المقدمة:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي شَرَعَ الْإِسْلاَمَ فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ، وَأَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ، فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَنُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ، وَفَهْماً لِمَنْ عَقَلَ، وَلُبّاً لَمِنْ تَدَبَّرَ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَتَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ، وَعِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ، وَنَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ، وَثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ، وَرَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ، وَجُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ...
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، كَمَا هَدَيْتَنَا بِهِ، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، كَمَا اسْتَنْقَذْتَنَا بِهِ، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، صَلَاةً تَشْفَعُ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ الْفَاقَةِ إِلَيْكَ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، وَ هُوَ عَلَيْكَ يَسِيرٌ.
أمّا بعد:
يتكوّن هذا البحث من هذه المقدّمة التي بين يديك، ثم أدلته المشروحة في ثلاثة محاور، ثم خاتمة في الاستنتاج منه.
إنه جهدٌ متواضع قد بذلتُه في تلبيتي الثانية لدعوةٍ كريمة من مركز علوم القرآن الكريم (الرميثية) في دولة الكويت الشقيقة لإلقاء محاضرة بعنوان "تاريخ جَمْع القرآن الكريم".. وذلك في الرابع من جمادى الأولى سنة ١٤٤٤ الموافق 2022/11/28 وكان عنوان محاضرتي في السنة السابقة: (تجربتي في تفسير القرآن الكريم).
وهنا قبل الدخول إلى البحث:
ما هو تعريف "الجمع" في اللغة؟
- يقول الجواهري أجمعتُ الشيء: جعلتُه جميعًا، والمجموع: الذي جُمِع مِن ههنا وههنا وإنْ لم يجعل كالشيء الواحد.
- وقال الراغب الأصفهاني: الجمع: ضَمّ الشيء بتقريب بعضه من بعض، يقال: جمعتُه فاجتمع.
- ويقول ابن منظور جَمَعَ الشيء عن كل تفرقة يجمعُه جمعًا، واستجمع السّيْل: اجتمع مِن كل موضع، وجمعتُ الشيء: إذا جئتَ به من ههنا وههنا، وتَجمَّع القوم: اجتمعوا أيضًا من ههنا وههنا.
وأيضًا قبل الدخول إلى البحث:
ما هو المتفَق حول تاريخ جمع الآيات في دفتي المصحف الشريف؟
المقدار الثابت والمتفق عليه هو أن الآيات كانت كلما تنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتلوها لأصحابه ويبيّن لهم معانيها ويأمرهم بحفظها في الصدور وكتابتها في القرطاس وعلى ألواح من الرقاع والعسب (جريد النخل). واللّخاف (الحجارة الرقيقة) والأكتاف (عظمُ البعير).
ثم أيضًا قبل الدخول إلى البحث:
مَن هو المتفوّق بالامتياز الإلهي في كتابة الآيات وتدوينها وجمعها وترقيمها حسب ترتيب السور والأجزاء كما هي نازلة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأرادها أن تكون كذلك؟
هو الشخصية التي أعدّها الله ورسوله لهذه المهمة النهائية الكبرى.. إنه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
هذه الورقة البحثية تكفّلتْ بيان الأدلة على كل ذلك من القرآن والروايات والعقل.. وفيها مقارنات موضوعية بين أقوال الفريقين من الشيعة والسنة.. حيث اتجهتْ أقوالهم إلى نحو خمسة اتجاهات:
- الاتجاه الأول: قد جَمَعَه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في حياته.
- الاتجاه الثاني: قد جَمَعَه الخليفة الأول.
- الاتجاه الثالث: قد جَمَعَه الخليفة الثاني.
- الاتجاه الرابع: قد جَمَعَه الخليفة الثالث.
- الاتجاه الخامس: قد جَمَعَه الإمام علي (عليه السلام).
المعتمَد في العقيدة الإماميّة أتباع أهل البيت (عليهم السلام) هو الاتجاه الأول، وقد ذَكَرَه كبار فقهاء الشيعة منذ الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيّد المرتضى عَلَم الهدى والشيخ الطوسي شيخ الطائفة (أعلى الله مقامهم).
قال الشيخ الصدوق في كتاب الاعتقاد صفحة (٦٣) وهو من أعلام القرن الرابع الهجري: "إنّ القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على محمد (صلى الله عليه وآله) هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس".
ونقل الشيخ الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري في تفسيره مجمع البيان قول السيد المرتضى من أعلام القرن الخامس الهجري: "إنّ القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجموعًا مؤلَّفًا على ما هو عليه الآن".
بدءً من أولئك القدماء إلى جمهور علماء الشيعة المعاصرين وفقهائهم الأجلاء.. نلتقي هنا مع ما كتبه السيد الخوئي في كتابه (البيان في تفسير القرآن - صفحة ٢٥٠) مستدلاً على جمع القرآن بروايات الثقلين قائلًا: "إنّ أخبار الثقلين المتظافرة تدلنا على أنّ القرآن كان مجموعاً على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)".
ونلتقي مع ما نقله السيّد مرتضى الرضوي في كتابه "آراء علماء المسلمين" صفحة (١٥٠) عن السيّد عبد الحسين شرف الدّين (صاحب المراجعات) قوله: "كان القرآن مجموعاً أيام النبي (صلى الله عليه وآله) على ما هو عليه الآن من الترتيب والتنسيق في آياته وسوره وكلماته وحروفه بلا زيادة ولا نقصان".
ونلتقي مع ما كتبه السيّد محمد الشيرازي في كتابه (متى جُمِع القرآن) المطبوع سنة (١٤١٩): "فهذا القرآن الذي هو بأيدينا على ترتيبه وجمعه وترقيم آياته وترتيب سوره وأجزائه، وهو بعينه القرآن الذي رتبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجمعه للمسلمين في حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك بأمر من الله تعالى، لم يطرأ عليه أي تغيير وتحريف، أو تبديل وتعديل، أو زيادة ونقصان".
