عنوانُ هذه المحاضرة مألوفٌ في أيامنا، لا في لغة الصحافة وحسب، بل في لغة رجال القانون أيضًا، لكنَّه جُمَلٌ غير متناسقة في نظر رجال الفقه الإسلامي والقضاء الشرعي؛ فلفظ الاجتهاد مصطلحٌ إسلامي أصيل، بينما مصطلح الأحوال الشخصية مصطلح دخيل على الفقه والقضاء في هذه البلاد.
والعنوان بهذه الصياغة المزدوجة إنَّما يدلُّ على الازدواجية الحضارية التي ابتُليت بها أمَّتُنا نتيجةً لهيمنة الفكر الغربي والثقافة الغربية على مجتمعاتنا، وخاصة في مجال التشريع والحقوق.
إنَّ ما يطلق عليه لفظ الأحوال الشخصية ليست شخصية في حقيقتها، وإنَّما أحوال اجتماعية بكل ما لهذه الكلمة من معنى في اللغة العربية.
إنَّها علاقة إنسان بإنسان أو بأكثر من إنسان، فكيف نجيز لأنفسنا أن نطلق عليها اسم الأحوال الشخصية؟
لو كانت هذه الأحوال شخصية لما شغلتم أنفسكم بها؛ أنتم يا حملة القانون والتشريع.
هل بلغكم أنَّ أحدًا أقام دعوى على آخر لأن هوايته جمع الطوابع، أو جمع علب الكبريت الفارغة، أو لأنَّه أصرَّ على الاستحمام بالماء البارد في عزِّ الشتاء، أو لأنَّه يفضل أكل السمك المقلي على الدجاج؟!
أرجو أن لا تستغربوا من هذه الأمثلة الشاذة؛ ذلك أنَّ مثل هذه الأمور وفي هذه الحدود الضيقة، يمكن أن تُسمى بالأحوال الشخصية، مع إمكانية أن تخرج عن الإطار الشخصي لو توسَّع الفردُ في أساليب استعمالها.
العلاقات الأسرية ليست أحوالاً شخصية، بل علاقات اجتماعية معقدة، وذات حساسية شديدة، وتأثير خطير في البنية الاجتماعية بكلِّ ما تحتويه من مظاهر لغوية وفكرية و تنظيمات مالية وسياسية.
الصبغة الاجتماعية ألصق بالأحوال الاسرية من النُظُم الاقتصادية والمالية، والحكم فيها أخطر من الحكم في المسائل المالية.
صياغة العنوان اذًا تدلُّ على تَشَوُّشِ الفكر القانوني بمفهومات ليست من أصل واحد، وهذا أمر ملاحظ على كل النظم القانونية في البلاد العربية والإسلامية في أنَّها هذه. ويكفي للتدليل على هذه الظاهرة ما يصدر من المحاكم من أحكام بالفوائد الربوية في الأقطار العربية مع أنَّ الشريعة الإسلامية تمثل النظام العام فيها إن لم ينص دستوره على أنَّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للأحكام.
ولكن مالنا ومناقشة صياغة العنوان ما دمنا جميعًا نعلم أو نعرف معناه، إنَّما السؤال المطروح هو: لماذا اختيار هذا العنوان بالذات؟
إنَّ من يتابع ما ينشر في صحف هذه الأيام من أخبار الندوات التي تقام بين الفينة والفينة، والمقابلات التي لا تفتأ مع رجال القضاء والتشريع، والتركيز على أحكام معينة ممَّا يصدر من المحاكم الخاصة بأمور الأسرة، يجده كُلَّه يصب في بوتقة واحدة هي بوتقة الداعين إلى تقنين الأنظمة الفقهية التي تتعلق بالأحوال الأسرية.
وهذا العنوان يوحي بالسؤال عن مدى سعة الاجتهاد الممكن في هذه النظم الفقهية والقواعد الشرعية، ولا شكَّ أنَّ التقنين يعني وقف الاجتهاد، فهل لي أن أفهم بأنَّه إجابة على دعوة المطالبة بالتقنين بدعوة مضادة مؤداها التوسع في الاجتهاد في الأحوال الأسرية؟!
ومهما يكن القصد من العنوان، فالذي ينبغي أن أبينه هو بيان معنى الاجتهاد ومدى جوازه في الشريعة الاسلامية، وهل هو قابل للتخصيص بأن يكون اجتهاد في باب من الفقه دون باب، ثُمَّ ما إمكانية التوسع في الاجتهاد في مثل أحوال الأسرة التي اهتم بها الإسلام اهتمامًا بالغًا، وورد فيها كثيرٌ من الآيات القرآنية، واصدر فيها الرسول (صلَّى الله عليه وآله) كثيرًا من الأحكام والفتاوى.
ما هو الاجتهاد؟
عُرِّفَ الاجتهاد قديمًا بأنَّه النظر والرأي في المسائل الدينية، وتُعزى بدايته إلى خلافة عمر بن الخطاب، بل تنسب إليه ذاته اجتهادات في مسائل كثيرة، وكانت هذه بداية انشطار علماء الأمة إلى مدارس مختلفة في التشريع، وفي مدارك الفقه، وأصوله.
وكان الشيعة أسلاف الإمامية في مقدمة الرافضين لإقحام النظر العقلي في مجال التشريع، والداعين إلى التزام النص ممثلًا في آيات القرآن الكريم والسنة النبوية وما يصدر عن أئمة أهل البيت من أحكام.
ويكفي في تسجيل موقف الشيعة في تلك الحقبة ما ورد عن علي (عليه السَّلام) من ذمٍّ صريح لإعمال القضاة الأدلة العقلية في الأحكام؛ يقول (عليه السَّلام): "أم انزل الله دينًا ناقصًا فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل دينًا تامًا فَقَصَّرَ الرسولُ عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول ما فَرَّطنا في الكتاب من شيء، وفيه تبيان لِكُلِّ شيء".
ويقول إمامنا (عليه السَّلام) في ذمِّ أصحاب الرأي: "وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً، مُوضِعٌ في جُهَّالِ الْأُمَّةِ، عَادٍ في أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ، عِمٍ بِمَا في عَقْدِ الْهُدْنَةِ، قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالمِاً وَ لَيْسَ بِهِ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ، مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ، حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ، وَاكْتَثَرَ مِن غَيْرِ طَائِلٍ، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غيْرِهِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثّاً مِنْ رَأْيِهِ، ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ العَنْكَبُوتِ". إلى أن يقول في آخر الكلام "لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ. يذْرو الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الهَشِيمَ".
