بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِهِ الطيبين الطاهرين
تتميَّز أجواء الحوزة العلمية الشريفة بجدلياتها الخاصَّة في شئون مختلفة، كالكتب الدراسية، والمناهج الدرسية، والسلوك الاجتماعي لطالب العلم، والسمت العام له، ومنها جدليَّة أن يكون لطالب العلم نتاجًا علميًّا أو ثقافيًّا، إلقاءً وكتابةً، أو منعه من ذلك وعدَّه ممَّا لا يصحُّ منه الجرأة والجسارة عليه قبل نضوجه العلمي!
كانت قناعتي الشَّخصيَّة، ولا تزال، في أنَّ القلم العلمي للطالب مرقاته المثلى، بل ولا ميزان لتحصيله ما لم يتعرَّض، عن قصدٍ، للنقد، وربَّما النقد الشديد، بل قد يصل الأمر إلى الإعابة والاستصغار، وإلَّا فالثَّناء والتشجيع، وفي كلِّ هذا رواءٌ وإنضاجٌ لشخصيته العلمية بشرط الوعي الصحيح بأهميَّة كلِّ ذلك وإن كان في بعضه ألمٌّ وضيق.
ولكنَّ هذه القناعة طالما اصطدمت بإعابتها وعدِّها ممَّا لا يقوله العلماء والكبار من أساتذة الحوزة العلميَّة، ما سبَّب في نفسي اضطرابًا معرفيًّا؛ فمِن جهة ما احمله من اعتبار بالغ لما يقوله العلماء وأهل الفضل، ومِن جهة أخرى الرسوخ العظيم لهذه القناعة في نفسي، وقد بعثني هذا الاضطراب إلى تعميق النظر وتحليل الواقع بحسب ما تقتضيه الأدوات العلمية النفسية والاجتماعية.
قلتُ، ثُمَّ استطردتُ..
الظروف الخاصَّة وما تقتضيه من أدبيَّات:
هذا أوَّلًا، ثُمَّ أنَّني أرى بوضوح رجوع بعض الأدبيات الخاصَّة بمختلف الحواضر العلمية الشِّيعيَّة إلى مُقتضيات تخصُّ كلَّ حاضِرَة بشخصها، فإنَّ طلبة العلم في النجف الأشرف، مثلًا، ينضبطون على عدم النشر والتعرُّض للنقد من خارج الأجواء النجفيَّة، ويقول الأساتذة للطلبة هناك: تريثوا ولا يصح منكم نشر ما تكتبون، حتَّى تقوى أقلامكم وتنضجون، وهذا هو سمت العلماء وما عليه سلفنا الصالح.
أقول: تناسبُ هذه الأدبيَّةُ ظروف النجف الأشرف دون غيرها؛ فالطالب هناك محاط، من جميع الجهات، بالمدارس العلمية، وحلقات البحث، وبيوت ومجالس الفقهاء والعلماء، والأساتذة والطلبة.. فالنجف الأشرف حوزة حاكمة ومدارس محكومة، فالفرض، والحال هذه، أنَّ نفس الأجواء العلمية تلعبُ دورًا مباشرًا في إنضاج الطالب وتقويمه، وهو الدور الذي يقوم به النقد والتعرُّض للتقييم العلمي العام في غير الحواضر والحوزات التي يتميَّز بها النجف.
لذا، فإنَّ تصدير هذه الأدبيَّة النجفيَّة وأمثالها إلى خارج النجف خطأ استراتيجيٌّ عظيم، كما وأنَّه، تمامًا، وضعٌ للشيء في غير موضعه!
وعلى نفس صعيد الكتابة والنشر نرى الحال على عكس ذلك في حاضرة قُم المُقدَّسة، غير أنَّ التكوُّن المُعاصِر هناك لأدبيةِ تجنُّبِ الطلبةِ لِنَشرِ نِتَاجِهِم العلمي في غير المجلات العلميَّة المُحَكَّمة، وهو أمر مناسبٌ تمامًا لما تعيشه الحوزة القُمِّيَّة بعد تحقيقها لتوفيقٍ مُعيَّن بين الدرس الحوزوي وبعض الأسس الأكاديميَّة، أضف إلى ذلك موافقة هذا التوجُّه للاستراتيجيات العليا للدولة هناك.
