بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
وبعد؛
فهذه ورقات دونتها أثناء بحثي على كتاب النكاح، ألقيتها على بعض طلاب العلم في (المدرسة الجعفرية للدراسات الإسلامية) بين عامي 1436 – 1437 هـ، وها أنا ذا أخرجها موزعة في كراسات يسهل مطالعتها ويخف حملها، أرجو وأسأل بهذا العمل القليل رضا الله سبحانه المتفضل المنان وأن يكون فيها نفع لأهل العلم والإيمان، فإن كان فيها خلل أو سهو فمن سوء فهمي وقصوري، وإن يكن فيها صواب فمن تسديد المتعالي العزيز المكان.
محمد علي حسين العريبي
...............................
م10: الأقوى عدم جواز نظر المرأة لغير المعتاد كشفه من الرجل
حرمة نظر المرأة اختيارا للرجل كالعكس قول مشهور بعد الشيخ الطوسي، ومن المسائل المشهورة عند العامة القدماء ومن تأخر عنهم، وقد خلت كلمات الصدوق ومن تقدم الطوسي رحمهما الله عن ذكر المسألة، ولتحرير موضع النزاع فيما وقع فيه النزاع والنظر في أدلة كل طرف، وجب سوق بعض كلمات الأعلام:
قال العلامة في أجوبة المسائل المهنائية جوابا عن هذا السؤال:
"ما يقول سيدنا في المرأة هل يحرم النظر إلى الرجل الأجنبي سواء كان بتلذذ أو ريبة أو بغيرهما، مع أن النساء لم يزلن في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وبعد عصره وهلم جرا يخرجن في حوائجهن ولا بد أن يقع نظرهن على الرجال. فبيِّن لنا هذا الحال تقبل اللّه منك صالح الأعمال.
الجواب: لا يجوز لهن النظر إلى الرجال الأجانب مطلقا كالرجال، للآية ولما روي أن عائشة وحفصة لم يحتجبا عن ابن أم مكتوم واعتذرتا بأنه أعمى، فقال عليه السلام: أفعمياوتان أنتما! وهو نص في الباب"[1].
وفي التذكرة: "مسألة: منع جماعة من علمائنا نظر المرأة إلى الرجل كالعكس؛ لقوله تعالى ( وقُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ )، فلا يجوز لها النظر إلا إلى وجهه وكفيه؛ لأن الرّجل في حق المرأة كالمرأة في حقّ الرّجل، وهو قول أكثر الشافعية؛ لما روت أم سلمة قالت كنت أنا وميمونة عند النّبيّ ص فأقبل ابن أم مكتوم فقال احتجبا عنه، فقلنا إنه أعمى فقال النّبيّ ص أ فعمياوان أنتما !، وقال بعضهم: إنها تنظر إلى ما يبدو عنه عند المهنة دون غيره؛ إذ لا حاجة إليه، وقال بعضهم: أنها تنظر إلى جميع بدنه إلا ما بين السرة والركبة وليس كنظر الرجل إلى المرأة لأن بدنها عورة في نفسه ولذلك يجب ستره في الصلاة، ولأنهما لو استويا لأمر الرّجل بالاحتجاب كالنساء، هذا كله في الأجانب، ولا يجوز للمرأة النظر إلى الرّجل عند خوف الفتنة للآية، ولا فرق أن يكون الرجل عاقلا أو مجنونا في تحريم نظرها إليه".
فمذهبه رحمه الله التسوية بين الرجل والمرأة؛ لآية الغض والرواية.
في مرآة المجلسي تعليقا على خبر ابن أم كتوم الآتي نصه: "المشهور حرمة نظر المرأة إلى الأجنبيّ مطلقاً، كما هو ظاهر الخبر، ومن الأصحاب من استثنى الوجه والكفّين، وهو غير بعيد نظراً إلى العادة القديمة وخروج النساء إلى الرجال من غير ضرورة شديدة، ويمكن حمل هذا الخبر على الاستحباب؛ هذا إذا لم تكن ريبة وشهوة، وإلّا فلا ريب في التحريم"[2].
فعدم استبعاده لحرمة نظر المرأة للرجل باستثناء الوجه والكفين هو للسيرة المتصلة ولقضاء الضرورة.
