مقدمة
فـتح تطور الأبحاث اللـغوية لدى الـغربيين في ما عُرف بعلم اللسانيّات البـاب أمام السؤال عن مدى تأثير هذا الـتطور -لاسيّـما بعد أن كان الحديث فيـها عن اللغة بوصفها لغة مهما كانت، لا عن لـغة محددة- على الـدراسات الإسلامية، أو فقل: على هذا الـتراث الإسلامي الهائل، لا سيّما وإنّ جزءًا مهمًّا منه ابتنى على الـنصّ، فارتبط باللغة وقـواعدها.
ومن نـاحية أخرى شكّل الـقرآن الـكريم، وتفسيره، وتأويله المصدر الأوّل من مصادر المعرفة. ويربط الباحثون الاهتمام باللـغة العربية من قبل المسلمين بالقرآن من جهة أنّ نزول الـقرآن بلغة الـعرب ولّد هذا الاهتمام، كما سـاهم في تطوّر هذه اللغة وأبحاثها.
أضف إلى ذلك ارتباط الشريعة بالسنة القولية للنبي (صلَّى الله عليه وآله) والمعصومين (عليهم السَّلام) عند الإماميّة وتطور البحث اللغوي عند الاتجاه الأصولي.
ومن هذه الدراسات ما نشر حديثاً عن المنحى القصدي في التفسير، وهو ما سنقدّمه هنا في دراسة مختصرة.
الفرق بين القصديّة والاعتباطيّة:
اللغة: نظام معرفي، ومعرفيته تعتمد على التفاعل الحيوي بين الحاجة الإنسانية للتعبير، والواقع الموضوعي، واللغة المنجز الإنساني الأساس في تطوير المجتمع الإنساني. ويشير (علماء النفس) إلى أنّ اكتساب اللغة استعدادٌ ينبع جذرياً من الجينات البشرية.
إنّ أولويات التعلّم تظهر منذ الطفولة حتى عند الأطفال (الخرس).
الاتجاه القصديّ وهو ما يسمّيه صاحب هذه النظرية[1] التفسيرية بـ(المنهج اللفظي)، ويعتبره منهجاً جديداً في تفسير القرآن الكريم يعتمد على إلغاء الترادف في اللغة وما يتبعه من اعتباط، وينظر إلى القرآن بوصفه نظاماً لغوياً محكماً مستقلاً بذاته لا يخضع لقواعد (الاعتباط اللغوي)[2]. ونجد هنا من الضروري أن نوضح مفردتي (الاعتباطية) و(القصدية):
فالاعتباطية هي عبارة عن جزافية الدلالة واتفاقية الارتباط بين الأسماء ومسمّياتها. وقد نظر لهذه النظرية كبار أهل اللغة في الشرق والغرب، كـ(عبد القاهر الجرجاني) و (دي سوسير).
وأمّا القصدية، فهي تعني الإيمان بوجود نوع من العلاقة الواقعية بين الدال والمدلول.
ببيانٍ آخر: القصدية: القصد في اللغة إتيان الشيء قصده، أي: نحوه، وفي الفلسفة (نظرية القصد) كانت سائدة لدى فلاسفة العصور الوسطى، وعندهم القصد: الفعل الذي يتجه فيه العقل نحو الموضوع ليدركه، والقصدية: هي خاصية الشعور حينما يشير إلى أو يتجه نحو الشيء ليدركه، وقد استمرت في الفلسفة الغربية وامتدت إلى الفلسفة المعاصرة حيث قام (برنتانو)[3] بإحيائها وتجديدها في دراساته النفسية وأقنع تلميذه (ادموند هوسرل)[4] بأهمية فكرته عن القصدية فاقتنع بها وطورها في منهجه (الفونومونولوجي).
ونأخذ من المصطلح -عادةً- الفهم العام لمعرفة مؤدّاه ومعناه، فالشعور لا يمكن أن يفصح عن نفسه إلا حينما يكون مقصده شيئاً محسوساً. والشعور يستخلص معناه من الواقع (أساساً) ونعبر عنه بالكلام المحدد للمعنى ويمكن أن نطلق على هذه الكلمات مقاصد أو غايات.
قصدية اللغة عند عالم سبيط:
اللغة: نظام يتألف من مجموعة من العناصر الصوتية واللفظ (الكلمة)، سلسلة صوتية من الحروف (الفونيمات) وتعتبر أساساً حركات طبيعية (فيزيائية) تدل على معنىً محدد وبالمعنى الذي يجعل الكلمة تختزن قدرة على التعبير عن معنى حسي أو عقلي أو مادي.. ينبع من مفهوم الحركة الأصلية (أو الجوهرية).. إذاً فلا ترادف أو استعارة فلكل مفردة معناها الذي يحدده التسلسل الصوتي لوجود معنى مستقل لكل حرف وهو ما يناقض الرأي القائل بالاعتباطية.
الاعتباطية: الاعتباط من حيث الدلالة والمعنى (أن الأشياء سمّيت بدون وجود صلة بين الشيء وتسميته) مفهوم تداولته الإنسانية منذ زمن طويل ويذكر النيلي أنّ محاورة (كراتيليس) تذكر موقف (هيرموجينز) عندما يقول: "لا يوجد اسم ينسب لشيء معين تمنحه الطبيعة، ولكن فقط عن طريق العادة والتقاليد لأولئك الذين يستخدمون الاسم والذين يجدون تلك الأسماء"، وهذه الفكرة (أي الاتفاق) على الأسماء هي التي نجحت في النهاية.
فتمّ تأسيس مبادئ علوم اللغة والبلاغة وأبحاث الدلالة اللفظية عليها. (كما في عالمنا الإسلامي)، حيث تمّ تعميم الفكرة إلى دلالة كلّ الألفاظ، واعتبر عبد القادر الجرجاني أوّل واضع لها. أما في الغرب فقد تم تأسيس الاعتباط على يد العالم اللغوي (دي سوسير) فسمّاه لأول مرة بالمبدأ الاعتباطي.
من هو عالم سبيط النيلي:
باحث ومفكر عراقي مهتم بالدراسات القرآنية، من مواليد عام 1956م في بابل.
نشأ في قرية السورة التابعة لناحية النيل شمال مدينة الحلة في محافظة بابل، وقد أنهى دراسته الثانوية في ثانوية الفيحاء في الحلة، وأكمل دراسة البكلوريوس والماجستير في جامعة أوديسا / أوكرانيا.
ألقت دراسته الهندسية بظلالها على نظرته للقرآن الكريم ككتاب إلهيّ يحتوي نظاماً هندسيّاً يليق بالمتحدث العظيم الذي خلق كل شيء بقدَر، فحريٌّ بكلامه أن يكون دقيقاً ومحتوياً على نظام هندسي متكامل بدءًا من الحروف وصولاً إلى المفاهيم.