وعلى هذه العقيدة الإماميّة بعضُ علماء أهل السنة مثل السيوطي، ومَن نقل السيوطي عنهم، حيث قال: "الإجماع والنصوص على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك. أما الإجماع فنقله غير واحد، منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن زبير في مناسباته، وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وآله وأمرِه من غير خلاف في هذا بين المسلمين".
ثم قال السيوطي: "وأما النصوص فمنها حديث زيد السابق: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله نؤلف القرآن من الرقاع".
ونَقَلَ السيوطي أيضًا في الإتقان عن القاضي أبي بكر في الانتصار قولَه: "الذي نذهب إليه أن جمع القرآن الذي أنزله الله وأمَر بإثبات رسمه ولم ينسخه ولا رُفِعتْ تلاوته بعد نزوله هذا بين الدفتين".
ثم قال: "وأن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى ورتبه عليه رسوله من آي السور".
ونَقَل أيضًا عن البغوي في شرح السنة قولَه: "الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن يكونوا زادوا أو نقصوا".
في ظلّ هذا الكلام من السيوطي هل يوجد توجيهٌ لقول بعضهم بالاتجاه الثاني والثالث والرابع؟
أقول: نعم.. لعل التوجيه السليم هو أنّ جمْع الخلفاء الثلاثة للمصحف الشريف كان بمعنى كتابته على النحو الصادر عن بيت النبوّة المحمّدية زيادةً في نُسَخه لا بمعنى جمْعِه من الأساس.. وهذا يشبه ما في زماننا من طباعة المصحف الشريف بين مدّةٍ ومدّة وفي زمن حاكمٍ وحاكمٍ آخر.
هذا ما أفهمه.. لكي لا ننفي الاتجاه الثاني والثالث والرابع كما نفاه البعض الذي قال: إنّ أصل الخلاف في هذه الأقوال الثلاثة بحدّ ذاته دليل ضعفها بعد أن أسقط هذا التهافت بعضَه بعضًا!!!
بعد هذه المقدّمة.. ولأهمية هذه القضية التاريخية سنتوسّع بحثًا فيها عبر الدخول إلى محاوره الثلاثة ثم الخاتمة وفيها الاستنتاج الأساس من هذا البحث الوجيز.. ومن الله عزّ وجل أرجو التوفيق والتسديد والقبول بأجر الشفاعة القرآنيّة.
- المحور الأول..
في الاستدلال القرآني، وهنا أمران:
- الأمر الأول
ذُكِر لفظُ "القرآن" في القرآن الكريم (٦٨) مرّة.. مثل قوله تعالى في الآية (١٨٥) من سُورَة البقرة: { شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ } ومثل قوله تعالى في الآية (٨٢) من سورة النساء: { أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَیۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِیهِ ٱخۡتِلَـٰفࣰا كَثِیرࣰا } ومثل قوله تعالى في الآية (١٠١) من سورة المائدة: { یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَسۡـَٔلُوا۟ عَنۡ أَشۡیَاۤءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسۡـَٔلُوا۟ عَنۡهَا حِینَ یُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِیمࣱ } ومثل قوله تعالى في الآية (١٩) من سورة الأنعام: { وَأُوحِیَ إِلَیَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ } ومثل قوله تعالى في الآية (٢٠٤) من سورة الأعراف: { وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُوا۟ لَهُۥ وَأَنصِتُوا۟ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ } ومثل قوله تعالى في الآية (٩) من سورة الإسراء: { إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ وَیُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرࣰا كَبِیرࣰا }.
وآيات أخرى كلها قد أطلق القرآنُ الكريم فيها على نفسه لفظ "القرآن" ما يدل على أنه مصحف كامل وليس مصحفًا ناقصًا إذ لا يقال للمصحف الناقص قرآنٌ حسب إجماع علماء اللغة:
- ففي النهاية في غريب الأثر جاء:
"والأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعتَه فقد قرأتَه، وسُمِّي القرآن قرآنًا؛ لأنه جَمع القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور، بعضَها إلى بعض، وهو مصدرٌ كالغفران والكفران".
- وجاء في المعجم الوسيط:
"قرأ الكتاب قراءة وقرآنًا....، واقترأ القرآنَ والكتابَ قراءة".
- وجاء في تاج العروس:
"قرأ الشيء جَمَعه وضمّه؛ أي: ضم بعضَه إلى بعض، وقرأتُ الشيءَ قرآنًا جمعتُه وضممتُ بعضَه إلى بعض".
- وجاء في لسان العرب لابن منظور:
"وسمّي قرآنًا؛ لأنه يجمع السور فيضمّها"، وهذا كذلك قول أبي عبيدة كما نقله عنه الجوهري في صحاحه".
- وهذا ما تبنّاه أبو إسحاق الزجّاج في تفسيره حيث قال: "سُمِّي كلامُ الله تعالى الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه (وآله) وسلم كتابًا وقرآنًا وفرقانًا؛ لأنه يجمع السور فيضمّها، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: ١٧]؛ أي: جمْعَه وقراءتَه".
فالقرآن الكريم يصرّح بآياته عن نفسه أنه "قرآنٌ" ولفظ "القرآن" يُطلق على ما جُمع فيه كلُّه.
وإنْ قيل هناك لفظ القرآن قد أطلق في الآيات قبل انتهاء القرآن؟
أقول: هذا أيضًا قرآن بمقدار ما كان مجموعًا مما نزل على الرسول إلى حينه. وإذا قيل أحيانًا بعد إكماله فهو إطلاقٌ مجازيٌّ أو من باب تسمية الجزء باسم الكل. ولا يضرّ بما ذكره اللغويّون وذكره العلماء والقرآنيّون.
