بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما هو حكم المُغمى عليه ليومٍ أو أكثر هل يجبُ عليه القضاء بعد ذلك؟ وهل هناك فرق بين ما إذا كان الإغماء من غير اختيار وبين ما إذا كان الإغماء بسبب التخدير للعلاج؟ وماذا لو توفي المغمى عليه قبل أن يفيق من غيبوبته هل يجب القضاء عنه؟
الجواب:
المشهور بين الفقهاء (رضوان الله عليهم) هو أنَّ الإغماء القهري المستوعِب للوقت موجب لسقوط القضاء، فلا يجب على المغمى عليه في هذا الفرض قضاء الصلوات التي فاتته في ظرف الإغماء نعم يلزمه قضاء ما فاته بعد الإفاقة وقبل خروج الوقت.
مستندُ المشهور في البناء على عدم وجوب القضاء
ومستندُ المشهور في البناء على عدم وجوب القضاء في فرض الإغماء المستوعِب للوقت رواياتٌ عديدة، وفيها ما هو معتبرٌ سنداً:
منها: صحيحة علي بن مهزيار قال: "سألتُه عن المغمى عليه يوماً أو أكثر هل يقضي ما فاته من الصلاة أم لا؟ فكتب (عليه السلام): لا يقضي الصوم، ولا يقضي الصلاة"[1].
ومنها: صحيحة أيّوب بن نوح "أنّه كتب إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) يسألُه عن المغمى عليه يوماً أو أكثر هل يقضي ما فاته من الصلوات أو لا؟ فكتب (ع): لا يقضي الصوم، ولا يقضي الصلاة"[2].
ومنها: صحيحة الحلبي "أنّه سأل أبا عبد اللَّه (عليه السلام) عن المريض هل يقضي الصلوات إذا أُغمي عليه؟ فقال: لا، إلّا الصلاة التي أفاقَ فيها"[3].
ومنها: صحيحة أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال: "سألته عن المريض يُغمى عليه ثم يفيقُ كيف يقضي صلاته؟ قال: يقضي الصلاة التي أدرك وقتها"[4].
فالروايات الثلاث الأولى صريحةٌ في نفي وجوب القضاء عن المغمى عليه في تمام الوقت، والرابعة ظاهرة في نفي وجوب القضاء، إذ أنَّ تخصيص الإمام(ع) -وهو في مقام البيان لما يجب قضاؤه على المغمى عليه- تخصيصه إيجاب القضاء بفرض إدراك الوقت بعد الإفاقة مقتضٍ لاستظهار عدم وجوب قضاء الصلوات التي خرج وقتها قبل الإفاقة.
الروايات المُثبتة للقضاء:
وفي مقابل هذه الروايات ثمة روايات بعضها ظاهر في وجوب قضاء جميع ما فات المغمى عليه من الصلوات مثل صحيحة رفاعة عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) قال: "سألتُه عن المغمى عليه شهراً ما يقضي من الصلاة؟ قال: يقضيها كلَّها، إنَّ أمرَ الصلاةِ شديد"[5].
وبعضها أفاد بأنَّه يجب قضاء صلوات ثلاثة أيام ممَّا فاته أثناء الإغماء مثل صحيحة أبي بصير قال: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): رجل أُغمي عليه شهراً أيقضي شيئاً من صلاته؟ قال: يقضي منها ثلاثة أيّام"[6].
وبعضها أفاد بأنَّه يجب قضاء صلوات يومٍ واحدٍ ممَّا فاته مثل صحيحة حفص عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) قال: «سألتُه عن المُغمى عليه، قال فقال: يقضي صلاة يوم"[7].
وهنا رواية ذكرت تفصيلاً آخر مفاده أنَّ الإغماء إذا تجاوز الثلاثة أيام لم يجب القضاء مطلقاً، وإذا لم يتجاوز الثلاثة أيام وجب القضاء لجميع ما فات من الصلوات، هذه الرواية هي موثقة سماعة قال: "سألته عن المريض يغمى عليه، قال: إذا جاز عليه ثلاثة أيّام فليس عليه قضاء. وإذا أُغمي عليه ثلاثة أيّام فعليه قضاء الصلاة فيهنّ"[8].
معالجة اختلاف الروايات:
هذا وقد اختلف الأعلام في كيفيَّة المعالجة لهذا التعارض بين الروايات فحمل بعضهم الروايات المثبتة للقضاء كصحيحة رفاعة على التقية وذلك لموافقتها لمذهب العامَّة إلا أنَّ الصحيح كما عليه المشهور هو تعيُّن حمل الروايات المثبتة للقضاء على الاستحباب، وذلك لإمكان الجمع العرفي بين الروايات فلا تصل النوبة لمعالجة الاختلاف بينها بمرجحات باب التعارض.
