معنى التغيير لغويا
يُقالُ غَيَّر فلانٌ عن بعيره حطّ عنه رَحْلَهُ وأصلحَ من شأنِه، يُقالُ: نزلَ القوم يُغَيِّرون. وغيرّ الشيءَ بدّل به غيره، يُقال: غيّرت دابّتي وغيّرت ثيابي [وغَيَّرهُ] جعله على غير ما كان عليه، تقول غَيّرتُ داري إذا بَنَيتها غير البناء الذي كان. و(تَغَيرَّ الشيءُ) مطاوع غَيّر.
والتغيير: هو أي تبديل يحدثه الفاعل من تحريك ساكن أو تسكين متحرك، فكل فعل هو تغيير بهذا المعنى العام. والتغيير بهذا المعنى يشمل كل حدث يحدثه الإنسان، ومن ثم فإن اللفظ لو أخذ بهذا المعنى فإنه يفقد قيمة التعبير به؛ إذ ليس المقصود بإطلاقه هنا الحديث عن كل حركة وسكون؛ بل المراد إيقاع التغيير في حركة الآخرين وسكونهم، ولا يمكن أن يراد بالتغيير هنا هذا المعنى الموغل في العموم وإنما خصوص التغيير في الاتجاه الإيجابي أو ما نسميه الإصلاح.
وأما معنى الإصلاح لغة فهو من صَلُح صلاحاً وصُلوحًا: زال عنه الفساد، وصلُح الشيء كان نافعا أو مناسبا، و(أصلح) في عمله أو أمْرِه أتى بما هو صالح نافع، وأصلح الشيءَ أزال فسادَهُ، وأصلح بينَهما أوذات بينِهما أزال ما بينهما من عداوة وشِقاق، واستصلحَ الشيءَ أصلحه وطلب إصلاحه.
والفـرق بين الصالـح والمُصلـح هـو همـزة التعديـة، فالصالـح اســم فاعـل من الثلاثي (صَـلُحَ) أي في نفسه، والمُصلِح هو اسم الفاعل من (أصلح) المتعدي بالهمزة؛ أي أصلح غيره أو نفسه، والفرق بين الفعلين هو أن (صَلُح) دالة على ثبوت الفعل من غير دلالـة علـى التحول أو عـدم التحـول، وأما (أصلح) فهي دالة على التغيير والتأثير، وقد عرّف بعضهم الإصلاح بأنه: "التغيير والتعديل نحو الأفضل لوضع شاذ أو سيء ولا سيما في ممارسات وسلوكيات مؤسسات فاسدة أو متسلطة أو مجتمعات متخلفة أو إزالة ظلم أو تصحيح خطأ أو تقويم اعوجاج"[1].
والتغيير أو الإصلاح بهذا المعنى يشمل ثلاثة مستويات هي:
* تغيير فكرة أو رأي في عقل إنسان أو شعور في قلبه.
* تغيير سلوك شخصي خاص عند شخص.
* تغيير فعل اجتماعي أو فعل شخصي عام مؤثر في الآخرين.
وقد كان في الأنبياء من جاء لتغيير عقيدة؛ مثل نوح وهود وإبراهيم، ومن جاء لتصحيح عمل ومنعه؛ كما هو لوط وشعيب، ومن جاء لمنع فعل وتغيير عقيدة؛ مثل موسى الذي دعا فرعون إلى عبادة الله كما دعا فرعون إلى التوقف عن استعباد بني إسرائيل، وكذلك محمد (ص) الذي دعا الناس إلى عبادة الله وحده كما دعاهم إلى التوقف عن الظلم وأكل الربا وبخس الميزان، والآيات الدالة على ذلك معروفة.
إن فكرة الإصلاح قديمة قدم وجود الإنسان على هذه الأرض؛ فأمثال هذه الدعوات موجودة في كتابات أرسطو وأفلاطون التي تشتمل على دعوات لإصلاح النظم السياسية، وكذلك فيما رواه القرآن والكتب السماوية عن دعوات الأنبياء منذ فجر التاريخ مع نوح ومَن قبله ومَن بعده من الأنبياء.
