التقليد المذموم في القرآن
أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيمِ
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي انْحَسَرَتِ الأَوْصَافُ عَنْ كُنْه مَعْرِفَتِه، ورَدَعَتْ عَظَمَتُه الْعُقُولَ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إلى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِه، هُوَ اللَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، أَحَقُّ وأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ، لَمْ تَبْلُغْه الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً، ولَمْ تَقَعْ عَلَيْه الأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلًا، خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ، ولَا مَشُورَةِ مُشِيرٍ، ولَا مَعُونَةِ مُعِينٍ، فَتَمَّ خَلْقُه بِأَمْرِه، وأَذْعَنَ لِطَاعَتِه، فَأَجَابَ ولَمْ يُدَافِعْ، وانْقَادَ ولَمْ يُنَازِعْ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وحده لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه (ص).
عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ، ولَا فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ، عِبَادَ اللَّهِ فاتقوا الله، واحْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الأَعْمَالُ، ويَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ، وتَشِيبُ فِيهِ الأَطْفَالُ، واعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ، وعَدَدَ أَنْفَاسِكُم.
مدلول آيات الذمِّ للتقليد:
أمَّا بعدُ أيُّها المؤمنون: فالحديثُ حولَ التقليدِ المذمومِ في القرآن، يقول الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ / وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾[1].
الواضح مِن مساق الآية المباركة أنَّها بصدد الذمِّ للتقليد والتشنيعِ على مَن يتَّخذ التقليد ذريعةً يُبرِّر بها ما يعتمده من أفكار ورؤى ومعتقدات، وليست هذه الآية وحدها المتصدِّية لذمِّ التقليد بل إنَّ ثمة أياتٍ عديدة شنَّع فيها القرآنُ الكريم على مَن يتَّخذون التقليد منهجًا في مختلف شؤونهم الحياتية والاعتقادية، فمن ذلك قولُه تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾[2] ويقول الله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ / قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾[3] فمثلُ هذه الآيات متصدِّية لتسفيه ما يُبرِّر به هؤلاء سلوكَهم ومعتقداتِهم، فهم يتذرَّعون في ذلك بتقليد الآباء، والقرآن يُجيبهم أنَّه كيف يصحُّ تقليد الآباء إذا كانوا لا يعقلون ولا يهتدون!! وهل ذلك إلا من اعتماد مَن يجهل الطريق إلى غايته على آخر مثله يجهل الطريق ألن يؤدِّي ذلك إلى المزيد من الضياع والضلال.
إنَّ القران بذمِّه للتقليد يدعو للتحرُّر من التعصُّب للآباء والقوميَّات والمورثات التي نسجتها الثقافات المبتنية على العادات والتقاليد المأنوسة على غير هدىً من الله تعالى، فهو يدعو للتعقُّل والتفكُّر والتأمُّل والتدبُّر والمراجعة لمجمل الأفكار والرؤى التي ليس لها منشأ سوى الانسياق والأنس بما كان عليه الأوَّلون.
الآيات تذمُّ تقليد الجاهلين:
هذا هو مفاد الآيات المتصدِّية لذمِّ التقليد، فهي تذمُّ التقليد للجاهلين وتذمُّ اغفال العقل والانسياق وراء المأنوس والمألوف على غير هدىً وتأمُّل، فهي ليست بصدد الذمِّ لمطلق التقليد كما توهَّم البعض وتمسَّك بهذه الآيات المباركة للترويج لدعوى أن التقليد في الأحكام الشرعية منافٍ للقرآن الكريم وأنَّ على كلِّ أحدٍ من المكلَّفين أنْ يعتمد رأيه وجُهده للوصول إلى الأحكام الشرعيَّة دون أنْ يعتمد في ذلك على أحد أو يلتزم بفتوى أحد، فهو عاقلٌ وهمْ عقلاء، ومصادرُ التشريع متاحة، فله أنْ ينظر فيها ويستنبطَ منها حكمَ الله تعالى فيما يتَّصل بمختلفِ شؤونه.
