كلام الفلكي مجرد قرينة، وهو ربما يكون استدعاءً للناس ليستعدوا لأداء الصلاة في وقتها، ولكن لا اعتماد على كلام الفلكي، والاعتماد إنما هو على الرؤية، فإذا رأى الناس الخسوف وجبت عليهم صلاة الآيات سواء كان الخسوف جزئياً أم كلياً، وكذلك إذا رأوا الكسوف (الانكساف في الشمس) وجبت عليهم صلاة الآيات سواء كان (الانكساف) جزئياً أو كليا، ومادام السؤال عن قول الفلكي ومدى الاعتماد عليه - وقد مرت بنا في هذا العيد فتنة بسبب قول الفلكي- فنود أن نفصل القول بالنسبة إلى قول الفلكي وكلامه في الأهلة فنقول.
إذا ادعى الفلكي أو الرَّصَدي وجود الخسوف أو الكسوف، فلا عبرة بقوله إذا لم تلحظه العين؛ فالله سبحانه وتعالى أناط الحكم في وجوب الصلاة ليس بقول الفلكي وإنما برؤية العين، فإذا رأى سبب وجوب الصلاة (كالكسوف أو الخسوف) أحد الناس وجبت عليه الصلاة بمفرده، نعم لو رأته الغالبية من الناس ولكن بعضاً ممن كانت عينه كليلة لم يره فإنه تجب عليه الصلاة، أما إذا كانت غالبية الناس لم تلحظ الخسوف في القمر فلا تجب عليهم الصلاة، وكذلك إذا لم تلحظ غالبية الناس الكسوف في الشمس لا تجب الصلاة عليهم لقول الفلكي أو الرصدي، إذ لا عبرة به عند الشارع، ولا يترتب عليه أي أثر شرعي في هذا المجال، حتى لو أن جميع مراصد الأرض أجمعت على تحقق الكسوف أو الخسوف ولم ير أهل الأرض ذلك لا تجب الصلاة عليهم.
ولكن ما موقف الشرع من كلام الفلكي أو الرصدي في الأهلة؟ أو ما مدى حجية قول الفلكي في الأهلة؟
نقول: إن الكلام عن حجية قول الفلكي أو الرصدي يكون في مقامين هما ناحية الإثبات وناحية النفي.
ففي الناحية الأولى وهي الناحية الإيجابية نقول: إن الشارع المقدس لم يجعل تغير الشهور وترتيب الآثار على تغير الشهور على التولد فلكياً، وإنما جعل مناط اعتبار ترتيب الآثار الشرعية التي تترتب على تغير الشهور على رؤية الهلال في أفق السماء بالعين؛ سواء كانت مجردة أم مستعينة بآلة مقرِّبة، لكن لابد أن ترجع هذه الآلة إلى العين، فلو كان لا يرى بالعين لا مجردةً ولا مع المقربات؛ غير أنه يمكن أن ترصده الآلات التي لا تعتمد على البصر، فيرصد الهلال بها، ويقول إن الهلال موجودٌ في الأفق، وقد خرج عن نطاق المحاق، وارتفع ثلاثين درجة فضلاً عن ثلاثة عشر درجة أو أربعة عشر درجة أو ست درجات، ولكن الناس لم تره، فإنه لا يترتب أثرٌ شرعي على قوله ولا يعتبر الشهر قد تغير.
فلو كان الشهر شهر إفطار، ويجب الصوم بدخول الشهر الجديد فإنه لا يجب الصوم في هذه الحالة، وكذلك لو كان الشهر شهر صوم ويجب الإفطار بالشهر الجديد فإنه لا يجوز الإفطار، ولا يرتفع حكم وجوب الصوم، وكذلك لو كان على الإنسان نذرٌ يقع في يومٍ معين من الشهر الجديد فإنه لا تبرأ ذمته لو أدى نذره بناءً على قول الفلكي ما لم يقترن بالرؤية البصرية، وكذلك المواقيت والأوقاف كلها والحج لا تترتب شرعا إلا إذا رأى البشر الهلال في أفق السماء، سواء رأوه بعيونهم المجردة أو بالاستعانة بالآلات المقربة، وليس الآلات الراصدة التي لا تعتمد على الرؤية؛ لأن الآلة المقربة كل ما تفعله هو تقريب الهلال للعين، و لكن يبقى الاعتماد على رؤية العين، بخلاف الآلات الرصدية الأخرى، فإنها لا تعتمد على العين، ولا يصح التعويل عليها مطلقاً في ناحية ترتيب الآثار الشرعية.