- الأمر الثاني
ذُكِرَ لفظُ "الكتاب" في القرآن الكريم معرَّفًا بــ " الألف واللام" (230) مرّة، ويعني "القرآن" كلّه كما هو الشأن في لفظة "أهل الكتاب" من اليهود والنصارى. وقد جاء بالتنكير "كتابًا" (12) مرّة. وجاء مقترنًا بضمائر "كتابنا، كتابه، كتابي..." (13) مرّة.
ولفظ "الكتاب" في قواميس اللغة يُطلَق على المجموع بين دفتين.
- ففي لسان العرب لابن منظور: "الكِتابُ اسم لما كُتب مَجْمُوعاً".
- وفي المعجم الوسيط ومعجم المعاني الجامع: "الكتاب.. الصُّحفُ المجموعة".
وقال بعض المحقّقين -كما في صحيح البخاري. ج٦ ص٢٣٠- : "إنّ لفظ (الكتاب) لا يُطلَق حتى على مكتوبات متفرّقة في اللخاف والعسب والأكتاف إلا على نحو المجاز والعناية، فإنّ لفظ (الكتاب) ظاهر فيما كان له وجود واحد".
هكذا نجد أنّ لفظ "الكتاب" دليلٌ على ما جُمِع بين دفتين، وعليه فالآيات التي تتحدّث عن القرآن الكريم بلفظ "الكتاب" تفيد أن القرآن كان مجموعًا في زمن الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلا فلا يصدق عليه اللفظ.
مثلًا قوله تعالى في الآية (٧) من سورة آل عمران: {هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلࣱّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ}.
فيها بيان تفصيلي بأن القرآن كتاب مجموع بآياته ومرتّب بسوره منذ نزوله على قلب نبيّ الاسلام محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله).
وكذلك الآية (١١٣) من سورة النساء {وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ عَظِیمࣰا} دالةٌ على أنّ القرآن كتابٌ كاملٌ قد أنزله الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) كاملًا.. وهل يُعقَل أنه رحل من الدنيا ولم يتحمّل مسؤوليته في جمع ما آتاه الله من أعظم كتاب سماوي لهداية الناس إلى يوم القيامة وهو الذي كان يقول لأمته: {أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ}؟!
وهكذا الآية (٦٤) من سورة النحل {وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا لِتُبَیِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِی ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ} هل تعرفون كتابًا بهذا الوصف غيرَ القرآن العظيم كلّه؟!
وفي دليلٍ متصلٍ نجد الآية (٤٨) من سورة المائدة {وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمُهَیۡمِنًا عَلَیۡهِۖ فَٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَهُمۡ عَمَّا جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ} تدل بوضوح على أنّ القرآن دستورٌ للحكم بين الناس وهل الدستور إلا ما يكون كاملًا لهذا الغرض، لذا كان (صلى الله عليه وآله) يضيف على كلّ آية آيةً جديدةً حتى تمّت الآيات بآخر آية نزلتْ عليه (صلى الله عليه وآله).
وفي الآية (١٣٦) من سورة النساء أمَرَ الله تعالى المؤمنين بأن يؤمنوا بهذا الكتاب الذي نزّله على رسوله: { یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ ءَامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلَّذِی نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ }.. وهذا دليل آخر على وجود القرآن كاملًا في حياته (صلى الله عليه وآله).
وفي الآية (١٥) من سورة المائدة يخاطب الله اليهود والنصارى:
{یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ قَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَكُمۡ كَثِیرࣰا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیرࣲۚ قَدۡ جَاۤءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورࣱ وَكِتَـٰبࣱ مُّبِینࣱ} فالكتاب المبين الذي هو القرآن العظيم كان كتابًا جامعًا ومتوفّرًا وإلا كيف يدعوهم الله إليه إذا كان ناقصًا.
وفي إشارةٍ إلى القرآن الكريم حين تنديده بتحريف التوراة قال الله تعالى في الآية (٩٢) من سورة الأنعام: {وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ مُبَارَكࣱ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ...}.
وأمّا في الآية (٨٩) من سورة النحل فيقول الله: {وَنَزَّلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ تِبۡیَـٰنࣰا لِّكُلِّ شَیۡءࣲ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِینَ}.. نعم {تِبۡیَـٰنࣰا لِّكُلِّ شَیۡءࣲ} ولن يكون كتاب بهذه الشموليّة إنْ لم يكن كاملًا سواء إلى حين نزوله أو إلى ما بعد ذلك بآخر آية سوف تنزل عليه (صلى الله عليه وآله).
وتُبيِّن الآية (٢٩) من سورة صٓ: {كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ مُبَـٰرَكࣱ لِّیَدَّبَّرُوۤا۟ ءَایَـٰتِهِۦ وَلِیَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ} أنّ القرآن كتاب مبارك للتدبّر في آياته والتذكّر.. وهذا لا يكون إلا مجموعًا بين دفّتيْن.
وهذه الآية (٤١) من سورة الزمر: {إِنَّاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ لِلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیۡهَاۖ وَمَاۤ أَنتَ عَلَیۡهِم بِوَكِیلٍ} هل يقدّم الله كتابًا للناس بالحقّ ليتمّ عليهم الحجّة في الهداية والضلال وهو كتاب غير مكتمل؟!
هذا كلّه بالإضافة إلى تسمية سورة الفاتحة بـ "فاتحة الكتاب" تدلّ على وجود بدايةٍ له.. وما له بدايةٌ ستكون له نهاية وهي سورة الناس.
وتُضاف إلى هذَيْن الأمرَيْن ثلاث آيات في صميم الدليل:
1/ قوله تعالى في الآية (١٣) من سورة هود: {أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَاهُۖ قُلۡ فَأۡتُوا۟ بِعَشۡرِ سُوَرࣲ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَیَـٰتࣲ وَٱدۡعُوا۟ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ} إذ أنّ هذا التحدّي من الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله) للمشركين و لأهل الكتاب على أن يأتوا بعشر سور مثله دالٌّ على أنّ القرآن إلى حدّ نزول آياته في ذلك الوقت كان منتشرًا بين الناس بمن فيهم المشركين؟!