فالجوابُ عن هذه الدعوى يتَّضح جليًّا بأدنى تأمُّلٍ في الآيات التي تلوناها، فهي إنَّما تذمُّ التقليد للجاهلين، والتقليدَ المبتني على التعصُّب للآباء والمورثات القوميَّة، وتذمُّ التقليد الناشئ عن الأنس بالمألوف المناسب للأهواء، وأما التقليد الذي يعتمدُه العقلاء بما هم عقلاء في شؤونهم الحياتية فإنَّ الآيات ليست متصدِّية لذمِّه، فتقليدُ غير المتخصِّص لذوي التخصُّص في موردِ تخصُّصهم ليس من التقليد المذموم بل هو الوسيلة المعتمدَة لدى العقلاء في تدبير شؤونهم، فالعقلاء على اختلاف مشاربهم وأديانهم لا يختلفون في أنَّ تقليد غير المتخصِّص للمتخصِّص أمرٌ ليس راجحًا وحسب بل هو ضرورةٌ يقوم عليها نظامُ الحياة، ولولاهُ لما أمكن للحياة الانسانيَّة أنْ تنتظم أو تستمر، ولو استمرَّت فإنَّه لن يُتاح لها النموُّ والتكامل، إذ ليس في وسع كلِّ أحدٍ الإحاطةُ بكلِّ العلوم والمعارف بل يتعسَّرُ على الإنسان الاحاطة بنوعين أو ثلاثة من العلوم، ولذلك جرت سيرةُ العقلاء على أنْ يتخصَّص كلُّ فريق في حقلٍ من حقول العلم والمعرفة، فإذا أتقنوه رجع الناسُ إليهم في ذلك العلم بما فيهم المتخصِّصون في علومٍ أخرى، فالمهندسون مثلًا وكذلك الفلاسفة والفقهاء وعلماء الفلك والفيزياء والرياضيات يرجعون -كما يرجعُ سائرُ الناس- إلى الأطباء في تشخيص أدوائهم واستفتائهم في وصف الدواءِ المناسب لهم، ويرجع الأطباءُ أنفسهم للمهندسين مثلًا وعلماء الفلك في الشؤون المتَّصلة بتخصُّصهم، فالطبيبُ الذي يجلس صباحًا في عيادته فيقصده الناسُ ويتحلَّقون حول مكتبه ينتظرون الإذن للدخول عليه واستفتائه فيما يجدونه من آلام، هذا الطبيب نفسُه يقصدُ مكتب المهندس عصرًا وينتظر الإذن للدخول عليه ليستفتيه ويستشيرُه فيما يتَّصل بتخصصه، بل إنَّ هذا الطبيب المتخصِّص في العظام مثلًا يرجع إلى طبيب القلب حين يجد ألمًا في قلبه، ويرجع طبيبُ القلب إليه حين تُكسر ساقُه أو يجد ألمًا في مفاصلِه، تلك هي سيرةُ العقلاء المنتِجة لانتظام الحياة وتكامل الإنسان، فلو كان البناء أن يتخصَّص الإنسان في كلِّ شيء لما وسِعه أن يُتقنَ شيئًا لسعةِ كلِّ حقل من حقول العلم وتشعُّبه ومحدودية الإنسان في سنين عمره وطاقته واستعداده الذهني، فالحياةُ لا تنتظم، والانسان لا يتكامل إلا حين يتم التقاسم للأدوار.
التقليد ضرورة عقلائية وعليه انتظام المعاش:
ومن ذلك يتَّضح منشأ ضرورة الرجوع للمجتهد الجامع للشرائط في التعرُّف على الأحكام الشرعية، فالعلمُ بالأحكام الشرعيَّة واستنباطها من مصادرها علمٌ واسع ومتشعِّب، شأنُه في ذلك شأنُ سائر العلوم، فلا يُتاح لكلِّ أحد الاستقلال في استنباط الاحكام من مصادرها، ليس لقصور الناس في عقولِهم واستعداداتِهم الذهنيَّة، بل لأنَّهم في شغلٍ بشؤونهم وتخصُّصاتهم عن التمحُّض في تحصيل المقدِّمات المنتجة للقدرة على استنباط الأحكام وفق الضوابط العقلائيَّة. فكما أنَّ المجتهدَ الجامعَ للشرائط عاجزٌ لو انتابه ألمٌ عن تشخيص مرضِه وتشخيص الدواء المناسب له وذلك لتوقفِ التشخيص على مقدِّمات طويلةٍ وشاقَّة ليس له من الوقت ما يسع لتحصيلها واتقانها كذلك ليس في وسع الطبيب وعالم الاحياء والفيزياء لضيق وقته واشتغاله بتخصُّصه ليس في وسعه الإحاطة بالمقدِّمات الطويلة والشاقَّة التي تُؤهِّله للقدرة على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، ولذلك يرجع كلٌّ للآخر فيما يرتبطُ بتخصُّصه.
