بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِه الطيبين الطاهرين.
قال الشَّيخ حسين بن عبد الصمد البهائي (قدَّس اللهُ روحه الزكيَّة): "وليهيئ تَارِكُها[1] الجواب لله تعالى لو سأله يوم القيامة: لِمَ تركتَ صلاةَ الجُمُعَة وقد أمرتُ بِها في كتابي العزيز على أبلغ وجه، وأمَرَ بِها رسولي الصادق على آكدِ وجه، وأمَرَ بها الأئمةُ الهادون وأكَّدوا فيها غاية التأكيد، ووقع إجماعُ المسلمين على وجوبها في الجملة، فهل يليقُ مِنْ عاقِلٍ أن يجيب بقوله تركتُها لأجل خِلاف سلَّار وابن إدريس؟! ما هذا إلَّا عمىً، أو تعامٍ، أو تعصُّب مًضِرٌّ بالدين. أجارنا اللهُ وإيَّاكم منه وجميع المسلمين"[2].
فيما قال الشَّيخ بهاء الدين محمَّد بن الحسن الأصفهاني (قدَّس اللهُ روحه الزكيَّة): "وهو الأقوى[3]؛ لِمَا عرفتَ من اشتراط كلِّ عبادةٍ بإذن الشارع، ضرورة مِنَ الدين ومِنَ العقل، وكون الإمامة من مناصب الإمام فلا يتصرَّف فيه أحدٌ ولا ينوب منابه فيه إلَّا بإذنه، ضرورة من الدين ومن العقل والإجماع فعلًا وقولًا"[4].
وبين هذي القولين أقوال، مِنها الوجوب التخييري بينها وبين الظهر. ممَّن قال به المًحقِّق[5] وغيرُه، "بل نُسِبَ إلى المشهور"[6]، ومِنها التخيير بإقامتها مع خصوص الفقيه. ممَّن قال به المُحقِّق الثاني[7] وغيرُه، ومِنها التوقف كما هو ظاهر العلَّامة في الإرشاد لاكتفائه بالإشارة إلى وجود قولين في المسألة دون تعليق أو ترجيح[8]، وكذا غيره.
منشأ الإلحاح على بحث المسألة:
روى الشَّيخ الصدوق بسنده إلى زرارة بن أعين، عن أبي جعفر الباقر (عليه السَّلام)، قال: "صلاة الجمعة فريضة، والاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن تَرَكَ رَجُلٌ من غير عِلَّةٍ ثَلاثَ جُمَعٍ فقد تَرَكَ ثَلاثَ فَرائِض، وَلا يَدَعُ ثَلاثَ فرائض مِنْ غَير عِلَّةٍ إلَّا مُنَافِق"[9].
وروى الشَّيخ الطوسي بسنده إلى عاصم بن أبي بصير ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال: "مَنْ تَرَكَ الجُمُعَةَ ثَلاثَ جُمَعٍ مُتَوالِيَةٍ طَبَعَ اللهُ عَلى قَلْبِهِ"[10].
وبإسناده إلى ابنِ بُكير، قال: حَدَّثَنِي زُرَارَةُ، عن عبد الملك، عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال: قال: "مِثْلُكَ يَهلكُ وَلَم يُصَلِّ فَريضَةَ فَرَضَهَا اللهُ!
قال: قلتُ: كيف أصنع؟
قال: قال (عليه السَّلام): صَلُّوا جَمَاعَةً. يَعْني صَلاةَ الجُمُعَةِ"[11].
فظهر خطرُ المَسْألة بِمَا أشغلَ البالَ خوفًا من سوء المآل لا سيَّما وقد لَمَعَ في الخاطِرِ ما قد يكون مِنَ الأنوار، فخشيتُ عليه الانطفاء ما لم أفتح له نافذة على الشمس تسقيه من أشعتها فلا يخبو، بل يزداد ليكون بدرًا في ليلِ مَقَامِهِ.. فأقول مستعينًا بالله تعالى، متوسِّلًا إليه بالميامين؛ محمَّدٍ وآلِهِ (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين): الكلامُ في جهات:
الجهة الأولى في مَحَلِّ الخصوصيَّة، والثانية في ظهور كلمة (الإمام)، والثالثة في خصوصية الفقاهة في إمام الجُمُعَة.
الجهة الأولى: مَحَلُّ الخصوصيَّة:
خَصَّ اللهُ تعالى يَومَ الجُمُعَةِ بما لم يخص بِهِ غيره من الأيَّام، ومِنْ ذلك صلاة نزَل في شأنها وبيان مقامها قرآن كريم، فقال عَزَّ مِنْ قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[12]، ولكنَّ الخِلاف بين الأعلام قد وقع في اشتراط أو عدم اشتراط إمامة المعصوم (عليه السَّلام) أو مَن يُنصِّبه للجُمُعَة، ثُمَّ انتقل إلى القول، بعد الشرط المتقدِّم، إلى اشتراط أو عدم اشتراط الفقاهة في إمامها. فيَقَعُ الكَلامُ في أنَّ وجوبها هل هو لخصوصية يوم الجُمُعَة، أو لخصوصية المعصوم (عليه السَّلام) خصوصية أبرزها الله تعالى في الجُمُعَة، أو لخصوصية في يوم الجُمُعَة، ولكِنَّها لا تتمُّ إلَّا مع وجود المعصوم (عليه السَّلام) حاضِرًا.