بل بلغ من موقف علي (عليه السَّلام) تجاه أصحاب الرأي والنظر العقلي أنَّه حذَّر من اتِّباعهم فيما توصلوا إليه من أحكام، ويظهر ذلك جليًّا في قوله: "إنَّما بدء وقوع الفتن أهواءٌ تُتَّبع، وأحكامٌ تُبتدع يخالف فيها كتاب الله، يَتَولَّى فيها رِجالٌ رجالًا".
والتزم الأئمة من ذرية علي (عليه السَّلام) هذا الموقف ودافعوا عنه دون هوادة، فعن الإمام الصادق في جواب أبي بصير وقد قال له: "ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتابٍ ولا سُنَّة، أفننظر فيها؟ فقال (عليه السَّلام): لا؛ أما إنَّك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت على الله".
وقال علي (عليه السَّلام) وهو يُحدد لهم من يترافعون عنده في الخصومات: "انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فاجعلوه عليكم قاضيًا".
ولم يغفل الإمام الثاني عشر وهو يعين لشيعته من ترجع إليه أثناء الغيبة من أن يحصر ذلك في رواة الحديث، يقول (عجَّل الله تعالى فرجه) في التوقيع الصادر لإسحاق بن يعقوب عن طريق محمَّد بن عثمان العمري: "وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنَّهم حُجَّتي عليكم، وأنا حُجَّة الله".
موقف الشيعة منذ البداية كان رفضًا لإقحام النظر العقلي، وإعمال المعايير والقيم العقلية في الفقه والقضاء.
وقد ورث الإمامية هذا الموقف من آبائهم وأصرُّوا عليه – عدى الزيدية والكيسانية – مع اختلاف فرقهم من إسماعيلية وواقفية وقطعية، و غير ذلك من الفِرَق.
وقد كان فقههم يتميز بأنَّه فقه المحافظة على النص والابتعاد عن الرأي والاجتهاد، وكانت هذه هي شهرتهم بين فرق المسلمين وخاصة أصحاب الكلام ومؤرخي الفرق، وحتَّى قال الأشعري: "وقالت الروافض بأجمعها بنفي اجتهاد الرأي في الأحكام وإنكاره".
وتظهر المصادر الإمامية خاصة عند الإثني عشرية التي ألفت في فترة القرون الثلاثة الأولى أنَّ الإمامية يرفضون الاجتهاد بهذا المعنى رفضًا كليًّا وباتًّا.
واذا جئنا إلى أواخر القرن الثالث و طيلة القرن الرابع لم نلحظ أي تغير في موقف الإمامية من هذه المسألة، بل نجد أنَّه انضم إليهم أتباع الإمام مالك وأتباع الشافعي وأحمد، وإن لم يصلوا إلى الحد الذي بلغه الإمامية من نبذ الاجتهاد، فقد اعتمد الشافعي على القياس في مسائل كثيرة، كما يفتي مالك في بعض المسائل بالاستحسان، وعرف عنه عمله بالاستصلاح. بينما بقي الإمامية مصرين على نبذ كل ذلك، بل منع الاجتهاد العقلي في الدين من أساسه.
يقول الشيخ الطوسي في عدة الأصول في باب الرد على من قال باجتهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله): "إنَّ هذه المسألة تسقط على أصولنا لأنَّنا قد بينَّا إنَّ الاجتهاد والقياس لا يجوز استعمالهما في الشرع، وإذا ثبت ذلك فلا يجوز للنبي ولا لأحد من رعيته حاضرًا كان أو غائبًا لا حال حياته ولا بعد وفاته استعمال ذلك على حال".
ويقول في مقدمة كتاب المبسوط في وصف الأئمة: "ولم يكلهم إلى الآراء المضلة، والمقاييس المبطلة، والاجتهادات المخزية، بل جعل أقوالهم الحجة وأفعالهم القدوة".
خلاصة القول أنَّ الإمامية كانوا يرفضون النظر العقلي في استنباط الأحكام والقضاء تبعًا لموقف أئمتهم، بل يجمدون في الغالب على نصوص الرواية خوفًا من أن يقعوا بسبب التأويل في الاجتهاد. ولا أريد في هذا الموقف أن أتتبع ظاهرة الإنكار أو الاستنكار لمحاولة إقحام الأدلة العقلية في مقام استنباط الأحكام الشرعية الفرعية أو في مقام الحكم والقضاء في مختلف العصور؛ إذ أن هذه المحاضرة لم تُعمل من أجل التأريخ لهذه الظاهرة، ولكنِّي أقول أنَّ التيار العام للفقه الإمامي، خاصَّةً الإثني عشري يرفض الاعتماد على الاجتهادات العقلية في الفقه والقضاء حتى يومنا هذا، ويكفي للتدليل على ذلك أنَّ كبار دعاة التحرر في البحث العلمي من مراجع الإمامية يبعدون عن أنفسهم تهمة العمل بالأدلة العقلية أو الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية.
فنجد السيد الشهيد محمد باقر الصدر يعترف وهو في مقام الرد على نفاة الاجتهاد والتشنيع عليهم بـ "أنَّ مدرسة أهل البيت كانت تحارب الاتجاه العقلي المتطرف"، بل اضطر بعد أن ألف هذا الكتاب أن يبعد عن نفسه تهمة العمل بالدليل العقلي وإن كان يقول بجواز إعماله، فقال في مقدمة كتابه الفتاوى الواضحة تحت عنوان الاجتهاد والتقليد ما نصه: "ولما كانت مصادر الشريعة محفوظة إلى يومنا هذا في الكتاب الكريم كاملاً بدون نقصان وعدد كبير من أحاديث السنة الشريفة، فمن الطبيعي أن يستمر الاجتهاد كتخصص علمي في فهم تلك المصادر واستخراج الأحكام الشرعية منها".
ويقول تحت عنوان مصادر التشريع: "ونرى من الضروري أن نشير أخيرًا إلى مصادر التشريع التي اعتمدناها بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة وهي كما ذكرنا في مستهل الحديث عبارة عن الكتاب الكريم والسنة الشريفة عن طريق الثقات المتورعين في النقل مهما كان مذهبهم، أمَّا القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوغًا شرعيًا للاعتماد عليها. وأمَّا ما يُسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنَّه هل يسوغ العمل به أو لا فنحن وإن كُنَّا نؤمن بأنَّه يسوغ العمل، ولكنَّا لم نجد حكمًا واحدًا يتوقف إثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى، بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سُنَّة"، إلى أن يقول: "وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسُّنَّة".