وعدم جواز التعويل على قول الفلكي أو الرصدي في مورد الإثبات أمر متسالم عليه بين فقهاء المسلمين ممن يعرف بالتحقيق، وأن البينة على الهلال ليست مجرد طريق للتحقق من وجود الهلال كيفما اتفق، وإنما للتحقق من رؤيته بالعين.
فلو أدان زيد عمراً بمبلغ مليون دينار مثلا على أن يدفعه إليه في اليوم الثاني من شهر ذي القعدة وأعلن الفلكي تولد الهلال من شهر ذي القعدة، ولكن الناس لم تر الهلال في أفق السماء، وتقدم الدائن في ذلك اليوم إلى القضاء يطلب إلزام عمر بدفع الدين لا يتمكن القاضي أن يحكم على المدين بدفع المال إلى الدائن، وإنما ينتظر إلى اليوم الثاني أو الثالث الذي تعينه الرؤية، فالاعتماد إذن في ترتيب الأثر الشرعي أناطه الشارع المقدس بالرؤية.
وأما الكلام عن الجهة الأخرى وهي جهة نفي وجود الهلال في السماء في تلك الليلة وهي التي عبرنا عنها بالناحية السلبية فإن السؤال الذي تثيره هو هل أن الحساب الفلكي أو الرصدي هو الأصل والرؤية فرعٌ عليه؟ فلا يقبل قول الشهود بالرؤية إذا كان الحساب ينفي تولد الهلال في ذلك الوقت، أو أن الرؤية هي الأصل؟ والحساب الفلكي مجرد قرينة مضعّفة لقول الشهود كما يذهب إلى ذلك السيد محمد باقر الصدر قدس سره؟
نقول: إن الشارع المقدس كما ذكرنا قبل قليل أناط الأمور بالرؤية ولم يعتمد على الحساب الفلكي أو قول الرصدي في شؤون ترتيب الآثار الشرعية (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)[1]، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)[2]، وفي هذا الصدد يقول الرسول صلى الله عليه وآله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمت عليكم الشهور فعدوا الشهر ثلاثين يوما"، فالحساب الفلكي إذاً يجب أن يعتمد على الرؤية، فلو كانت العملية الحسابية الرياضية التي أجراها عالم الفلك كذبتها الرؤية فلا قيمة لهذه العملية الحسابية مطلقاً، لماذا؟
لأن الآية بمعونة الروايات الواردة في المقام جعلت الأصل هو الاستهلال، وأن الحساب ومعرفة السنين وتقدير الحساب يعتمد على هذه الرؤية، والسر في ذلك هو أن العملية الرياضية هي عملية بشرية، وأي عملية بشرية أو برهان بشري قابلٌ للخطأ والإصابة، نعم بسبب تطور علوم الرياضيات وتطور آلات الرصد أصبح الخطأ في الحسابات الفلكية نادر النادر، ولكنه ليس مستحيلا، هذه جهة.
والجهة الثانية أن الرؤية علمٌ حسي، علمٌ وجداني، يستطيع من يراه أن يضع يد من لم يره عليه ويوجهه إليه وإذا كان بصره صحيحاً وحادَّاً فسوف يراه، أما البرهان الرياضي فليس من هذا القبيل، بل لا يعرف مدى صحته إلا من أجراه، ولذلك قال الفلاسفة إن حجية البرهان ذاتية أي تخص من قام عنده البرهان وليست حجية عامة لكل الناس ، فمتى ما تعارض العلم الحسي الوجداني مع العلم البرهاني فلا إشكال أن العلم الوجداني يحكم على العلم البرهاني، وهذه قاعدة مسلمة في جميع العلوم، نعم حاول بعضهم أن يشكك في معطيات الحس باعتبار أن الحواس أيضا تقع في الخطأ، خذ إليك المثل الذي جاء به ديكارت، وهو عالم رياضي وفيلسوف من أعظم فلاسفة عصر التنوير الأوربي، أراد أن يشكك في معطيات الحواس، فهو يقول أحضر ماء بارداً وآخر حاراً وآخر دافئا وضع إحدى يديك في الماء البارد والأخرى في الماء الحار ودعهما فترة ثم ارفعهما وضعهما في الماء الدافئ فسوف تجد اليد التي رفعتها من الماءِ الحارِّ الماءَ الدافئَ بارداً، وأما الأخرى فسوف تحس بأن الماء حارٌّ، وفي الحقيقة أن الماء ليس باردا وليس حارا وإنما هو دافئ، وهذا يعني أن الحواس تقع في المغالطة، وأنت تنظر إلى الشيء البعيد فتراه أصغر من حقيقته، وتنظر إلى الشيء القريب فتخاله أكبر من حقيقته، وإذا لاصق الشيء عينك لا تراه، فإذن يمكن وقوع الحواس في الخطأ، كما هو ممكن في البرهان، وبالتالي فإنه لا يكون العلم الوجداني الحسي خيراً من العلم البرهاني، كما أن العلم البرهاني لا يكون أرقى من العلم الوجداني.