أمَّا الروايات الشريفة فقد تواترت في فضل يوم الجمعة وخطر أمره، وها أنا أعمَدُ إلى الإكثار منها قاصِدًا التنبيه إلى جهة الخصوصية مقدِّمَةً لفِقه المسألة.
فمِنها ما رواه ثقة الإسلام (نوَّر الله مرقده الشريف) في الكافي[13]:
عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السَّلام) يَقُولُ: "مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ بِيَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ".
وعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) يَسْتَحِبُّ إِذَا دَخَلَ وإِذَا خَرَجَ فِي الشِّتَاءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ". وقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام): "إِنَّ اللَّه اخْتَارَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ شَيْئًا فَاخْتَارَ مِنَ الأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ".
وعَنْه، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: "السَّاعَةُ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَا بَيْنَ فَرَاغِ الإِمَامِ مِنَ الْخُطْبَةِ إِلَى أَنْ يَسْتَوِيَ النَّاسُ فِي الصُّفُوفِ، وسَاعَةٌ أُخْرَى مِنْ آخِرِ النَّهَارِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ".
وعَنِ ابْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السَّلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله): "إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الأَيَّامِ، يُضَاعِفُ اللَّه فِيه الْحَسَنَاتِ، ويَمْحُو فِيه السَّيِّئَاتِ، ويَرْفَعُ فِيه الدَّرَجَاتِ، ويَسْتَجِيبُ فِيه الدَّعَوَاتِ، ويَكْشِفُ فِيه الْكُرُبَاتِ، ويَقْضِي فِيه الْحَوَائِجَ الْعِظَامَ، وهُوَ يَوْمُ الْمَزِيدِ لِلَّه فِيه عُتَقَاءُ وطُلَقَاءُ مِنَ النَّارِ. مَا دَعَا بِه أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وقَدْ عَرَفَ حَقَّه وحُرْمَتَه إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَنْ يَجْعَلَه مِنْ عُتَقَائِه وطُلَقَائِه مِنَ النَّارِ، فَإِنْ مَاتَ فِي يَوْمِه ولَيْلَتِه مَاتَ شَهِيدًا، وبُعِثَ آمِنًا، ومَا اسْتَخَفَّ أَحَدٌ بِحُرْمَتِه وضَيَّعَ حَقَّه إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَنْ يُصْلِيَه نَارَ جَهَنَّمَ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ".
وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام) قَالَ: قَالَ لَه رَجُلٌ: "كَيْفَ سُمِّيَتِ الْجُمُعَةُ؟ قَالَ (عليه السَّلام): إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ جَمَعَ فِيهَا خَلْقَه لِوَلَايَةِ مُحَمَّدٍ ووَصِيِّه فِي الْمِيثَاقِ فَسَمَّاه يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِجَمْعِه فِيه خَلْقَه".
وعَنْ أَبَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: "إِنَّ لِلْجُمُعَةِ حَقًّا وحُرْمَةً فَإِيَّاكَ أَنْ تُضَيِّعَ أَوْ تُقَصِّرَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِبَادَةِ اللَّه والتَّقَرُّبِ إِلَيْه بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وتَرْكِ الْمَحَارِمِ كُلِّهَا؛ فَإِنَّ اللَّه يُضَاعِفُ فِيه الْحَسَنَاتِ، ويَمْحُو فِيه السَّيِّئَاتِ، ويَرْفَعُ فِيه الدَّرَجَاتِ". قَالَ: "وذَكَرَ أَنَّ يَوْمَه مِثْلُ لَيْلَتِه، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُحْيِيَهَا بِالصَّلَاةِ والدُّعَاءِ فَافْعَلْ، فَإِنَّ رَبَّكَ يَنْزِلُ[14] فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُضَاعِفُ فِيه الْحَسَنَاتِ، ويَمْحُو فِيه السَّيِّئَاتِ، وإِنَّ اللَّه وَاسِعٌ كَرِيمٌ".
وعَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: "سُئِلَ عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ولَيْلَتِهَا، فَقَالَ: لَيْلَتُهَا غَرَّاءُ، ويَوْمُهَا يَوْمٌ زَاهِرٌ، ولَيْسَ عَلَى الأَرْضِ يَوْمٌ تَغْرُبُ فِيه الشَّمْسُ أَكْثَرَ مُعَافًى مِنَ النَّارِ مِنْه، مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَارِفًا بِحَقِّ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ كَتَبَ اللَّه لَه بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وبَرَاءَةً مِنَ الْعَذَابِ، ومَنْ مَاتَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أُعْتِقَ مِنَ النَّارِ".
وعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام): "فَضَّلَ اللَّه الْجُمُعَةَ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الأَيَّامِ، وإِنَّ الْجِنَانَ لَتُزَخْرَفُ وتُزَيَّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَنْ أَتَاهَا، وإِنَّكُمْ تَتَسَابَقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ سَبْقِكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ، وإِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ لَتُفَتَّحُ لِصُعُودِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ".
وعَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: قُلْتُ لَه: "قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ الله). قَالَ: اعْمَلُوا وعَجِّلُوا؛ فَإِنَّه يَوْمٌ مُضَيَّقٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيه، وثَوَابُ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ فِيه عَلَى قَدْرِ مَا ضُيِّقَ عَلَيْهِمْ، والْحَسَنَةُ والسَّيِّئَةُ تُضَاعَفُ فِيه. قَالَ: وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السَّلام): واللَّهِ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله) كَانُوا يَتَجَهَّزُونَ لِلْجُمُعَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ؛ لأَنَّه يَوْمٌ مُضَيَّقٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ".
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْبِلَادِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِه، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَوْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليهما السَّلام)، قَالَ: "مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ بِيَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وإِنَّ كَلَامَ الطَّيْرِ فِيه إِذَا الْتَقَى بَعْضُهَا بَعْضًا سَلَامٌ سَلَامٌ يَوْمٌ صَالِحٌ".
وعَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام): "يَا عُمَرُ، إِنَّه إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ بِعَدَدِ الذَّرِّ فِي أَيْدِيهِمْ أَقْلَامُ الذَّهَبِ وقَرَاطِيسُ الْفِضَّةِ، لَا يَكْتُبُونَ إِلَى لَيْلَةِ السَّبْتِ إِلَّا الصَّلَاةَ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله). فَأَكْثِرْ مِنْهَا. وقَالَ: يَا عُمَرُ، إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وعَلَى أَهْلِ بَيْتِه فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ أَلْفَ مَرَّةٍ، وفِي سَائِرِ الأَيَّامِ مِائَةَ مَرَّةٍ".
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنِ الرِّضَا (عليه السَّلام)، قَالَ: قُلْتُ لَه: "بَلَغَنِي أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَقْصَرُ الأَيَّامِ!
قَالَ (عليه السَّلام): كَذَلِكَ هُوَ.
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، كَيْفَ ذَاكَ؟
قَالَ (عليه السَّلام): إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى يَجْمَعُ أَرْوَاحَ الْمُشْرِكِينَ تَحْتَ عَيْنِ الشَّمْسِ، فَإِذَا رَكَدَتِ الشَّمْسُ عَذَّبَ اللَّه أَرْوَاحَ الْمُشْرِكِينَ بِرُكُودِ الشَّمْسِ سَاعَةً، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا يَكُونُ لِلشَّمْسِ رُكُودٌ رَفَعَ اللَّه عَنْهُمُ الْعَذَابَ لِفَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَلَا يَكُونُ لِلشَّمْسِ رُكُودٌ".
وعَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام): "لِيَتَزَيَّنْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ يَغْتَسِلُ، ويَتَطَيَّبُ، ويُسَرِّحُ لِحْيَتَه، ويَلْبَسُ أَنْظَفَ ثِيَابِه. ولْيَتَهَيَّأْ لِلْجُمُعَةِ ولْيَكُنْ عَلَيْه فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ السَّكِينَةُ والْوَقَارُ، ولْيُحْسِنْ عِبَادَةَ رَبِّه، ولْيَفْعَلِ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَإِنَّ اللَّه يَطَّلِعُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ لِيُضَاعِفَ الْحَسَنَاتِ".
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: "سَمِعْتُه يَقُولُ: مَنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِه وقَلَّمَ مِنْ أَظْفَارِه يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَالَ بِسْمِ اللَّه عَلَى سُنَّةِ مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ كَتَبَ اللَّه لَه بِكُلِّ شَعْرَةٍ وكُلِّ قُلَامَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، ولَمْ يَمْرَضْ مَرَضًا يُصِيبُه إِلَّا مَرَضَ الْمَوْتِ".
وعَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السَّلام): "لَا تَدَعِ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ فَإِنَّه سُنَّةٌ، وشُمَّ الطِّيبَ، والْبَسْ صَالِحَ ثِيَابِكَ، ولْيَكُنْ فَرَاغُكَ مِنَ الْغُسْلِ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَتْ فَقُمْ وعَلَيْكَ السَّكِينَةَ والْوَقَارَ. وقَالَ الْغُسْلُ وَاجِبٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ".
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: "أَخْذُ الشَّارِبِ، والأَظْفَارِ، وغَسْلُ الرَّأْسِ بِالْخِطْمِيِّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَنْفِي الْفَقْرَ ويَزِيدُ فِي الرِّزْقِ".
وقد خصَّ الله تعالى يومَ الجُمُعَة بصلاة تسقط معها فريضة الظهر، فعَنْ أَبِي بَصِيرٍ ومُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: "إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ خَمْسًا وثَلَاثِينَ صَلَاةً، مِنْهَا صَلَاةٌ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَشْهَدَهَا إِلَّا خَمْسَةً؛ الْمَرِيضَ، والْمَمْلُوكَ، والْمُسَافِرَ، والْمَرْأَةَ، والصَّبِيَّ"[15].
