نادر الملاح
6 محرم 1444 هـ، 5 أغسطس 2022
في إطار حركته لصناعة ثقافة المجتمع الرباني المتحضر، أكد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بالقول والفعل والتقرير، أهمية التصدي للبِدَع ومحاربتها، فقال صلوات الله وسلامه عليه: "إن أفضل الهدى هدى محمد، وخير الحديث كتاب الله، وشر الأمور محدثاتها، ألا وكل بدعةٍ ضلالة، ألا وكل ضلالة ففي النار" (جامع أحاديث الشيعة، للسيد البروجردي، ج14 ح3044 ص442). وقال: "اتبعوا ولا تبتدعوا فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" (ح3047)، و"معاشر الناس إني راحلٌ عن قريب، ومنطلقٌ إلى المغيب، أوصيكم في عترتي خيرا، وإياكم والبدع فإن كل بدعة ضلالة، ولا محالة أهلها في النار" (ح3048)، و "من أدى إلى أمتي حديثا يقام به سنة أو يثلم به بدعة فله الجنة" (بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، ج2 ص152). وقال وصيه الأمين، أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في خطبته المعروفة بالديباج: "واعلموا أن خير ما لزم القلبَ اليقين، وأحسن اليقين التقى، وأفضل أمور الحق عزائمها، وشرها محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبالبدع هدم السُّنن. المغبون من غَبَنَ دِينَه، والمغبوط من سَلِمَ لهُ دِينُه، وحَسُنَ يقينه، والسَّعيد من وُعِظَ بغيره، والشقي من انخدع لهواه" (جامع أحاديث الشيعة، للسيد البروجردي، ج14 ح3050 ص443)، وقال أيضاً: "وما أُحدِثَتْ بِدعةٌ إلا تُرِكَ بها سُنَّة، فاتقوا البِدَع والزموا المَهْيَع [أي الطريق البيِّن الواضح]. إن عوازم الأمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها" (ح3051)، وقال: "من مشى إلى صاحب بدعة فوقره فقد سعى في هدم الإسلام" (ح3056)، وقال: "من تبسم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم الإسلام" و"من أحدث في الإسلام أو آوى مُحْدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (ح3059). وما هذا إلا يسيرٌ من سيل ما نُقل عن الرسول الأكرم ووصيه الأمين صلوات الله وسلامه عليه وآله الطيبين الطاهرين، في شأن البِدَع ومسؤولية محاربتها وفضحها لأن في بقائها أو التغاضي عنها هدم الدِّين. والبدعة في اللغة كما عرَّفها الخليل بن أحمد الفراهيدي: "إحداثُ شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة"، والراغب في مفرداته: "الإبداع هو إنشاء صفةٍ بلا احتذاء واقتداء"، ومن ذلك كان من أسماء الله الحسنى "البديع"، وهو الذي فطر الخلق مُبدعاً لا على مثال سابق. وهذا التعريف اللغوي يشمل كل جديد لم يكن له مماثل سواء أكان في الدين أم في العادات أو حتى في المأكل والمشرب والملبس والصناعات وغيرها من الممارسات الحياتية عند الناس، وهو ما لا يقول به الاصطلاح الديني، الذي يحصر البدعة التي ورد النص بتحريمها في إيراد قولٍ أو فعلٍ لم يُستَنَّ فيه بصاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه وأصولها المتقنة. أو بتعبير آخر كل ما استُحدِث في الدين وليس له في الدين أصل. وقد عرَّفها السيد المرتضى رضوان الله تعالى عليه بأنها: "الزيادة في الدين أو نقصان منه من غير إسناد إلى الدين" (الرسائل، للشريف المرتضى، ج3 ص83).
فواضح البيان من أقوال النبي الأكرم والأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أن البِدعة ضِدٌّ يقابل السُّنة، والضدان وفق أصول المنطق لا يجتمعان، ولكن يرتفعان، بمعنى أنه لابد من وجود أحدهما ولا يمكن أن يوجد كلاهما معاً، فإذا وُجد أحدهما انعدم الآخر. وهذا يعني أن البدعة ترفعُ السُّنة، وهو ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد صرَّح به بصريح الكلام. من هنا، فإن محاربة البِدعِ هي إحياءٌ للسُّنة، وتركُ البدعة هو تفريطٌ في السُّنة، والتمادي في هذا الترك إنما هو إماتةٌ للشريعة والمنهج السماوي المحمدي.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وآله قد صَرَّح بالقول في شأن أَمَد الخلافة، حيث قال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً" -كما بينا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة البحثية- فميَّز بين الخلافة والمُلك تمييزاً واضحاً بأن نسب الخلافة إلى نفسه المقدسة (الخلافة بعدي)، ثم جاء بالمُلك كمنهج يحل محل الخلافة (ثم تكون مُلكاً)، جاعلاً بذلك (المُلك) الذي يلي الخلافة بدعةً واضحةً يكون معها ذهاب سنته الشريفة، وما سُنَّتُه إلا شرع الله جل في علاه، كانت ثورة الحسين عليه السلام ضد يزيد ثورة إصلاحٍ تحارب البدعة لتُعيد الأمور إلى مسارها الصحيح، وهو ما جاء بيانه بصريح الكلام: "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي".