وهذا ما دفعه إلى رفض تبني نفس الطرائق الموروثة لدى المفسرين واللغويين في فهم القرآن الكريم.
وقد وضع في كتابه (النظام القرآني) جملة من المبادئ لقراءة كتاب الله ومعاملته بطريقة تختلف عن طريقة التعامل مع كلام خلقه، إيماناً منه بأنّ كلام الخالق قصدي الدلالة، وكلام خلقه قد يتخلّله الاعتباط والعشوائية في توظيف الدلالات كالمجاز، والترادف، والمشترك اللفظي، وغيرها.
ليس القرآن الكريم هو الوحيد (قصدي الدلالة) في نظر عالم سبيط، و إنّما حديث النبي (صلَّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السَّلام) أيضاً، بل إنّه يرى أنّ اللغة في الأصل وبشكلها العام (قصدية الدلالة) أيضاً، لكنّ تغيير الظروف الزمكانية والاجتماعية هي التي تتحكم بمدى ثبات قصدية لغة مجتمع ما من عدمه.
وقد أثارت أفكاره زوبعة في وسط الساحة الثقافية بين مؤيد ومعارض.
توفي النيلي في يوم 17 من شهر أغسطس من سنة 2000م، عن عمر 44 سنة.
حصل النيلي على تأييد ودعم الكثير من الأكاديميين وأساتذة الجامعات في العراق، خصوصاً بعد بروز نجمه بعد وفاته، وبعد انتهاء حكم صدام حسين الذي كان يمثّل مانعاً رئيسيّاً من ظهور الفكر النيلي القصدي إلى العلن، فعُقدت بعض الندوات والأمسيات التي تتناول فكره، فساهمت إلى حد ما في انتشار أفكاره واجتيازها حاجز الحدود شيئاً فشيئاً لتصل إلى العديد من الدول العربية والإقليمية.
تأثر الكثير من الأكاديميين والمثقفين بأفكاره ونظرياته، فأخذ بعضهم على عاتقه إكمال ما ابتدأه النيلي ببحوث تعتمد المنهج القصدي الذي أسسه سواءٌ على الصعيد القرآني أو على الصعيد الفكري بشكل عام كالتأريخ، واللغة، والفلسفة. وأصحاب بدعة السفارة في ثوبها الجديد سرقوا هذه المنهجية وأسّسوا عليها أفكارهم.
آثاره: له كتب متعددة (16 كتاب) أهمها:
النّظام القرآني مقدمة في المنهج اللفظي: وفيه مبادئ المنهج اللفظي لأجل التعامل بقصدية مع كتاب الله. ويعدّ هذا الكتاب من أهم كتبه في المجال القرآني.
أسس ومبادئ المنهج اللفظي
التعريف بالمنهج اللفظي وغاياته
المنهج اللفظي: هو منهجٌ تحليليٌّ لآيات القرآن العظيم يعتمد على قواعد معينةٍ تخصّه، وله غايات ومبادئ وطرائق مختلفة عن مناهج التفسير المعتادة.
وأمّا غاياته: فأهمّ غاياته هي الكشف عن نظامه الداخلي، وفتح الأبواب للمعرفة القرآنية كي تحلّ محلّ المعرفة التجريبية العاجزة عن إحداث التغيير المنشود في النظام الطبيعي سعياً لتغيير العالم وفق الإرادة الإلهية وتحقيق الهدف الأول من الخلق. ومن خلال ذلك تتمّ الإجابة عن جميع المعضلات في أي فرعٍ من فروع المعرفة.
ويقول صاحب النظرية: "ولا يمكن إعطاء تعريفٍ لهذا المنهج أو وصفه بأسطرٍ معدودةٍ، ولا يمكن كذلك تحديد غاياته. فمن طبيعة هذا المنهج أن التعريف به وتحديد غاياته وخصائصه وطريقة عمله ونتائجه تتمّ سويةً من خلال تطبيقاته التي لا حدود لها"[5].
مبادئ المنهج اللفظي
ويمكن تلخيص هذه المبادئ الأولية التي هي بديهيات وأسس المنهج اللفظي في عناوين رئيسةٍ، هي:
المبدأ الأول: مبدأ عدم الاختلاف في القرآن
يؤمن هذا المنهج أنّ القرآن يخلو من أي اختلافٍ بصفةٍ مطلقةٍ، ويندرج تحت ذلك إيمانه بانعدام التناقض.
وهذا الإيمان له فوائدُ كثيرةٌ في عملية مراجعة النصّ الديني العام، منها: إظهار التناقض عند المفسّرين والذي هو نوعٌ من الاختلاف.
المبدأ الثاني: مبدأ قصور المتلقي
يؤمِن هذا المنهج أن المخلوق قاصرٌ عن الإحاطة بكلام الخالق قصوراً دائماً. ومعنى ذلك أنّه مهما بلغ من المعرفة بالقرآن فسيظلّ محتاجاً إلى النظر فيه والتفكّر في شأنه.
أي أنّ المتكلِّمَ إذا تكلّم عن شيءٍ ما فقد تكلّم ضمناً عن نفسه أيضاً، ولمّا كانت معرفة الله لا نهائية، فتبقى معرفة كلامه لا نهائية أيضاً.
المبدأ الثالث: مبدأ التغاير عن كلام المخلوقين
يؤمن هذا المنهج بأنّ كلام الخالق مغايرٌ لكلام المخلوقين وإنْ تشابهت بعض الألفاظ اتفاقاً.
وفائدة هذا المبدأ هي في أنّه يطبّقُ لأوّل مرّةٍ عملياً داخل منهجٍ تفسيريٍّ ليكون جزءًا منه ودعامةً من دعائم حركته، وبذلك يمكنه وضع الحدود الفاصلة بين الكلام المعجز والكلام غير المعجز.
المبدأ الرابع: مبدأ خضوع المتلقي للنظام القرآني
يؤمن المنهج اللفظي بأنّ على الباحث الخضوع للنظام القرآني إنْ أراد التوصّل إلى معارف القرآن.
فأمّا معنى النظام القرآني فهو: أن في القرآن نظامٌ محكمٌ شديد الصرامة منتشرٌ في جميع أجزائه بحيث أن اللفظ مفردةً كان أو حرفاً والترتيب أو التسلسل المعيَّنُ للألفاظ في كلِّ تركيبٍ هو جزءٌ من هذا النظام، والخطأ في تصوّر شيء منه في أي موضعٍ يؤدي إلى الخطأ في تصوّر فروعٍ كثيرةٍ متصلةٍ بذلك الموضع. فالعبارة الأصح ليست قولنا: (أنّ في القرآن نظاماً محكماً) بل (القرآن هو بذاته نظامٌ محكمٌ).
وأمّا معنى الخضوع فهو: أنّ على المتلقّي السير على ذلك النظام، والتحرّك، وفقه، واكتشاف مسالكه، وطرقه.