وما ذلك إلَّا لقوة هيمنة عملية الرفض لمصدر غير الكتاب والسنة، تلك العملية التي ابتدأها علي (عليه السَّلام) من أول يوم بزغت فيه نزعة الاجتهاد العقلي في الإسلام، وبقي تيارها قويًّا جارفًا في فقه الإمامية.
ويقول أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي وهو في مقام الكلام عن الاجتهاد: "إنَّه قد عُرِّفَ الاجتهاد في الاصطلاح باستفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي، ولكن لا يهمنا تحقيق مفهومه فإنَّه بعنوانه لم يقع موضوعًا لشيء من الأحكام الآتية في لسان الأدلة كما ستسمع إن شاء الله تعالى على أنَّ التعريف المزبور باطل من أصله".
ويتابع كلامه في هذا الصدد حتَّى يقول: "ولعلَّ التعريف المذكور أوجَبَ استيحاش الأخباري من جواز الاجتهاد وعدَّه من البدع والمحرمات، فالصحيح أن يُعَرَّف باستفراغ الوسع في تحصيل الحجَّة على الحكم الشرعي أو تعيين الوظيفة عند عدم الوصول اليها".
ولو تَمَعَنَّا في هذا التعريف لوجدناه محاولة للمّ الشمل أكثر منه تعريفًا حقيقيًا للاجتهاد.
وذلك أولاً: لأنَّ الاجتهاد عند المتأخرين من فقهاء الإمامية الإثني عشرية ملكة علمية، تُمَكِّن صاحبها من استنباط الحكم وليس عملية فعلية.
وثانياً: إنَّ الرفض لم يكن لخصوص الأدلة العقلية الظنية حتَّى يزول الاستيحاش بمجرد استبعاد لفظ الظن من التعريف.
على أنَّ التعريف لا يستبعد الأدلة الظنية، بل يتستر عليها، فإنَّ من يعمل بالأدلة الظنية يدعي أيامنا قيام الحجة عنده على جواز إعمالها في الشريعة.
بل لا يرضى فقيه أن يقال أنَّه يَعمل بما لم تقم عليه الحجة. ومن أجل ذلك لم يتمكن استاذنا من إزالة الاستيحاش من نفوس الرافضين لإعمال الدليل العقلي في الأحكام الشرعية، فإنَّ استفراغ الوسع واجب خلقي عند الجميع يقتضيه الإخلاص للعلم والحياطة للدين.
وفي مقام الإجابة على سؤال فيما إذا كان قد اعتمد في فتوى من فتاواه على دليل العقل أجاب مد ظله: "لا شكَّ أنَّ الأحكام الشرعية مجعولة طبق المصالح والمفاسد الواقعية، وليست مجعولة جزافًا، إلَّا أنَّ عقولنا القاصرة لمَّا لم يسعها أن تدرك تلك المقتضيات، ودين الله لا يصاب بالعقول، فلأجله يجب علينا أن نتعبد بالأدلة الشرعية السمعية من الكتاب والسنة".
الخلاصة أنَّ عملية الاجتهاد عند الإمامية وخاصة الإثني عشرية تجري في حدود فهم النص الشرعي ودراسته لاستخراج الحكم منه، وقد لازمت هذه الصفة الشيعة منذ بداية تاريخهم، فحدود الاجتهاد عندهم من حيث وسائله وأدواته لا شكَّ أضيق من حدوده عند غيرهم من المدارس الفقهية الإسلامية والتي تُسَوِّغُ إعمال المعايير العقلية بصورة أو بأخرى.
لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ هناك مسائل يستطيع الفقيه غير الإمامي أن يتكلم بعجز الفقيه الإمامي عن خوضها وبحثها. وذلك لأنَّ الشيعة اهتموا منذ بداية تاريخهم بتدوين أحاديث الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وأحكامه وأقضيته وكذلك أحاديث الأئمة من أهل البيت، ويكفي أن نعرف بأنَّ الصحابة الملازمين لعلي ألفوا كتبًا من أقوال الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وأقوال أمير المؤمنين، منهم على سبيل المثال أبو رافع مولى علي (عليه السَّلام) وسليم بن قيس الهلالي، بينما لم يهتم سائر المسلمين إلى هذه العملية إلَّا بعد عصور متمادية بسبب ما اعتقدوه من نهي النبي (صلَّى الله عليه وآله) عن كتابتها. فمن أجل ذلك صار عند الشيعة ثروة كبيرة من الروايات.
وثانيًا: إنَّ الفقيه الشيعي لا يُلزم نفسه بصحة جميع ما في كتاب معين أو عدم صحة جميع ما في كتاب معين، أو يقتصر على رواية من يتفق معه في الاعتقاد، بل هو يبحث عن الخبر الصحيح في أي مصدر من مصادر الإسلام، فاذا ما توفرت له شرائط الصحة عمل به بغض النظر عن مذهب الراوي وعقيدته. من أجل ذلك فما من مسألة تكلَّم عليها القائلون بالاجتهاد العقلي إلَّا وتكلم عليها الشيعة الإمامية لأنَّها كما يقول الشيخ الطوسي منصوصة في أخبارنا تلويحًا أو تصريحًا وقد مرَّت بك مقالة الشهيد السيد محمد باقر الصدر وهو من القائلين بسواغ استعمال العقل في الاستدلال على المسائل الشرعية أنَّه ما من مسألة يمكن إثباتها بدليل العقل إلَّا وهي مذكورة في الكتاب أو السنة.
الاجتهاد والقضايا الأسرية:
إنَّ المبدأ العام عند الشيعة الإمامية أنَّ منصب القضاء لا يتولَّاه إلَّا من يكون قد حصلت عنده ملكة الاستنباط، أي القدرة على الاجتهاد في الأحكام الشرعية بالحدود التي ذكرناها سابقًا.
ولكن لا يشترط فيه أن يكون من الدرجة الأولى أو الثانية من الفقهاء، بل يكفي أن يكون قادرًا على ترجيح أدلة الأقوال المختلفة، وبعضهم اشترط أن يكون قد مارس عملية الاستنباط فعلاً وأنَّه استنبط عددًا من الأحكام معتدًّا به. والأصل في ذلك ما رووه عن الامام الصادق (عليه السَّلام)، قال: "انظروا إلى رجل منكم قد عرف شيئًا من أحكامنا فاجعلوه قاضيًا عليكم فإنِّي رضيتُ به قاضيًا" باعتبار أنَّ لفظ شيء يفيد الجزئية فيكفي فيه أن يكون قد استنبط عددًا من الأحكام ليصحَّ له أن يتولَّى القضاء.