التقليد ليس مصادرة للعقول:
وأمَّا القول بأنَّني عاقل وهم عقلاء، ومصادر التشريع متاحةٌ في الأسواق فهو قول انشائي ينطوي على مغالطة بيِّنة، فلا ريب أنَّك وهم من العقلاء، ولأنَّك من العقلاء لذلك ستُدرك بقليلٍ من التأمُّل والإنصاف أنَّه لا يليقُ بالعاقل اقتحام حقلٍ من العلوم قبل الاتقان الكامل لأدواتِه ووسائله، ولو فعل فإنَّ العقلاء سوف تستهجنُ فعله ولن تثقَ بتشخيصه. فلو تصدَّى غيرُ المتخصِّص في الطب لمعالجة المرضى ووصف الدواءَ لهم فإنَّ العقلاء سوف يستهجنون ذلك منه ولن يثقوا بتشخيصه، وسوف يرمون مَن يقصده ويعتمد قولَه من المرضى بالسفَه والحماقة، ذلك لأنَّهم يُجازفون بأنفسهم لقبلوهم بعرضها على من لا خبرةَ له بالطب، وكذلك لو تصدَّى غيرُ المهندس للإشراف على بناءِ جسرٍ مثلًا فإنَّ العقلاء سوف يعيبون على مَن يقبل بتصدِّيه لذلك، وسوف يحذرون من عبور هذا الجسر خشيةَ انهياره بهم أو عليهم. وسوف يرمون هذا المتصدِّي بالتجاسر والحماقة، وهكذا هو الشأنُ في تصدِّي غير المتخصِّص في العلوم الدينية فإنَّ العلوم الشرعية لا تقلُّ شأنًا في عمقِها ودقَّتها وتشعُّبها عن سائر العلوم.
مصادر التشريع متاحة.. كذلك مصادر الطب والهندسة:
ودعوى أنَّ مصادر التشريع مدوَّنة ومتاحةٌ لكلِّ أحد كدعوى أنَّ كتب الطب والفلسفة والاحياء والفلك متاحةٌ في الأسواق وعلى المواقع الأكترونية، فهل يُصحِّح العقلاءُ مجرَّد النظر في كتب الطبِّ التصدِّي لمعالجة المرضى وإجراء العمليَّات الجراحية؟! أم أنَّ ذلك يتوقَّفُ على أنْ يكون المتصدِّي واجداً لملكة الطبابة وأنَّ وصوله لهذه المرتبة لا يتمُّ إلا بعد جهدٍ مُضنٍ يبذلُه في سبيل تحصيل هذه الملَكة تحت رعايةٍ ومتابعةٍ ممَّن سبقوه في هذا التخصُّص، فبعد أنْ يُشرفوا على تعليمه سنينَ طوالٍ ويمتحنوا اتقانَه ويمارس تحت نظارتِهم مهنةَ الطبابة ليتثبَّتوا من أهليَّته، حينذاك يعترفون له بالقدرة على مزاولة هذه المهنة، فيجدُ حينها العقلاء ما يُبرِّر رجوعَهم إليه واعتماد تشخيصه. فكما أنَّ مجرد النظر والمطالعة في كتب الطبِّ لا تُؤهِّلُ الناظرَ فيها لمزاولةِ مهنة الطبابة كذلك فإنَّ النظر في مصادر التشريع لا تُؤهل الناظرَ فيها لاستنباط الاحكام الشرعية.
فالقولُ بأنَّ مصادرَ التشريع مُتاحةُ في الأسواق يُشبهُ القولَ بأنَّ كُتبَ الطبِّ وأدوات الفحصِ والتشريح متاحةٌ في السوق فلكلِّ أحدٍ أنْ يقتنيَها ويحملُها إلى بيته، فهل يتوهَّم عاقلٌ أنَّ ذلك وحده كافٍ لصيرورته طبيباً؟!!.