ولم يكن حراك الحسين عليه السلام في هذا السياق وليد الثورة ضد يزيد، بل كان دأبه صلوات الله وسلامه عليه دأب النبي الأكرم ودأب أمير المؤمنين ودأب أخيه الحسن صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حيث كان يؤسس لهذه الثقافة المحمدية في مدينة جده صلوات الله وسلامه عليه، فيبين للناس أهمية محاربة البدع، ويرشدهم إلى كيفية التعامل مع أهل البدع، كما في قوله عليه السلام: "لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحدٍ منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: المرء على دين خليله وقرينه" (جامع أحاديث الشيعة، للسيد البروجردي، ج14 ح3054 ص443). وقوله عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم أهل الرِّيَبِ والبِدَع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سَبِّهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة" (ح3055)، وغير ذلك مما لا يتسع المقام لذكره.
وتأكيداً على مشروعية ثورته عليه السلام من هذا المنطلق عملاً بسنة ومنهج سيد الأنبياء والمرسلين، فقد حرص عند مخاطبة الجيش الذي اجتمع لقتله على بيان هذه المشروعية حيث قال: "ويلكم! على مَ تقاتلوني، على حق تركتُه، أم على سُنَّةٍ غَيَّرتُها، أم على شَرِيعةٍ بَدَّلتُها؟!" (موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع)، لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (ع)، ص593).
فمحصلة القول إذن، أن ثورة الحسين عليه السلام إنما كانت امتثالاً لأمر الله تعالى على لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في وجوب محاربة البدع وأهلها، وما مُلك بني أمية إلا بدعةً كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قد أشار إليها صراحةً. ولما كانت البدعةُ رافعةً للشريعة المحمدية، كانت محاربة البدعة إحياءً لتلك الشريعة كما كان قد عبَّر عنها الصادق الأمين: "وأنا من حسين". فلولا هذه النهضة الحسينية لما كان لشريعة محمد صلى الله عليه وآله من وجود.
ولعل قائلاً يقول: إن الحسين قد خسر المعركة واستمر ملك بني أمية الذي تناقلته الأيادي الآثمة يداً عن يد، فأين هو إحياء الدين الذي تزعمون؟! وعلى هذا القول نجيب بأن الخسارة المادية المتمثلة في قتل الحسين وأهل بيته وأصحابه ليست مقياساً يكون بموجبه الانتصار ليزيد وأتباعه، وإنما المقياس الحقيقي هو الصحوة الدينية وعودة الكثير من الناس إلى الفطرة السليمة بفضل تضحية الحسين عليه السلام، الذي لايزال ذِكره وذِكر ثورته، فضلاً عن التمسك بنهجه عليه السلام يقض مضاجع الظالمين، فيُسخِّرُون الأموال والطاقات لإخفاء هذه الذكرى، مرةً بالتعتيم والإنكار وأخرى بالترهيب، والإجبار، وثالثة بالتشويه، والتحريف. نعم، إن إحياء ذكرى الثورة الحسينية بعد ألف وثلاثمائة وثلاثة وثمانين سنة حتى الآن، في جميع أصقاع الكرة الأرضية، في المشرق والمغرب والشمال والجنوب، هو انتصار لا يقبل التأويل، وهو عين ما بشَّرت به عقيلة آل أبي طالب في خطبتها الشريفة في مجلس يزيد، حيث قالت: "أظننت يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساقُ كما تُساق الأسارى أنَّ بنا على الله هَواناً وبك عليه كرامة؟ وأن ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمختَ بأنفك، ونظرتَ في عَطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلاً مهلا، أنسيتَ قول الله تعالى (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين)…" إلى أن قالت: "فكِدْ كيدك، واسعَ سَعيك، وناصِبْ جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميتُ وحينا، ولا تُدركُ أمَدَنا، ولا تَرْحَضُ عنكَ عَارَها. وهل رأيكَ إلا فَنَدْ، وأيامُكَ إلا عَدَدْ، وجَمْعُكَ إلا بَدَدْ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين، فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يُكمل لهم الثواب، ويُوجِبَ لهم المزيد، ويُحْسِنُ علينا الخلافة، إنه رحيمٌ ودود، وحسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيل" (بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، ج45 ص133-135).
نعم، لاتزال البدع قائمة، بل ومتجددة، ولايزال أهل البدع يعيثون في الأرض وفي الدين فساداً، وهذا ما يستلزم التمسك بالسير على المنهج المحمدي القويم الذي كانت من أجله التضحية الحسينية بدم آخر ابن بنت نبي على وجه الأرض، لترسم منهج الدين المحمدي في مقاومة بدع الضلال، والذي أضعف الإيمان فيه كما قال سيدنا ومولانا ومقتدانا الحسين بن عليهما السلام: "إذا رأيتم أهل الرِّيَبِ والبِدَع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سَبِّهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم".
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين. اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.