2/ قوله تعالى في الآيات (١٦-١٩) من سورة القيامة: {إِنَّ عَلَیۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ * فَإِذَا قَرَأۡنَـٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ * ثُمَّ إِنَّ عَلَیۡنَا بَیَانَهُ}.. وكان هذا التجميع مستمرًّا معه (صلى الله عليه وآله) كلّما كانت تنزل عليه الآيات مادام على قيد الحياة.
3/ قوله تعالى في الآية (٩) من سورة الحجر: { إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ } أنّه تبارك وتعالى هو الحافظ لهذا القرآن من أيّ تحريف في الزيادة والنقصان ما يعني أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يغادر الدنيا حتى وضع مصحف الذكر الحكيم بأيدي الأمناء من المسلمين كاملًا غيرَ ناقص.
المحور الثاني:
في الاستدلال الروائي، وهنا أمران:
- الأمر الأول
روايات النبي الأكرم وأهل بيته (عليه وعليهم الصلاة والسلام):
1/ حديث الثقلين المتفق على تواتره في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) والمستفيض عند أهل السنة.
وهذا نصّه المتقارب بين المسلمين كما روي عن أبي سعيد الخُدْري، عن النبي (صلَّى الله عليه و آله)، قال: {إنّي أُوشَكُ أنْ أُدْعى فأُجِيب، و إنّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْن، كِتابَ اللهِ عَزَّ و جَلَّ، وعِتْرَتي، كِتابُ الله حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِن السّماء إلَى الأرْض، وعِترَتي أَهْلُ بَيْتي، وإنّ اللّطيفَ الخَبيرَ أَخْبَرنِي أَنّهُما لَنْ يَفْتَرِقَا حتّى يَرِدَا عَليّ الحَوْض، فَانْظُرُونِي بِمَ تَخْلُفُونِي فِيهِما}.
هذا ما ورد في خطبته (صلى الله عليه وآله) بحجّة الوداع، وهو دليل على أنّ القرآن في أواخر أيام حياته (صلى الله عليه وآله) كان مجموعًا في كتابٍ إذ يحثّ المسلمين به.. وهل يوصي بذلك إن لم يكن موجودًا بأيديهم.. وهو معجزته الخالدة التي سيتركها لهم وإلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة؟!
2/ قال الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي (ج ١ - ص ٤٠): روى علي بن إبراهيم القمي في تفسيره بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعليّ (عليه السلام): {يا عليّ إنّ القُرآنَ خَلْفَ فَراشِي فِي الصُّحُف والحَرِير والقَراطِيس فَخُذُوه واجْمَعُوه ولا تُضيِّعُوه كما ضَيّعتِ اليَهودُ التَّورَاة}. فانْطَلَقَ عليٌّ (عليه السلام) فَجَمَعه في ثَوبٍ أصْفَر ثُمّ خَتَمَ عَلَيْه فِي بَيْتِه.
تفيد هذه الرواية بأنّ القرآن كان مكتوبًا على شكلٍ متفرّق فقام الإمام علي (عليه السلام) بضمّه إلى بعضه البعض على الشكل الذي تَوارَثه المسلمون إلى زماننا وإلى يوم القيامة.
3/ قال رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله) (كما في مستدرك الوسائل، ج4، ص231): {عَدَدُ دُرَجِ الْجَنِّةِ عَدَدُ آىِ الْقُرآنِ، فَاِذا دَخَلَ صاحِبُ الْقُرْآنِ الْجَنَّةَ قَيلَ لَهُ: اِقْرَأْ وَ ارْقَأْ لِكُّلِ آيَةٍ دَرَجَةٌ فَلا تَكُونُ فَوْقَ حافِظِ الْقُرْآنِ دَرَجَةً}.
تشبيهُه (صلى الله عليه وآله) آياتِ القرآن بِسُلّم الدرج يدل على أنّ القرآن كانت آياته متدرّجة كمجموعة سلالم مترتّبة في كتاب.
4/ عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثٍ طويل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) -كما في وسائل الشيعة ج ٦ ص ١٨١- قال: {... مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّمَا أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ وَ لَكِنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ ...}
وهذا يعني أنّ القرآن كان موجودًا في زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بأيدي المسلمين إلى حدّ آخر آية كانت قد نزلتْ حيث قال {... مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ ...} ولا يُقال "خَتَمَ" إلا لكتابٍ مجموعٍ في مُتناوَل الأيدي. ولذلك ورد أنّ في الصحابة كان مَن يحفظ القرآن ويختمه.. يعني كلّ القرآن إلى آخر آية حين صدورها.
5/ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) -كما في أصول الكافي ج ١ ص ٦٩- قال: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): {إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ الله فَخُذُوه ومَا خَالَفَ كِتَابَ الله فَدَعُوه}. وكذلك في المصدر نفسه عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وغَيْرِه عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: {خَطَبَ النبي (صلى الله عليه وآله) بِمِنًى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ الله فَأَنَا قُلْتُه ومَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ الله فَلَمْ أَقُلْه}.
في هاتين الروايتين دلالة واضحة على الثقة التامّة من أئمّتنا الأطهار (عليهم السلام) في هذا القرآن الذي كان ولازال بأيدي المسلمين وإلا لما كان الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وجدّه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يجعلاه ميزانًا ثابتًا لمعرفة صحة أحاديثهم بالتطابُق بينها وبين كتاب الله كمرجعيّة غير قابلة للنقاش والتشكيك.