وهنُ دعوى احتكار الفقهاء لفهم الدين:
وممَّا ذكرناه يتَّضحُ وهنُ دعوى من يدَّعي أنَّ الفقهاء يحتكرون فهمَ الدين لمجرَّد أنَّهم يفتون بعدم صلاحيَّة غير الفقيه لاستنباط الأحكام الشرعيَّة من مصادرها. فإنَّ ما يُفتي به الفقهاء يُفتي به الأطباءُ والمهندِّسون وعلماءُ الفيزياء والكيمياء والفلك، فكلُّ هؤلاء وأشباههِم لا يحتكرون الفهم لعلومهم وإنَّما يُنبِّهون على شرطٍ مُدرَكٍ بالبداهة وهو أنَّ أحدًا لا يسعُه إبداء رأيٍ في علمٍ من العلوم ما لم يكن مُحيطًا بتفاصيله ودقائقه، فكلُّ مَن أراد أن يُعطيَ رأيًا محترمًا في علمٍ من العلوم فإنَّ عليه أولًا أنْ يسلكَ الطريق الذي سلكَه العارفون بذلك العلم، فإذا بلغَ من ذلك العلم مبلغَ الاتقان ساغ له كما ساغ لغيره من العارفين بذلك العلم أنْ يُعطيَ رأيًا في أيِّ مسألةٍ من مسائلِه، وليس لأحدٍ أنْ يحجرَ عليه إبداء الرأي في مسائله بعد أنْ أصبح من ذوي الرأي في ذلك العلم.
ذلك هو منشأ ما يُفتي به الفقهاءُ من عدم صلاحية كلِّ أحد لاستنباط الأحكام الشرعيَّة من مصادرها، فالفقاهةُ ليست حِكرًا على أحد بل هي متاحة لكلِّ أحدٍ سلك طريق الوصول إليها بقطع النظر عن جنسه وعِرقه، فإذا صرف في طريقها وقتَه وجهده واستجمعَ لتحصيل مقدِّماتها قواه وطاقته فأتقنَ علوم العربية بمختلف تشعُّباتها وأتقنَ علم المنطق وعلوم القرآن وقواعد التفسير، وصار من ذوي الرأي في علمِ الحديث والدراية وقواعد علم الرجال والطبقات، وأتقنَ علم الأصول وهو مِن أدقِّ هذه العلوم وأكثرها تشعُّبًا، فإذا صار من ذوي الرأي في هذا العلم وأحاط معها بالمهمِّ من فروع الفقه فحينذاك يتأهَّل لاستنباط الأحكام الشرعيَّة من مصادرها. وفيما عدا ذلك يتعيَّن عليه إمَّا الاحتياط إنْ كان قادرًا على تشخيص مواردِه أو التقليد كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[4] وكما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[5].
فالآية الأولى تُنِّبهُ على قضية كليَّةٍ مرتكزة في جبلَّةِ العقلاء، وهي أنَّ مَن لا يعلم يرجع إلى مَن يعلم، والآيةُ الثانية تُرشد إلى أنَّ المؤمنين لا يسعُهم كافَّة أن ينصرفوا إلى طلب العلم الديني وإلا لاختلَّ نظامُ معاشهم، لذلك يتعيَّن عليهم كفايةً أنْ ينفر من كلِّ فريقٍ منهم جماعةٌ لطلبِ العلم الديني، فإذا تفقَّهوا في الدين كان لهم التصدِّي للفتيا والانذار، وكان على المؤمنين الاستناد إليهم في الوقوف والتعرُّف على أحكام الدِّين لغرض التمثُّلِ لها، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾.
البرهان على لزوم تقليد العامّي للمجتهد:
وهنا أُشير بنحوٍ مقتضَبٍ إلى البرهان على لزومِ تقليد العامّيِّ للمجتهد وهو مكوّنٌ من مقدّمات:
المقدمة الأولى:
إنَّ كلَّ مسلم مكلَّف يعلم جزمًا أنّ ثمّة أحكامًا إلزاميّة واقعيّة مفروضة من قبل الله عز وجل وأنَّ المكلّف مسئولٌ أمام الله تعالى عن التّقيُّد بها وأنّه لا يسعه تجاوزها أو إغفالها وإهمالها كما أنه يعلم أنه ليس له أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء.
