نادر الملاح
7 محرم 1444 هـ، 6 أغسطس 2022
أراد الله تعالى في صياغة شريعته التي ارتضاها لعباده أن تكون منظومةً متكاملةً من القيم الإنسانية السامية، التي تؤهل بني آدم لموقع خلافة الله في أرضه كما أراد لها جل شأنه حيث قال عز من قائل: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً…" (البقرة:30). لذا، كان لبعض تلك القيم، نظراً لما لها من أهمية في تحقيق الخلافة الحقة، اهتمامٌ خاص انعكس في امتداحها في كتاب الله المجيد، الذي هو دستور الإنسانية باعتباره خاتم الكتب السماوية والمهيمن عليها "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ…" (المائدة:48)، وفي سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أوصيائه من بعده، وخُلَّص صحابته الأجلاء رضوان الله تعالى عليهم. يأتي على رأس هذه القيم الإخلاص والإيثار. قال تعالى: "إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء:146)، وقال جل شأنه: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الحشر:9). ونقل الريشهري في ميزان الحكمة (ج1 ص18) عن صاحب تنبيه الخواطر أنه لما بات علي بن أبي طالب عليه السلام على فراش النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، أوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل: إني آخيت بينكما وجعلت عمر الواحد منكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يُؤْثِرُ صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله عز وجل إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه فيؤثره بالحياة؟! فأنزل الله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ" (البقرة:207).
وقد زخرت سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالكثير من المواقف التي جسَّد فيها الإيثار تجسيداً عملياً، منها على سبيل المثال لا الحصر ما روت زوجه عائشة بنت أبي بكر أنه "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شاء لشبع، ولكنه كان يؤثر على نفسه" (تنبيه الخواطر وتنزيه النواظر، لأبي الحسين ورّام بن أبي فراس، ج1 ص172). واشترى أمير المؤمنين عليه السلام في يوم من الأيام ثوباً فأعجبه، فتصدق به وقال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة الجنة" (ميزان الحكمة، لمحمد الريشهري، ج1 ص18). وجاء في غرر الحكم عن باب علم رسول الله أمير المؤمنين عليهما السلام: "المؤثرون من رجال الأعراف"، و"من آثر على نفسه بالغ في المروة"، و"لا تكمل المكارم إلا بالعفاف والإيثار"، و"غاية المكارم الإيثار".
والإيثار هو تفضيل الغير على النفس رغم استحقاق النفس، وهو صفة لتصرفٍ يقوم به شخص لا يعود بالفائدة المادية عليه، بل على غيره. وينبغي الالتفات هنا إلى أن الإيثار يختلف عن الواجب أو الولاء، ذلك أن مفهوم الإيثار يتمركز حول الدوافع التي تقود إلى عمل الخير للآخرين دون مقابل، بينما يدور مفهوم الواجب حول الالتزام الأخلاقي تجاه شخص، أو مجتمع، أو مؤسسة، أو تشريع، أو غير ذلك. كما يختلف الإيثار عن المواساة في أن المواساة هي أن يُنزل الإنسان غيره منزلة نفسه في النفع له والدفع عنه، بينما الإيثار أن يُقدِّم غيره على نفسه. والإيثار نتيجة العِفَّة التي هي من فضائل النفس الكمالية، وشعبة من شعب الجود الذي هو أفضل خُلُقٍ وسجية، فالمُؤْثِرُ بالضرورة عفيفٌ جواد. قال رشيد الوطواط في غرر النصائح الواضحة (ص234): "ويقال مراتب العطاء ثلاثة: سخاء وجود وإيثار؛ والسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر، والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل، والإيثار إعطاء الكل من غير إمساك لشيء وهذه أشرف المراتب وأعلاها وأحقها بالمدح، فإن إيثار المرء غيره على نفسه أفضل من إيثار نفسه على غيره وكفى بهذه الخلة شرفاً مدح الله تعالى أهلها بقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)".