ثَمَّة اشتراكٌ مُهمٌّ بين الحاضرتين الشريفتين، وهو واقع الاحتضان الخاص، ففي النجف الأشرف تحتضن الحاضرة العلمية شِبهُ دولة، وهي المرجعيات وسياج العلماء والدروس العالية، وكلُّها تلتصق بعضها ببعض داخل سور المدينة القديمة. أمَّا قُم المُقدَّسة فتحتضنُ حاضرتها العلميَّة الشريفة شِبهُ دولة، ودولة.
إنَّ لهذه الظروف واقعها الخاص، ومِن غير المعقول، بل هو من المُضحك المُبكي تصدير ما تقتضيه ظروفها وتناسبها من أدبيات إلى غيرها من المدارس والحوزات العلميَّة.
للحوزات والمدارس العلميَّة في غير حاضِرَتي النجف الأشرف وقم المُقدَّسة ظروفها التي ينبغي فهمها واحترامها وتقديرها، والبناء على هذا الفهم والتقدير.
العِلمُ ونَسجُ الفقاهة:
تتميَّزُ مدارِسُ علميَّة بقوَّة دروس المُقدِّمات، فيكون لنفس هذا التميُّز قوَّةٌ حاكِمَةٌ على هذه المرحلة من مراحل التحصيل العلمي لخصوص طلبة هذه المدارس، فنرى في مثلها إحكامًا ضِدَّ كلِّ من يحاول اختراق هذه المرحلة دون أن يكون مؤهَّلًا لها.
تتأسَّسُ هذه القوَّة الحاكمة وتنمو في صورة تلقائيَّة دون قصدٍ مُباشر، فمِن قوَّة المقدمات إلى السطحين، والخارج، وهو الحاصِلُ في الحواضر البارزة مثل النجف الأشرف وقم المُقدَّسة، ولذلك لا جرأة هناك على التصدِّي لبحث الخارج ما لم يكن المتصدِّي مُؤهَّلًا فعلًا ومحلَّ رضىً بين العلماء وأكابر الحوزة الشريفة، وإن تجرأ أحدٌ فلن يحظى بوزنٍ، حتَّى لو خَرَطَ القتاد!
يُفضي الاهتمامُ بتقوية مراحِلِ التَّحصيل الحوزوي إلى نسجٍ تلقائي وطبيعي لِقوى الإحكام الخاصَّة بِكُلِّ مرحلة، وما إنْ يتسَقَّف العامِلُونَ بِسَقْفٍ يَحُدُّهُم عن مواصلةِ تَكوين القوى الحاكمة لكلِّ مرحلةٍ من مراحِلِ التحصيل وصولًا إلى مرحلة البحث، إلَّا وسرعان ما تتشكَّل عندهم قناعاتٌ بعدم إمكان تكوين قوى حاكمة لمراحل ما فوق السقف! ومِنَ الواضح أنَّها قناعاتٌ مِنْ مناشئ مغلوطة، وكما هو حال العقل الجمعي فقد حوَّلَها إلى أصولٍ لا مورد لمناقشتها!
في الواقع لا فرق بين أساتذة المُقدِّمات وأساتذة البحث من حيثية الإعداد لأصل وبناء القوى الحاكمة في المرحلتين، والوجه في ذلك أنَّ تَحَمُّلَ أُستَاذِ المقدِّمات لمسؤولية إعداد غيره هو الآلة المُنتِجة والمكوِّنة للقوَّة الحاكمة، وهكذا في السطحين والخارج.
لا شكَّ في عدم سهولة الأمر، ولكنَّ صعوبةَ كلِّ شيءٍ بحسب أهميَّته وشرافته، وصاحب الهِمَّة يتحمَّلُ الصِّعاب المُضاعفة في سبيل ما يُؤمِنُ به، فكيف إذا كان حقًّا؟
آثار التميُّزات الثقافية والفكرية:
تميَّز عُلماء قُم في القرون الهجريَّة الأولى بتشَدُّدِهم في ضبط الأحاديث المرويَّة عن أهل بيت العِصمَة (عليهم السَّلام)، ومثلهم البصريون في فصاحة العربي الذي تُؤخذ عنه اللغة والشعر، وكان لِلحلِّيين ما يميزهم في المباني الفقهيَّة، حتَّى أنَّهم أحدثوا أوَّل انعطافةٍ بعد شيخ الطائفة (نوَّر الله مرقده الشريف)، وكان ذلك على يد ابن إدريس (قدَّس الله نفسه).