المقدِّمة الثانية:
إنَّ هذه الأحكام الإلزاميَّة المسئول عن امتثالها منها ما يرتبط بعباداته كالصلاة والطهارات والصوم والحجِّ والزكاة، ومنها ما يرتبطُ بالمعاملات كالزواج والطلاق والبيع والإجارة والمضاربة والقروض والوصايا والمواريث والنفقات والأطعمة والأشربة والتذكيةِ والصيدِ والحيازة والقضاء والشهادات وأحكامِ الجنايات والضمان والحدود والقصاص والديات وغيرها، وكلُّ باب من هذه الأبواب وغيرها مشتملٌ على مئات المسائل، والمسلم مكلَّفٌ بمقتضى تديُّنه بأنْ ينضبط وفق أحكامها.
المقدمة الثالثة:
إنّه لا يُمكن للمكلف التقيُّدُ والالتزام بتلك الأحكام الإلزاميَّة الواقعيَّة دون معرفتها بتفاصيلها أو معرفتها إجمالاً ليتسنَّى له الاحتياط.
المقدمة الرابعة:
إنَّ الطريق لمعرفة الأحكام الإلهية الإلزامية إما أن يكون بالبحث عن كل حكم بواسطة الرجوع إلى أدلَّته من الكتاب والسنَّة وبقية مصادر التشريع، وهذا ما يُعبَّر عنه بالاجتهاد، وهو يقتضي الإحاطة بالعلوم المُفضية لفهم الكتاب والسنة فهمًا تفصيليًا كعلوم العربية وعلم الأصول والرجال والدراية، فإذا أحاط بمثل هذه العلوم يكون قادرًا على الوصول إلى أدلة الأحكام الشرعية الإلزامية.
ومن الواضح أنَّ الإحاطة بكلِّ هذه العلوم يتطلب صرفَ شطرٍ ليس بالقصير من العمر في دراسة هذه العلوم كما أنَّ ذلك يتطلب استعدادًا ذهنيًا يكون معه قادرًا على فهم واستيعاب ما يدرسه ويتعلَّمه.
وكلا الأمرين ليس متاحًا لكلّ أحد، فلو صرف الناس كلُّهم أوقاتَهم في تحصيل العلوم الدينية لاختلَّ نظامُ الحياة، إذ أنَّها تتقوَّم بالطبيب والبنَّاء والفلاح والمهندس والنجار والحدَّاد والجندي وغيرهم، فلا يسعُ الناس كلُّهم الانصراف إلى وجهةٍ واحدة من مقوِّمات الحياة وإغفال سائر الجهات، لأنَّ في ذلك تقويضاً لنظام الحياة والمعاش.
على أنَّه ليس كلُّ مَن صرفَ وقته لتحصيل علمٍ من العلوم أصبح قادرًا على استيعابه وإجادته، وذلك لتفاوت الناس في استعداداتهم الذهنية.
وبذلك يتبيَّنُ أنَّ هذا الطريق وإنْ كان يُفضي إلى معرفة الأحكام الإلهيَّة الإلزاميَّة إلا أنَّه ليس متاحًا لكلِّ أحد، وعليه وباعتبار أنَّ كلَّ مكلَّفٍ يعلم بوجود أحكامٍ إلهيَّة إلزاميَّة وأنَّه مسئول عن التقيُّد بها، ولأنَّ التقيُّد بالأحكام منوطٌ بمعرفتها، ولأنَّ معرفتها بواسطة الاجتهاد غير متاحٍ له بحسب الفرض فهنا ليس لمثل هذا المكلَّف سوى طريقين يمتثلُ بواسطة أحدِهما ما هو مفروضٌ عليه واقعًا من قبل الله تعالى.