فلو لم يكن القرآن هذا هو ما كان في زمن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لما كان حفيده الإمام الصادق (عليه السلام) يرشدنا إليه كميزان للحق وتنقية الأحاديث من المدسوسات.
6/ جاء في مستدرك وسائل الشيعة (ج٤ ص٢٣٦) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: {الْقُرْآنُ أَفْضَلُ كُلِّ شَيْءٍ دُونَ اللَّهِ، فَمَنْ وَقَّرَ الْقُرْآنَ فَقَدْ وَقَّرَ اللَّهَ، وَ مَنْ لَمْ يُوَقِّرِ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَخَفَّ بِحُرْمَةِ اللَّهِ، حُرْمَةُ الْقُرْآنِ عَلَى اللَّهِ كَحُرْمَةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ}.
ولا تكون للقرآن هذه المكانة العظيمة إلا وقد ضَبَطَه النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه وتأكّد من سلامة ما فيه ثم أودعه بيد وصيِّه الأمين عليٍّ أمير المؤمنين (عليه السلام).
7/ قال النبي (صلّى الله عليه وآله): {لَيسَ شَئٌ أشَدّ عَلى الشّيْطان مِن القِراءَةِ فِي المُصْحَف نَظَرًا، والمُصْحَف فِي البَيْتِ يَطرُدُ الشّيْطان}.
هذا ما رواه الإمام الصادق (عليه السلام) إسنادًا إلى جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) - كما ذكره العلامة المجلسي في بحار الأنوار. ج89 ص 196- وهو يدل على وجود المصحف الشريف في ذلك الزمن وفيه تشجيع منه (صلّى الله عليه وآله) لاستنساخ القرآن وتكثير نُسَخه للقراءة فيه بالنظر والاحتفاظ به في البيوت.
هذا ما عدا روايات الأئمة من أهل بيته (عليه وعليهم الصلاة والسلام) حيث تدل على وجود المصحف الشريف كاملًا من الجلد إلى الجلد وإلا ما كانوا يدعون إلى الاهتمام به إن كان ناقصًا أو محرَّفًا:
- ألف: يقول عليٌّ أمير المؤمنين (عليه السَّلام) (كما في نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح. ص ١٦٤): {وَ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَ تَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَ اسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَ أَحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ}.
مجموعة المفاهيم التي يحثّ الإمام على تعلُّمها والتفقّه فيها والاستشفاء بها إنّما تعني كونها في مصحف.
- باء: روى العلامة المجلسي في بحار الأنوار: ج ٩٢ ص ٢١١ / وج ٤ وص ٢١٦.. عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: {آيَاتُ الْقُرْآنِ خَزَائِنُ فَكُلَّمَا فَتَحْتَ خِزَانَةً يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْظُرَ مَا فِيهَا}.
تفيد كلمة الخزائن والدعوة إلى فتحها خزانةً بعد أخرى أنّ القرآن كان كتابًا كاملًا.
- جيم: ورد في أصول الكافي. ج 2 ص 609.. عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصادق (عليه السلام) أنه قَالَ: {الْقُرْآنُ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ فَقَدْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي عَهْدِهِ وَ أَنْ يَقْرَأَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِينَ آيَة}.
وهل العهد إلا كلامٌ مفصّل في أكثر من خمسين آية {أَنْ يَقْرَأَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِينَ آيَة}.. ما يعني أنّ القرآن فيه مرّاتٌ متكرّرة من الخَمْسينَ آيَةً.
هذا الحديث دليل أيضًا على عدم تحريف القرآن نظرًا إلى كونه صادر عن الإمام الصادق (عليه السلام).. وكذلك الأحاديث الواردة عن بقيّة الأئمة (عليهم السلام) من بعده.. فهي تفيد سلامة المصحف الشريف إلى أزمنتهم ثم إلى الأزمنة التالية وإلى زماننا.
- الأمر الثاني
روايات أهل السنة:
1/ جاء في تفسير القرطبي -وكذا في بقية تفاسير أهل السنة- حول الآية ٢٨١ من سورة البقرة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخَرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) فَقَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: "يَا مُحَمَّدُ ضَعْهَا عَلَى رَأْسِ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْبَقَرَةِ".
يدل هذا الحديث بوضوح تام أن النبي محمد الأمين (صلى الله عليه وآله) كان يشرف وبأمر من الله حتى على عدد الآيات وأرقامها في السور.
2/ في مقال للكاتب أمين سعيد كما في موقع طريق الاسلام جاء: "بين أيدينا حديث شهير، برواياته وطرقه، ومنها ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه (وآله) وسلم - أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان يعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة". متفق عليه. وفي حديث آخر "فيدارسه القرآن". هذا الحديث تنصرف أذهان الناس فيه أول ما تنصرف إلى حالة من تداول القراءة بين النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وجبريل عليه السلام، وهذا صحيح بلا شك، وهو ما عليه كثير من شراح كتب السنة".
3/ عدّة من علماء السنة كتبوا مما استنتجوه من أحاديثهم والتاريخ:
* مثل الزرقاني - كما في مناهل العرفان: ج1 ص240 - قال: "... وكان رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله ـ يدلّهم على موضع المكتوب من سورته فيكتبونه، فيما يسهل عليهم من العُسُب واللخاف والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع ثم يوضع المكتوب في بيت رسول اللهـ صلَّى الله عليه وآلهـ وهكذا انقضى العهد النبوي والقرآن مجموع على هذا النمط".
* ومثل الدكتور عبد الصبور شاهين - كما في تاريخ القرآن: ص57 - قال: "إنّ القرآن ثَبُت تسجيلا ومشافهة في عهد رسول الله".
* ومثل الشيخ محمّد الغزالي - كما في نظرات في القرآن: ص35 - قال: "فلمّا انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى كان القرآن كلّه محفوظاّ في الصدور، وكان كذلك مثبتا في السطور".