والتغيير في القرآن نوعان:
الأول: هو تغيير ما أنزل الله، أو ما حكم به الله، أو ما أمر الله به، أو (سنة الله)، بحسب التعبيرات القرآنية، وبعبارة أخرى كل ما يوافق المشيئة والإرادة الإلهية؛ أي ما هو من عند الله، وهو تغيير ممنوع مرفوض وغير أخلاقي بحسب حكم القرآن. وخلافه العمل للتغيير لتحقيق المشيئة والإرادة الإلهية، وهو أمر أخلاقي مندوب إليه، فالقرآن رفَض الثباتَ والجمود حينًا ومدح التغيير فقال الله تعالى في ذلك:
"حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا"[2]،
وقال تعالى: "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ"[3]،
وقال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"[4]،
ورفض التغيير مرارًا أخرى فقال تعالى: "فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ "[5]،
وقال تعالى: "بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً"[6]،
وقال تعالى: "يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ"[7].
والتغيير بهذا المعنى إذن قد تتعلق به الأحكام الشرعية الخمسة من الوجوب والاستحباب والإباحة والكراهة والحرمة بحسب اتجاهه.
فالتغيير يأخذ حكمه في الشريعة من اتجاهه، فإن كان في اتجاه الاستجابة لله وتحقيق مشيئته وإرادته فهو محمود، وإن كان باتجاه يخالف إرادة الله ومشيئته فهو مرفوض وغير أخلاقي.
ثم ننظر في بقية أجزاء العنوان {أخلاقيات التغيير والإصلاح} فنجد أنها يمكن أن تشير إلى ثلاثة معانٍ هي محور هذه الورقة التي أتشرف بعرضها عليكم على النحو الآتي:
الأول: هو [أخلاقية التغيير] بمعنى الحكم على عملية التغيير نفسها: أهي عملية أخلاقية؟
الثاني: [أخلاقية التغيير] بمعنى جعل الأخلاق هي الهدف من عملية التغيير، أي التغيير باتجاه الإصلاح الأخلاقي.
الثالث: أخلاقيات التغيير بمعنى الضوابط الأخلاقية التي تحكم عملية التغيير.
ونناقش هذه المحاور الثلاثة بالترتيب على النحو الآتي:
المحور الأول: هل عملية التغيير ومحاولة التأثير في الناس عمل أخلاقي؟:
إن السؤال التأصيلي الذي نطرحه هنا هو: هل عملية التغيير ومحاولة التأثير في الآخرين عمل أخلاقي، مع العلم بأن التغيير ـ ضمنيا ـ يشتمل على مقدمتين:
الأولى: تخطئة الواقع القائم والحكم عليه بالفساد أو النقص؛ إذ إن التغيير يقتضي تصحيح خطأ قائم، أو إتمام نقص، أو تطويرًا لمتخلف، وهذه الدعوى متبادلة بين المصلِح والمُصْلَح.
الثانية: هو فرض ولاية على الأوضاع والأشخاص الذين نسعى إلى تغييرهم أو إصلاحهم. ذلك أن التحرك لإصلاح الخطأ والنقص مع التسليم بوجوده يستلزم امتلاك حق التصرف في الأمر المرادِ إصلاحُه، والولايةَ عليه من هذه الناحية.
فهل العملُ على وَفْق هاتين المقدمتين عمل أخلاقي؟!
إن التساؤل عن أخلاقية العمل الإصلاحي يكتسب شرعيته من القول بتكافؤ الناس وحريتهم التي هي الأصل؛ بل هي أيضا ما يدل عليه مضمون النصوص، قال تعالى:
"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ"[8]،
وقال تعالى: "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً"[9]
وقال تعالى: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ"[10]
وقال تعالى: "إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا"[11]
وقال تعالى: "وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا"[12]
وعلى الرغم من وضوح التعارض بين التكافؤ الإنساني والحرية وبين عملية التسلط على أفكار الناس وسلوكهم وأفعالهم والعمل على تغييرها إلا أن أيًّا من الاتجاهات الدينية والفلسفية لم تطعن في أخلاقية السعي للإصلاح، وحتى تلك الفلسفات التي تذهب إلى القول بحتمية التاريخ وسيرورته إلى اتجاه معين كما هو حال الديالكتيكية الماركسية، أقول حتى أصحاب تلك الفلسفة لم ينتظروا أن يصل التاريخ إلى نهايته؛ بل سعوا هم إلى تغييـره بالاتجـاه الذي يدّعون أنه سائر إليه بنفسه، وكذلك أصحاب الواقعية الاشتراكية الذين يقولون بالجبر الاجتماعي لم يتركوا هذا الجبر يعمل عمله؛ بل سعوا إلى الإصلاح والتغيير على الرغم من أنه يفترض أن سعيهم هذا نفسه هم مجبورون عليه وأنه لا يغير سير الأحداث.