وكما كانت سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة أمير المؤمنين عليه السلام، وسيرة الإمام الحسن بن علي عليه السلام، كانت سيرة الإمام الحسين عليه السلام، تجسيداً عملياً لهذه الخصلة الشريفة. وكفى بمواقفه العظيمة في يوم العاشر دلالةً على تأصل هذه الخصلة، حيث لما انفرد الحسين عليه السلام في الميدان بعد مصارع أصحابه وأهل بيته، تقدمت كتيبة من معسكر عمر بن سعد نحو مخيم الحسين عليه السلام، ولم يكن في المخيم غير النساء والأطفال وزين العابدين الذي كان عليلاً لا يقوى على الحركة، فصاح الحسين عليه السلام: "ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم أعرابا"، فقال شمر بن ذي الجوشن: "ما تقول يا ابن فاطمة؟!"، فقال الحسين عليه السلام: "أقول، أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيا"، فقال شمر: "لك هذا"، ثم صاح بجنوده: "إليكم عن حرم الرجل، فاقصدوه في نفسه، فلعمري لهو كفوٌ كريم" (بحار الأنوار، ج45 ص51). ولما حمل الحسين عليه السلام على العسكر، وبددهم عن جانب المشرعة، وأقحم الفرس على الفرات، وأولغ الفرسُ برأسه ليشرب الماء، قال عليه السلام: "أنت عطشان وأنا عطشان، والله لا ذقتُ الماء حتى تشرب". (بحار الأنوار، ج45 ص51).
ولا غرابة في مواقف الإيثار من الحسين عليه السلام، الذي اختار المضي على دين جده وأبيه صلوات الله وسلامه عليهما، بعدما سَطَّر أصحاب الحسين رضوان الله تعالى عليهم ملاحم في الإيثار كان ختام كلٍّ منها فناء أرواحهم دفاعاً عن عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن شريعته السمحاء. وإذا كان هذا شأن الأصحاب، فما عسى من يتأمل مواقف أبي الفضل العباس عليه السلام في تلك الأحداث؟! فقد روى أرباب المقاتل والسير أنه لما أذن الحسين عليه السلام لأخيه العباس بمقارعة القوم لإحضار الماء للنساء والأطفال، حمل أبو الفضل على القوم وهو يرتجز:
لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رَقَا
حتى أُواري في المصاليتِ لِقَى
نَفسي لنفس المصطفى الطهرِ وِقَا
إنِّي أنا العباسُ أغدو بالسِّقا
ولا أخافُ الشرَّ يومَ المُلتقى
ثم لما كشف العسكر عن شاطئ الفرات، نزل إلى الماء وملأ القربة، واغترف غرفة من الماء ليشرب ثم رمى بها قائلاً:
يا نفسُ من بعد الحسينِ هُوني
وبَعدَهُ لا كنتِ أو تكوني
هذا الحسينُ وارِدُ المَنُونِ
وتشربين باردَ المَعِينِ!
تاللهِ ما هذا فِعَالُ ديني
ولما خرج من شاطئ الفرات قاصداً المخيم ليسقي النساء والأطفال، اعترضه الجند مجدداً، فأخذ يقاتلهم حتى كمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة فضرب العباس على يمينه فأخذ السيف بشماله وحمل على القوم وهو يرتجز:
واللهِ إنْ قطعتُمُ يميني
إنِّي أُحامي أبداً عن دِيني
وعَنْ إمامٍ صَادقِ اليقينِ
نَجْلُ النَّبي الطاهرِ الأمينِ
فقاتل حتى كمن له حكيم بن الطفيل فضربه على شماله فقطعها، فصاح العباس عليه السلام:
يا نفسُ لا تَخشي مِنَ الكُفارِ
وأبشري برحمةِ الجَبَّارِ
مع النبي السيدِ المُختارِ
قد قطعوا ببغيِهِمْ يَساري
فأصْلِهِمْ يَا رب حَرَّ النَّارِ
ثم كمن له آخر فضربه بعمود من حديد على رأسه فقتله. فلما رآه الحسين عليه السلام صريعاً، أنشأ يقول:
تَعَدَّيتُم يا شَرَّ قَــــومٍ بِبَغْــيِـــكُـــمْ * وخالفتُمُ دِيــنَ النَّــبي مُـحَــمَّــدْ
أمَا كان خَيرُ الرُسْلِ أوصاكُمْ بِنا * أمَا نَحْنُ مِنْ نَسْلِ النبي المُسَدَّدْ