نعم، وقع الخلاف في قاضي التحكيم، وهو الشخص الذي يختاره المتداعون ليحكم في قضيتهم من دون أن يكون منصوبًا للقضاء، هل يشترط فيه أن يكون واجدًا لشرائط القضاء بما في ذلك ملكة الاجتهاد، أم يختلف في هذه الناحية عن قاضي الأصل أي المنصوب؟ ويذهب كثير من الفقهاء منهم الشهيدان في اللمعة والروضة إلى اشتراط الاجتهاد فيه، مع اتفاقهم في غير هذه الصورة على عدم جواز اعتماد القاضي على فتاوى الفقهاء في إصدار الأحكام إلَّا أن يترجح عنده الدليل عليها، ولا فرق في ذلك بين فتوى الحي أو الميت، بل لا تنفعه تولية الفقيه الحي له.
لكنَّ الذي جرى عليه أكثر المعاصرين إجازة تولي القضاء لمن لم يكن واجدًا لملكة الاستنباط، مع تصريحهم في كتبهم الاستدلالية والعملية باشتراط الاجتهاد في القاضي، بل يذهب أكثرهم إلى أنَّ الحقَّ المأخوذ بحكم غير واجد الشرائط لا يكون حقًّا، وإنَّما يأكله صاحبه سحتًا، وإن اختلفوا في هل تختص الحرمة بالدين أو تشمل التقاضي في الأعيان.
نعم، نُقِلَ عن ابن فهد أنَّه في حال عدم توفر واجد الشرائط المُعَبَّر عنه في ألسنتهم بالحاكم الشرعي فإنَّه يجوز للعدل من المؤمنين القيام ببعض الأمور الحسبية مثل النظر في شؤون الأيتام والأوقاف وما إليها، لا تَوَلِّى الأحكام.
ولعلَّ أوَّل من أجاز ذلك في رسالته حسب ما أعرف هو السيد كاظم اليزدي قدس سره في كتاب العروة الوثقى. وربَّما كان الداعي لذلك مقام الضرورة من تيسير أمور الناس في موضع لا يوجد فيه جامع الشرائط.
غير أنَّ بعض الأساتذة قد أجاب، على سؤال كنت قد وجهته له في مجلس البحث، بأنَّ القضاء من مناصب الفقيه، فله أن يباشره بنفسه وله أن ينيب فيه عنه.
وهو جواب غريب في بابه، حيث نصُّوا في باب النيابة على أنَّ القضاء لا تدخله النيابة، إضافة إلى ما ذكره صاحب الحدائق من أنَّ كون القضاء من مناصب الفقيه بأن له ان يباشره في زمن الغيبة، فعندئذ إن كان المجاز ممَّن اجتمعت فيه الشرائط فليس له حاجة في هذه الإنابة أو الإجازة، وإن لم يكن مُتَّصِفًا بها لم تنفعه.
نعم، لو قلنا بولاية الفقيه فإنَّ ذلك يمكن أن يُصَحَّح لاقتضائها جواز تولي الفقيه لمناصب إمام الأصل، لكنَّ كثيرًا من الإجازات التي صدرت في هذا الشأن صدرت ممَّن لا يقول بولاية الفقيه.
وينبغي أن يلاحظ هنا أنَّ لفظ القضاء عند الفقهاء الشيعة لا يختصُّ بالنظر فيي أمور الأسرة أو ما اصطلح عليه بالأحوال الشخصية عند الوضعيين، بل القاضي له أن يحكم في كلِّ المنازعات المالية والأسرية وغيرها.
فهذا التخصيص في القضاء لم تعرفه البلاد الإسلامية إلَّا منذ قرنين على الأكثر، وذلك بفعل الدول المستعمرة التي سيطرت على البلاد العربية والإسلامية، ورأت أنَّ مصالحها لا تستقيم مع بقاء القضاء في أيدي رجال الفقه الإسلامي، مع عدم إمكانية أن تتدخل في الشئون الدينية والأسرية، ففصلت هذه الموضوعات في محاكم خاصة أطلق عليها اسم المحاكم الشرعية.
وفي بعض البلاد التي تمكنت من الهيمنة عليها هيمنة تامة فقنَّنت هذه الموضوعات باسم قانون الأحوال الشخصية مع أنَّها استثنت ما هو ألصق بالشخصية مثل إثبات الهوية، وإثبات الأهلية من هذه المحاكم حتَّى لا تتضرر سياساتها، التي تريد إمضاءها على المسلمين، بل أخرجت ما هو اشد التصاقًا بالشخص؛ وهو عملية إثبات الميلاد أو اختيار الاسم من سلطة المحاكم الشرعية.
فالاجتهاد اذن شرطٌ في القضاء، في خصوص الأمور الأسرية أو غيرها، لكن لا يعني ذلك أنَّ القاضي يعمل برأيه من دون استنادٍ إلى دليل شرعي معتبر.
ومجال الأمور الأسرية أضيق دائرة من غيرها في عملية الاجتهاد الحر لو تمَّ لنا أن نقول بجوازه شرعًا والخروج بنتائج لم يكن الفقه طيلة هذه القرون قد تكلَّم عليها، وذلك لكثرة الآيات والروايات الواردة في تنظيم الأسرة وتعيين حقوق الزوجين والأبناء والأبوين وسائر القرابة، وواجبات كل طرف تجاه الآخر، اللهمَّ إلَّا أن نجيز لأنفسنا الاجتهاد حتَّى في مقابل النص.
نعم، في المسائل التي يقع فيها الاختلاف بين الفقهاء أو بين الفقه والقضاء يمكن للقاضي أن يُرَجِّح مذهبًا على مذهب إذا قام عنده دليل على ترجيحه. وفي مثل هذه الحالة لا يخضع القاضي لسلطة المحكمة التي تكون أرفع درجة من محكمته، فالقاعدة في الفقه الإمامي أنَّ الحكم إذا صدر ممَّن له إصداره لا يجوز نقضه إلَّا مع تبين بطلانه، والمقصود ببطلانه بطلان الدليل الذي اعتمد عليه ذلك الحكم، وفي مثل الحالة التي نتكلم عليها تكون المسألة اجتهادية محضة.
ولا يصحُّ الحكم ببطلان الدليل لمجرد أن يخالف اجتهاد ذلك القاضي الذي ترفع إليه القضية بعد الحكم فيها من قاض آخر.