يجب أن يطرح هذا السؤال في هذا الظرف الذي تعلو فيه الأصوات بالدعوة إلى حرية الإنسان، ونسبية الحقيقة، وتفريغ النصوص من محتواها بوسائل مختلفة؛ إما بالقول بأن المعنى في بطن القارئ ومن ثم فالحقيقة يفهمها كل إنسان بما يشاء، أو بحسب العرف أو بحسب الزمان أو غير ذلك، فالسؤال المهم هو: من أين اكتسب الجميع حق التغيير والإصلاح مع تكافؤ البشر وكونهم يملكون أجزاء متساويةً من الحقيقة كما يقولون؟
أما في القرآن فإن الإصلاح عملية تتم بأمر سلطة عليا فوق السلطة البشرية ولذلك فهي لا تتعارض مع تكافؤ البشر؛ لأن المصلحين يستمدون ولايتهم من الله، قال تعالى: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ"[13]
فهو يبلغ أمرًا لا يستمده من بشريته بل من الوحي النازل إليه، وهو في ذلك مُقيَّد بالالتزام بهذا الوحي، قال تعالى:
"وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ"[14]
وقال تعالى: "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ"[15]
فولاية التغيير في القرآن تستمد أخلاقيتها (أي أخلاقية تشريع العملية نفسها) من ارتباطها بالله وتسقط بارتباطها بالبشر. ويقول الله تعالى في ذلك:
"قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ"[16]
هذا هوالأمر الأول، وأما الأمر الثاني فإن القرآن لم يتكلم عن تغيير الآخرين ولكن تكلم عن (الدعوة إلى التغيير)؛ أي أن الأنبياء لا يغيرون عقيدة أحد، بل يدعونه لكي يغير عقيدته أو سلوكه وأخلاقه أو فعله؛ ولهذا فإننا لا نجد في القرآن أي تهديد دنيوي بتعذيب أو قتل أو إيذاء للدخول في الدين أو للتغيير الاجتماعي، ولم يرد أي تهديد على لسان نبي، كما لم يرد أي وعد بالدنيا ومتاعها على لسان نبي من الأنبياء للدعوة إلى الدخول في الدين، بل دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فيها تبشير و إنذار ووعد ووعيد ولكن بعذاب الله وثواب الله وليس بقوة الإنسان وسلطانه على الإنسان، ولكن إذا قبل الإنسان الدعوة ودخل في الدين فإنه بعد ذلك يعترف بولاية أهل ذلك الدين عليه وحينئذ فقط يخضع للعقوبات والحدود المختلفة؛ لأنه رضى بالولاية العظمى، فإذا قبل بهذه الولاية فإنه قد أصبح له واقع جديد لا يجوز له تغييره ولا التخلص منه، بل السمع والطاعة.
وهنا أشير إلى ملاحظة خطيرة ومهمة وهو أن كلَّ ما ورد من حدود وعقوبات ووعود بالدنيا كلها جاءت تهديدا لمن يحاول التغيير بعد ثبوت الإصلاح؛ أي أن القرآن لم يأمر النبي (ص) بتهديد أحد بالعقاب إلا بعد قيام دولة الإسلام، بل حتى التهديد الوحيد الذي ورد في القرآن بالقتل على لسان أحد الأنبياء وهو تهديد سليمان عليه السلام للهدهد إنما جاء لأنه غيرّ أمرا قائما، فقال الله تعالى:
"وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ "[17].
وأما ما عدا ذلك فكله تخويف بالنار والعذاب من الله وليس بقوة الأنبياء والبشر، ولا تسلطهـم ولا قوتهـم؛ اللهم إلا في آية واحدة هي قوله تعالى:
" ... بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ"[18]، "... فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ..."[19]، وهذا التهديد بالبأس والجنود في الواقع أيضا راجع إلى قوة الله وذلك أن طبيعة الجنود التي كان سليمان يقاتل بهم هم جنود غير عاديين كما وصفهم القرآن.[20]
وهكذا فإن التغيير في القرآن يكتسب أخلاقيته من أمرين:
الأول: أنه من الله فهو سلطة عليا، وليس تسلط إنسان على إنسان.