إنّ مبدأ الخضوع للنظام القرآني قد مكّن المنهج من اكتشاف ما أملاه علماء التفسير على القرآن من آراءٍ وما خالفوا فيه نظامه. (كما يقول صاحب النظرية)
فالخضوع للنظام القرآني في هذا المنهج لا يعني الاعتراف به وحسب، بل يعني أنّ على الباحث أن يكون تابعاً للقرآن لا أن يكون هو قائداً له.
المبدأ الخامس: مبدأ التبيين الذاتي
يؤمِن المنهج اللفظي بأنّ القرآن مبيِّنٌ لكلِّ شيءٍ ومبيِّنٌ لذاته
فأمّا كونه تبيانٌ لكلّ شيء معلومٌ من النصّ القرآني نفسه:
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}[6]، ومع ذلك فهو يطبّق قواعده على الآية ليبرهن أن المقصود بـ (كلَّ شيء) فيها هو (كلّ شيءٍ) فعلاً، وليس كما قال المفسّرون من أنه (الأمرُ المُشكلُ) من أمور الدين.
وأمّا كونه مبيِّناً لذاته فيعتمد على ثلاثة أسسٍ هي:
الأساس الأول: إنّ القرآن هو (نظامٌ محكمٌ). ومعلومٌ أنّ كلَّ نظامٍ محكمٍ مبيِّنٌ لنفسه من خلال النظام نفسه.
الأساس الثاني: وردت في النصوص القرآنية صفةُ التبيين على ثلاثة مستوياتٍ:
الأول منها: أنّه (تبيانٌ لكلّ شيء) كما مرّ سابقاً.
والمستوى الثاني: أنّه (قرآنٌ مبينٌ) أي مبينٌ بنفسه.
وأما المستوى الثالث: وهو على مستوى الآيات (آياتٌ بيِّناتٌ) أي بنفسها.
الأساس الثالث: إنّ الملّة المسلمة قد أجمعت وأقرّت للقرآن اتّصافه بصفتين كان قد وصف هو بهما نفسه. الأولى أنّه كتابٌ للهداية والثانية أنّه كتابٌ مُعجِزٌ.
واجتماع الصفتين يحتّمُ أن يكون مبيِّناً لذاته، بل انفراد كلٍّ منهما يحتّم ذلك. إذ لو كان مُبهماً لفقد القدرة على الهداية، فلا بدّ أن يكون (مبيِّناً) وآياته (بيّنات). وإذا لم يكن مبيّناً لذاته كان خلواً من أي نظامٍ فيسقط الإعجاز إذ إنّ فاقد النظام لا يكون مُعجِزاً.
المبدأ السادس: مبدأ العلو والشمول والحاكمية والامتناع
يؤمن هذا المنهج بأنّ القرآن ممتنعٌ عن قبول أي علمٍ أو معرفةٍ غير علمِه هو، فهو متعالٍ على كلّ علمٍ آخر لأنه كلام الله الذي (أنزله بعلمه). فهو حاكمٌ على كلّ علمٍ غير محكومٍ بأيِّ علمٍ.
مبرّرات الإعلان عن المنهج اللفظي
إنّ لإعلان هذا المنهج مبرّراتٌ عديدةٌ تجعل منه ضرورةً لا محيص عنها، ويمكن وضعها اختصاراً في ما يلي:
أولاً: إنّه المنهجٌ الوحيد الذي يلائم نظام القرآن من حيث كونه كتاباً معجزاً يسري فيه نظامٌ محكمٌ. فالكشف عن النظام القرآني هو الطريق الوحيد لمعرفة القرآن وأسراره وفتح أبواب معارفه وعلومه.
ثانياً: إنّه الأسلوب الوحيد الذي يعطي المعنى الحقّ لـ(التدبّر) وتنفيذ أمره تعالى في قوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[7].
ثالثاً: إنّ الاختلاف في الأمة، بل في الملل الدينية إنّما مردّه إلى الاختلاف في الكتب المنزّلة ومنها القرآن. فالقضاء على عنصر الاختلاف وسببه يستلزم استخراج المعاني التي لا اختلاف فيها والحقائق التي لا يمكن إنكارها أو تأويلها ليحي من حيّ عن بينةٍ ويهلك من هلك عن بيّنة.
رابعاً: لا يمكن إبراء ذمّة المخلوق ما لم يتّبع الشرع الإلهي، ولا يمكنه اتّباع هذا الشرع ما لم يعرف ما أمره الله به وما نهاه عنه بصورةٍ قاطعةٍ، كذلك لا يمكنه القطع عند اتّباع أيٍّ من المذاهب والطرائق، لأنَّه إذا قطع بصحّتها فلا يمكنه القطع بصحّة أحكام ذلك المذهب.
خامساً: إن هناك دعاوى كثيرةً لمنكري سماوية القرآن ودعاوى للعلماء للردّ عليها. ومنها إنكار كونه كلاماً معجزاً ومنها الادّعاء بتناقض آياته مع بعضها البعض.. وهي دعاوى مستمرةٌ إلى اليوم بسبب ضعف الردود وهشاشتها وبطلان حجّتها. ولا سبيل إلى قطع دابر تلك الدعاوى من جذورها إلاَّ سبيل الكشف عن إعجاز القرآن وإظهار نظامه الداخلي.
اصطلاحات المنهج اللفظي
هذه جملة من المصطلحات وهي تعتبر المفاتيح التطبيقية لهذا المنهج.
أ/ اللفظ:
ويقصد به اللفظ الواحد لا المادة اللغوية وحسب. فكل اشتقاقٍ من مادةٍ ما هو في المنهج اللفظي لفظٌ مستقلٌّ بحدِّ ذاته. فالمفرد مثلاً يختلف عن الجمع.. وهكذا.
هذا في المرحلة الأولى، أما في المرحلة المتطورة فكلّ محلٍ إعرابيٍّ هو لفظٌ مستقلٌ أيضاً. فالألفاظ الآتية مثلاً يعتبرها المنهج اللفظي ألفاظاً مستقلّةً في المعنى والوظيفة: كفّار، أولئك، لولا، يوماً، قل، كافرون، أرأيت، أمّاذا، الظالم، آمنت، الظالمين… وهكذا.
وهذا التفريقُ بين الألفاظ هو الأساس في العمليات البحثية للمنهج اللفظي وفوائده لا تحصى كثرةً.
ب/ المركّب:
يُقصدُ به اقتران لفظين أو أكثر سوياً لتكوين عبارةٍ أو مقطعٍ قرآني معيّنٍ، ولا يشترط في المركب أن يكون آيةً كاملةً أو جملةً تامة المعنى مثل: ذلك الفوز العظيم، والسماء ذات، بئس القوم، وحاق بهم، وقالوا لولا، فضل الله.. الخ.
