روى الصدوق ; في العلل قال: أبي، عن سعد، عن البرقي، عن ابن فضال، عن ثعلبة، عن عمر ابن أبي نصر، عن سدير، قال: قال أبو جعفر (عليه السَّلام) ومعي ابني: يا سدير أذكر لنا أمرك الذي أنت عليه، فإن كان فيه إغراق كففناك عنه، وإن كان مقصرًا أرشدناك.
قال: فذهبت أن أتكلم فقال أبو جعفر (عليه السَّلام): أمسك حتى أكفيك إن العلم: الذي وضع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عند علي (عليه السَّلام) من عرفه كان مؤمنًا ومن جحده كان كافرًا، ثم كان من بعده الحسن (عليه السَّلام).
قلت: كيف يكون بتلك المنزلة، وقد كان منه ما كان دفعها إلى معاوية؟
فقال: اسكت! فإنه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمر عظيم.[1]
إن المفاهيم والتصورات المختزنة في ذهن الإنسان التي يحكم بها على مختلف القضايا، يتيقن كُلُّ فردٍ من أفراد العقلاء ضرورةَ استقائها من موردٍ عذبٍ لا تشوب زلالَهُ شوائبُ الزلل، إذ أن قرارات الإنسان في مختلف جوانب حياته تكون مبتنيةً على هذه المفاهيم.
وهذا المورد العذب -تحقيقًا- هو الكتاب الكريم الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[2] والسنة الشريفة التي صدرت عن سيد كُلِّ موجودٍ ما سوى الله جلَّ وعزَّ ذكره، والذي وصفه الباري (عزَّ وجلَّ) بأنه لا ينطق عن الهوى.
لست بصدد البرهنة على هذا الكلام، فهو أوضح من أن يبيَّن للمؤمنين أعزَّهم الله ورفع كلمتهم، وتحصيله يُطلَبُ من محله.
إنما أقول:
إن النفس البشرية رقيقة الطبع، سريعة التأثر بكل ما يحيطها ويقاربها، ومن ذلك التأثر: تأثرها بالمفاهيم المحيطة بها، والمروَّج لها في أوساطها.
والخبر المتقدم الذي ذكرناه من الأمثلة على ذلك:
فنرى أن سديرًا كان قد اختزن تصوُّرًا في ذهنه عن أفعال الإمام -بشعورٍ أو بلا شعور- وحكَّمه وبنى عليه، فأنكر -بمعنى تعجَّب- كون الحسن (عليه صلوات الله) ممَّن بلغ منزلة الإمامة، فقوَّمه الإمام (عليه السَّلام) وردَّه إلى الجادَّة بتنبيهه أن الإمام (عليه السَّلام) أعلم الناس، وهو أعلم بما صنع وإن لم يظهر وجه الحكمة في ذلك.
إن المحيط الذي كان فيه سدير -في ظل حكم بني أمية- والذي كان مشوَّهًا، وتروَّج فيه مثل هذه المفاهيم التي قد يُقال إنها لم تنقطع منذ زمن الحسن (عليه السَّلام)، أثَّر في سديرٍ، فاختزن مثل هذا المفهوم، وبنى عليه بناءَه على المسلَّمة التي لا ينازع فيها أحد.
ولسنا اليوم -في ظل سيادة المذاهب الفكرية الداعية للفساد بجميع أنواعه- من هذا ببعيد، فترى المؤمن الشديد في أمرهم : ينكر حكمًا فقهيًا أو مرويًا أو صفةً دون التفاته للمفهوم الذي بنى عليه إنكاره، ومن ذلك ما قد تكون شهدتَه من إنكار كثير من المؤمنين اليوم لأصل وجود الجهاد الابتدائي في الشريعة؛ لأنه مخالف لمبادئ حقوق الإنسان والحرية الشخصية لكل فرد، ومنه نفي بعضهم حُبَّ النساء عن النبي 6 في معرض جوابه عن إشكال زواجه بعدد حُرِّم على غيره 6، ولا يخفى عليك ما في الأول، فإن الشارع المقدَّس لم يجعل اعتبارًا لمثل هذه المفاهيم، وفي الثاني أنه لا شبهة أصلًا في حبه 6 للنساء، إذ هو ممَّا تُمدح به العرب، وهو مرويٌّ كما تعلم[3].
ولا يختص هذا بعامة المؤمنين، بل ترى بعض أهل العلم كذلك يقع في هذا وأمثاله، بل ربما تلقَّاه المؤمنون من بعض أهل العلم، وكُلٌّ يحكِّم مفاهيم بعيدةً كُلَّ البُعد عن الشريعة وأحكامها، وانظر على سبيل المثال لا الحصر لقضية استشهاد الحسين (عليه السَّلام)، وهذا مثال قديم حديث:
سترى -وبوضوح- تحكيم المفاهيم المختلفة، فمن أحبَّ القيام والثورات وتأثَّر ببعض الحركات، حكَّم هذا في قضية الحسين (عليه السَّلام) فأخرجه بهيئة الثائر الذي لا يقبل الظلم، والحر الأبيُّ الذي هو قدوةٌ للأحرار، بل هو أبو الأحرار، فجعله -وحاشاه (صلَّى الله عليه وآله)- وتشي جيفارا سواء!
وترى من أحبَّ السِلْمَ حكَّم هذا في قضيته (عليه السَّلام)، فأخرجه بهيئة المسكين الضعيف الذي لا يدري إلى أين يلجأ ويذهب، ولا يعرف ما يصنع، ويشير عليه فلانٌ وفلانٌ فيحير جوابًا، حتى أنَّه طلب من عمر بن سعد أن يضع يده بيد يزيد فيبايع!
وإلى غير هذا مما لا يخفى عليك، وقد يكون جميع ذلك بحسن نيَّةٍ ولا يُحمَلُ المؤمنون إلا على هذا، فلست أشنِّعُ هنا، ولا ألوم، وإنَّما أُنَبِّهُ نفسي أولًا، وأنبِّهك -سلَّمك الله من طوارق الحدثان- ثانيًا على ضرورة تطبيقِ ما ورد في أخبار مشهورة لا تخفى على أمثالك، وهو قول جملةٍ من أصحاب الصادقين: (جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي أُرِيْدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ دِيْنِي)[4].
قبل كل شيء، اعرض دينك ومفاهيمك على الصادقين (صلى الله عليهم)، ودونك الكتب الشريفة الجامعة لأخبارهم، والمتتبِّعةَ لآثارهم، فاستنطقها تُحَدِّثْك، واسْتَهْدِهَا تَهْدِكَ، واستعلمْها تُعَلِّمْكَ، وارجع إلى رعاة أخبارهم وحملة آثارهم ممَّن وعاها ودراها، هداني الله وإياك لسبيل الرشاد، وجعلنا ممّن يأخذ بحجزتهم يوم التناد، وجعل بيننا وبين الحكمة نسبًا، وسبَّب لنا إلى السعادة سببًا، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
...........................
[1] علل الشرايع للشيخ الصدوق، ج١، باب ١٥٩: العلة التي من أجلها صالح الحسن بن علي (صلوات الله عليه) معاوية بن أبي سفيان وداهنه ولم يجاهده، ص٢١٠.
[2] سورة فصلت: ٤٢.
[3] الكافي، كتاب النكاح، باب حب النساء: ح١، ح٣، ح٥، ح٧.
[4] منها: خبرالسيد عبد العظيم الحسني، رواه الشيخ الصدوق في التوحيد وكمال الدين والأمالي وصفات الشيعة.
ومنها: خبر الحسن بن زياد العطار في رجال الشيخ الكشي، وغيرها.