* ومثل الباقلاني - كما في الانتصار: ص99 - قال: "وما على جديد الأرض أجهل ممّن يظنّ بالنبي ـ صلى الله عليه وآله. أنّه أهمل القرآن أو ضيّعه، مع أنّ له كتّابا أفاضل معروفين بالانتصاب لذلك من المهاجرين والأنصار".
المحور الثالث:
في الاستدلال العقلي والعقلائي، وهنا أمران:
- الأمر الأول.. دليل العقل
يقضي العقلُ بأنّ إكمال الشيء بإتمام جميع مكوّناته وإتقان جوانبه، حتى قال النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) (كما في أمالي الشيخ الصدوق: ص384): (رَحِمَ اللهُ امرَأً عَمِلَ عَمَلاً فَاَتقَنَه) وليس الإتقان إلا بالإتمام.
كما يقضي بحُسْن الإكمال وقُبح الإهمال.
- الأمر الثاني.. سيرة العقلاء
يؤمن العقلاء بأنّهم إذا ما أسّسوا مشروعًا كبيرًا وذا أهمّية كبيرة وميزانيّة ماليّة كبيرة أن يجعلوا له نظامًا داخليًّا يسدّون به جميع الثغرات المحتملة في الإضرار به حاضرًا وفي انحرافه عن أهدافه مستقبلًا.
بهذين الأمرين هل يُعقَل أن لا يلتزم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بحكم العقل وهو صاحب العقل الأكمل ولا يلتزم بسيرة العقلاء وهو سيّدهم؟!
كلّا.. خاصةً أنّ القول بعدم جمعه وترتيبه وإشرافه (صلى الله عليه وآله) على تصحيف القرآن يلزم القول بتقصيره في حفظ أهمّ معاجزه التي ستبقى من بعده وهي الحجّة الخالدة لحقّانيّة دينه الإسلامي القويم والتي إليها يعود المسلمون في مرجعيّتهم القرآنيّة!!
لذلك نجزم بأن هذا الإهمال غير وارد في موقف النبي (صلَّى الله عليه وآله) العقلي والعقلائي من قضيةٍ بهذا المستوى من الأهمية الرُّكنيّة في رسالته الخاتمة وأمّته الشاهدة.. كيف وقد خاطبه الله تعالى وخاطب أتباعه إلى يوم القيامة -كما في الآية ١٤٣ من سورة البقرة- بقوله: {وَكَذَ ٰلِكَ جَعَلۡنَـٰكُمۡ أُمَّةࣰ وَسَطࣰا لِّتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَیَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَیۡكُمۡ شَهِیدࣰاۗ}.
الخاتمة والاستنتاج:
يمكن من خلال التفريق بين مفهوم التدوين الكامل والجمع المحدود وهو الذي حصل في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وبين مفهوم الترتيب الكامل والجمع النهائي الذي قام به الإمام علي (عليه السلام) أن نستنتج اتحاد الاتجاه الأوّل مع الاتجاه الخامس في الأقوال الخمسة التي ذكرتُها في المقدّمة.. وذلك بالبيان التالي:
إنّ القرآن الكريم قد ظهر في شكل المصحف الشريف على مرحلتين:
- المرحلة الأولى.. أنّه تمّ تدوينُه الكامل وجمْعُه المحدود في حياة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) على يده الشريفة وثقاة الصحابة بإشراف منه (صلى الله عليه وآله) ومِن صهره الإمام علي (عليه السلام).
- المرحلة الثانية.. أنّه تمّ جمعُه الكامل بعد حياته حتى ظهر بهذا الشكل الموجود بأيدينا. وهذه كانت باهتمامٍ خاص من صهره الإمام علي (عليه السلام) ولم يشاركه أحد من الصحابة.
وقد أوكل نبيُّ الأمة (صلى الله عليه وآله) هذه المهمة الدقيقة إلى أوّل المسلمين إسلامًا صهرِه وابنِ عمه وربيبِه والمجاهدِ بين يديه علي بن أبي طالب (عليه السلام). والروايات في ذلك عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) متواترة، وعن طرق أهل السنة مستفيضة.
فقد جاء في أصول الكافي (ج1، ص284، حديث رقم1) أنّ الإمام محمد الباقر (عليه السلام) قال: (مَا ادَّعَى أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَمَا أُنْزِلَ إِلَّا كَذَّابٌ وَ مَا جَمَعَهُ وَ حَفِظَهُ كَمَا نَزَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ).
وأمّا عند أهل السنة فهذا ابن أبي الحديد يقول في (شرح نهج البلاغة، ج1، ص 43-44): "قد اتفق الكل على أنه - يعني عليّ بن أبي طالب- كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن غيره يحفظه، ثم هو أول مَن جَمَعه".
وكذلك ورد في مصادر أهل السنة كما في كتاب الإتقان قال: أخرج ابن أبي داوود في المصاحف من طريق ابن سيرين قال: "قال عليٌّ: لمّا مَاتَ رَسولُ الله (صلى الله عليه وآله) آليْتُ أَنْ لَا أَرْتَدِي رِدَائِي إِلَّا لِصَلَاةٍ حَتَّى أَجْمَعَ القُرْآَنَ فَجَمَعْتُه".
ونقل أيضاً أنه قال ابنُ حجر: "وقد ورد عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي (صلى الله عليه وآله). أخرجه ابنُ أبي داوود".
وأخرج أبو نعيم في الحِلية والخطيبُ في الأربعين من طريق السدي عن عبد خير عن عليٍّ قال: "لمّا قُبِضَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) أقْسَمتُ أو حَلَفتُ أنْ لا أضَعَ رِدَائي عَلَى ظَهْري حتّى أجْمَعَ مَا بَيْنَ اللّوْحَيْن، فَمَا وَضَعْتُ رِدَائي حتّى جَمَعتُ القُرآن".