ينفع هذا المصطلح في البحث عن الآيات التي تتضمّن نفس المركب مثل (والسماء ذات الحبُك)، (والسماء ذات البروج) حيث اشتركت العبارتان بمركّبٍ واحدٍ هو (والسماء ذات). ومرد ذلك عند المنهج هو أن كلّ لفظٍ وضع عن قصدٍ في موضعه مقترناً بلفظٍ آخر، وعند عودته للظهور في سياقٍ آخر فيرى المنهج وجود علاقة بينهما في الموضعين. وبهذه الطريقة يدّعي اكتشاف حقائق كثيرةً، وأدرك وجود النظام الصارم في القرآن الذي يمثّل حقيقة الإعجاز القرآني.
ج/ التركيب:
ويُقصد به الجملة التامة المعنى ولا يُشترط أن يكون آيةً كاملةً، بل قد يكون شطر آيةٍ أو آيةٍ وشطرٍ أو آيتين.
استخدم هذا المصطلح لدراسة العبارة القرآنية التامة المعنى لأغراضٍ شتى منها إبطال قواعد النحويين وتأويلات المفسّرين.
د/ الرباط:
يُقصد به اللفظ أو المركب الذي حافظ على صورته اشتقاقاً وإعراباً ودخل في تركيبين منفصلين. ويتألف الرباطُ من أنطقةٍ عددها مساوٍ لعدد الألفاظ المشتركة. فالأنطقة قد تمرّ بأكثر من رباطٍ خلال النسيج القرآني. فمثلاً: هناك رباطٌ بنطاقين بين آية النبأ وآية صاد:
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا}[8].
{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا}[9].
فالرباط في الآيتين مؤلّفٌ من نطاقين هما: (جهنّمَ) بالنصب، و(للطاغين). وكلاهما بنفس الصورة في كليهما.
أمّا (مآب) و(مآبا) فهذان اللفظان هما مركز أو نقطة شدّ هذه الأنطقة ويسميها المنهج بـ (المشدّ)، وهو دوماً مختلفٌ إعراباً داخل النطاق.
وينفع هذا المصطلح -كما يُدّعى- في الكشف عن بعض المقاصد القرآنية والحقائق المتصلة مع بعضها في مختلف المواضع.
هـ/ الاقتران:
يُقصد بالاقتران مجيء ألفاظ بعينها في التراكيب المختلفة في مواضع متباينة، أو مجيء مركبات في تراكيب.
مثلاً: تكرار ذِكر مفردة (القلب) مع مفردة (الكفر) في صيغٍ إعرابيةٍ مختلفةٍ يعدُّ في هذا المنهج اقتراناً لفظياً. وكذلك تكرار ذِكر (العقل) مع (الشرك)، فهذا يعدُّ اقتراناً لفظياً بين ذكر العقل والشرك.
ويفيد هذا الاقتران في الكشف عن حقائق جديدة في كلّ القرآن وعلى مختلف المستويات ويعدُّ أساساً لعملِ المنهج.
و/ الشعاع:
هو أبسط أنواع الاقتران المنفصل في الطبقة الأولى، ويشير إلى العلاقة بين لفظين اقترن كلٌّ منهما مباشرةً بلفظٍ أو مركّبٍ، ولم يتّصلا مع بعضهما في كل القرآن في أي موضعٍ مثل: (والسماء ذات/البروج) و(السماء ذات/الحبك) (السماء ذات/الرجع). فالبروج والحبك والرجع هي ألفاظٌ مرتبطةٌ بشعاعٍ مع بعضها البعض.
وتفيد معرفة الشعاع حالياً في (تخمين) وجود علاقة بين الآيات والسور والوقائع والمفاهيم، والتنبيه إلى مواضع الأربطة بأخذ عنوان بحثي عنها.
ز/ المحور:
إذا اقترن لفظٌ أو مركّبٌ بعددٍ من التراكيب ثلاث مراتٍ أو أكثر محافظاً على وضعه الاشتقاقي والإعرابي سويةً سمّاه المنهج محوراً للتراكيب الثلاثة أو ما هو أكثر.
مثل لفظ (رجال) بالرفع في هذه التراكيب:
{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ}[10]، {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}[11]، {رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ}[12]، {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ}[13]، {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ}[14].
فهذا اللفظ (رجالٌ) يعدّه المنهج محوراً، وهو بحسب قواعده يعني نفس الشخوص في النظام القرآني.
وتفيد معرفة المحاور في رصد العلاقات بين الآيات وتوسيع دائرة الاقتران ووضع التسلسل الزمني للحوادث إلى منافع أخرى كثيرة جداً.
ح/ الفارز:
إذا تكرّر استخدام مركّب معيّن مثل (الذين آمنوا) واقترن به في بعض المواضع مركب آخر مثل (وعملوا الصالحات) سمّى المنهج اللفظي المركب الثاني بـ (الفارز). حيث يحدّد المركّب الثاني مجموعة أصغر ضمن مجموعة أكبر.
يستعمل المنهج هذا المصطلح لمعرفة التفاصيل في مختلف العقائد والتكوينات والفئات من خلال تحديد المجموعات.
ط/ الترتيب:
يُقصد به في هذا المنهج التسلسل الذي عليه الألفاظ في تركيبٍ معيّنٍ أو في مركبٍ ما. ففي القرآن يكون هذا التسلسل مقصوداً ولا يؤدي المعنى التام سواه.
ي/ المعنى التام:
يُريد به المنهج المعنى الكلّي للجملة التامة (التركيب)، فهو معنىً خاصٌ بالجملة لا اللفظ. والمعنى التام لا يُدرك، ولكن تُدرك أجزاءٌ منه بحسب قوّة الكشف للاقترانات المتصلة والمنفصلة وعدد الطبقات.
يُستعمل هذا الاصطلاح لشرح قواعد المنهج وبيان بعض مناحي الإعجاز.
ك/ المعنى الذهني:
ويقصد به المنهج المعنى المتبادر للذهن عند استلام لفظ أو تركيب معيّن سماعاً أو قراءةً، ويعتبره المنهج معنىً نسبياً متقلباً في المكان والزمان والأشخاص.
ل/ المعنى الأصلي:
يُقصد به في هذا المنهج المعنى الذي لا يوصف إلاَّ بجملةٍ طويلةٍ من المفردات لأجل شرح مفردةٍ ما بحيث يكون هذا الشرح جامعاً لكلِّ الاستعمالات الصحيحة (نسبياً)، ويقوم بتصحيح الاستعمالات المعجمية أيضاً.
يعثر المنهج اللفظي على المعنى الأصلي من خلال الاقتران في النظام القرآني وعلى ضوئه يتمكّن من تصحيح المعاجم ومعرفة الاستعمال الصحيح من غيره.
م/ المعنى الحركي:
يقصد المنهج به المعنى ما قبل الأصلي الذي يطابق حقيقة وجوهر المسمى في حركته الأولى في الوجود، وهو المعنى الذي يصف المسمى وصفاً حقيقياً شاملاً.
