نادر الملاح
10 محرم 1444 هـ، 9 أغسطس 2022
ماذا يهيجُكَ إنْ صــــبرتَ * لِوقــعــةِ الطـف الفـظـيـعـهْ
أَتَرى تجــيـــئ فجيـــعــة * بِأمَضَّ مِـــن تلك الفــجــيعهْ
حيث الحسينُ على الثرى * خيلُ العدى طحنت ضلوعهْ
لقد شاءت إرادة الله تعالى أن يكون إحياء دِينه الذي ارتضى لعباده مقترناً بملحمةٍ إنسانية عظيمة، لا يخلو مشهد من مشاهدها من الفداحة والفظاعة، حتى لكأنها قد رُكِّبت من مجموعةٍ من الصور المأساوية التي تهد الجبال الرواسي فضلاً عن قلوب البشر. فَأنْ يَأمُرَ فاجرٌ فاسق مثل يزيد بن معاوية بأخذ البيعة من وارثِ كتاب الله المجيد سبط النبي الكريم سيد شباب أهل الجنة صلوات الله وسلامه عليهما، هو مأساة حقيقية للأمة، فكيف وهذا الأمر قد تلقفته أيادي أهل النفاق، وصارت تتسابق لإنفاذه، وعلى منهجهم مضى أبناؤهم. فأي مأساة تلك التي مُنيت بها أمة محمد صلى الله عليه وآله؟!
يختار الحسين عليه السلام الخروج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحياء دين جده وأبيه، فيقابله الناصحون، وبئس النصيحة، بأن يبايع الفاجر لكي يأمن على نفسه وأهل بيته من القتل. مقالةٌ عنوانها النصيحة، وحقيقتها التخاذل وترك الأمر الإلهي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم تولي الظالمين، والحرص على التعلق بهذه الحياة الفانية وملذاتها.. أمَّا بواعثها فَضَعْفُ، إن لم يكن انعدام، الإيمان بالغيب والحساب، وماذا يضل بعد غياب هذا الاعتقاد من إيمان بالله جل شأنه؟!
يَخرج الحسين عليه السلام وبقية آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مدينة جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث كان تأسيس الدولة المحمدية، التي بها بدأت حضارةٌ إنسانية لا تماثلها حضارة، فيركن السواد الأعظم من أهلها إلى التقاعس عن الخروج مع الحسين، وما يخرج معه غير أهله من رجال ونساء وأطفال، وثُلَّةٌ يسيرة ترسَّخ الإيمان في أعماقها!!
يتوجه الحسين عليه السلام إلى بيت الله العتيق، ملبياً نداء الحق تبارك وتعالى، يطوف حول بيته المعظم مقراً له بالربوبية ولمحمد صلى الله عليه وآله بالنبوة والهداية، فيصدر الفاجر ابن معاوية أمره بقتل الحسين ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة!! ولا تنحصر المأساة في صدور هذا الأمر ممن يتربع على كرسي رئاسة الدولة المحمدية، بل تزداد بقيام حاملي هذا الأمر الرهيب والساعين في تنفيذه، غير آبهين بحرمة بيت الله الذي هو قبلة المسلمين، فيضطر الحسين عليه السلام لأن يقطع حجه حفاظاً على حرمة بيت الله من سفك الدماء!!
يتوجه الحسين عليه السلام ليلبي نداء المستضعفين الذين استنجدوا به في كتبهم التي أرسلوها إليه عليه السلام، فينهض ليقوم بدوره كإمام لهذه الأمة، مُعَيَّنٍ من الله جل شأنه، فإذا الذين استنجدوا به قد حملوا السيوف والرماح والنبال، وخرجوا وكلهم عزيمة وإصرار على قتله، لا تتحرك ضمائرهم وهم يسمعون الحسين عليه السلام في يوم العاشر يصيح به: "استصرختمونا والهِين، فأصرخناكم مُوجِفين، سَللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلْباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم!!"
يوصي رسول الله صلى الله عليه وآله أمته قبل كل سَريَّة يرسلها آمراً لهم: "سيروا بسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا تَغلوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَغْدُروا، ولا تَقتلوا شيخاً فانياً ولا صَبِيًّا ولا امرأة، ولا تقطعوا شَجراً إلا أن تضطروا إليها، وأيَّمَا رَجُلٍ من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتى يسمع كلامَ الله، فإن تَبِعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوهُ مأمنه، واستعينوا بالله عليه" (بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، ج19 ص177)، فإذا بأمته تغدر به، وتقطِّع أبناءه بالسيوف وترفع رؤوسهم فوق سِنان الرماح، وتمثِّل بجثثهم شر تمثيل، وتنتهك حرمة بيوته وتحرقها، وتسلب حريمه، وتقتل أطفاله فلا ينجو من أسلحتهم حتى الطفل الرضيع في قماطه، ثم تسير بمخدرات بيت النبوة سبايا من بلد إلى بلد، معلِّقين الزينة في الطرقات، وقارعين طبول الفرح والسرور، شامتين متشفِّين في أسرى بيت الرسالة السماوية، لا يردعهم دِينٌ ولا يحركهم ضمير، طاعةً لأمر أميرهم الفاجر، عاصين أمر الله ورسوله!!