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وزُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: "تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْهَا عَلَى فَرْسَخَيْنِ"[16].
أقول: لا يرى العقل، ولا الوجدان، فرقًا بين يوم وآخر من أيام الأسبوع إلَّا من حيث ما يقع فيه من أعمال والالتزامات، وما نحو ذلك، غير أنَّ الله تعالى يُبَيِّنُ خصوصية ليوم الجمعة لم يجعلها لغيره من الأيَّام، بل ونرى أنَّ حركةً كونيَّةً تتخذ مجرى معينًا لشرف هذا اليوم العظيم عند الله تعالى، ولو لا هذا البيان لتساوى عندنا مع غيره من الأيَّام.
أمَّا الإمام المعصوم (عليه السَّلام) فهو في نفسه وجودٌ خاصٌّ له تميُّزُه التكويني من جهة، والعقدي من جهة أخرى، ولا يختارٌ مُسلِمٌ عاقِلٌ إمامَ جماعة دون الإمام المعصوم (عليهم السَّلام) عند حضوره وإقامته للجماعة؛ وذلك لخصوصيته المحفوظة في وجدان المسلمين.
لذا، فإنَّ مِمَّا لا ريب فيه استحقاق يوم الجُمُعَة لصلاةٍ خاصَّةٍ شرَّعها الله تعالى لتحلَّ محلَّ صلاة الظهر، وهذا الاستحقاق تنطق به الروايات المتواترة في فضل هذا اليوم العظيم، فيبقى البحث في أنَّ هذا الاستحقاق هل أُخِذَ فيه حقٌّ خاصٌّ للمعصوم (عليه السَّلام) جَعَلَ إمَامَةَ الجُمُعَةِ مَمْنُوعَةٌ على غيره (عليه السَّلام) أو مَنْ يُنَصِّبُه، أو لا؟
ثُمَّ أنَّ الجُمُعَةَ لا تنعقد إلَّا جماعةً، والواحدة منها مبسوطة اليد في مقدار ثلاثة أميال من جميع جهات مكان انعقادها، وهاتان جهتان تفترق بهما عن سائر الفرائض اليومية الخمس. أمَّا شرط الجماعة في انعقادها فمتصورُ العروض على ظرفها الزماني، فنقول باحتمال توجُّه الإرادة الإلهية لاجتماع المؤمنين اجتماعًا عباديًّا في هذا اليوم المُعظَّم، ولكن يبعد تصور عروض اشتراط الثلاثة أميال على نفس الظرف، إلَّا أن تُقصَد الكثرةُ في مكانٍ واحِد. ويبقى القدر المتيقن هو عدم جواز مزاحمة جُمُعَةٍ بِجُمُعَةٍ أخرى، وحدود المزاحمة ثلاثة أميال؛ فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: "يَكُونُ بَيْنَ الْجَمَاعَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ؛ يَعْنِي لَا يَكُونُ جُمُعَةٌ إِلَّا فِيمَا بَيْنَه وبَيْنَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، ولَيْسَ تَكُونُ جُمُعَةٌ إِلَّا بِخُطْبَةٍ. قَالَ: فَإِذَا كَانَ بَيْنَ الْجَمَاعَتَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجَمِّعَ هَؤُلَاءِ ويُجَمِّعَ هَؤُلَاءِ"[17].
قال سيِّدُ المدارِكِ: "أجْمَعَ عُلَمَاؤنَا على اعْتِبَارِ وِحْدَةِ الجُمُعَةِ، بِمَعْنَى أنَّه لا يَجُوزُ إقَامَةُ جُمُعَتَينِ بَينَهُمَا أقَلّ مِنْ فَرْسَخٍ، سَوَاءٌ كَانَتَا في مِصْرٍ وَاحِدٍ أو مِصْرَينِ، وَسَوَاءُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ عَظيمٌ كَدِجْلَة أمْ لا"[18].
فانْفِرَادُ الجُمُعَة الواحِدة عن غيرها في مساحة مُحصَّل ثلاثة أميال من جميع جهات انعقادها ناظِرٌ، بحسب الظاهر، إلى غير كونها واقعة في يوم عظيم له خصوصيته، فيظهر أنَّ لنفسِ صَلاةِ الجُمُعَةِ خصوصيةً مِن حيثُ بسط يدها على المساحة المذكورة، والوجه المُتَصوَّر هو المُتصدِّي لإقامتها، وهذا ما يمكن التنبُّه إليه بملاحظة رواية العلل في حديث طويل عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، قال: "فإن قال: فَلِمَ صَارَتْ صَلاةُ الجُمُعَةِ إذا كانَتْ مَعَ الإمَامِ رَكْعَتَين، وإذا كَانَتْ بِغَير إمَامٍ رَكْعَتَينِ وَرَكْعَتَينِ؟
قيل: لِعِلَلٍ شَتَّى، مِنْهَا: أنَّ النَّاسَ يَتَخَطَّونَ إلى الجُمُعَةِ مِنْ بُعْدٍ، فَأحَبَّ اللهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنْهُم لِمَوضِعِ التَّعَبِ الذي صَارُوا إليه. ومِنْهَا: أنَّ الإمَامَ يَحْبِسُهُم لِلخُطْبَةِ وَهُم مُنْتَظِرُونَ للصَّلاةِ، وَمَنْ انْتَظَرَ الصَّلاةَ فَهُوَ في الصَّلاةِ في حُكْمِ التَّمَامِ. ومِنْهَا: أنَّ الصَّلاةَ مَعَ الإمَامِ أتَمُّ وَأكْمَلُ؛ لِعِلْمِهِ، وَفِقْهِهِ، وَفَضْلِهِ، وَعَدْلِهِ. ومِنْهَا: أنَّ الجُمُعَةَ عِيدٌ، وَصَلاةُ العِيدِ رَكْعَتينِ، وَلَمْ تقصر لِمَكَانِ الخطْبَتَينِ.