وفي فهرست ابن النديم بسنده عن عبد خير عن علي (عليه السلام) "أنه رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فأقسم أن لا يضع على ظهره رداءه حتى يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن من قلبه، وكان المصحف عند أهل جعفر".
وقال ابن شهرآشوب في المناقب أيضاً: ذكر الشيرازي إمام أهل السنة في الحديث والتفسير في نزول القرآن، وأبو يوسف يعقوب في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ قال: ضمن الله محمداً (صلى الله عليه وآله) أن يجمع القرآن بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب، قال ابن عباس: "فجمع الله القرآن في قلب علي، وجَمَعَه عليٌّ بعد موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بستة أشهر".
وفي أخبار أبي رافع أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفّي فيه لعليٍّ: "يا عليّ هذا كتاب الله خُذْه إليك. فَجَمَعه عليٌّ في ثوب فمضى به إلى منزله، فلما قُبض النبي (صلى الله عليه وآله) جلس عليٌّ فألّفه كما أنزله الله وكان به عالماً".
قال: وحدّثني أبو العلاء العطار، والموفّق خطيب خوارزم في كتابيْهما، بالإسناد عن عليّ بن رباح "أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أمَر عليّاً بتأليف القرآن، فألّفه وكَـتَبه".
وقال ابن شهر آشوب في المعالم: "الصحيح أنّ أول مَن صنّف في الاسلام عليٌّ (عليه السلام)، جَمع كتابَ الله جلّ جلاله".
وما يؤيد ذلك هو رجوعُ أئمة القراء السبعة كلهم إليه (عليه السلام)، كأبي عمرو بن العلاء، وعاصم بن أبي النجود وغيرهما، لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه (عليه السلام)، وعنه أخَذ القرآن، فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضاً كما قاله ابن شهر آشوب في (ج2، ص 52) من المناقب وأضاف:
"والقراء السبعة إلى قراءته يرجعون، فأمّا حمزة والكسائي فيعوّلان على قراءة عليٍّ وابن مسعود، وليس مصحفُهما مصحفَ ابن مسعود، فهما إنما يرجعان إلى عليّ ويوافقان ابنَ مسعود فيما يجري مجرى الإعراب، وقد قال ابنُ مسعود: ما رأيتُ أحداً أقرأ مِن علي بن أبي طالب للقرآن.
وأما نافع وابن كثير وأبو عمرو فمعظم قراءاتهم ترجع إلى ابن عباس، وابنُ عباس قرأ على أُبيّ بن كعب وعليّ، والذي قرأه هؤلاء القراء يخالف قراءة أُبيّ، فهو إذاً مأخوذ عن علي (عليه السلام). وأما عاصم فقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وقال أبو عبد الرحمن: قرأتُ القرآنَ كلَّه على عليّ بن أبي طالب".
يا لَعمْري وكيف لا يكون هذا هو الدور الأساسي للإمام علي (عليه السلام) في جمع القرآن من الشتات والبعثرة والضياع والتحريف وقد قال عنه النبي (صلّى الله عليه وآله) (كما في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري. ج 3 - ص 123): {عليٌّ مَعَ القرآنِ والقرآنُ مَعَ عليٍّ، لنْ يَفْتَرِقا حَتّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ}.
ثم وكيف لا يكون علي أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا المقام العظيم وهو الذي قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): {يا علي، إنّ الله أمَرَني أنْ أُدْنِيْكَ ولا أُقْصِيْكَ، وأنْ أُعَلِّمَك وأنْ تَعِيَ، وحَقٌّ عَلَى الله أنْ تَعِيَ. قال: فنزلتْ (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)}.
هذه الرواية أجمع عليها مفسِّرو أهل السنة. وقد قال عنها السيوطي: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والواحدي وابن مردويه وابن عساكر وابن البخاري عن بريدة. ثم ذكر الرواية ثم قال: وأخرجه الحسكاني بعدّة طرق في شواهده.
هذا وعليّ القرآن الناطق (عليه السلام) يحسم الموقف بنفسه ويقول: {ما نَزَلَت عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله آيَةٌ مِنَ القُرآنِ إلّا أقرَأَنيها وأملاها عَلَيَّ ، فَكَتَبتُها بِخَطّي ، وعَلَّمَني تَأويلَها وتَفسيرَها ، وناسِخَها ومَنسوخَها ، ومُحكَمَها ومُتَشابِهَها ، وخاصَّها وعامَّها ، ودَعَا اللّهَ أن يُعطِيَني فَهمَها وحِفظَها ، فَما نَسيتُ آيَةً مِن كِتابِ اللّهِ ، ولا عِلما أملاهُ عَلَيَّ وكَتَبتُهُ ، مُنذُ دَعَا اللّهَ لي بِما دَعا ، وما تَرَكَ شَيئا عَلَّمَهُ اللّهُ مِن حَلالٍ ولا حَرامٍ ، ولا أمرٍ ولا نَهيٍ كانَ أو يَكونُ ، ولا كتابٍ مُنزَلٍ عَلى أحَدٍ قَبلَهُ مِن طاعَةٍ أو مَعصِيَةٍ إلّا عَلَّمَنيهِ وحَفِظتُهُ ، فَلَم أنسَ حَرفا واحِدا .
ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلى صَدري ودَعَا اللّهَ لي أن يَملَأَ قَلبي عِلما وفَهما، وحُكما ونورا، فَقُلتُ: يا نَبِيَّ اللّه بِأَبي أنتَ واُمّي، مُنذُ دَعَوتَ اللّهَ لي بِما دَعَوتَ لَم أنسَ شَيئا، ولَم يَفُتني شَيءٌ لَم أكتُبهُ، أفَتَتَخَوَّفُ عَلَيَّ النِّسيانَ فيما بَعدُ؟ فَقالَ: لا، لَستُ أتَخَوَّفُ عَلَيكَ النِّسيانَ وَالجَهلَ}.