إنَّ لكلِّ تميُّز تتلبَّسُه مدرسةٌ من المدارس العلمية مناشئ ثقافية وفكرية تخصُّ مُجتمع تلك المدرسة، سواء كان مجتمعها الخاص كَمَدْرَسَةٍ، أمْ المُجْتَمَعِ الذي نَشَأتْ فيه، ولا شكَّ في تأثُّر المُلْتَحِق بتلك المدارس دارسًا أو مُعَلِّمًا، والمهاجر لمجتمعاتها بِمَا يظهر من ثقافاتها وما في حكمها. ألا ترى سهولةَ تمييزِ طالب العلم البحراني الذي يدرس في النجف الأشرف عن قرينه البحراني الذي يدرس في قم؟ ويلحق التَمَيُّزُ ليظهر في طريقة الكلام والتعابير، بل حتَّى في مظهر اللباس وطريقة القعود، وما هو أدقُّ من ذلك.. بل حتَّى في طريقة التعامل مع الزوجة يختلف طالب قُم عن طالب النجف! إلى هذا الحدِّ وأكثر..
قالوا في علم الاجتماع أنَّ مِن طُرق التغيير الثقافي في المجتمع أنْ يُفرض عليه وافدون مِن جنسه الديني أو القومي أو ما نحو ذلك، وهما على صنفين، الأوَّل هو صنف المثقفين وأصحاب السطوة العلمية، وميزته عدم الحاجة إلى تكثيرهم، بل يكفي حتَّى الواحد إذا كان ذا سطوة عالية، كالفقيه في الدين، والبروفيسور في مختلف العلوم الأكاديمية. أمَّا الثاني فبسطاء العاملين في الأسواق وما نحوها، وهؤلاء لا تكفي القلَّة منهم.
لاحظوا التغيُّرات الثقافية والفكرية التي تبدأ بالتكوُّن في مجتمع ديني بعد رفده بعلماء مَن أزهَرِ مِصر، ولو أنَّ نفس المجتمع رُفِدَ بعلماء من الجامعة الإسلامية في المدينة المنوَّرة، فسرعان ما تظهر التوجُّهات والتيَّارات في ذلك المجتمع، وترى بعض المُتدينين يطيل لحيته ويقصِّر ثوبه أكثر مِن مُتديِّن آخر، وتختلف بينهما تلاوة القرآن، وسلوك التعامل العلمي مع الأحاديث، وما إلى ذلك ممَّا ينعكس شيئًا فشيئًا على السلوك النفسي والتربوي والاجتماعي والسِّياسي للجماعات.
تنتظم معادلاتُ هذه التغيُّرات في المجتمع تحتَ قانون القوي والأقوى، فلو كان نفس المجتمع ذا شخصية ثقافية وفكرية قويَّة فإنَّه في الغالب يستفيد من الوافدين ولا يتأثَّر بهم، كما نرى في مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وعموم دول الغرب صاحبة السلطة الثقافية، والعلمية، والسياسيَّة، والماليَّة، والعسكريَّة.
إنِّ لسلطنة الوجاهة العلمية سطوتها على فرض الأفهام والآراء التي تأخذ طريقها بين ذوي السطوة من الصفِّ الثَّاني ومَن بعدهم، وإذا بالعلم بعد حين من الوقت يكون عِلْمَ أصحاب السلطنة والوجاهة العلمية، وليس العلم الذي فهمومه ورأوا فيه، ولذلك تكثَّرت، مثلًا، التشقُّقات الفكرية بعد الفيلسوف الألماني هيغل، وبعد كارل ماركس، حتَّى قال لينين بأنَّه الوحيد الذي يفهمه، فكان اليسار الماركسي والثورة البلشفية، وقيام الاتحاد السوفيتي، وكل ذلك لفلسفة البلاشفة بدعواهم أنَّها الفهم الصحيح لفلسفة كارل ماركس!
تحكمنا في مجتمعنا الشيعي العلمي قواعِدُ أصيلة أبعدتنا عن الوقوع في مثل ما وقع فيه آخرون، ويكفي في المقام قانون البحث العلمي في دروس الخارج، فهي تضع الفقيه حدِّ سيف بكلِّ ما تحمل الكلمة من معنى، ما جعلنا على مدى قرون متعاقبة نسير في ضمن حاكمية مُحدَّدات علمية أصيلة يتميَّز بها المُنحرِف بمجرَّد خروجه عنها. فالحمد لله ربِّ العالمين.
أُمسِكُ القلم هنا، برجاء تكفُّل وعي القارئ الكريم بقواعد التطبيق والتوسع في فهم الواقع بناء على هذه الحقائق الاجتماعية الواقعيَّة.