الطريق الأول: هو الاحتياط، وذلك بأنْ يأتي بكلِّ فعل يحتمل وجوبه وأن يترك كلَّ فعل يحتمل حرمته وأنْ يلتزم بكلِّ ما يُحتمل اشتراطه وأنْ يمتنع عن كلِّ ما يُحتمل مانعيَّته وهذا الطريق لو أمكن لبعض المكلفين الالتزام به فإنَّ من العسير على كلِّ أحدٍ الالتزامَ به، وذلك لأنَّ الاحتياط يقتضي الإعادة كلَّما احتُمل فساد العمل ويقتضي التّكرار في موارد التردُّد فيما هو المأمور به واقعًا كما لو وقع الشك في جهة القبلة فإنَّ الاحتياط يقتضي تكرار الصلاة على أنْ تكون كل واحدة إلى جهة من الجهات الأربع حتى يُحرزَ المكلَّف أنَّه صلَّى الى الجهة الواقعية للقبلة كما يقتضي ترك المشتبهات جميعًا وإنْ كثرت كما لو علم المكَّلف بأنَّ أحد الباعة يبيع لحمًا محرَّمًا إلا أنَّه لا يعلم مَن هو ذلك البائع فالاحتياط في مثل هذه الصورة يقتضي عدم الأكل من كلِّ اللحوم التي تُباع في السوق وهكذا.
الطريق الثاني: هو الرجوع في مقام التعرُّف على الأحكام الإلزامية التحريمية والوجوبية إلى المجتهد. وهذا هو المعبَّر عنه بالتقليد وهو سبيل كلِّ مكلفٍ لا يُتاحُ له الاجتهاد أو الاحتياط، إذ أنَّ كلَّ مكلفٍ لا يُمكنه التقيُّد بالأحكام الإلهيَّة التي يعلم بمسئوليته عن امتثالها إلا بالاحتياط أو المعرفة التفصيليَّة للأحكام الإلهيَّة، والمعرفة التفصيليَّة لا تكون إلا بالاجتهاد فإذا افترضنا أنَّه غيرُ متاحٍ للمكلف فحينئذٍ يتعيَّنُ عليه الرجوع للمجتهد للتعرُّف على الأحكام التي هو مسئولٌ عن امتثالها، وهذا هو التقليد.
وبذلك يثبت وجوبُ التقليد على غير المجتهد والمحتاط، وليس ثمة من طريقٍ رابع يُمكن للمكلفِ سلوكُه للخروج عن عُهدة التكاليف المفروضة عليه والتي يعلم بمسئوليته عن امتثالها.
وهذا الطريق اعني التقليد لا يختص بالشأن الديني، فالمريضُ إذا لم يكن عارفاً بالدواء الذي ينفعه للشفاء من مرضه لا سبيل له إلا الرجوع إلى الطبيب ليشخِّص له مرضه وليصف له الدواء المناسب لمرضه.
وهكذا هو الحال فيمَن أراد يبنيَ داراً أو أن يصلحَ جهازاً أو أنْ يتَّخذَ لنفسه سريراً أو خزانةً فلأنَّ من غير الميسور له أنْ ييني داراً لنفسِه إذا لم يكن مهندساً ولا أنْ يصنع سريراً إذا لم يكن نجَّاراً، لذلك فلا سبيلََ له إلا أنْ يرجعَ في ذلك إلى أهلِ الاختصاص في هذا الشأن وهكذا ينسحبُ الأمرُ على سائر الشؤون الحياتية.
فرجوعُ غيرِ المختصِّ إلى أهل الاختصاص فيما يتَّصلُ باختصاصِهم مِن الأمور التي تقتضيها ضروراتُ الحياة، لذلك كانت السيرةُ العقلائيَّةُ جاريةً على الرجوع في كلِّ شأنٍ إلى أهل الاختصاص في ذلك الشأن، فالرجوعُ في معرفة الأحكام الشرعيَّة إلى المجتهد الذي هو مِن أهل الاختصاص في الشأنِ الديني ليس استثناءً من ذلك بل هو جارٍ على وفقِ مقتضيات السيرةِ العقلائيَّة.
فهؤلاءِ الذين يتنكُّرون للتقليد يُمارسونَه في كلِّ يومِ في مختلفِ شئونِهم، ولكنَّها المكابرةُ للحقِّ نعوذُ باللهِ تعالى من الضَّلالِ بعد الهُدى، ومِن الحَوْرِ بعد الكَوْر.
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمَّد واغفر لعبادِك المؤمنين
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾
والحمد لله ربِّ العالمين
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
24 من ربيع الأول 1444هـ - الموافق 21 اكتوبر 2022م
جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز
................................................
[1] - سورة الزخرف / 22-23
[2] - سورة البقرة / 170
[3] - سورة الأنبياء / 53-54
[4] - سورة النحل / 43، سورة الأنبياء / 7
[5] - سورة التوبة / 122