وبيان ذلك أنَّ الروايات النافية للقضاء مطلقاً صريحة في نفي وجوب القضاء على المغمى عليه وأما الروايات المثبتة للقضاء مطلقاً أو في الجملة فهي لا تعدو الظهور في إيجاب القضاء فيكون المقام من تعارض الصريح مع الظاهر ومقتضى الجمع العرفي في مثل الفرض هو حمل الظاهر على الصريح وهو يقتضي رفع اليد عن ظهور الأمر بالقضاء في الوجوب وحمله على إرادة الاستحباب، وأما اختلاف الروايات المثبتة في مقدار ما يُقضى فهو محمول على التفاوت في الفضل فقضاء جميع ما فات من صلوات هو الأفضل ويليه في الفضل قضاء ثلاثة أيام وهكذا.
الإغماء الناشئ عن اختيار:
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ الصحيح هو ما أفاده المشهور من عدم وجوب القضاء مطلقاً في على المُغمى عليه إذا كان الإغماء مستوعباً للوقت وحصل اتفاقاً ودون اختيار، وأما لو نشأ الإغماء عن اختيار المكلَّف بأنَّ استعمل عن علمٍ وعمدٍ ما يُوجب الإغماء ففي سقوط القضاء عنه خلاف فثمة مَن ذهب إلى عدم سقوط القضاء في هذا الفرض مطلقاً، وثمة من ذهب إلى سقوطه مطلقاً ولعلَّ ذلك هو مذهب المشهور وهناك من ذهب إلى التفصيل بين ما إذا كان اختياره لما يوجب الإغماء وقع على وجه المعصية ففي مثل هذا الفرض يجب القضاء وبين ما إذا وقع ذلك منه اضطراراً كما لو كان مريضاً فاحتاج إلى استعمال المخدِّر للعلاج ففي مثل هذا الفرض لا يجب القضاء.
مستند القائلين بسقوط القضاء عن المغمى عليه اختياراً:
أمَّا مستندُ القائلين بسقوط القضاء مطلقاً فهو إطلاق ما دلَّ على عدم وجوب القضاء على المغمى عليه، فإنَّ مقتضاه عدم التفصيل بين الإغماء لسببٍ قهري والإغماء لسببٍ اختياري.
وأجيب عن ذلك بمنع ظهور الروايات في الإطلاق، وذلك لانصراف مفروضها إلى الاغماء الشائع والمتعارف وهو الاغماء القهري، وأمَّا الإغماء الناشئ عن عمدٍ واختيار فإنَّ الروايات ليست ظاهرة في أنَّها بصدد البيان لحكمه فهي منصرفة عن هذا الفرض.
ولذلك فالمتعيِّن في مثل هذا الفرض هو الرجوع إلى ما دلَّ على وجوب القضاء فإنَّ موضوع أدلَّة وجوب القضاء هو فوت الفريضة بخروج وقتها، وهذا الموضوع متحقِّق في مثل المغمى عليه في تمام الوقت، فالقاعدة مقتضية لوجوب القضاء على المغمى عليه مطلقاً خرجنا عن ذلك في فرض الإغماء القهري لوجود الروايات النافية لوجوب القضاء في هذا الفرض فيبقى ما عداه مشمولاً لقاعدة وجوب القضاء على من فاته الأداء في الوقت.
إلا أنَّ الصحيح هو عدم تماميَّة دعوى الانصراف فإنَّ مثل هذا الانصراف ناشئ عن غلبة الوجود وإلا فموضوع الروايات النافية لوجوب القضاء هو المغمى عليه الصادق عرفاً على مطلق من وقع عليه الإغماء بقطع النظر عن سببه.
وجهٌ آخر لعدم سقوط القضاء عن المغمى عليه اختياراً:
وثمة وجهٌ آخر يُمكن التمسُّك به لعدم سقوط القضاء في فرض الإغماء لسببٍ اختياري، وحاصل هذا الوجه هو أنَّ عدداً من الروايات علَّلت سقوط القضاء عن المغمى عليه بأنَّ ما غلب اللهُ عليه فهو أولى بالعذر ومقتضى ذلك هو تقيُّد سقوط القضاء عن المغمى عليه بمورد وجود العلَّة فإنَّ ظاهر التعليل هو دوران الحكم مدار وجود العلَّة، فلأن المغمى عليه لسبب اختياري فاقد لعلَّة الحكم بسقوط القضاء عنه إذ أنَّ الإغماء في مورده ليس هو مما غلب الله عليه بل هو ناشئ عن اخيار المكلَّف لذلك يكون المتعين في هذا الفرض هو الرجوع إلى ما دلَّ على وجوب القضاء على كلِّ مكلفٍ فاته الأداء للفريضة في وقتِها.
وببيانٍ آخر: إنَّ تعليل بعض الروايات سقوط القضاء عن المغمى عليه بأنَّ ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر إنَّ تعليل بعض الروايات سقوط القضاء بذلك يمنع من ظهور الروايات المجردة عن ذكر التعليل في أنَّ المغمى عليه هو تمام الموضوع فهي إنْ لم تكن موجبة لظهور هذه الروايات في أنَّ موضوعها المغمى عليه قهراً فلا أقلَّ من عدم ظهورها في الإطلاق، إذ لا معنى -كما أفاد السيد الخوئي[9]- لتعليل سقوط القضاء بما غلب الله عليه لو كان الحكم بسقوط القضاء ثابت لطبيعي المغمى عليه الشامل للإغماء الاختياري.