أمَا كـانت الـزَّهراءُ أُمِّي دُونَـكُمْ * أمَا كانَ مِنْ خَيرِ البَريَّةِ أحـمــدْ
لُعِنْتُمْ وَأُخْزيتُمْ بِمَا قَدْ جَنَــيــتُـــمْ * فســوفَ تُلاقوا حَرَّ نَارٍ تُـوقَـــدْ
وهنا التفاتة لابد من الإشارة إليها، وهي أن معظم الخطباء في ذكرهم لمصرع أبي الفضل العباس عليه السلام، يوردون ضمن ذكرهم نزول أبي الفضل إلى الماء أنه (اغترف غرفة من الماء ليشرب ثم ذكر عطش الحسين (ع) فرمى بها وقال: يا نفس من بعد الحسين هوني… الخ). وهم في هذا النقل يلتزمون بما نقل أرباب المقاتل كأبي مخنف الأزدي وغيره. إلا أننا نرى أن هذا الوصف من الناقل للحدث إنما جاء وفق ما تصوره مَنْ رأى المشهد لا مِنْ حقيقة المشهد نفسه. فالعباس عليه السلام لم يكن لينسى عطش الحسين، ولم تكن نفسه ضعيفةً حتى ينسى ولو لبرهة ما عليه الحسين وما عليه النساء والأطفال من عطش فيبادر إلى شرب الماء، ثم يتذكر ذلك العطش فيتراجع. كيف يكون ذلك أصلاً والعباس بحسب ما هو ثابت في كتب المقاتل والسير قد جَهِد في طلب الرخصة من الحسين لجلب الماء للأطفال؟! بل كيف يكون ذلك وقد كان غرضه الوحيد في حملته هو جلب الماء لأطفال بيت النبوة؟! وكيف يكون ذلك وقد كان يرتجز "إنِّي أنا العباسُ أغدو بالسِّقا * ولا أخافُ الشرَّ يومَ المُلتقى)؟! نعم، يمكن لمن يرى المشهد من بعيد أن يتصور ما فعله العباس عليه السلام بأنه قد هَمَّ بشرب الماء لكنه رماه من يده، فيفسر ذلك بأنه تذكر عطش الحسين والنساء والأطفال فأحجم عن شرب الماء، لكن لنا أيضاً أن نفسِّر، لاسيما في ضوء التفاصيل الدقيقة التي أوردها ذات الناقلين، وما تضمنته تلك التفاصيل من كلمات وأراجيز، وفي ضوء ما كان يتنادى به القوم وهم يحاولون منعه من النزول إلى الماء بأن لا تتركوه يشرب، فإن شرب من الماء أفناكم عن آخركم، بأن العباس عليه السلام أراد أن يوصل رسالةً إلى القوم يُظهر فيها رباطة جأشه أمام ضعف نفوسهم الدنية التي آثرت قتل الحسين عليه السلام لقاء حفنة من المال أو منصب أو جاه، فاغترف غرفةً من الماء بيده وقرَّبها إلى فمه الشريف ليرى هؤلاء الحمقى أنه لم يبلغ النهر فقط بل إن الماء قد بلغ فاهُ لكن إخلاصه وإيثاره يمنعه من أن يتقدم على إمامه الحسين عليه السلام، لذا خاطب نفسه بخطاب يسمعه الجمع، وهو ما نقله الرواة الذين سمعوه حينها، قائلاً: "يا نفس من بعد الحسين هوني * وبعهد لا كنت أو تكوني… إلى أن يقول: تالله ما هذا فِعال ديني"، أي أنه لو كنتم أنتم يا من انحرفتم عن دين الله من يقف في هذا الموقف لكنتم تشربون أما العباس الذي يمضي كما يمضي إمامه الحسين (على دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم) فنفسه دون الحسين عليه السلام، وهذا هو خُلُق العباس وديدنه، وإلا فلا مبرر مطلقاً لأن يخاطب نفسه بخطاب يُسمعه الملأ، إذ لو كان الموقف كما تصور الناقل، لكان قوله قول عتاب لنفسه، والعتاب لا يكون بنبرة مرتفعة، فأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، ولو كان كذلك لكان قوله أقرب إلى الرياء منه إلى العتاب، وحاشى أبو الفضل أن يكون كذلك وهو من تربى في حِجر أمير المؤمنين عليه السلام، وفي كنف ورعاية ثلاثة أئمة معصومين، إلى جانب حِجر أمه فاطمة بنت حزام، أم البنين، عظيمة الشأن ورفيعة المنزلة.
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين. اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.