أسئلة مِنَ الحضور:
سؤال: أرجو أنْ لا يستشف من حديثكم الكريم أنَّ هناك تعارضًا وتنافيًا أساسيًّا بين الدين والعقل. إنَّ المقولة المأثورة عن الإمام (عليه السَّلام) عن القرآن بأنَّ له ستين وجهًا. هل من وسيلة لاستنباط أكثر من وجهين إلَّا بالعقل؟
الشيخ سليمان المدني: عندما نقول أنَّ الشيعة يرفضون عملية الاجتهاد العقلي في استنباط الأحكام لا نعني من ذلك أنَّهم يقولون بالتنافي بين الدين والعقل، أو أنَّهم يرفضون العقل في كلِّ المجالات، ولكنَّ الفرق كبير بين مجال استنباط الأحكام الفرعية الجزئية وهو أمر ينصب على أفعال المكلفين الجزئية وبين مجال استعمال الأدوات العقلية والمنطقية.
على أنَّ العقل الذي يتنازع حوله المُحدِّثُون والمجتهدون ليس هو ما يفهمه أكثر الناس أنَّهم يقصدون بذلك العقل العملي.
والعقل العملي يرتكز على معنى الحسن والقبح، وهذه مسألة كلامية قد اختلفت فيها المدارس الكلامية الإسلامية اختلافًا شديدًا، والشيعة الإمامية يقولون أنَّ العقل له قدرة إدراك الحسن والقبح في الأشياء، وأنَّ إدراكه لحسن الأشياء وقبحها لا يتوقف على بيان الشرع، ولكنَّ السؤال المطروح هو: هل كل ما أدركه العقل حكم به الشرع؟
طبعًا من أجاب بنعم قال بجواز الاستدلال العقلي على الأحكام الشرعية الفرعية، ومن قال لا لم يجز إجراء الاستدلال بالعقل في الأحكام الشرعية.
العقل حجة الرحمن على عباده وآيات القرآن صريحة ناطقة وكررت {أفلا يعقلون.. أفلا يفقهون}، و{إنما يتذكر أولو الألباب}، وأمَّا الفهم اللغوي يكون بالعقل فهذا يكون أمر غريب إذا كان هذا معنى العقل فما من أحد إلَّا ويقول بالعقل! عندما تقول أنَّ فهم الآيات القرآنية يكون بالعقل فعندئِذ حتَّى قولنا أعطني ما يحتاج إلى استعمال العقل، فهم القرآن اللغوي…
القرآن آياته تختلف، فمنها الآيات المحكمات وهي التي لا تحتمل إلَّا وجهًا واحدًا، مثل قوله تعالى: {قل هو الله أحد}، ومنها ما هو ظاهر ليس محكمًا، بل يحتمل أكثر من وجه.
ولا شكَّ أنَّ فهم أو ترجيح هذا الوجه على هذا الوجه يحتاج إلى قرائن على الفقيه والمفسر أن يجهد نفسه في تحصيلها قبل أن يفتي بالوجه الذي يرجحه في الآية. ومنه آيات متشابهات لا يجوز البناء على ما يفهم منها إلَّا بالآخر والذي يتعلق بالأحكام الشرعية الفرعية من الكتاب خمسمائة آية لا غير.
وليس كل آيات القرآن تتعلق بمقام استنباط الأحكام الفرعية، ثم أنَّ هذا كما يجري في الكتاب يجري أيامنا في السنة المطهرة، ففيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين.. إلى غير ذلك.
وكلها لا بُدَّ من ترجيح بعضها على بعض بقرائن من اللغة، أو من الثابت من كلام النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السَّلام) حتَّى يعمل بهذه الرواية أو لا يعمل، وربَّما كانت للروايات معارضات، روايات أخرى تعارضها ولو في ظاهر الفهم وبدايته.
على الفقيه في أيامنا أن يحاول الجمع بينها بقدر المستطاع، فاذا عجز ذهب إلى باب المرجحات في ترجيح هذه الرواية على الأخرى، وهذا لا بُدَّ أن يكون الإنسان فيه عاقلاً، ولكنَّها ليست عملية عقلية.
سؤال: ما هو حكم القاضي الفاقد للبصر؟
الشيخ سليمان المدني: اختلفوا فيه، منهم من قال أنَّه يلزم أن يكون سليم البصر وأن يكون قادرًا على تمييز الخصمين، ومنهم من قال يكفي أن يميزهما بالصوت وكاتبه سوف يقوم بتدوين كلام الطرفين وأسمائهما.
ولا شكَّ أنَّ الصفة الغالبة على فقه الإمامية اشتراط أن يكون القاضي سليم البصر، فلو كان فقيهًا متضلعًا، ولكنَّه فاقد البصر لا يصحُّ أن يُنصب قاضيًا.
سؤال: هل يجوز لدى الشيعة الإمامية تنصيب المرأة منصب القضاء؟
الشيخ سليمان المدني: طبعاً لا؛ ففي قول الصادق "انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا ونظر في أحكامنا وعرف حلالنا وحرامنا"، و"انظروا إلى رجل منكم عرف شيئًا من قضايانا" اشترط الرجولة في القاضي، وهو يمنع من أن تحتل المرأة منصب القضاء.
سؤال: لم يتحدث فضيلة الشيخ عن الإجماع ورأيه فيه؟
الشيخ سليمان المدني: لم أكن أتكلم عن أصول الفقه وبيان ما هو حجة وما هو ليس بحجة حتَّى أتكلم عن الإجماع. ولم أترك الإجماع فقط، بل تركت كثيرًا ممَّا يُتنازع عليه في أصول الفقه، وكلامي كان عن الاجتهاد في الرأي فقط باعتبار أنَّه أوَّل تعريف للاجتهاد، وذلك عند الشيعة فقط لأنَّه لا يمكنني أن أتتبعه في بقية المدارس، وسوف يتابعه الأخ الشيخ عبد اللطيف في محاضرته ويبين لكم آراء المدارس الأخرى.
سؤال: إنَّ مصادر التشريع اربعة (الكتاب، السُّنَّة، الإجماع، العقل) فما قولكم فيها؟
الشيخ سليمان المدني: اذا كنت تقصد ما يبحث في الأصول فلماذا الحصر بأربعة؟ ما يبحث في الأصول مصادر كثيرة.