ذلك ما ورد في كتاب (الخصال للشيخ الصدوق/ ص 255 - 257).
أجل.. إنّه كلام الخبير القرآنيّ الذي خطب في المسلمين يومًا وهو يبيّن تاريخ الرسل والأنبياء - كما في نهج البلاغة - حتى وصل إلى قوله (عليه السلام) حول النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله): {إلى اَنْ بَعثَ اللّهُ سُبْحانَهُ مُحَمَّدَا رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لاِنْجازِ عِدَتِهِ، وَ تَمامِ نُبُوَتِهِ، مَأخُوذا عَلى النَّبيِّينَ مِيْثاقُهُ، مَشْهُورَهً سِماتُهُ، كَرِيما مِيلادُهُ. وَ َهْلُ الاَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَهٌ، وَ اهْواءٌ مُنَتِشرَهٌ وَ طَرائِقُ مُتشَتِّتَهٌ، بَيْنَ مُشْبِّهٍ لِلّهِ بِخَلْقِهِ، اوْ مُلْحِدٍ فِى اسْمِهِ اوْ مُشِيرٍ الى غَيْرِهِ، فَهَداهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلالَهِ، وَ انْقَذَهُمْ بِمَكانِهِ مِنَ الْجَهالَهِ.ثُمَّ اخْتارَ سُبْحانَهُ لِمُحمَّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِقاءَهُ، وَ رَضِىَ لَهُ ما عِنْدَهُ وَ اكْرَمَهُ عَنْ دارِ الدُّنْيا وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مُقارَنَةِ الْبَلْوى. فَقَبَضَهُ الَيْهِ كَريما صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ خَلَّفَ فِيكُمْ ما خَلَّفَتِ الاَنْبِياءُ فِى اُمَمِها اِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلا، بِغَيْرِ طَرِيق واضِحٍ، وَ لا عَلَمٍ قائِمٍ، كِتابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّنا حَلالَهُ وَ حَرامَهُ وَ فَرائِضَهُ وَ فَضائِلَهُ وَ ناسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ، وَ رُخَصَهُ وَ عَزائِمَهُ، وَ خاصَّهُ وَ عامَّهُ، وَ عِبَرَهُ وَ اَمْثالَهُ، وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ، وَ مَحْكَمَهُ وَ مُتَشابِهَهُ.مُفَسِّرا مُجْمَلَهُ وَ مُبَيِّنا غَوامِضَهُ، بَيْنَ مَاخُوذٍ ميثاق فِى عِلْمِهِ وَ مُوَسِّعٍ عَلَى الْعِبادِ فِى جَهْلِهِ، وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِى الْكِتابِ فَرْضُهُ، وَ مَعْلُومٍ فِى السُّنَّهِ نَسْخُهُ، وَ واجِبٍ فِى السُّنَّهِ اخْذُهُ، وَ مُرَخَّصٍ فِى الْكِتابِ تَرْكُهُ، وَ بَيْنَ واجِبٍ ، وَ زائِلٍ فِى مُسْتَقْبَلِهِ، وَ مُبايِنٌ بَيْنً مَحارِمِهِ مِنْ كَبيرٍ اوْعَدَ عَلَيْهِ نيرانَهُ، اوْ صَغِيرٍ ارْصَدَ لَهُ غُفْرانَهُ. وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِى اَدْناهُ مُوَسَّع فِى اقْصاهُ}.
- وسؤال هنا في الخاتمة:
ماذا عن مصحف الإمام علي (عليه السلام) الذي رفضه الخليفة الأول والثاني؟
الجواب: هو القرآن وفي حاشيته تفسيره وتأويله وشأن نزول آباته والأحاديث التي كان قد سمعها (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حول الآيات. فهو ليس مصحفًا غير هذا الذي بأيدي المسلمين.
وإنّما رفضاه لِما فيه من الحقائق التي كانت تصبّ في إمامة علي (عليه السلام) ومكانة أهل البيت (عليهم السلام). وهذا كان أمرًا طبيعيًّا بسبب الانقسام بينه (عليه السلام) وبينهما من بعد استشهاد نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله).
فالرّفض كان على الشرح والتفسير والتأويل وليس على متن القرآن وسوره وآياته بأجزائه الثلاثين.
وهذا ما قاله كبار علماء السنة مثل ابن جزّي في كتابه التسهيل: (ج1 / ص6): "وكان القرآن على عهد رسول الله (ص) متفرقاً في الصحف وفي صدور الرجال، فلما توفي رسول الله قعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بيته فجمعه على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير، ولكنه لم يوجد".
كما أنه وَصَفَ تميُّز علي (عليه السلام) عن الصحابة في علمه بالقرآن وقال: "واعلم أن المفسرين على طبقات، فالطبقة الأولى الصحابة رضي الله عنهم وأكثرهم كلاماً في التفسير ابن عباس ... وقال ابن عباس: ما عندي من تفسير القرآن فهو من علي بن أبي طالب...".
وروى نحوه ابنُ عبد البر في الاستيعاب: ج3 / ص974: "قال ابن سيرين: فبلغني أنه -يعني عليًّا- كتب على تنزيله، ولو أصيب ذلك الكتاب لَوُجِد فيه علمٌ كثير".
فإذن للإمام علي (عليه السلام) هناك مصحف بلا تفسير وهو الذي تمّ اعتماده والذي بأيدي المسلمين إلى هذا الزمان ومصحف مع التفسير وهو الذي لم يتحمّله القوم!!
هذا ما أردتُه في وجيز هذه الورقة، راجيًا من الله عزّ وجل أن يجعل ما جمعتُه وسطّرتُه مباركًا بأيدي الباحثين في هذا الموضوع وشفيعًا لي ولهم.. إنه بالمؤمنين رؤوف رحيم.