مثالٌ توضيحي: لتوضيح المعاني الثلاثة السابقة نورد المثال الآتي:
فلفظ (تراب) مثلاً له ثلاثُ معانٍ هي:
المعنى الذهني: وهو المعنى المتبادر، وهو متغيّرٌ دوماً وينطوي على استعمالات مجازيةٍ في كلام المخلوقين كما في قولهم (وجدته تراباً) أي لشحوبه إن كان المقصود به رجلاً، أو لتهشمه إلى قطعٍ ناعمةٍ إن كان المقصود بهذا القول شيئاً من زجاجٍ مثلاً.
المعنى الأصلي: إنّ المقصود بالتراب وفق هذا المعنى: (الأجزاء والقطع الدقيقة المتشابهة والتي إذا اجتمعت انبثقت منها حركة ممكنة).. وهذا المعنى ممكن إطلاقه على أي شيء يتصف بهذا الوصف وليس فقط على التراب المعروف.
المعنى الحركي: هذا المعنى يصف حقيقة كلّ جزء ودقيقة فيه (أي التراب) وصفاً جوهرياً داخلياً يطابق تكوينها.
إذن فالمعنى الذهني هو جزءٌ من المعنى الأصلي اللغوي، والمعنى الأصلي في اللغة هو جزءٌ من المعنى الحركي.
ولما كان القرآن لا يستعمل إلاَّ المعنى الحركي فإنَّ شرح ألفاظه عن طريق المعنى الذهني الاصطلاحي المتغيّر يجعل القرآن متناقضاً ويُفقد نظامَه المحكم. ولهذا السبب (أي المعنى الحركي) قالوا: إنّ المعنى التام للعبارة القرآنية الكاملة هو شيءٌ لا يُدرك، وإنّما تُدرك أجزاءٌ منه عن طريق الاقتران.
وبعبارة مختصرة نختزل توصيف المنهج القصدي، والدليل الذي تتم صياغته لإثبات مدّعاه مركب من أمور:
1/ أنّ النظام المحكم في القرآن يقتضي أن يكون لكل لفظ دلالته المختلفة.
2/ أنّ الإيمان بالترادف ينافي فكرة الوضع، أي وضع الألفاظ لمعان محددة من قبل الواضع، بل وضع الحروف أيضاً.
3/ أنّ الالتزام بوجود معانٍ للحروف يمنع من الترادف ودلالة الألفاظ المتعددة على معانٍ واحدة؛ لأنّه لا يمكن أن يؤدي المعنى المحدد المقصود للقائل إلا لفظًا واحدًا او ترتيبًا واحدًا.
لماذا يرفض فكرة الترادف والمجاز وغيرها من أساليب اللغة العربية؟
أول ما يمكن ملاحظته على هذا المنهج أنّه يعتمد على نظرية لغوية حديثة تتبنى وضع الحروف وأنّ لها معاني مستقلة في نفسها، بخلاف ما هو المعروف من أنّ الحروف ليس لها معنى مستقل في نفسها وإنما معناها متقوم بغيرها. وأساس هذه النظرية يبتني على العلامات الصوتية، أي أنّ للألفاظ دلالة سابقة ثابتة، وهذا الأمر يجعل اللغات جميعها ترجع الى أصل واحد، فيما لا يكون للأصوات أي قيمة مسبقة في المبدأ الاعتباطي. وتشكّل هذه الفرضية المسبقة أساساً للانطلاق نحو عملية تخطئة لتراث تفسيري وفقهي وأصولي ممتد لقرون، دون أن يكون للحل القصدي سوى إشارات قرآنية ونبوية.
فهو في الواقع لا يرقى لمستوى المنهج أو النظرية، وإنما هو فرضية تقوم على أساس التخمين والاحتمال وتستخلص من الاحتمال يقيناً غير مطّرد وثابت، فلذا من المناسب التعبير بالاتجاه بدلاً عن المنهج، وبالفرضية بدلاً عن النظرية.
ويسجّل هذا الاتجاه إشكالية يعتبرها أساس رفضه لكون القرآن خاضعاً لأساليب اللغة العربية، وهي تتمثل في أنه لا فائدة من الاعتقاد بأنّ القرآن هو كلام اللّه -تعالى- من جهة، ثم التعامل معه على أنّه يجري مجرى كلام الخلق في (قواعده وأساليبه) من جهة أخرى، إذ النتيجة المتحصلة في النهاية أنّه مثل كلام المخلوقين. وقد ارتكز سابقاً هذا الاتجاه على مبدأ المغايرة بين كلام الخالق والمخلوقين.
المناقشة الأولى:
معنى نزول القرآن بلغة العرب:
من أهم عوامل حفظ اللغة العربية هو اهتمام المسلمين بها، هذا الاهتمام الذي كان له منطلقه الديني، وهو كون القرآن قد نزل بلغة العرب، ففهم كتاب اللّه يتوقف على هذه اللغة.
وتشكّل الآية {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[15] الشاهد الرئيسي على مقولة مشهورة بينهم من أنّ القرآن نزل بلغة العرب وأساليبهم.
الاتجاه القصدي يرفض هذه الفكرة من أساس، وينحو لتفسير الآية منحىً آخر، فيرى أنّ القرآن له نظامه الخاص ولا يجري على لغة العرب.
يقول هذا الاتجاه: أمّا الآية، فاللّه (عزَّ وجلَّ) لم يقل إنّه كتاب عربيّ، بل قال: إنّه كتاب إلهي بلسان عربي، واللسان هو شيء غير القواعد والأساليب، ولعل نظره في ذلك إلى قوله تعالى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}[16].
ويلاحظ على هذا الكلام:
الآيات الواردة كلّها تنص على أنّه كتاب عربيّ، فلاحظ قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[17]، وكذلك {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[18]، و{قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}[19]، و{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[20]، و{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}[21]، وفي جميع هذه الآيات ورد: (أنزلناه)، (جعلنا)، (أوحينا)، فهل هذا كلّه يدلّ على أنّ القضية هي مجرّد لسان؟! ولا أدري، كيف تم نسيان جميع هذه الآيات مع أنّ طريق القصدية يقتضي ملاحظة كل ما ورد حول هذه المفردة لتحصيل المعنى.
هذا مضافاً إلى أنّ غموضاً يكتنف المراد من كون القرآن إنّما نزل باللسان العربي فقط دون أن يكون عربيّاً، فهل هو مجرّد استخدام الحروف العربية دون الخضوع لنظام اللغة؟! هذا ما يظهر أنّه المراد لدى الاتجاه القصدي، ولهذا يرفض تطبيق قواعد البلاغة العربية على النصّ القرآني.
وهنا نسأل: عن السرّ في عدم مخالفة القرآن لقواعد العرب النحوية، ولماذا راعى رفع الفاعل، ونصب المفعول، وغير ذلك من عشرات القواعد، أي: إنّ سؤالاً يتّجه للتفسير القصدي عن الفرق بين قواعد النحو وقواعد البلاغة حتى يؤمن بتطبيق قواعد النحو دون البلاغة.