فإنْ قَالَ: فَلِمَ جُعِلَتِ الخطْبَةُ؟
قيل: لأنَّ الجُمُعَةَ مَشْهَدٌ عَامٌّ، فَأرَادَ أنْ يَكُونَ للإمَامِ سَبَبٌ إلى مَوعِظَتِهِم وتَرْغِيبِهِم في الطَّاعَةِ وَتَرْهِيبهِم مِنَ المَعْصِيَةِ، وفعلهم وتوفيقهم على مَا أرَادُوا مِنْ مَصْلَحَةِ دينِهِم ودُنْيَاهم، وَيُخْبِرهم بِمَا وَرَدَ عَليهِمْ مِنَ الآفَاتِ وَمِنَ الأحْوَالِ التي لَهُم فِيهَا المَضَرَّةُ وَالمَنْفَعَةُ، وَلَا يَكُونُ الصَّائِرُ في الصَّلَاةِ مُنْفَصِلًا، وَلَيس بِفَاعِلٍ غَيره مِمَّنْ يَؤمُّ النَّاسَ في غَيرِ يَومِ الجُمُعَةِ.
فإنْ قال: فَلِمَ جُعِلَتْ خطْبَتَانِ؟
قيل: لأن تَكُون وَاحِدَةٌ للثنَاءِ، وَالتمْجيدِ، والتقْديسِ لله عَزَّ وَجَلَّ، وَالأُخْرَى للحَوايج، والإعْذَارِ، وَالإنْذَارِ، وَالدُّعَاءِ، وَلِمَا يُريدُ أنْ يُعْلِمَهُم مِنْ أمْرِهِ وَنَهيهِ مَا فِيهِ الصَّلاحُ وَالفَسَادُ"[19].
فالأقرب هو أنَّ مُحَصَّلَ الفرسخ من جميع جهات مكان انعقاد الجُمُعَة هو مساحةُ بسطِ يد إمامها بتبليغ ما بينته الرواية الشريفة، ومناسبتُه لِمَقَامِ يَومِ الجُمُعَةِ واضِحٌ، ما يُقَرِّبُ كون الخصوصية متعيِّنة في يوم الجُمُعَة، أي أنَّ تشريع صلاة الجُمُعَة ناظِرٌ إلى خصوصية يوم الجُمُعَة، ويَبْقَى الكَلامُ في تحديد مَنْ يقوم شرعًا بِحَقِّ هذه الخصوصية.
الجهتان؛ الثانية: ظهور كلمة (الإمام)، والثالثة: خصوصية الفقاهة في إمام الجُمُعَة:
عَنْ سَمَاعَةَ، قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) عَنِ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَمَّا مَعَ الإِمَامِ فَرَكْعَتَانِ، وأَمَّا مَنْ يُصَلِّي وَحْدَه فَهِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ بِمَنْزِلَةِ الظُّهْرِ. يَعْنِي إِذَا كَانَ إِمَامٌ يَخْطُبُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ يَخْطُبُ فَهِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وإِنْ صَلَّوْا جَمَاعَةً"[20].
وفي الفقيه، قال: قال زرارة: "قلتُ له: على مَنْ يَجِبُ الجُمُعَةُ؟ قال: تَجِبُ عَلَى سَبْعَةِ نَفَرٍ مِنَ المُسْلِمينَ. وَلَا جُمُعَة لِأقَلِّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أَحَدُهُمُ الإمَامَ. فإذَا اجْتَمَعَ سَبْعَةٌ وَلَمْ يَخَافُوا أمَّهُم بَعْضُهُم وَخَطَبَهُم"[21].
وفيه، قَالَ أبُو جَعْفَرٍ (عليه السَّلام): "إنَّمَا وُضِعَتِ الركْعَتَانِ اللتَانِ أضَافَهُمَا النَبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله) يَومَ الجُمُعَةِ للمُقيمِ لِمَكَانِ الخُطْبَتَينِ مَعَ الإمَامِ، فَمَنْ صَلَّى يَومَ الجُمُعَةِ في غَيرِ جَمَاعَةٍ فَليُصَلِّها أرْبَعًا كَصَلاةِ الظُهْرِ في سَائِرِ الأيَّامِ"[22].