وفي كشف اللثام: "وكذا المرأة تنظر إلى وجه الأجنبيّ وكفّيه مرّة لا أزيد؛ لاشتراك العلّة حرمة وجوازا، والحرمة مطلقا هنا أقوى منها في العكس، وللشافعية قول بجواز نظرها إلى ما يبدو منه عند المهنة، وآخر إلى غير ما بين السرّة والركبة؛ وإلّا لأمر بالاحتجاب كهي، ولأن بدنها عورة، ولذا يجب عليها الستر في الصلاة بخلافه"[3].
وفي الحدائق: "الظاهر أنه لا خلاف في تحريم نظر المرأة إلى الأجنبي أعمى كان أو مبصرًا"[4] واستدل بالآيات والروايات، وساق خبر ابن أم مكتوم.
وفي الأنوار اللوامع للجد العلامة: "المرأة يحرم عليها النظر إلى الرجل بقول مطلق إذا كان أجنبيا ما عدا الوجه والكفين، والحق جواز ما تنظر عند المهنة".
ودليله آية الغض، وأما ما تنظر عند المهنة فلم يذكر دليله، ولعله للسيرة غير المنهي عنها وللضرورة.
بل في وسيلة النجاة: "لا يجوز للمرأة النظر إلى الأجنبى كالعكس، واستثناء الوجه والكفين فيه أشكل منه في العكس"[5]، ووجه الإشكال كما قيل أن نظر الرجل للأجنبية قد استثناه الدليل ولولاه لحكم بعدم الاستثناء، ولا استثناء في نظر المرأة للأجنبي.
دليل المسألة:
فتحصل أن أدلة التحريم على اختلاف بيانها منحصرة في آية الغض وقد يلحق بها آية الحجاب، وحديث ابن أم مكتوم ويلحق به بعض الأخبار الأخرى غير الصريحة، والسيرة المتصلة والعادية القديمة الجارية على كشف تلك المواضع عند المهنة، والضرورة والحرج.
أما من الكتاب الشريف:
آية غض البصر
فقد استدل بآية غض البصر، وهو قوله تعالى:
"قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما يَصْنَعُونَ، وقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ولا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أو آبائِهِن"[6] الآية.
فإن قوله تعالى: "يغضوا من أبصارهم" ثم قوله: "يغضضن من أبصارهن" متحد المعنى صريح الدلالة على حرمة متعاكسة في الجنسين، فإذا حرم على الرجل النظر للمرأة حرم على المرأة النظر للرجل إلا ما استثني.
إجمال الآية
لكن الآية تقصر عن هذا المفاد؛ لأن الأمر بغض البصر -بمعنى خفضه، ومنه قوله تعالى "واغضض من صوتك"- غير مشخص المتعلق ولا معين الحدود ولا يمكن التمسك بإطلاقه اللفظي كما مر غير مره، لكنه يصح بتقدير (قل للمؤمنين والمؤمنات يغضوا أبصارهم عما حَرُمَ عليهم تعمده) لأنه قدرٌ لابد منه، وهو مجمل أيضا ويجب إحالته لدليل مفصل.
وجهان في دلالة ذكر الفروج
وقد يذكر وجهان في ذكر الفروج؛ الأول: كونها بمعنى خصوص العورات في الغض والحفظ، تمسكا بظاهر لفظ الفروج، فالحرام هو النظر وكشف العورات، والثاني: أنها بمعنى ما لا يحل النظر إليه مطلقا؛ لأن الجملتين واجبان متغايران؛ تمسكا بإطلاق الأمر بغض النظر في الأولى وهو في النساء أعم من الفرج، وحرمة كشف الفرج في الثانية واجب آخر.
غض البصر لا يرادف عدم النظر ومعنى الحفظ
وقد يقال أيضا: أن الأمر بغض البصر ليس مساويا للنهي عن النظر؛ لأن الباصرة وهي العين هنا لا تمنع شعاع ما وقعت عليه أولاً، وليس هناك معنى للمنع عن غير المقدور، نعم يصح النهي عن استمرار التوجه وتعمد بسط الباصرة، الحاصل بصد العين وبسط جفنها المعبر عنه بالغض عن أمر ثابت الوقوع أمامها.