مضافاً إلى مسألة أخرى، وهي قضية الإعجاز القرآني وتحدّي العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن، ولبيان هذا التحدي يقال: إنّ القرآن الكريم كان معجزة ببيانه وأسلوبه -إضافة إلى المضمون-، وهذا الجانب من الإعجاز لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان بلغة القوم؛ لأنّ (التحدي) -الذي هو محتوى الإعجاز- إنّما يكون مقبولاً إذا كان باللغة التي يتكلم بها الناس، وإلا فلا معنى لأن نتحدى من يتكلم بلغة بأن يأتي بكتاب من لغة أخرى. وقد كان التحدي في هذا الجانب من الإعجاز باعتبار ما كان يوليه ذلك العصر من أهمية خاصة للبلاغة والبيان، الأمر الذي كان له أثر كبير في الخضوع النفسي لهؤلاء العرب لبلاغة القرآن وبيانه.
ومن هذا المنطلق لا تكون دعوى التفسير القصدي بالخروج عن أساليب اللغة العربية البلاغية وعدم نزول القرآن بها إلا خروجاً عن مسألة التحدي هذه، لأنّ التحدي في المعجزة إنّما يكون بما هو الموجود بين أيدي الناس، وما كان في أيديهم عبارة عن اللغة العربية بكل ما تحمله من خصائص بلاغية.
المناقشة الثانية:
يقع هذا الاتجاه التفسيري المبني على الالتزام بوجود معنى للحروف أمام إشكال أساسي، وهو أنّه إذا كان للحرف معنىً فهذا يعني عدم وجود ما عرف بالمهمل في اللغة، وهو الألفاظ التي لا تدل على معنىً.
وللإجابة عن ذلك يقول الاتجاه القصدي: إنّ هذه المهملات لها معانٍ لم تصل إليها البشرية، بل هي معان مختزنة، وتطور البشرية كفيل بإيصالها إلى هذه المعاني.
ويلاحظ على هذا الكلام:
لا أتصوّر أنّ هذه الطريقة التبسيطية لمشكلة أساسيّة تقف حائلاً أمام هذا الاتجاه كفيلة بحلّ المشكلة. إنّ هذه اللغة التي عمّرت قروناّ لم نجد أنّ مهملاتها أصبحت لها دلالة على معانٍ.
مضافاً إلى مسألة أخرى أساسيّة، وهي أنّ التفسير القصدي يعتمد على التتبع لاستعمالات المفردة قرآنيّاً ليستخرج المعنى القرآني والذي يقارب ما يصطلح هذا التفسير عليه بالمعنى الحركي. وهنا إذا أردنا أن نلحظ قضية تدرّج نزول القرآن وعدم نزوله دفعة واحدة -على مسامع العرب والمسلمين الأوائل بوصفه أمراً قطعيّاً- فهل كان المسلمون الأوائل -أي في عصر النزول التدريجي- يتوقفون في فهم المعنى إلى أن يكتمل القرآن؟! أو أنّ القرآن كان يفهم بما هو ظاهر الكلام بالرجوع إلى ما تحويه أذهانهم من معانٍ للمفردات والتراكيب اللغوية.
إنّ ما يصل إليه التفسير القصدي من خلال تتبعه للمفردات سوف يشكل ظهوراً خاصّاً، فهل هذا الظهور هو الظهور العرفي الذي قامت أدلة حجية الظواهر القرآنية -والمبحوثة تفصيلاً في علم الأصول- على إثباته؟! وهكذا تشكّل مسألة الحجية عقبة أساسية أمام اعتماد هذا النحو من التفسير.
المناقشة الثالثة:
ليست مقولة رفض المجاز بجديد التفسير القصدي، فقد نقل إنكار المجاز في القرآن من ابن القاص من الشافعية، وابن خويز منداد من المالكية، وحكي عن داود الظاهري وابنه، وأبي مسلم الإصبهاني.
وشبهتهم أنّ المتكلم لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وهو مستحيل على اللّه سبحانه، فهو باطل.
ويجيب عنه الزركشي: "بأنّه لو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من التوكيد والحذف، وتثنية القصص وغيره، ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطر الحسن"[22]. وهذا الجواب من قبل الزركشي لم يأتِ التفسير القصدي على ذكره وتفنيده.
إذا كان الاتجاه القصدي يرفض وجود المجاز في القرآن وكان ذلك ضمن قواعده، ويرفض الرجوع إلى المعاجم، مسجّلاً عليهم أنّهم لم يميّزوا المعنى الحقيقي من المجازي، فكيف يصل إلى المعنى الحقيقي؟!
فإن تتبع الاستخدام القرآني وتتبع المفردة اللغوية أو اللفظ المصطلح عنده لن يوصله إلى المعنى الحقيقي ما لم يكن مسبوقاً بمعنى ما.
وهنا نسأل: من أين يأتي هذا المعنى؟ هل يدخل صاحب هذا الاتجاه إلى عملية التفسير مجرداً عن كل المعاني التي يحملها في ذهنه للمعاني اللغوية، ويحاول الوصول إلى المعنى؟ وفي الأساس هل ذلك ممكن حتى نتحدث عنه؟
والملاحظة الأخرى على مقولة رفض المجاز تكمن في ملاحظة الداعي إلى التزام المفسرين بضرورة المجاز في بعض الكلمات، ويتحدث عبد القاهر الجرجاني في كتابه (أسرار البلاغة) عن ضرورة المجاز، مستشهداً بالآيات الثلاث التالية: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الامُورُ}[23]، وقوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[24]، وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[25].
ويقول موضحاً ضرورة المجاز: "لأنّ الإتيان والمجيء انتقال من مكان لمكان، وصفة من صفات الأجسام، وأنّ الاستواء إن حمل على ظاهره لم يصح إلا في جسم يشغل حيزاً أو يأخذ مكانًا".
هذا وللمجاز ضرورة أخرى أيضاً، كما في مثل قوله تعالى:
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[26]، فكيف يمكن لهذا المنهج شرح هذه الآية بناء على أنّه لا مجاز، لا سيما بناءً على تتبع المفردة قرآنيّاً، وقد ورد في فرعون قوله: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}[27]، كما ورد عن فرعون أيضاً: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى}[28].
وأمّا مفردة غوى، فقد نفاها القرآن عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) في سورة النجم حيث قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[29].
وكذلك قوله تعالى على لسان يونس (عليه السَّلام): {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[30].
ولو أردنا أن نتتبع كلمة (الظالمين) لوجدنا أنّ الذم كله ورد مقترناً بهذا اللفظ، فلاحظ قوله تعالى: {لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[31]، {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}[32]، {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}[33]، إلى الكثير من الموارد التي وردت فيها هذه المفردة.