كلما قال عنه فقيه من الفقهاء أنَّه حجة بُحث في الأصول ونوقش، منها القياس ومنها الاستحسان وغيرهما.. وإن كنت تقصد ما يقول به علماء الشيعة بأنَّ مصادر التشريع أربعة فإنَّ غالبية علماء الشيعة لا يقولون بالأربعة، فمنهم من يقول بثلاثة، إمَّا أن يضع العقل، وإمَّا أن يضع الإجماع، ومنهم من يقول غير ذلك، بل إنَّ علم الأصول يبحث كلَّ ما يحتمل حجيته، فإمَّا أن يثبت عند ذلك الأصولي حجته أو لا.
سؤال: هل يشترط لإيقاع التطليق للضرر أن يكون القاضي الناظر في الدعوى مجتهدًا؟ وهل يتوفر ذلك بالنسبة للقضاء البحريني الجعفري؟ وإذا كان الجواب بنعم فما ذنب المرأة الجعفرية؟
الشيخ سليمان المدني: قلنا أنَّه يشترط الاجتهاد في القضاء، سواء في حالة الحكم بالتطليق، أو بالنفقة، أو بالرجوع إلى زوجها؛ فالقاضي أساسًا عند الشيعة يشترط فيه أن يكون قادرًا على الاجتهاد. أمَّا أنَّه ما ذنب المرأة الجعفرية؟
إنَّ القاضي اذا ترجح عنده وجود الضرر وثبت فإنَّ مبدأ التطليق لن يتوقف عند التطليق، ولكن اذا كان ما تدعيه المرأة من ضرر كان في نظر القاضي الناظر في الدعوى أنَّه ضرر نشأ من الطرفين لا من طرف واحد، أو أنَّ هذا الضرر ليس ممَّا يسوغ الطلاق، فعندئذ لن يقدم على عملية الطلاق للضرر، وطبعًا هذا يرجع إلى تقدير القاضي.
وأنا أعرف أنَّ هناك حالات متعطلة ليست حالات ضرر، ربَّما حالة كراهة.. مثلاً امرأة تتزوج شخصًا ثُمَّ تكرهه فتتقدم إلى القضاء بطلب الفراق، وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء، والقضاء، ليس منذ الآن، ولكن منذ أكثر من ثلاثة قرون، فنجد أنَّ كتب الفقه في البحرين كلها تأخذ على القضاء بعدم مبادرته بالاستجابة لطلب المرأة الطلاق بسبب الكراهة.
ومن شاء فليرجع إلى الجزء 24-25 من الحدائق الناضرة وغيره من كتب الفقه وهو يتكلم عن العلماء المتولين للقضاء ويقول أنَّه شاهدهم لا يستجيبون للمرأة في هذا الأمر وانتقدهم، وهناك فقهاء آخرون انتقدوا القضاء في البحرين أيضًا، ويبدو أنَّ القضاء بقي مصرًّا على نظريته التي كانت مطبقة وإلى اليوم لم تتغير.
سؤال: ما هو موقف القضاء البحريني من شهادة المرأة؟ وما هو الدليل على عدم توريث الزوجة في العقارات؟
الشيخ سليمان المدني: بالنسبة للشيعة الإمامية فإنَّ شهادة المرأة مقبولة في الأموال بحسب ما نصَّ عليه القرآن من أن شهادة امرأتين تُعَدُّ شهادة رجل واحد، وبما قامت عليه السُّنَّة بشرط توفر العدالة، وكذلك في معظم الموارد التي تؤول للمال كالوصية وأمثالها، وتقبل شهادة النساء منفردات في المواضع التي لا يطلع عليها الرجال كإثبات الولادة والاستهلال حينها.
والشيعة يقولون أنَّ شهادة المرأة إنَّما تُقبل منفردة في الأهلة، ولا تُقبل كجزء من بينة في الأهلة، ولكن لو كان إثبات الهلال بالشياع لكانت المرأة أيضًا تُقبل شهادتها في إتمام الشياع وفي إيجاده، وتُقبل شهادة المرأة في إثبات النسب إذا كان قد ثبت بالإشاعة، لا في ما قد ثبت بالبينة.
وأمَّا عدم توريثها فمن الأرض، لا من العقار؛ فلأنَّ الشيعة حملوا الآيات التي وردت في القرآن مثل قوله تعإلى {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} وقوله تعلى {ولهن الثمن مما تركتم إن كان لكم ولد} وقوله تعالى {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد} وقوله تعالى {ولكم الربع ممَّا تركتم إن كان لهن ولد} إلى غيرها.. حملوا (ما) هنا على أنَّها نكرة محضة وليست اسمًا موصولًا، واستدلوا على ذلك بأنَّ اللغة العربية تقتضي أن يكون العائد على الاسم الموصول إذا كان مجرورًا أن يكون مجرورًا أيضًا وبنفس الحرف الذي جُرَّ به الاسم الموصل، والعائد هنا كله غير مجرور، فلا يمكن جعل (ما) موصولة، وإنَّما هي نكرة محضة، كقولك مررت بما معجب بك، وعلى هذا (فما) تفيد الجزئية ولا فرق في ذلك بين (ما) التي في آية توريث النساء، أو (ما) التي في آية توريث الرجال، فلا بُدَّ من الرجوع إلى الروايات والسُّنَّة في تفصيل هذه النكرة المحضة من أي شيء ترث ومن أي شيء يرث الرجل ومن أي شيء لا ترث ومن أي شيء يرث الرجل ومن أي شيء لا يرث، ولذلك اختلف الفقهاء في هذه المسألة اختلافًا كبيرًا؛ فمنهم من قال إن كان لها ولد ترث من الأرض عينًا، وإن لم يكن لها ولد ترث من الأرض قيمة، ومنهم من قال في كلا الحالين ترث من الأرض قيمة لا عينًا.
والقول المشهور بينهم بسبب كثرة الروايات الواردة أنَّ المرأة لا ترث من رقبة الأرض فلذلك كان القضاء في معظم الأقطار الشيعية ومنذ أقدم الأزمان لا يورث المرأة من رقبة الأرض.
سؤال: ما هو رأي فضيلتكم في نظام القضاء الموحد، وكيفية تطبيقه في المحاكم الشرعية في البحرين بمذهبيها؟
الشيخ سليمان المدني: لا شكَّ أنَّ المذاهب الإسلامية تختلف في بعض الجزيئات والفروع، وهذا لا يقتصر على الشيعة والمالكية مثلاً، أو الشيعة والشافعية، أو الشيعة والأحناف، أو الشيعة والحنابلة، بل حتَّى المذاهب الأربعة تختلف في بعض الجزيئات.