الثاني: أنه دعوة إلى التغيير وليس تغييرا قسريا، وحق الدعوة لا خلاف عليه، بل إن إبليس نفسه اعتذر عن نفسه ردًّا على من اتهموه بأنه أرداهم وتسبب في دخولهم النار بقوله الذي نقله عنه القرآن:
" ... وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ..."[21]
المعنى الثاني: هل غاية التغيير هو التصحيح الأخلاقي؟
إن المعنى الثاني لمفهوم أخلاقية التغييرالذي نبحثه وهو أن تكون الغاية التي نسعى إليها غاية أخلاقية، وبعبارة أخرى هل الهدف هو إصلاح الأخلاق؟ وهذا في الإسلام مما وقع عليه الإجماع للحديث المستفيض :
"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[22]
بل إن المنطلق في عبادة الله سبحانه وتعالى الذي هو غاية الخلق كما ينص القرآن في قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"[23]
وهذه الغاية تعتمد على مبدأ أخلاقي هو شكر المنعم. فكل العبادات والمعاملات محكومة بمبادئ أخلاقية عامة كلية أو جزئية بدءًا بأصل العبادة ومرورا بكل الأوامر التي هي مصداق لها؛ إذ كلها يندرج تحت قوله تعالى:
"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"[24]
ولذا لن أطيل الوقوف عند هذه النقطة لوضوحها.
المعنى الثالث: الضوابط الأخلاقية في عملية التغيير:
وأما المعنى الثالث والأخير لأخلاقيات التغيير والإصلاح فهو الضوابط الأخلاقية التي أمر القرآن بالتزامها في عملية الإصلاح والتغيير، والمراد بهذا الجزء هو الحديث عن الانسجام بين الغاية التي قلنا إنها أخلاقية وبين وسيلة الشريعة في تحقيق هذه الغاية. وفي ذلك يقول أحد العلماء:
"إذا شرفت الغاية شرفت الوسيلة"[25]
وليس معناه أن الغاية الشريفة تُشَرَّف الوسيلة الخسيسة؛ بل المقصود أن الغاية الشريفة تستدعي وسيلة شريفة مثلها، ونحن نقول:
[الغاية دعوى والوسيلة دليل]
ذلك أن كل الناس يدّعون الإصلاح وينسبون أنفسهم إليه، ولكنَّ ذلك أمر يصعب برهانُه؛ لأنه في القلوب، ولذلك فإن الالتزام بالأخلاق هنا يعمل عملين في آن واحد، وهماعلى النحو الآتي:
الأول: هو أنه التزام مهم، وابتلاء لأدعياء الإصلاح الذي يظن بعضهم أنه فوق المساءلة أو فوق الالتزام؛ فهو يدعوغيره إلى الصلاح وهو لا يلتزم به. وفي ذلك يقول الله تعالى:
"أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ"[26]
فالإصلاح هو عمل يدل على الصلاح فيما يفترض؛ فكيف يكون المصلح غير صالح، ويناقض نفسه فيما يدعو إليه، ولقد عاب القرآن على اليهود ترخيصهم لأنفسهم في الأخلاق وذلك فيما حكاه عنهم من قولهم:
"ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ"[27].
والثاني: أن الناس لا يعرفون المُصلح من المفسد كما هو المفهوم من القرآن في قوله تعالى:
"وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ"[28]
ولن تجد إنسانا يقول عن نفسه إنه مفسد حتى أولئك الذين وصفهم القرآن في قوله تعالى:
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ"[29]
فهؤلاء لا ينكرون أن العمل الذي نُهوا عنه فاسد، بل اعتمدوا على الدعاوى وادّعوا أنهم مصلحون، وثبوتُ الإصلاح أو الإفساد لهم لا يمكن البرهنة عليه، فالقرآن لم يلتفت إلى دعواهم بأنهم مصلحون، بل ركز على فعلهم الذي هو غير صالح فالصفة (أي أنهم مصلحون) تدل على ثبوت شيء لهم يدّعونه بزعمهم، وأما الفعل الذي فعلوه فهو الذي يدل على التجدد والحدوث، ومن ثم فإن الحركة هي الكاشفة عن الحقيقة، ولهذا لم نجد أن القرآن مدح أحدًا بأنه (مصلح)، ولكن مدح أناساً كثيرين بأنهم كانوا من الصالحين، وهذا ليس أمرا اعتباطيا أن يأمر القرآن بالإصلاح ويمدح بالصلاح؛ بل لأن الإصلاح كونَه [غاية] فإنما هو مجرد دعوى، ودليلها (الاستقامة) وهو خلوص الوسيلة من الشوائب والأعمال المخالفة للصلاح، وإلا فإن كل شخص يدعي السعي إلى الإصلاح؛ ولهذا فإن التغيير لابد أن يكون مأذونا من الله حتى في وسيلته، وأن تكون غايته ونهايته إلى الله، ولهذا فإن الله يرد على الكافرين قولهم فيما حكاه عنهم:
"مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى"[30]
بقوله تعالى: "آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ"[31].