و(الإمامُ) إمَّا أنْ يُنصَرف منه إلى الإمام المفترض الطاعة، أو لا، فإن كان الثاني فإمَّا أن يكون مَنْ تلَبَّس بإمامة الجماعة في الصلاة ولو لمرَّة واحِدة فيصحُّ الجري لموافقته هيئة وقوع إمامة الجماعة ولو لمرَّة واحدة، أو أنْ يكون ممَّن يفارقه المبدأ في غير أوقات انعقاد الجماعة، أو أن يكون مِمَّن يصحُّ حمل المبدأ عليه وإن لم يتلبَّس به فعلًا.
أمَّا الانصراف إلى الإمام المفترض الطاعة (عليه السَّلام) فمدفوع بأنَّ إرادته في كلامهم (عليهم السَّلام) تظهر في قيد زائد؛ ومثال ذلك ما عَنْ سُوَيْدٍ الْقَلَانِسِيِّ، عَنْ بَشِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: قُلْتُ لَه: "إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنَّ الْقِتَالَ مَعَ غَيْرِ الإِمَامِ الْمُفْتَرَضِ طَاعَتُه حَرَامٌ مِثْلُ الْمَيْتَةِ، والدَّمِ، ولَحْمِ الْخِنْزِيرِ، فَقُلْتَ لِي نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) هُوَ كَذَلِكَ، هُوَ كَذَلِكَ"[23].
وَعَنْ أبِي يَحْيَى المَدَيِنِي، عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ (عليه السَّلام)، قال: "جَاءَ يَهُودِيٌّ إلى عُمَرَ يَسْألُهُ عَنْ مَسَائِلَ فَأرْشَدَهُ إلى عَلِيٍّ (عليه السَّلام) لِيَسْألَه، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السَّلام): سَلْ. قَالَ: أَخْبِرْنِي، كَمْ بَعْدَ نَبيِّكُم مِنْ إمَامٍ عَادِلٍ؟ وَفِي أيِّ جَنَّةٍ هُوَ؟ وَمَنْ يَسْكُن مَعَهُ فِي جَنَّتِهِ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عَليه السَّلام): يَا هَارُونِّي، لِمُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) بَعْدَهُ اثْنَا عَشَرَ إمَامًا عَدْلًا، لَا يَضُرُّهُم خذْلَانُ مَنْ خَذَلَهُم، وَلَا يَسْتَوحِشُونَ بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَهُم. أثْبَتُ فِي دِينِ اللهِ مِنَ الجِبَالِ الرَّوَاسِي، ..."[24].
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: "إِنَّ اللَّه أَجَلُّ وأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَ الأَرْضَ بِغَيْرِ إِمَامٍ عَادِلٍ"[25].
وعَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) يَقُولُ: قَالَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ لِيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنِّي مَنْ آذَى عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ، ولْيَأْمَنْ غَضَبِي مَنْ أَكْرَمَ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَلْقِي فِي الأَرْضِ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ مَعَ إِمَامٍ عَادِلٍ لَاسْتَغْنَيْتُ بِعِبَادَتِهِمَا عَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقْتُ فِي أَرْضِي، ولَقَامَتْ سَبْعُ سَمَاوَاتٍ وأَرَضِينَ بِهِمَا، ولَجَعَلْتُ لَهُمَا مِنْ إِيمَانِهِمَا أُنْسًا لَا يَحْتَاجَانِ إِلَى أُنْسِ سِوَاهُمَا"[26].
ومنه يظهر أنَّ إرادة الإمام المعصوم (عليه السَّلام) إرادةً خاصَّة تستلزم بيانًا زائِدًا، أو نصب قرينة، أو أن يكون في الخطاب اعتمادٌ على مرتكزات خاصَّة في ذهن المخاطب، وما نحن فيه لا يزال صلاةً مخصوصةً في يوم مخصوص، وقد مرَّ أنَّ الأقرب هو اختصاص الاعتبار بيوم الجُمُعَة.