والإشكال هنا ليس في وجود محكمة أو محكمتين؛ فما دامت هناك جزيئات يُختلف فيها، وما دامت هذه المسائل تتعلق بأقدس الأمور عند الإنسان ومنه الزواج والطلاق والنكاح عمومًا، ومنه يكون النسل، فلماذا لا يُطبق على كل إنسان ما يعتقده أنَّه حكم الله في حقِّه؟
ولذلك نجد أنَّ أحكام الأسرة عند الفقهاء المسلمين جعلوها أكثر ابتعادًا عن الاجتهاد وعن إعطاء الرأي، وقرَّبوها من العبادات، وأبعدوها من المعاملات، ولذلك كانت لها قدسيتها وحساسيتها في نظر المسلمين عمومًا، ولا فرق بين المحكمتين، فإلى حدِّ الآن ولله الحمد لا يوجد تعارض بين المحكمتين، بل كثير من التعاون في القضايا التي تنظر هنا أو هناك.
سؤال: لُوحظ كثرة الشكاوى التي ترد إلينا من نساء متضررات، وأيضًا الرجال يتَّهمون القضاة بأنَّهم لا يحكمون لا بالكتاب ولا السُّنَّة؛ وإنَّما بحسب أهوائهم الشخصية! ما قولك في ذلك؟ وهل قانون الأحوال الشخصية يعارض الشريعة؟
الشيخ سليمان المدني: قديمًا قال الشاعر:
إنَّ نصف الناس أعداء لمن ... ولي الأحكام هذا إن عدل
فلا إشكال أنَّ من يخرج من المحكمة محكومًا عليه ويجد صدرًا رحبًا في مثل جريدتكم الكريمة التي تنشر الشكوى قبل أن تراجع المحكمة فسوف يذهب اليكم. وكأن الحرمة لهذا الذي لجأ إلى الصحيفة أكبر من حرمة القاضي الذي أهين!
ثُمَّ أنَّ القاضي لا يحكم بمجرد هواه؛ لأنَّه لا يوجد قاضي واحد في المحكمة، وإنَّما توجد هيئة، ولو عَرَفَتِ الأخت هذه الهيئة التي تكون في المحكمة لعَرَفَتْ أنَّهم في الغالب لا يتفقون على شيء إلَّا بعد اللتيا والتي، فكيف تقول أنَّهم يحكمون بأهوائهم؟
ثُمَّ بعد ذلك أنَّ من لا يعجبه حكم المحكمة الأولى بإمكانه اللجوء إلى محكمة الاستئناف، وهي أيامنا تعتمد على هيئة لا فرد، والمحامون أنفسهم يعلمون بأنَّ القضاة قَلَّمَا يَتَّفِقُون على حكم واحد إلَّا بعد الأخذ والردِّ والمداولات، فكيف يُتَّهمُون بأنَّهم يحكمون بأهوائهم؟
وأمَّا قانون الأحوال الشخصية فنحن نرفضه، لا لاسمه فقط، ولكن لأنَّ وزارات التقنين في الدول الإسلامية لا تعتمد على الفقهاء المسلمين، إنَّما تعتمد على الفقهاء الوضعيين.
ووضع النص ولو بصورة يرتضي بها الشرع يعرض حياة الأسرة أن تحكم بحكم الكفر غدًا، ولهذا نحن نرفض التقنين.
سؤال: الاجتهاد؛ هل هو مقتصر على بعض المراتب الدينية، أو يشمل كلَّ ذي ثقافة عامَّة، ودراسة شاملة؟
الشيخ سليمان المدني: عندما نقول أنَّ زيدًا طبيب لمُجَرَّد أنَّه قرأ المجلَّات والكتب الطبية العامَّة فهذا أمرٌ لا نجد فيه مِنَ الصحةِ شيئًا، لكنَّ الطبيب هو من تخصَّص في علم الطبِّ وأفنى زهرة شبابه فيه.
عِلْمُ الفِقْهِ عِلْمٌ تخصُّصيٌّ دقيقٌ يعتمدُ على علوم كثيرة، وإذا كان يكفي الطبيب أن يحصل على شهادة الطبِّ بدراسة ستِّ سنوات فإنَّه لا يتمكنُّ أحدٌ مِن أن يحصل على درجة الاجتهاد في مثل هذه الفترة إلَّا أن يكون نادرة النوادر؛ لكثرة ما يحتاج من علوم يتقنها وجهد يلاحظ عليه ومن فكر يقدمه في سبيل تخصصه.
سؤال: محكمة التمييز في القضاء المدني؛ هل هناك إمكانية لإنشاء مثل هذه المحكمة بالنسبة للقضاء الشرعي؟
الشيخ سليمان المدني: اذا كان القضاء سيبقى بهذا الترتيب فهناك ما يمنع؛ لأنَّ المفروض أن يكون القاضي في المحكمة الأعلى درجة أكثر كفاءة، لأنَّه سيحكم على ما يصدر من المحكمة الأدنى درجة، وبموجب نظام القضاء المعمول به في البحرين يكون الترفيع بموجب الأقدمية، وهذا نظام معيب، واذا كان يصلح في وزارات الدولة المدنية فهو لا يصلح في مجال القضاء الشرعي.
نعم، إذا كانت الدولة توطن نفسها على جعل نظام الترفيع يتمُّ بموجب الكفاءة، وجلب الأعضاء من خارج القضاء ولو من خارج البلد لهذه المحكمة فعندئذ لا يكون هناك مانع مطلقًا، أمَّا إذا كان يزحف إليها زحفًا فسوف تكون محكمة ثالثة وليست محكمة تمييز.
سؤال: هل يجوز جبر المرأة للرجوع إلى زوجها بالشرطة؟
الشيخ سليمان المدني: إذا نشزت المرأة تسقط حقوقها، وأحيانًا يرى القاضي أنَّ بقاءها ناشزة قد يسبب أضرارًا خُلُقِيَّةً لها أو لزوجها، فيلزمها بالرجوع إلى الزوج كفًّا لهذه الأضرار، وأمَّا لو لم يحتمل القاضي ذلك يحكم عليها بالنشوز فقط، وهذا ما جرت عليه المحاكم، وأحيانًا أهل الزوجة يطلبون من القاضي أخذها بالقوة إلى بيت زوجها، وقد طلبَ مِنِّي أكثر من شخص ذلك وقلت لهم كيف أرسل شرطة إلى بيتكم؟ فَرَدُّوا بأنَّه لا يمكن ستر هذه المرأة إلَّا بهذه الطريقة ونحن موافقون.. وحصل ذلك في قضايا كثيرة.