وهذا ما نجده في موارد أخرى معنى كلمة (الضالين) مثلاً، فسنجد أنّها وردت في: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}[34]، {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ}[35]، {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}[36].
كما وردت على لسان موسى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[37].
فلا بد لهذا المنهج من الالتزام بنحو من التأويل لما ورد على لسان يونس أو موسى.
تطبيق على هذا الاتجاه:
التقيّد بصيغة الجمع مع تعدد الجموع:
من المعلوم أنّ في العربية أكثر من جمع للمفرد الواحد. وقد دأب أصحاب المعاجم وتابعهم النحويون والمفسرون على اعتبار الجموع المتعددة شيئاً واحداً، فيقولون مثلاً: (أخ: مفرد ويجمع على إخوة وإخوان).
أنّ المنهج اللفظي يكشف النقاب عن هذا الخطأ الفاحش -كما يصفه- الذي أدّى إلى اضطراب اللغة عموماً، والتخبط في معرفة آيات القرآن خصوصاً.
ومثال ذلك التفرقة بين لفظ (إخوة) ولفظ (إخوان) في القرآن:
فلفظ (إخوة) جمع يستخدم في القرآن للإخوة في الرحم فقط، ولفظ (إخوان) هو جمع يستعمل للروابط التي لا تقوم على صلة الرحم. ويستعرض الآيات التي وردت في القرآن ملاحظاً موارد لفظ (إخوة):
{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ}[38]، {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ}[39]، {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[40].
أما موارد لفظ (إخوان) فهي:
{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}[41]، {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}[42]، {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}[43]، {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ}[44]، {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}[45].
إنّ هذا النظام الذي يكشف الاتجاه عن بعض خطوطه سيغير -بلا شك- الكثير من المفاهيم والعقائد كما تعلم.
المناقشة:
الكاتب يصطدم باستخدام القرآن للفظ (إخوة) في غير موارد الرحم، من قبيل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[46].
كما يعبّر في آية أخرى بقوله: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}[47].
هنا يضطر النيلي للتأويل ويمارس ما استنكره على المفسرين ويقول:
الخطاب في آية (فألف) موجه للذين آمنوا، وهؤلاء خليط مختلف عن جماعة (المؤمنين) فلذا عبر عنهم (إخواناً) -إلى هنا كلامه يتفق مع ما ذهب إليه-، أما في سورة الحجرات فاللفظ -المؤمنون- يراد به في القرآن من كان مؤمناً حقّاً، فلذلك سمّاهم (إخوة)، لأنّ الصلة بينهم كصلة الأرحام، بل أعظم. هذا تأويل، وهو على خلاف الاتجاه الذي يتبنّاه.
ملاحظات تطبيقية أخرى:
أوّلاً: تقدم أنّ التفسير القصدي يُنكر وجود الكناية في القرآن، وقد استدلّ لذلك بقوله تعالى: {وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}[48].
ولم يصوّر لنا هنا كيف يكون التعبير بالكناية من الباطل. مضافاً إلى وجود روايات تتضمن النص على كون هذا التعبير من الكناية، فقد أورد الكليني في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السَّلام) قال: "سألته عن قول اللّه: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}[49]، قال: هو الجماع، ولكن اللّه ستير يحب الستر، فلم يسم كما تسمون"[50].
ثانياً: وقوع المنهج في التأويل والتخريج: لقد تكرر في التفسير القصدي اللجوء إلى التأويل لأيّ مورد يراه مخالفاً لرأي يتبناه.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[51] يشنّ التفسير القصدي هجوماً على المفسرين لتصرّفهم في كلمة (قول) بالالتزام بأنّ في الآية مجازاً أو بأنّ اللّه قد خلق الكلام خلقاً؛ لأنّ القول لا يصدر من الجماد.
ولحل المشكلة يتبنى التفسير القصدي الالتزام بأنّ القول هو شيء غير الكلام، متمسكاً لإثبات ذلك بتتبع مفردة (القول) في الاستخدام القرآني، وذلك في الآيات: {سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}[52]، {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}[53]، و{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُون}[54]، {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}[55]، و{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ}[56]، و{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[57].
ولكن تتبع هذه المفردة يصطدم بموارد أخرى من قبيل:
{إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}[58]، {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[59]، {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا}[60].
وهنا يدخل التفسير القصدي في عملية تأويل أو توجيه لهذه المفردات الثلاث فيقول:
أ/ إنه لو قال (لا تخضعن بالكلام) لكان يجيز لهنّ الخضوع بالقول، وهو في النفس. فإذا خضع قلب المرأة فإنّها قادرة على إيصاله بلا كلام، فأراد قطع الخضوع من أصله.
ب/ أراد سبحانه أن يكون اللين صادراً من قلبيهما، وهو منتهى الحكمة والعدل والمعروف.
ويقول ختاماً: وأما الموارد الأخرى، فعلى الباحث تدبّر ما فيها واكتشاف إشاراتها.
من الواضح أنّ هذا يشكل تطبيقاً تعسفياً يفتح الباب أمام اختلاف في عملية ملاحظة المفردات أراد التفسير القصدي الفرار منه وجعله محوراً أساسياً في هجومه على المفسرين.
ثالثاً: إنّ مسألة تغيير زمان الفعل عبر اللجوء إلى التقدير هو أمر تفرضه الضرورة، فمثلاً في قوله تعالى: {كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}[61] يرفض المنهج القصدي التصرف في دلالة فعل (كان) على الماضي، ويشدد النكير فيعتبر أن تقدير (يكون) هو من التحريف.
ولكنّنا نقول: لا شك في أنّ كلمة (كان) في الآية لا يمكن حملها على صيغة الماضي، وذلك لأنّ الآية وردت في مقام استغرابهم التكليم، والاستغراب إنّما يحصل ممّن هو فعلاً في المهد، لا ممّن كان كذلك. وقد ذكر المفسرون العديد من الوجوه لحل هذه المشكلة، ومنهم من حملها على الماضي القريب، وهو الجواب الذي تبنّاه النيلي من جهة أنّها لما أتت به قومها تحمله لم يكن في المهد، فيكون مرادهم إنّه كان قبل أن تأتي به مريم إليهم. ومن الأجوبة ما تبناه الطباطبائي في تفسيره (الميزان) من كون كلمة (كان) هنا مجردة عن الزمان. من قبيل {وَكَانَ اللهُ غَفُورًا}[62].
إذن، هنا مشكلة في الدلالة، ومهما يكن الجواب فإنّه لن يخرج عن التصرف في دلالة كلمة (كان) على الماضي، إلا أن يسعى إلى التأويل، وبهذا يقع في مشكلة أخرى.
مضافاً إلى أنّ حمل (كان) على الماضي القريب يصطدم بآيات أخرى، وهي قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ}[63]، وقوله تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً}[64].