ولكن من أوتي أدنى بصيرة يعرف أن في هذا القول مغالطة، ذلك أن الإنسان حائز على ملكة ذهنية تميز ما ترسله الحواس وتلغي منه ما هو متعارض مع الواقع، فالرجل الذي وضع يديه في المياه المذكورة في المَثَل يدرك أن الماء فاتر وليس حارا أو باردا، ويدرك أنه أقل في درجته الحرارية من الماء الحار، وأعلى درجة من الماء البارد، كما يدرك الإنسان أن الشخص الذي يراه بعيدا أكبر من الحجم الذي هو عليه، وهذا بخلاف البرهان سيما الرياضي منه فإن الخطأ الذي يقع فيه ربما فات على أكبر الرياضيين الالتفات إليه، ويكفي في حصول النتيجة الخاطئة أن يحصل الخطأ ولو في خطوة واحدة من خطوات المعادلة الرياضية، على أي حال فقد حاول بعض علماء الفيزياء المشتغلين بعلم الفلك أن يشككنا في ما رآه الشهود عن طريق خداع الحواس، فإنه لما وجد أن الشهود متعددون وكثيرون، وليسوا في موضعٍ واحد، ومع ذلك أعطوا صفات متفقا عليها للهلال لم يستطيع أن يقول إنهم جميعا مشتبهون أو أنهم كاذبون، فهم لا يعرف بعضهم بعضاً، وليسوا في مكانٍ واحد، فقال إنهم قد رأوا شيئاً، ولكن ما رأوه ليس هو الهلال وإنما هو صورة منعكسة من بقية قمر شهر رمضان، لأن قمر شهر رمضان لا يزال باقياً تحت الأرض فإذا وقعت عليه أشعة الشمس انعكست عنه صورة في الأفق فرآها هؤلاء الناس وظنوها هلالاً، والحال أنها ليست هلالا، وإنما هي صورة منعكسة.
وهذا الكلام وإنْ كان في حد ذاته قد يكون صحيحا، لكننا لو حللناه فإنه لا يصح قبوله في مثل حالة الهلال في شهر شوال هذا العام (أي عام 1419 الهجري) وذلك لسببين:
أولا: إن الانعكاس تارة يكون من قبيل انعكاس صورة الجسم المقابل للمرآة في المرآة فيتبدل الشمال يميناً واليمين شمالا، وهذا الانعكاس يقتضي أن يكون قمر شهر رمضان موجودا في الطرف المعاكس من الأفق وعلى نحو أن تكون الأشعة المنبعثة عنه متعامدة مع الجهة الغربية من الأفق حتى تكون صورته منطبعة في الجهة الغربية، وبالتالي أن رائي الهلال لو استدار ونظر في الجهة الشرقية لكان يرى القمر الحقيقي كما يبين ذلك الشكل التقريبي الآتي:
ولا شك أن دكتورنا الفاضل لا يريد هذا النوع من الانعكاس، لأن الأفق الشرقي كان خاليا من القمر، بل لا يمكن في آخر الشهر أن يكون القمر في الأفق عند غروب الشمس، حتى تكون له صورة متعامدة على الأفق الغربي، وكيف يمكن أن يُرى في الأفق الشرقي وهو حسب الفرض قد دخل منطقة المحاق وصار أسفل الظل المخروطي للأرض كما يمثله هذا الشكل التقريبي:
وتارة يكون الانعكاس من قبيل الانعكاس الحاصل في الخزانة ذات الثقب الضيق والتي على فكرتها صنع ما نسميه اليوم باللفظ الإنجليزي (كاميرا)، ولابد أن يكون هناك انعكاس وانقلاب، وهو لا يتم بتبدل اليمين شمالا والشمال يمينا فقط، ولكن يكون الأعلى هو الأسفل، والأسفل هو الأعلى، كما يبينه الشكل التقريبي التالي:
ولكن كيف نفرق بين الانعكاس في المرآة والانعكاس في الخزانة ذات الثقب الضيق؟
إذا كان الانعكاس على جسم مقابل لذي الصورة فطبعاً في هذه الحالة لا يتبدل الأعلى إلى أسفل والأسفل إلى الأعلى وإنما يصير مقابل اليمين شمالا فقط وبالعكس.
