في البدن، فإنك لا يمكن أن تضمن حياة أحد بتلك الأسباب ليعيش بلا موت!
الموت إذاً، حقيقة مهمة ينبغي أن تمعن التفكير فيها.
6- وختاماً.. يبدو من الضروري أن تعكف على التفكير في ما ذكرته لك تحديداً، لتجد أن العمق في الوضوح، فلا تفتش عنه في الغموض، لأن الإله إن كان قد خلقك فهو لن يعقّد عليك الطريق، غاية الأمر أن نفوسنا قد تشوش الرؤية فتحتاج إلى تذكير، وتنبيه.
وتذكّر دائماً أن العقدة تتلخّص في تلك الأفكار، أما الدخول في توصيفات للمؤمنين بالله، بأنهم لا يمتلكون أخلاقاً أو أنهم جانبوا الحرية، ولم يعرفوا معنى للكرامة، أو توصيف أحكام الدين بمثل هذه التوصيفات، فكل ذلك يؤكد أنك تقيس الأمور وتطلق الأحكام وتسن القوانين، فإن ادعيت أنها قوانين ثابتة فقد أقررت على نفسك بأنك صاحب دين أو مذهب، ولم تضمن الثبات لتلك القوانين، لأن الكثير قد اختلفوا معك، فالأفضل من ناحية تنظيم التفكير أن تركّز على موضوع الإله والدين وجوداً وقناعة، لأن الدخول في التوصيفات وإطلاق الأحكام سيدخلك في متاهات تدينك أكثر مما تخدمك.