يجلس أمير القوم الذي يقضي يومه سكراناً يلهو بالكلاب والقردة، في صدر مجلسه، ويُجلس بنات النبوة أسارى بين يديه، ورأس سيد شباب أهل الجنة بين يديه، يَنكُتُ شفتيه بمخصرته متشفياً، معلناً مجاهراً بكفره: لستُ من خُندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل، ثم يأمر ببنات الرسالة وأطفال بيت النبوة الشريف ليُحبسوا في خَرِبة الشام، وأمَّةُ محمد صلى الله عليه وآله تتبادل التهاني والتبريكات بقتل سيد شباب أهل الجنة!!
فصولٌ من المآسي التي جرت على أهل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ليس ما تقدَّم إلا اليسير منها، تجعل ضعاف النفوس والمجردة من الإيمان قلوبهم يظنون أنهم بما صنعت أيديهم وأيدي آبائهم وأجدادهم أن الله قد نصرهم، وأن لا كرامة لأهل هذا البيت الشريف، لتجيبهم عقيلة آل أبي طالب صلوات الله وسلامه عليها: "أظننت يا يزيد حين أخذتَ علينا أقطار الأرض، وضيَّقت علينا آفاق السماء، فأصبحنا لك في إِسارٍ، نُساق إليك سوقاً في قِطار، وأنت علينا ذو اقتدار، أن بنا من الله هواناً وعليك منه كرامة وامتنانا؟! وأن ذلك لعِظَم خطرِك وجلالة قدرك؟! فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، تضرب أصدَريكَ فرِحا، وتنفض مِدرَوَيك مرَحا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور لديك متسقة، وحين صفى لك ملكنا، وخَلُص لك سلطاننا.. فملاً مهلا، لا تَطِش جهلا.. أنسيت قول الله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ؟!!"
أجل، صَدَقت العقيلة زينب صلوات الله وسلامه عليها، فما تلك المآسي رغم فداحتها، وعِظَم أثرها، إلا جولةً من جولات الانتصار، أراد الله لها أن تكون مأساةً خالدةً عبر الزمن، لتظل شاهداً على أن أمة رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد انحرفت عن مسارها، وعافت إيمانها به وبنبيه الكريم وكتابه المجيد، "وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ" الذين أحيا الله بهم شريعته، وجعلهم بما قدموا من قرابين خالصة لله تعالى فتنةً بها يُفتن الناس في إيمانهم، فيمتاز المؤمن عن غيره، حتى يأتي وعد الله الصادق، "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ"..
لقد صَدَق اللهُ وعدَه "وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا!!" فأرسل سيد الأنبياء والمرسلين، والخلائق أجمعين، برسالة الحق المبين، كما كان قد وعد أنبياءه ورسله والأمم السابقة، إذ "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ…"، وحتماً يَصدُقُ الله وعدَهُ بِأنْ يَسُودَ دِينُهُ الذي ارتضى لعباده أرجاء أرضه فـ"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ"، حين يخرج قائم آل محمد صلى الله عليه وآله إنفاذاً لوعد الله تعالى على لسان نبيه الصادق الأمين: "لو لم يبق من الدهر إلاّ يوم واحد، لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً، كما ملئت جوراً" (النص عن مسند أحمد بن حنبل، ج1 ص99، والحديث مروي في جميع المصادر المعتبرة لدى السنة والشيعة)، وبه عليه أفضل الصلاة والسلام، تكون شريعة الحق المحمدية، التي تسود الأرض بأسرها، وتبيد النفاق والشرك والكفر والشرائع المحرفة، فلا يكون في الأرض غير دين الله الذي هو دين الإسلام المحمدي، المصدِّق لما بين يديه من الكتاب والمهيمن عليه.. عندها يعلم الذين ظلموا أن ما قدَّمه الحسين عليه السلام بين يدي الله تعالى لم يكن إلا قرابين النصر، ولم يكن في يومٍ من الأيام هزيمةً للدين أو انتصاراً للباطل. فـ
اللهُ يَـا حَــامِي الشَّــرِيْعَهْ * أَتَـقَـرُّ وَهْـيَ كَذَا مَرُوْعَهْ!
مَاتَ التَّصَبُّرُ بِانْتِظَــارِكَ * أَيُّـــهَا المُحْيِي الشَّـــرِيْعَهْ
فَانْهَضْ فَمَا أَبْقَى التَّحَمُّلُ * غَيْرَ أَحْشَـــاءٍ جَزُوْعَــــهْ
قَدْ مَزَّقَتْ ثَوْبَ الأَسَــــى * وَشَكَتْ لِوَاصِلِهَا القَطِيْعَهْ
كَمْ ذَا الْقُعُــوْدُ وَدِيْــنُـــكُمْ * هُدِمَتْ قَـــوَاعِدُهُ الرَّفِيْعَهْ
عظَّم الله لك الأجر يا سيدي ومولاي الحجة بن الحسن، يا مهدي آل محمد وقائمهم، بهذا المصاب العظيم، وأحسن لك بمصابهم العزاء..
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن، صلواتك وسلامك عليه وآله، في هذه الساعة، وفي كل ساعة، ولياً وحافظاً، وقائداً وناصرا، ودليلاً وعينا، حتى تُسكنه أرضك طوعا، وتُمتعه فيها طويلا، وتجعلنا اللهم من أوليائه وأنصاره، والقائمين تحت لوائه، والمؤمنين بما جاء به جده المصطفى الأمين، صلواتك وسلامك عليه وآله الطيبين الطاهرين..
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وسلم وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.