وأما إذا كان المصدر الضوئي في جهة وسط على الجسم المرئي ثم انعكست من الجسم المرئي صورة إلى داخل الخزانة فالانعكاس يكون مقلوبا، والعملية التي يصفها دكتورنا الفاضل هي من قبيل انعكاس الأشعة التي وقعت على قمر شهر رمضان الواقع تحت الأرض وعكسته إلى الأفق الأعلى، فلا يكون من قبيل انعكاس الشيء في المرآة، وإنما من قبيل انعكاس الجسم في الخزانة ذات الثقب الضيق، وهذا لا يكتفِ فيه أن يكون على نحو المقابلة بانعكاس اليمين شمالاً والشمال يمينا، بل لابد أن تكون الصورة منقلبة أيضا، فهل كان القمر وهو في حالة المحاق متجها إلى الأسفل ولذلك رآه الشهود متجها إلى الأعلى؟ هذا ما يحتاج إلى إثبات وبرهان أيضا حتى يتم للدكتور الفاضل ما ادعاه من أن المشاهَدَ في الأفق هو صورة لبقية قمر آخر ليلة من شهر رمضان.
ولعل باستطاعة الدكتور أن يعول على تفصيل منطوق شهادات الشهود لإثبات مطلوبه فكلهم قالوا إن الهلال يتجه إلى الأعلى مع ميل قليل إلى الجهة الجنوبية لكنه لو فعل لسلم بأن الشهادة هي التي تقرر صحة النظريات الفلكية والحسابات الرصدية.
إضافةً إلى أن صحة هذا التحليل ينطوي على مصادرة كما يقول علماء المنطق، لأنه يجعل الدعوى ذاتها دليلا على صحة نفسها. لماذا؟
لأن هذا الفرض يصح إذا آمنا بقول الفلكي بأن الهلال لم يتولد بعد، وهذا هو موضع النزاع، وهذه أول الدعوى، وهي ما نحتاج عليه إلى برهان، وهو ما نحتاج أن يثبته لنا الفلكي بأن الهلال لم يتولد، وإلا فإن رؤية الشهود له تثبت تولده، ودكتورنا الفاضل أراد أن يحلل رؤية الشهود ويبعدها عن أن تكون رؤية للهلال بفرضية أنه لم يتولد، ومعنى ذلك أنه يريد أن يثبت أن الهلال لم يتولد بدعواه أن الهلال لم يتولد، وهذا عين الدور الممنوع في المنطق وهو مصادرة على المطلوب.
الثاني: أن الرؤية في الليلة الثانية والثالثة كشفت عن أن وصف الشهود للهلال في الليلة الأولى مطابق لما وجد عليه في الليلتين الأخيرتين؛ إذ لم يتغير بل بقي متجها إلى الأعلى، ولو كانت صورة منعكسة ومنقلبة أو منعكسة فقط لكان ينبغي أن تكون هيئته في الليلة الثانية مخالفاً لهيئته في الليلة الأولى، على الأقل في قضية العكس؛ فيصير يمينه شمالا وشماله يمينا فيكون ميله الذي رآه الشهود للجنوب أن يُرى ميله للشمال حتى يمكن التفرقة بين الصورة المنعكسة في الليلة الأولى وبين الهلال الحقيقي في الليلتين اللتين تلتا تلك الليلة.
على أن هذا الادعاء وهو انعكاس صورة قمر آخر ليلة من الشهر يمكن أن تكون في كل شهر خاصة على ما يدعيه دكتورنا الفاضل من أن البحرين لا تصلح لرؤية الهلال في أول ليلة من الشهر إلا ما ندر، ويكون إناطة الشارع المقدس لإثبات الهلال بالرؤية غير حكيم؛ لأن السماء في غالب البلدان وغالب الأزمان لا تنفك من العلل المضعفة للرؤية.