وأمَّا من تصحُّ جماعتُه وقد أمَّ الجماعة ولو لمرَّة واحِدة ليصح الجري، فتؤيده جملةٌ من الروايات، منها قوله (عليه السَّلام): "فإذَا اجْتَمَعَ سَبْعَةٌ وَلَمْ يَخَافُوا أمَّهُم بَعْضُهُم وَخَطَبَهُم"، ومنها ما عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: "إذَا كَانُوا سَبْعَةً يَومَ الجُمُعَةِ فَليُصَلُّوا فِي جَمَاعَةٍ، وَلْيَلْبَس البُرْدَ وَالعِمَامَةَ، وَيَتَوَكَّأ عَلَى قَوْسٍ أو عَصَا، وَلْيَقْعِد قَعْدَةً بَينَ الخُطْبَتَينِ، وَيَجْهَر بِالقِرَاءَةِ، وَيَقْنِتْ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنْهُمَا قَبْلَ الرُّكُوعِ"[27]. إلَّا أنَّ هذه الأخبار محكومة برواية العِلَل المُتقدِّمة، ومحلُّ الشاهد منها قوله (عليه السَّلام): "أنَّ الصَّلاةَ مَعَ الإمَامِ أتَمُّ وَأكْمَلُ؛ لِعِلْمِهِ، وَفِقْهِهِ، وَفَضْلِهِ، وَعَدْلِهِ"، وأيضًا قوله (عليه السَّلام): "لأنَّ الجُمُعَةَ مَشْهَدٌ عَامٌّ، فَأرَادَ أنْ يَكُونَ للإمَامِ سَبَبٌ إلى مَوعِظَتِهِم وتَرْغِيبِهِم في الطَّاعَةِ وَتَرْهِيبهِم مِنَ المَعْصِيَةِ، وفعلهم وتوفيقهم على مَا أرَادُوا مِنْ مَصْلَحَةِ دينِهِم ودُنْيَاهم، وَيُخْبِرهم بِمَا وَرَدَ عَليهِمْ مِنَ الآفَاتِ وَمِنَ الأحْوَالِ التي لَهُم فِيهَا المَضَرَّةُ وَالمَنْفَعَةُ، وَلَا يَكُونُ الصَّائِرُ في الصَّلَاةِ مُنْفَصِلًا، وَلَيس بِفَاعِلٍ غَيره مِمَّنْ يَؤمُّ النَّاسَ في غَيرِ يَومِ الجُمُعَةِ.
فإنْ قال: فَلِمَ جُعِلَتْ خطْبَتَانِ؟
قيل: لأن تَكُون وَاحِدَةٌ للثنَاءِ، وَالتمْجيدِ، والتقْديسِ لله عَزَّ وَجَلَّ، وَالأُخْرَى للحَوايج، والإعْذَارِ، وَالإنْذَارِ، وَالدُّعَاءِ، وَلِمَا يُريدُ أنْ يُعْلِمَهُم مِنْ أمْرِهِ وَنَهيهِ مَا فِيهِ الصَّلاحُ وَالفَسَادُ".
ولا تُوكَلُ مِثلُ هذه الوظيفة لغير الفقيه، وقد صرَّح به علَّامة البحرين (علا برهانه) بعد مناقشته لمجموعة من الروايات في المقام؛ قال: "وإنَّما دلَّت على اشتراط النائب العام وهو الفقيه الجامع لشرائط الفتوى، وكونه أهلًا للحكم والحدود والقضاء"[28]، ويؤيِّدُهُ ظهور الإمام في مَن شأنه إمامة الجماعة، وما يصحُّ مع الجري وإن لم يكن متلبِّسًا بالمبدأ بالفعل، ومِنْ ذلك قوله (عليه السَّلام): "صلاة الجمعة فريضة، والاجتماع إليها فريضة مع الإمام"، ومنشأ الظهور هو التأسيس الثاني في قوله (عليه السَّلام): "والاجتماع إليها فريضة مع الإمام"، وبعد اندفاع الانصراف للإمام المعصوم (عليه السَّلام)، وعدم التسليم لِمَن تكون عدالته عارِضة عليه عروضًا يُصحِّح جماعته، وقد تقدَّم الوجه فيه، أعني عدم التسليم، بقي:
أنَّ العدالة في المقام مُصَحِّحَةٌ لمقام الفقاهة والافتاء والقضاء وإقامة الحدود، وهو الوجه في أنَّ الفقيه الجامع للشرائط مِن شأنِه إمامة الجُمُعَة، ولا معنى مع كونه فقيهًا النظر في عدالته؛ حيثُ إنَّ نفس عنوان الفقاهة لا تحقُّق له دون شرط العدالة. فتأمَّل جيِّدًا.
قال في الفرحة عند سوقه لما يُشتَرَط في إمام الجُمُعَة: "خامسًا: الفقاهة: (فقيه) بالملكة والاقتدار على استنباط القواعد الشرعية عن أدلتها التفصيلية مِنَ الكِتاب والسُّنة بالفعل أو بالقوَّة، وهو المُعَبَّر عنه في كتب الأصحاب بقيهٍ (جامِعٍ لشرائط الفتوى)"[29]، وكان ممَّا اعتمد عليه في اشتراط الفقاهة في إمام الجُمُعَة رواية العِلل المُتقدِّمة، بل وقال: "(لا نقطع على سقوط الظهر) عن المكلفين في هذا اليوم الشريف (إلَّا بحصوله)[30]وحصول تلك الصفات له مع اتِّصافه بالورع والتقوى، بحيثُ يصلح للقضاء والفتوى" إلى أن قال: "(وعند حصوله) مستكملًا لتلك الصفات، متمكِّنًا مِن إقامة الجُمُعات (فالوجوب) فيها (عيني) على الأقوى"[31].
مُحَصَّلُ الكلام:
نقول بثبوت الخصوصية ليوم الجمعة، وأنَّ تشريعَ صَلاةٍ خَاصَّةٍ فيه ناظِرٌ إلى اليوم وخصوصيته. أمَّا إمامها فليس لغير مَنْ يعطى شرعًا حَقِّ بسطِ يَدِ الشرع في المؤمنين، وهو المعصوم (عليه السَّلام) أو مَن يُنصِّبُه بتنصيب خاص، أو مَن له مقام الفقاهة بشروطها، وهذا الأخير أسموه بمقام النيابة العامَّة، وبذلك لا يبقى وجهٌ لرفع وجوبها العيني إلَّا أن نقف على نصٍّ صريح، وإلَّا فلا.