فالغاية لا ينكرها عليهم؛ لأن قصد التقرب إلى الله يجب أن يكون غاية كل تغيير، ولكنه أنكر عليهم تحقق هذه الغاية بهذه الوسيلة.
كما أن القرآن الكريم لم يرخّص لأحد في الأخلاق من أجل الإصلاح أو بهذا العذر أبداً، وإن سعى بعض أدعياء الإصلاح أن يستغلوا هذه الصفة ليتخلصوا من قيود الالتزام كما فعل اليهود حينما قالوا فيما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى:
"لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ"[32]
وأما الضوابط الأخلاقية التي أمر القرآن بها أو لنسمها آداب الدعوة إلى الله، وآداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا نريد الوقوف عندها كثيرا لأنها معروفة، وقيل فيها الكثير ولكن لإتمام هذا العمل نقول: إنها تنقسم قسمين:
الأول: آداب عامة: وهي الأخلاق التي يجب على المسلم التزامها في كل أحواله؛ سواء في التغيير أو غيره؛ كالصدق والأمانة والإخلاص وغيرها.
الثاني: آداب خاصة بسلوك الدعاة المصلحين، كما في قوله تعالى:
"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ"[33]
وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ"[34]
وقوله تعالى: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ"[35]
وقوله تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي"[36]
ويشمل الجميعَ قوله تعالى:
"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ"[37].
....................................
[1] الدكتور عبدالله بلقزيز، أسئلة الفكر العربي المعاصر، ص13 ، الدار البيضاء، مطبعة النجاح، الأبوبية، 1998.
[2] (المائدة: من الآية104)
[3] (الزخرف: من الآية23)
[4] (الرعد: من الآية11)
[5] (البقرة: من الآية181)
[6] (ابراهيم: من الآية28)
[7] (المائدة: من الآية41)
[8] (الغاشية: 21 - 22)
[9] (مريم:30)
[10] (الكهف: من الآية110) و(فصلت: من الآية6)
[11] (ابراهيم: من الآية10)، "مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا"(يّـس: من الآية15)
[12] (الشعراء: من الآية186)، "إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا"(ابراهيم: من الآية10)، "مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا"(الشعراء: من الآية154)
[13] (الكهف: من الآية110) و(فصلت: من الآية6)
[14] (النحل: من الآية116)
[15] (الحاقة: 44 - 46)
[16] (يونس: من الآية59)
[17] (النمل: 20 - 21)
[18] (النمل: من الآية36)
[19] (النمل: من الآية37)
[20] - ربما يحتج بعض الناس بقضية الخضر مع موسى أو بقضية موسى مع الرجل الذي وكزه، فأما الخضر فإنه كان يتصرف بعلم خاص وتفويض إلهي، ولما كان تصرف الخضر بخلاف الظاهر فإن عمله كان محل اعتراض موسى عليه، وأما قتل موسى للرجل فكان إغاثة لملهوف ودفاعا عن النفس فهو لا يدخل في الباب الذي نحن بصدد الحديث عنه.
[21] (ابراهيم: من الآية22)
[22] (بحار الأنوار – ج16 ص 210 – العلامة المجلسي)، (السنن الكبرى – ج10 ص192 – البيهقي)، (مجمع الزوائد – ج9 ص15 – الهيثمي)، (البداية والنهاية – ج6 ص40 – ابن كثير)، (النهاية في غريب الحديث – ج2 ص70 – ابن الأثير)
[23] (الذريات:56)
[24] (النحل:90)
[25] - دعوة الحق، محاضرات سماحة العلامة الشيخ سليمان المدني قدس الله روحه.
[26] (البقرة: من الآية44)
[27] (آل عمران: من الآية75)
[28] (البقرة: من الآية220)
[29] (البقرة: 11 - 12)
[30] (الزمر: من الآية3)
[31] (يونس: من الآية59)
[32] (آل عمران: من الآية75)
[33] (النحل: من الآية125)
[34] (الصف: 2- 3)
[35] (هود: من الآية 112)
[36] (يوسف: من الآية 108)
[37] (النحل: من الآية 90)