الأهميَّة البالغة للفهم المَحَلِّي:
أكاد أجزم قاطعًا بعدم وجود نصٍّ علميٍّ على الإطلاق يُقَنِّنُ ويقبل تعدُّد الأفهام بحسب البيئة والمجتمع غير النص الإسلامي الواصل إلينا عن أهل بيت العِصمَة (عليهم السَّلام). أمَّا جهة التقنين فلأنَّ التوجُّه إلى النص الإسلامي عندنا مسبوقٌ بِتَكَوِّنٍ عَقَديٍّ قِوامه التسليم المُحكم بالتقوى والخوف من مخالفة ما يريده الله سبحانه وتعالى، وأمَّا القبول بتعدُّد الأفهام فَلِكَونِ نَفسِ النصوص مَبْنِيَّةً على اعتبار العُرف وإمضائه ما لم يصطدم بثابِتَةٍ عَقَدِيَّةٍ أو شرعيَّةٍ.
فلينظر القارِئُ الكريم بعين الموضوعيَّة والتدقيق في المثال التالي..
يتميَّز المجتمع الإيراني تاريخيًّا بتقدير عالٍ للفلسفة وللتصوُّف، أمَّا المجتمع العِرَاقي فمثله مثل السُّوق التي يقصدها التُّجار من داخل ومن خارج البلد، فالعراق مكانٌ تاريخي لتوافِد المتخالفين من فُرس[1] وأتراكٍ، وأهل الشَّام والحجازيين، ولذلك فإنَّ العِراق مِن أكثر المجتمعات الشرقية التي تُكَوِّنُهَا الإثنيَّات، ولذلك نراه مجتمعًا سريع الصراعات والنزاعات، وعِلَّة ذلك كونه مصَبًّا للصراعات الخارجيَّة، فما بين الحجاز والشام يُصفَّى في العِراق، وما بين الأتراك والفرس يظهر في العِراق، وهكذا..
إذا اتَّضح ذلك فإنَّ الصراعات في الموقف من الفلسفة والتصوف، مثلًا، تظهر في العِراق[2]، وتؤثِّر، بشكل مُسَلَّم، في تَكَوُّنِ وصياغة المباني العلميَّة عمومًا، بعد أنْ تكونت المباني في فارس بحسب طبيعة التَّكَونِ الفلسفي السابق، ولو أنَّ العِراقيَّ يقرأ النصَّ بحسب عراقيَّته لوجد عدم انسجامه مع القراءة المبنية على أسس فلسفية، ومثله الفارسي لو قرأ النَّصَّ بحسب ما يوافق التكون الثقافي العراقي لما تمكَّن مِنَ الانسجام معه. والحال أنَّ الفرق بين القراءتين فرق بين العمق والسعة غالبًا، وهو من الفروق الطبيعيَّة المأخوذة في صياغة الخطاب الإسلامي الواصل إلينا عن أهل بيت العِصمَة (عليهم السَّلام)، وما لم يُراعَ فإنَّ الهوَّة بين النصوص والمجتمعات لن تنفكَّ في توسُّعٍ وتَعَمُّق، وتأزيم.
نلاحظ، في خصوص العراق، نوعًا مِنَ الاتِّساق في التطور العلمي بين كلٍّ من كُتُبِ الفِقْهِ والأصول ابتداءً مِنْ عَصْرِ الحِلَّةِ إلى اليوم، ولكِنَّنا نرى افتراقًا واضحًا بينها وبين مصنَّفات علماء البحرين، وبينها وبين مُصنَّفات علماء جبل عامل.. إنَّها ظاهرة طبيعيَّة، وإنَّما تُذبَحُ عندما تُصادر قراءة قوم لمصلحة قوم آخرين، وحينها تنشأ نزاعات وصراعات لم يكن لها مِن داعٍ لو كان الأصل هو الدَّفع في اتِّجاه التأصيل والتأسيس لحواضر علميَّة في كل صِقْعٍ بِحَسَبِهِ.
إذن؛ مِنْ يُعَمِّق البحث (الأصولي) تعميقًا فلسفيًّا، مثلًا، فإن ذلك لا يجعل بحثه أجْوَدَ مِنَ آخر يلتزم عُمقًا أقل، وإنَّنا نرى ذلك بوضوح عند مقارنتنا بين بحثٍ أصولي لأحد علماء كربلاء المعاصرين، وغيره من علماء قُم، وكذا بينهما وبين علماء النجف، ولكنَّنا قد نرى استنساخًا في غيرها من المناطق ما لم يرجع أهلها إلى مُوَافَقَاتِهِم الخَاصَّة، وهذا ما نراه بوضوح عند مُعَاصِري كربلاء.