فالفعل (يكلم) و(تكلم) إذا أردنا حمله على زمانه -كما هو منهج التفسير القصدي- فلا بدّ من حمله على صورة حصول التكليم فعلاً.
ولعل أوجه ما يمكن أن يقال هنا هو أنّ المراد من قوله: (في المهد) هو حالة الصغر والطفولة، لا سيما بملاحظة إتباعها بقوله (وكهلاً) في الآية الواردة في سورة آل عمران.
رابعاً: فرّع التفسير القصدي على نظريته في نفي الترادف مقولةً، وهي أنّ اختلاف الترتيب في الآي القرآني يدلّ على تكرر الحادثة. وذكر نموذجاً لذلك ما ورد من قصة موسى (عليه السَّلام) مع بني إسرائيل ودخولهم القرية.
يقول: إنّ تكرر الآية مع الاختلاف في الترتيب دليل على تكرر الحدث وعدم إمكان حمل المتكرر القرآني على أنّه حدث واحد. ومثال ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}[65]، مع قوله تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}[66]؛ إذ لا يمكن حمل الآيتين على حدث واحد في التفسير القصدي، بل الحدث نفسه كان مكرراً في واقعه التاريخي.
وقد التفت المفسرون إلى هذا الاختلاف في التعبير القرآني، وذكروا وجوهاً لذلك. ونحن لسنا هنا في صدد ملاحظة هذه الوجوه ومدى صحتها، ولكن لنا أن نتوقف مع التفسير القصدي قليلاً، وذلك بلحاظ أنّ الداعي الذي بعثهم للالتزام بتكرر الحادثة عند تغير الترتيب هو تأسيسهم لقاعدة نفي الترادف المتفرعة على إيمانهم بوضع الحروف وكونها ذات معاني، ولو أردنا أن نسير وفق هذه الطريقة، فلا بد أيضاً -بل من الأولى- أن يكون تغيير الكلمة موجباً لتعدد الحادثة، وأن لا يحمل على الحادثة الواحدة، لوحدة الملاك الحاكم في الموردين ووحدة القاعدة هذه. ولكن هذا لا يمكن الالتزام به، ولنلحظ بعض الموارد القرآنية كنموذج لذلك:
1/ قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[67]. وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}[68]. ففي الآية الأولى استخدم القرآن كلمة (انفجرت) وفي الثانية (انبجست).
2/ قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}[69]، وقوله تعالى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}[70]. ففي الآية الأولى استخدم القرآن كلمة (ولد) وفي الثانية (غلام)، فهل هذا من تكرر الحدث؟
3/ قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}[71]، وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ}[72]. ففي الأولى (ففزع)، وفي الثانية (فصعق).
4/ ولاحظ أيضاً: {رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي}[73]، و{رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي}[74]، وكذلك {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ}[75]، و{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}[76].
ختاماً: نؤكد ما بيّنهاه سابقاً، من أنّ ما ذكره الكاتب لا يرقى لمستوى المنهج أو النظرية، وإنما هو فرضية تقوم على أساس التخمين والاحتمال، وتستخلص من الاحتمال يقيناً غير مطّرد وثابت؛ فلذا من المناسب التعبير بالاتجاه بدلاً عن المنهج، وبالفرضية بدلاً عن النظرية.
.................................................
* هذا البحث هو عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ألقاها سماحة الشيخ غازي عبد الحسن السماك في جامع السيدة فاطمة الزهراء في البحرين وكان ذلك خلال شهر رمضان المبارك من عام 1436هـ
[1] - هذه التسمية فيها تسامح لما سيتضح من نتيجة البحث
[2] - النيلي، عالم سبيط، النظام القرآني.. مقدمة في المنهج اللفظي، إعداد فرقان محمد قي ومهدي الوائلي، الطبعة الثانية،٢٠٠٣، مكتبة بلوتو: 1
[3] - فرانز كليمنس أونوراتوس هيرمان برنتانو 1838م - 1917م، فيلسوف وعالم نفس نمساوي
[4] - ادموند هوسرل 1859م – 1938م، فيلسوف ألماني ومؤسس الظاهريات
[5] - هذا المقطع عبارة عن تلخيص من كتاب النظام القرآني، للنيلي فيما يرتبط بأسس ومبادئ المنهج اللفظي
[6] - سورة النحل: 89
[7] - سورة محمد: 24
[8] - سورة النبأ: 21
[9] - سورة ص: 55
[10] - سورة النور: 37
[11] - سورة الأحزاب: 23
[12] - سورة الأعراف: 46
[13] - سورة التوبة: 108
[14] - سورة الفتح: 25
[15] - سورة يوسف: 2
[16] - سورة الأحقاف: 12
[17] - سورة يوسف: 2
[18] - سورة طه: 113
[19] - سورة الزمر: 28
[20] - سورة فصلت: 3
[21] - سورة الشورى: 7
[22] - البرهان في علوم القرآن، الزركشي، ج2، ص255
[23] - سورة البقرة: 210
[24] - سورة الفجر: 22
[25] - سورة طه: 5
[26] - سورة طه: 212
[27] - سورة المزمل: 16
[28] - سورة النازعات: 20- 21
[29] - سورة النجم: 2
[30] - سورة الأنبياء: 87
[31] - سورة الجمعة: 5
[32] - سورة البقرة: 125
[33] - سورة البقرة: 193
[34] - سورة الفاتحة: 7
[35] - سورة البقرة: 198
[36] - سورة الأنعام: 77
[37] - سورة الشعراء: 19- 20
[38] - سورة يوسف: 28
[39] - سورة النساء: 11
[40] - سورة النساء: 176
[41] - سورة البقرة: 220
[42] - سورة الإسراء: 27
[43] - سورة الأعراف: 202
[44] - سورة ق: 3
[45] - سورة الحشر: 28
[46] - سورة الحجرات: 10
[47] - سورة آل عمران: 103
[48] - سورة الأحزاب: 53
[49] - سورة النساء: 43
[50] - وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج20 باب 67 من كتاب النكاح ح3
[51] - سورة فصّلت: 11
[52] - سورة الرعد: 10
[53] - سورة النحل: 86
[54] - سورة الأنبياء: 110
[55] - سورة طه: 7. [56]
[56] - سورة الأعراف: 205
[57] - سورة ق: 18
[58] - سورة الأحزاب: 32
[59] - سورة طه: 44
[60] - سورة طه: 109
[61] - سورة مريم: 29
[62] - سورة النساء: 96
[63] - سورة آل عمران: 46
[64] - سورة المائدة: 110
[65] - سورة البقرة: 58
[66] - الأعراف: 161
[67] - البقرة: 60
[68] - الأعراف: 160
[69] - آل عمران:47
[70] - مريم: 20
[71] - النمل: 87
[72] - الزمر: 68
[73] - الكهف: 36
[74] - فصّلت: 50
[75] - البقرة: 36
[76] - الأعراف: 20