سؤال: ما رأيك في وجود الحكمين؟
الشيخ سليمان المدني: الحكمان يكونان من خارج المحكمة؛ يقول سبحانه وتعالى {فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما}، فالحكمان ليس هما القاضيان، بل بعثهما هي محاولة من القاضي للصلح بأن يبعث رجلاً من قرابة الزوج ورجلاً من قرابة المرأة فينظران في شأن هذه المرأة وزوجها فيتوصلان إلى أمر يصلح شأن الزوجين، إمَّا الطلاق وإمَّا الوفاق.
لكنَّ الذي ثبت بالتجربة أنَّ الحكمين في الغالب يكونان شرًّا من الخصمين، فالعاطفة تلعب بهما ويُضَيِّع كُلٌّ مِنهما مصلحة قريبه بسبب عصبيته ضدَّ الطرف الآخر.
وعندي ملاحظة على كثير من الخصومات التي تجري في المحاكم، وهي أنَّ تَشَدُّدَ هذه الخصومات يكون بسبب العصبية، فإمَّا أن يتعصب الزوج كي لا تغلبه الزوجة، أو أن تتعصب الزوجة كي لا يغلبها الزوج، ولو أنَّ النَّاس ذهبوا إلى القضاء بنفوس طيبة في طلب ما هو حقٌّ لهم لَحُلَّتْ كثيرٌ من المشاكل. ولكن المرأة وقد عشعشت إذاعات وصحف ومجلات كلها تحمل الفكر الغربي في رأسها أوحت لها أنَّ لها حقوقًا كثيرة، وفي الواقع لم يجعلها الله في كتابه ولا في سنة نبيه، والحال أنَّها لو نظرت كيف جعل الإسلام كرامتها عالية لنبذت عنها كلَّ ما في الغرب، ولو قارنت بين حقوق المرأة ومستواها الاجتماعي في بلاد الإسلام وما هي عليه في الغرب لوجدت أنَّ الإسلام قد رفع شأن المرأة إلى مستوى لم تصل إليه المرأة الغربية بعد.
ومثال ذلك أموال المرأة، فأموال المرأة الغربية تابعة للزوج من حين عقد الزواج، أمَّا عندنا فتبقى أموال المرأة باسمها الخاص ولها حق التصرف فيها من دون أخذ رأي الزوج، وعندما تتوظف المرأة في عمل عندنا فإنَّ لها أجر الرجل الذكر. الغرب إلى اليوم لا يُعطي المرأة ذلك..
إضافة إلى أنَّ المرأة تفتقد حتَّى اسمها بالزواج في بلاد الغرب ومعنى ذلك أنَّ شخصيتها تندمج في شخصية الزوج.. إلى غيرها من الأمثلة.
لكنَّنا نجد أنَّ المرأة تتشبث بالإسلام إذا كانت تريد حقًّا وتخالفه في كُلِّ سلوكِها من ألفِهِ إلى يائِهِ، فهل يصحُّ منها أن تخرج معلنة الحرب على القرآن الكريم بسفورها؟ وهل يصحُّ من هذه المرأة أن ترضى بعمل تُقدِّم فيه الخمر في فندق أو طائرة؟
سؤال: مُقدِّم المحاضرة: أعتقد أنَّ في الأمثلة الأخيرة نراها تنطبق على النساء الأجنبيات أكثر من البحرينيات.. أليس كذلك؟!
الشيخ سليمان المدني: كثير من البحرينيات يعملن ذلك، واليوم قرأت في الصحف المحلية مقالاً يُشيد بأنَّ المرأة اقتحمت مجال الفندقة!! وكأنَّها اخترعت صاروخًا تردُّ به العدوان!!
إنَّما هي اقتحمت مجال تقديم الخمر، فهل تستطيع عاملة فندقة أن ترفض تقديم خمر؟ وكيف ترضى امرأة شريفة على نفسها العمل في فندق وهذا هو حال الفندق؟
نرضى لإخواننا ونسائنا أن يقتحمن مجال العلم الرحب وفي كل مجال يُشَرِّفُ هذه الأمة.
سؤال: ما هو مفهوم العدالة في مبدأ تعدُّد الزوجات؟ وهل يجوز لشخص يبلغ راتبه 150 دينارًا أنْ يتزوج من امرأة ثانية؟
الشيخ سليمان المدني: أمَّا أنَّه يجوز فبضرورة الدين يجوز، وأمَّا معنى العدالة فقد حدَّدها الفقهاء تبعًا للأدلة الشرعية بأنَّها العدالة في الإنفاق والمعاملات، وحتَّى الابتسام، لا في الميل القلبي وقوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} يعني الميل القلبي، لا في الأشياء الأخرى التي لا يُمكِنُ للرجل أن يعدل فيها.
إنَّ مبدأَ التعدُّدِ رحمةٌ من ربِّك؛ فإنَّ الرجل اذا مُنِعَ من زوجة ثانية فسوف يتحايل على القانون والنظام، وسوف يُوجِد لنفسه خليلة، وها نحن نرى البلاد التي تمنع شرائعُها تعدُّد الزوجات وقد تَفَشَّى فيها وجود الخليلات. خذ إليك بلاد الغرب كله، وبلاد الشرق كله، فبالإضافة إلى كثرة ما فيها ممَّن لا يُعْرَفُ آباؤهم ولا أصولهم!
أخبرني؛ على من وقع الظلم هنا؟ أليس على المرأة؟ الرجل الذي يعاشر المرأة كخليلة ويعاشرها كزوجة، ولكنَّها لا تحصل حقوق الزوجة، وهي تنجب منه أبناء يسميهم قانون تلك البلاد الجاهلة أبناء طبيعيين، لكن لا يُوفِّر لهم القانون حقوق الأبوة، فعلى من وقع الهضم؟ أعَلَى المَرْأة أم على الرجل؟ أليس أصلح للمرأة والمجتمع ككل أن يجيز لهذا الرجل بأكثر من امرأة؟ أنت أيُّها الأخ؛ هل راجعت دائرة الإحصاء في البحرين لتعرف عدد النساء والرجال في هذا الجيل؟، فلو أعطينا لكلِّ رجل امرأة واحدة فكم عدد العانسات اللاتي لن يحضين بزوجٍ إلى آخر أعمارهن؟ وماذا ستفعل فيهن؟!
قلنا أنَّنا سوف نوظفهن، وسوف يكسبن ويعشن، أتظن أنَّ حاجة الإنسان هي فقط حاجة مادية؟ فماذا سنفعل لو لم نُبح تعدُّد الزوجات؟