على أي حال فإن الأصل الذي يترتب عليه تغير الشهور وترتيب الآثار الشرعية هو العلم الحسي العائد إلى حاسة البصر سواء كانت هذه الحاسة رأته مجردة أو مستعينة بالمقربات، ولكن لا بآلات الرصد التي لا تعود إلى العين.
والغريب من الدكتور الفاضل الادعاء باستحالة وقوع الخطأ في العملية الرياضة عند الفلكيين مع أن العملية الرياضية ككل عملية رياضية غير فلكية يقوم الجهد البشري بها على أمور ترقيم حدودها، ترقيم الحد الأول والحد الثاني، وهذا قابل أن يحصل فيه الخطأ، فما كان حدَّاً أول قد يجعله الرياضي حدَّاً ثانيا والعكس صحيح.
كما أن الخطأ قد يقع في ترتيب الخطوات التي تكون ضرورية في تحصيل النتيجة، فإذا أخطأ في ترتيب الخطوات المتبعة لا بد أن يحصل الخطأ في النتيجة. وكل من مارس الرياضيات يعرف أن الخطأ قد يكون دقيقا جدا فلا يتم اكتشافه إلا بعد مدة طويلة من الزمن.
أما المورد الثالث الذي يمكن أن يقع فيه الخطأ فهو مراعاة ترتيب الخوارزميات التي تحكم تلك العملية الرياضية، خاصة إذا كان يعتمد في إجرائها على الحاسب الآلي، فلو حصل أي خطأ في ترتيب الخوارزميات فلا بد أن تكون النتيجة الرياضية خطأ، وهذه المواضع كلها يمكن أن يقع فيها الرياضي، ويمكن للحاسب الآلي عندما تُعطى له المعلومات وفيها خطأ أن يخطئ فيها، فالبرنامج الذي يضعه مبرمج بالحاسب الآلي لإجراء أي عملية رياضية ربما يتضمن خطأ دقيقاً لا يكتشفه ذلك المبرمج إلا بعد دراسة أشهر أو سنة، لأن المبرمج يكتشف الأخطاء الفظيعة بصورة سريعة، أما الأخطاء الدقيقة جداً فأحياناً تفوت عليه، ويقرأ البرنامج مرة تلو أخرى ويعيد الدراسة مرات كثيرة، ومع ذلك قد لا يتنبه إلى موضع الخطأ، ويجري العملية ويراها خطأ، ويعود للمراجعة، وفي النهاية يجد أن الخطأ شيء بسيط وتافه، فيضحك من نفسه كيف فاته، فإن الله سبحانه وتعالى خلق عقول البشر تدرك شيئا وتغيب عنها أشياء … حتى يدرك الإنسان نقصه ويعترف بعدم كماله، ويقول: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)[3]، ويقول: (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)[4]، ولا يدعي أن الفلكيين يستحيل أن يخطئوا، بحجة أنهم يعلمون الناس، فبقية أصناف العلماء الذين يعلمون الناس ألا يخطئون؟ علماء الفقه ألا يخطئون في الفقه؟ جميع العلماء يخطئون.
الخلاصة: إنَّ الاعتماد في تحقق الأوقات الشرعية للعبادات والاعتماد في الاعتبار الشرعي في تغير الشهور وتغير السنين ودوران القرون إنما هو على الرؤية البصرية للهلال، وليس على الحسابات الفلكية، وإنْ كنا نعترف أن الخطأ فيها أندر من النادر.
نعم يمكن أن يكون قول الفلكي قرينة مؤيِّدة للشهادة أو مضعفة لها، فنُعمِل الاحتياط اللازم في تمحيص مضمون الشهادة، والتأكد من عدم اشتباه الشاهد، لا رفض سماع الشهادة أو عدم البناء عليها لمجرد نفي الفلكي أو الرصدي عدم تولد الهلال.
...........................
* هذه المحاضرة جواب عن سؤال عن حجية قول الفلكي في وقوع الخسوف والكسوف وهل تجب الصلاة إذا قال الفلكي ذلك دون أن نرى الخسوف أو الكسوف؟ وذلك في جامع جد حفص بتاريخ 18 شوال 1419 هـ
[1] - البقرة: من الآية189
[2] - يونس: من الآية5
[3] - يوسف: من الآية76
[4] - طه: من الآية114