ثُمَّ أنَّه مِنَ الطبيعي أن لا يكون لمُعَاصِري كربلاء اليوم ذاك الاعتبار الذي يحظى به علماء الحاضرتين العظيمتين في النجف وقم؛ فمَنْ للتَّو عاد للبناء الصحيح الموافق لطبيعته وأصوله الثقافيَّة يحتاج إلى وقت ليس بقصيرٍ حتَّى يُثبت نفسه، ولكن لا بُدَّ مِن البداية لِمَن أراد الخير والصلاح، وبسعة صدرٍ وطول بال، وفهم ووعي بما في الدرب من صعوبات ومُنَغِّصات.
شُبهة التَّفَرُّغ للدرس في السفر:
نَسمَعُ كثيرًا عن مسألة السفر للدراسة لدواع، مِنها التفرُّغ؛ ففي السفر يتخلُّص الطالب من مسؤولياتٍ اجتماعِيَّةٍ مُشغِلةٍ عن طلب العلم.
هذه الفِكرة موغِلَةٌ في الاشتباه، والكلام في أمرين:
الأوَّل: مِنْ أنْ أين جاءت فكرة المصادمة بين المسؤوليات الاجتماعية وطلب العلم؟
أقول: يستقيم طلبُ العلم ويشتدُّ قوامُ مَسَائِلِهِ بوقوعه في ظرف تحمُّلِ طالبه لمسؤولياته الاجتماعية؛ فالمسألة العلمية ليست أجنبية عن واقع الحياة، بل هي مأخوذةٌ منها.
ثُمَّ أنَّ فرض الأمرين مِن آمر واحد وهو الله سبحانه وتعالى، وبين أيدينا استفاضة عظمى من الأحاديث الشريفة التي تأمر وتبين أهمية تحمُّل المؤمن لمسؤولياته الاجتماعية تجاه دوائره الاجتماعية، ومثلها أحاديث تبين أهمية وفضل طلب العلم، ولا مصادمة على الإطلاق بين تحمُّل الإنسان لمسؤولياته، وبين التَّفرُّغ الصحيح لطلب العلم، بل هذا الأخير مِن مسؤولياته إن اختاره وسلك طريقه.
الثَّاني: مِنَ الطبيعي أيضًا أن يتمكَّن المُتقاعدُ من التواصل الاجتماعي أكثر من غيره، وبعده الملتزم بوظيفة صباحية ثابتة، وربَّما كان أقل منهما مِن يعمل بنظام الورديات.. وهكذا فإنَّ الحالَ مختلف مع التاجر، وكثير السفر..
يفهم المجتمع ذلك ولا يُطالِب أهله بأكثر من طاقاتهم، وهو ما نراه مع بعض طلبة العلم الأجلاء وقد فهم المجتمع انشغالهم بالدرس والبحث والمذاكرة، فلا يعاتبهم إن لم يتمكنوا من التواصل الاجتماعي بالدرجة التي يرجونها ويرجوها المجتمع، ولكنَّهم يؤدون الحقوق الاجتماعية في الجملة، ولا يقصرون في حقِّ طلب العلم.
نعم، بطبيعة الحال، فإنَّ المتفرغ تمامًا يقطع المراحل الدراسية في وقت أقصر، ولكنَّه أيضًا أخلَّ بحقِّ العلم الأعم. فلا تغفل رعاك الله تعالى.
إشكالُ كفاءة الأساتذة وتعدُّد خيارات الدارس في الحاضرتين العلميتين الشريفتين:
أحسبُ أنَّ الإجابة على هذا الإشكال قد مرَّت في ضمن الكلام تحت عنوان (العِلمُ ونَسجُ الفقاهة)، ولا بأس بصياغته صياغة أخرى..
لم تُولد حاضِرتا النجف الأشرف وقم المقدِّسة حاضرتين عظيمتين كما هما اليوم، ولكنَّ أمرهما قد مرَّ بمراحل طويلة ابتدأت برعاية العلماء الكبار وبنائهم لدرجات الدرس حتَّى أحكموا مرحلة المقدمات، ثُمَّ السطح، والسطح العالي، فاشتد متن طالب العلم ليدخل مراحل الخارج، وكلُّ ذلك راجعٌ إلى الكثير من الظروف الموضوعية لكلِّ من الحاضرتين الشريفتين على مدى تاريخهما الأنور.