فالصحيح هو عدم ثبوت سقوط القضاء عن المغمى عليه اختياراً وذلك لعدم ظهور الروايات النافية للقضاء في الإطلاق الجدِّي بعد تصدِّي بعض هذه الروايات لتعليل سقوط القضاء بما غلب الله عليه.
تمامية الروايات المشتملة على التعليل بما غلب الله:
نعم ينعقد للروايات النافية للقضاء ظهور في الإطلاق لو كانت الروايات المشتملة على التعليل ضعيفة السند وفاقدة للاعتبار إلا أنَّ الأمر ليس كذلك، فثمة بعض الروايات المشتملة على التعليل معتبرةٌ سنداً:
منها: معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا(ع): ".. وكذلك كل ما غلب الله عليه مثل المغمي الذي يغمى عليه في يوم وليله فلا يجب عليه قضاء الصلوات"[10].
فالرواية صريحة في سقوط القضاء وظاهرة في أنَّ علة سقوط القضاء هو أنَّه مما غلب الله عليه، والرواية معتبرة من حيث السند فإنَّ طريق الشيخ الصدوق إلى الفضل بن شاذان المشتمل على عبد الواحد بن عبدوس وابن قتيبة تامٌّ سنداً فإنَّ ابن عبدوس من مشايخ الصدوق وقد ترضَّى عليه ونعت طريقاً مشتملاً عليه بقوله: وحديث عبد الواحد بن محمد بن عبدوس عندي أصح وأما ابن قتيبة فهو من المعاريف ولم يرد فيه قدح بل مدحه الشيخ الطوسي بالفاضل وأفاد النجاشي أنَّه معتمد الكشي في كتاب الرجال، وهو راوية الفضل بن شاذان وهو ما يعبر عن الاختصاص فهذه القرائن مجتمعة تُورث الوثوق بوثاقته.
ومنها: معتبرة موسى بن بكر قال: قلتُ لأبي عبد اللَّه (عليه السلام): الرجل يغمى عليه يوماً أو يومين أو الثلاثة أو الأربعة أو أكثر من ذلك، كم يقضي من صلاته؟ قال: ألا أُخبرك بما يجمع هذه الأشياء، كلّ ما غلب اللَّه عليه من أمر فاللَّه أعذر لعبده"[11].
فإنَّ الواضح من جواب الإمام (ع) هو سقوط القضاء لأنَّ المورد من صغريات ما غلب الله عليه، والرواية معتبرة وليس في سندها إشكال إلا من جهة محمد بن سنان وهو ثقة.
ومنها: صحيحة علي بن مهزيار، أنَّه سأله -يعنى: أبا الحسن الثالث (عليه السلام)- عن هذه المسألة -يعنى: مسألة المغمى عليه- فقال: لا يقضى الصوم ولا الصلاة، وكلَّما غلب الله عليه فاللهُ أولى بالعذر"[12].
فإنَّ الواضح من الرواية أنَّ الذيل قد سِيق لغرض تعليل الحكم بعدم وجوب القضاء على المغمى عليه وأنَّ هذا المورد من صغريات ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر ودعوى أنَّ القضاء بعد الإفاقة ليس ممَّا غلب الله عليه وإن كان صحيحاً إلا أنَّ الواضح من مساق الرواية هو إرادة القول أنَّ الأداء ممَّا غلب الله عليه فكان ذلك سبباً لسقوط القضاء. ولو لم يكن ذلك هو مفاد التعليل لم يكن داع لذكره، إذ أنَّ الحكم الوارد في الصدر ليس مورداً حينئذٍ للتعليل وهو خلاف الظاهر من تذييل التعليل للحكم الوارد في الصدر.
والمتحصَّل أنَّ اشتمال بعض الروايات المعتبرة على تعليل نفي القضاء عن المغمى عليه بأنَّه ممَّا غلب الله عليه يمنع من انعقاد ظهور الروايات -النافية للقضاء عن المغمى عليه- في الإطلاق الجدِّي، وذلك يقتضي البناء على عدم سقوط القضاء عن المغمى عليه إذا نشأ الإغماء عن اختيار المكلَّف.
وما ذكرناه يتبيَّن حكم القضاء عن المغمى عليه لو مات قبل الإفاقة فإنَّه لا يجب القضاء عنه لو كان الإغماء قهرياً، أما لو نشأ الإغماء المستوعب عن اختيار المكلَّف فمات قبل الإفاقة فإنَّه بعد البناء على عدم سقوط القضاء عليه يكون القضاء عنه من قِبل ولده الأكبر لازماً.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
20 / صفر / 1444ه
17 / سبتمبر / 2022م
.....................................
[1] - وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج8 / ص259
[2] - وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج8 / ص259
[3] - وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج8 / ص259
[4] - وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج8 / ص262
[5] - وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج8 / ص265
[6] - وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج8 / ص266
[7] - وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج8 / ص266
[8] - وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج8 / ص265
[9] - المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج16 / ص93
[10] - وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج8 / ص260
[11] - وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج8 / ص260
[12] - وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج10/ ص227