هذا في ما يخصُّ نفس المسألة، أمَّا مناقشات الأعلام واختلاف الآراء فدونك قامعة البدعة، وإسالة الدمعة للشَّيخ عبد الله السماهيجي، والحدائق للشَّيخ يوسف آل عصفور، والأنوار اللوامع، والفرحة الأنسية للشَّيخ حُسين آل عصفور، فقد استوفى هؤلاء الأساطين مناقشة ما حُرِّر وقُرِّر مِن بحوث وآراء في حكم صلاة الجُمُعَة في زمن الغيبة.
نسأل الله تعالى التعجيل بالفرج لإمام زماننا الحُجَّة القائم (صلوات الله وسلامه عليه)، وأن يُسَلِّمَنا من فِتَن الزمان، ويُبعد عنَّا شرورها.
عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ سَمِعْتُه يَقُولُ: "مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي"[32].
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
13 ربيع الأوَّل 1444 للهجرة
البحرين المحروسة
...................................
[1] - يقصد (رحمه الله تعالى) صلاة الجُمُعَة.
[2] - العقد الحسيني (الطهماسي) -الشَّيخ حسين بن عبد الصمد البهائي العاملي- ص 23-33 (المطبعة: كَلبهار - يزد، تحقيق وتصحيح: السَّيد جواد المدرسي اليزدي)
[3] - أي: المنع الشرعي مِن إقامة الجُمُعة في زمن الغيبة.
[4] - كشف اللثام عن قواعد الأحكام - الشَّيخ بهاء الدين محمَّد بن الحسن الأصفهاني (المعروف بالفاضل الهندي) ج4 ص222 - 223
[5] - قال: "إذا لم يكن الإمام موجودا ولا من نصبه للصلاة، وأمكن الاجتماع والخطبتان، قيل: يستحب أن يصلي جمعة، وقيل: لا يجوز، والأول أظهر" (شرائع الإسلام - المحقق الحلي - ج 1 - ص 76)
[6] - الفِقه -السَّيد محمَّد الشيرازي – ج26 ص346
[7] - مِن قوله: "وهل تجوز في حال الغيبة والتمكن من الاجتماع بالشرائط الجمعة؟ قولان ..." (جامع المقاصد - المحقق الكركي - ج 2 - شرح ص 374 – 380)
[8] - قال: "وفي استحبابها حال الغيبة وإمكان الاجتماع قولان" (إرشاد الأذهان - العلامة الحلي - ج 1 - ص 257 – 258)
[9] - الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 573
[10] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 3 - ص 238
[11] - الاستبصار - الشيخ الطوسي - ج 1 - ص 420
[12] - الآية 9 من سورة الجُمُعَة
[13] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 - ص 413 - 418
[14] - قال المُحقِّق علي أكبر غفَّاري: "قوله: "فان ربك ينزل" أي يُنزِل أمره، أو حكمه، أو قضاؤه كما ورد في التنزيل: (وجاء ربك) ويحتمل أن يُقرء وينزل بضم الياء من الإنزال، والمفعول محذوف؛ أي: ينزل ملكًا والذي يكشف عن ذلك ما رواه رئيس المحدثين في الفقيه عن إبراهيم بن محمود قال: قلت للرضا (عليه السَّلام): "يا ابن رسول الله، ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: إنَّ الله تبارك وتعالى ينزل في كل ليلة جمعة إلى سماء الدنيا؟ فقال (عليه السَّلام) لعن الله المُحَرِّفين للكلم عن مواضعه؛ والله ما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ذلك، إنَّما قال: إنَّ الله تبارك وتعالى يُنزل مَلَكًا إلى سماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل، فيأمره فينادى: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبل، ويا طالب الشر اقصر. فلا يزال ينادى بهذا حتَّى طلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى السماء. حدَّثني بذلك أبى عن جدِّي عن آبائه عن رسول الله (صلَّى الله عليه وعليهم). (كذا في هامش المطبوع نقلا عن المجلسي رحمه الله).
[15] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 - ص 418
[16] - المصدر السابق ص 419
[17] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 - ص 419
[18] - مدارك الأحكام - السيد محمد العاملي - ج 4 - شرح ص 43
[19] - علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 264 - 266
[20] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 - ص 421
[21] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 411 - 412
[22] - المصدر السابق
[23] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 5 - ص 27
[24] - الإمامة والتبصرة - علي ابن بابويه القمي - ص 134 - 135
[25] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 178
[26] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 350
[27] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 3 - ص 245
[28] - الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرايع – الشَّيخ حسين آل عصفور – ج1 ص 163
[29] - الفرحة الإنسية في شرح النفحة القدسية – الشَّيخ حسين آل عصفور – ج2 ص239
[30] - أي: حصول الفقيه الجامع للشرائط
[31] - الفرحة الإنسية في شرح النفحة القدسية – الشَّيخ حسين آل عصفور – ج2 ص263
[32] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 391