إنَّه من جسيم الأخطاء أن يطلب أحدٌ الوصول إلى ما وصلت إليه حاضرة النجف الأشرف، أو حاضرة قم المقدِّسة، بل أنِّ كلَّ واحدة منهما لم تصل إلى ما هي عليه اليوم لو لا بناؤها على نفسها بحسب ظروفها الخاصَّة.
لذا فإنَّ هذه المقالة لا تطلب أكثر من أن يقوم البناء العلمي لكلِّ مجتمع شيعي بحسبه، وأن تتكامل كلُّها ببعضها البعض، ودون هذه الغاية خرط القتاد ما لم تُنكر ثُلَّةٌ نفسها من أجل صلاحِ مستقبَلٍ قد لا يشهدون خروج برعمه، وهذا هو موضع التحدِّي فعلًا.
إذا تحمَّلتْ ثُلَّةٌ هذه المسؤولية الشريفة فإنَّنا لن نعدم الكفاءات وتعدُّد الخيارات بحسب ما يناسبنا، وكذا سائر المجتمعات الشيعيَّة الكريمة..
التعقُّد في إشكال الاعتبار العلمي المَحَلِّي:
يبتني جانِبٌ من الرؤية التي نُقدِّمها على تعريض الفهم من التحصيل العلمي للنقد والمناقشة، والتشجيع، ولكنَّ هذا عدَمٌ ما لم تتكون في المجتمع العلمي عقلية خاصَّة تقوم على اعتبار ما يطرح طلبة العلم، وما نواجهه إشكال مُركَّب، قِوامُه:
1/ عدم الإقبال المرجو على الطرح المحلِّي لضعف اعتباره في الثَّقافة العامَّة.
2/ الضعف الشديد في ثقافة المناقشة والنقد، وهذه عُقدَّة مُركَّبة مِن: أ- تخوفات الكِبار مِن اعتبار النتاج العلمي لطلبتهم، والإصرار على إشعارهم بكونه (لا شيء) في قبال غيره. ب- عدم إقبال الطلبة على نتاج الأساتذة المحلِّيين؛ والسبب أنَّ إقبالهم لا يزيد في رصيدهم الاعتباري بين الناس، على عكس لو ناقشوا طالب علمٍ مِنَ إحدى الحاضرتين الشريفتين.
3/ الخوف مِنَ الخطأ أو ما قد يواجهه طالب العلم من كلام وثرثرة، واتِّهام بالتزبُّب ولا يزال حصرمًا، وما إلى ذلك..
4/ الخوف من المقارنة بالغير.
5/ الخوف من الخطأ.
6/ عُقدة عدم النضج، واستصغار النَّفس.
7/ التَّسقُّف بسقف التبليغ المحدود بالمسجد والمنبر.
8/ عدم القناعة بوجود قابلية البناء المحلِّي.
9/ دعوى الواقعية وتجنُّب المثاليَّة.
تتعانق بشِدَّة عجيبة هذه العُقَدُ وغيرُها وتؤثِّر تأثيرًا مباشرًا في الهِمَم والعزائم من جهة فتهدمها، وعلى قابلية مُجَرَّد الاستماع لما نحن بصدده في هذه المقالة. ولكنَّ الذي ينبغي أنْ يُقالَ هو أنَّ كلَّ هذه العُقَدِ لا تعدو كونها أوهامًا متوالدة وخيالات تتوالد.
ومِن كلمات الفصل في المقام: أنَّ اعتبار الموالف والمخالف، والعدو قبل الصديق لك بِقَدَرِ اعتِبَارِكَ لِنَفْسِك.
ولا واقع رشيد دون مِثالية عن وعي بالواقع وأسقامه بما يميز قواه الكامنة.
وكتبه
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
29 جمادى الأولى 1444 للهجرة
البحرين المحروسة
..............................................
[1] - أعِبر بإيران، وفارس لكون الحديث عن الثقافة القومية.
[2] - الكاتب: لا يمنع ذلك من ظهورها في نفس المجتمع، كما هو الحال مع المدرسة التفكيكيَّة وانبعاثها في مدينة مشهد المقدسة وتفرعها في قم وإصفهان، فالكلام إذن في خصوص الموقف النابع من الطبيعة الثقافية للمجتمع أو القوم.