تعتبر المناظرة الشريفة التي أجراها هشام بن الحكم (رضوان الله عليه) مع ضرار في مجلس يحيى بن خالد وحضرها هارون العباسي -متخفيا- ورواها الصدوق في كتابه (كمال الدين وإتمام النعمة) وأوردها العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) من نفائس مناظرات هشام(*)، وذلك لمتانة الاستدلال والمُكنةِ الكبيرة التي ظهرت على يديه أولا؛ ولكون هذه المتانة والمُكنةِ ظهرت منه في سياقِ البرهنةِ على أُسِّ أُسُسِ الدين وهو الولاية ثانيا، ومن خلال التدبر في ثنايا المناظرة تتبين لنا عدة سماتٍ منهجيةٍ سار عليها هشام في مقام الذود عن حوض الإمامة وإثبات أحقية مولى الموحدين علي (عليه الصلاة والسلام)، وسوف نبحث مختصرا فيما يلي اثنتين من تلك السمات:
1/ الاحتجاج على الخصم بما هو مُسَلَّمٌ عنده بُغيةَ استلال إقرارهِ بما لا يُسلم به، فقد حصل ذلك وهشام يناظرُ ضِراراً -وهو من الخوارج حسب الظاهر- في شأن إمامة علي (عليه السلام)، حيث أخذ منه في بادئ الأمر الإقرارَ بعدل اللهِ تعالى وأنه لا يمكن أن يوجب على المُقعدِ المشي للمساجد وعلى الأعمى قراءة القرآن، ثم انطلق ليٌثبت نَصْبَ اللهِ للإمام من ذاتِ المِلاك الذي يقتضي عدم تكليفه المقعد والأعمى، وهذا الأسلوب من هشام جعل ضِراراً يُسْقطُ في يده، فقد قال (رضوان الله عليه) لضرار: أخبرني عن الله عزّ وجلَّ كلَّف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه لا يقبل منهم إلاّ أن يأتوا به كما كلّفهم؟ قال ضرار: بلى، فقال هشام: فجعل لهم دليلاً على وجود ذلك الدين؟ أو كلّفهم ما لا دليل على وجوده؟ فيكون بمنزلة من كلّف الأعمى قراءة الكتب والمقعد المشي إلى المساجد والجهاد؟ فسكت ضرار ساعة ثمَّ قال: لا بدَّ من دليل، وليس بصاحبك -يعني أمير المؤمنين عليه السلام-، فضحك هشام وقال: تشيّع شطرك وصرت إلى الحقِّ ضرورةً، ولا خلاف بيني وبينك إلاّ في التسمية.
2/ استعراض التصورات الأولية في المسألة محل النزاع أمام الخصم ثم تفنيد ما سوى القول الصائب من هذه التصورات، فقد طرح هشام وهو في مقام الاستدلال -بدليلٍ آخر غير الذي تقدم في السمة الآنفة- على لزوم تعيين النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى شخصَ الإمام بعده ثلاثةَ وجوه، وفند الأوَّلَيْنِ ليَثْبُتَ بذلك الثالث، فأما التصوران الأوَّلان -وهما اللذان فندهما هشام بل انتزع تفنيدهما من فم ضرار- فهما:-
▪️أن الله تبارك وتعالى رفع التكليف عن الخلق بعد رحيل نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فليس عليهم بعد رحيله أمر ولا نهي، فلا صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة، وفي المقابل أحل لهم كل ما حرم عليهم من سرقة وفاحشة وخمر وميسر وغيبة ونميمة وبهتان وغير ذلك.
▪️أن الناس استحالوا بأجمعهم بعد أن رحل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علماء، فلا حاجةَ لأحد منهم لمن يرشده إلى طريق الله تعالى، لأن الكل أصاب الحقيقة والحقَّ الذي لا اختلاف فيه.
وأما التصور الثالث الذي ثبت بعد تفنيدِ الأوَّلَيْنِ فهو أن يقيمَ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للناس من يكون لهم إماما من بعده لا يشطُّ ولا يغلط؛ لأن الإمام المُقامَ لو فُرِضَ غلطه وشططه لانتقض بذلك الغرض من وراء إقامته ونصبه، ولأمكن أن يسير بالناس إلى مهاوي الردى خلافا لما هو مقررٌ من وظيفته التي هي خِلافةُ نبي الهداية (صلى الله عليه وآله وسلم).
صادق القطان
١٩ ديسمبر ٢٠٢٢م