وقوله: (ويحفظوا فروجهم) إما بمعنى لام الغاية، أي ليحفظوا فروجهم، أو بمعنى ويجب عليهم حفظ فروجهم بسترها عن الناظرين، وهو تكليف يقع تحت قدرتهم.
فالغض بمعنى خفض العين صدا عما يقابله مما يحرم، وحفظ الفرج بمعنى ستره ومنعه عن أعين من لا يحل له.
والمعنى: إذا واجهتم ما لا ينبغي للأبصار رؤيته غير متعمدين فنحوا أبصاركم واخفضوها وغضوها، ولا تتعمدوا النظر لما يحرم عليكم مما نهيتم عنه، واستروا عوراتكم واحفظوها عن النظار.
وأظن أن هذا المعنى واضح بين العرب، والدخول في الشجار في معنى الغض غير ذي فائدة مهمة.
وكل المعاني السابقة في الآية مؤداها مجمل من جهة بيان ما يحرم على المرأة النظر إليه من الرجل، فلا سبيل لاستفادة أكثر من القدر المتيقن المعلوم وليست في مقام البيان من كل جهة.
تفسير الآية:
هذا من جهة ظاهر الآية، وأما ما ورد في تفسيرها:
فمنه:
ما رواه الكليني في الكافي عن عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ بُرَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الزُّبَيْرِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام – في حديث طويل – : "وَ فَرَضَ عَلَى الْبَصَرِ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وأَنْ يُعْرِضَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ، وهُوَ عَمَلُهُ، وهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وتَعَالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ»، فَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إلى عَوْرَاتِهِمْ، وأَنْ يَنْظُرَ الْمَرْءُ إلى فَرْجِ أَخِيهِ، ويَحْفَظَ فَرْجَهُ أَنْ يُنْظَرَ إليه، وقَالَ: "وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» مِنْ أَنْ تَنْظُرَ إِحْدَاهُنَّ إلى فَرْجِ أُخْتِهَا، وتَحْفَظَ فَرْجَهَا مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهَا، وقَالَ: كُلُّ شَيء فِي الْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ الْفَرْجِ فَهُوَ مِنْ الزِّنى إِلَّا هذِهِ الْآيَةَ؛ فَإِنَّهَا مِنَ النَّظَرِ"[7].
ورواه القاضي[8] في الدعائم مرسلا.
بكر بن صالح هو الضبي، ضعفه النجاشي، ورمي بالتفرد بالغرائب وهذا راجع لحديثه لا إلى نفسه، فما يتفرد به لا يعمل به، وقد يقوى برواية بعض الأجلة عنه كإبراهيم بن هاشم، لكنه بالتتبع لا يورث الاعتقاد بأنهم اعتمدوا أخباره على الدوام، بل القوي أن أخباره رائجة عند الضعاف من الرواة أكثر.
وأبو عمرو الزبيري، قال النجاشي بعد ترجمته: "محمد بن عمرو بن عبد الله بن عمر بن مصعب بن الزبير بن العوام، متكلم حاذق من أصحابنا، له كتاب في الإمامة حسن يعرف بكتاب الصورة"[9].
عبد الله بن هارون أبو محمد الزبيري في ترجمة عبد اللّٰه بن عبد الرحمن: "و الزبيريون في أصحابنا ثلاثة: هذان وأبو عمرو محمد بن عمرو بن عبد الله بن مصعب بن الزبير، رأيت بخط أبي العباس بن نوح فيما أوصى به إلي من كتبه"[10]، ويبدو أن تفرد الشيخ النجاشي دون الطوسي بذكره لأنه نقله من كتاب شيخه أبي العباس بن نوح بخطه أيضا.
لم يذكر بغمز، وروى عنه القاسم بن بريد بن معاوية، وروى الزبيري كتب المفضل بن عمر، ويظهر من أول هذا الخبر الطويل موافقته لأسلوب أخبار المفضل، بدأه بقوله: "قُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الْعَالِمُ أَخْبِرْنِي أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّه"، فأخباره موقوفة على المقوي.
وأما دلالتها فموافقة لظاهر الآية على نحو قريب مما ذكرناه في وجوه الآية، اللهم في حملنا لظاهر الغض على معناه بأصل اللغة، وظهورها في ها الخبر على أنها كناية عن النهي عن النظر.
وأما قوله: "وفَرَضَ عَلَى الْبَصَرِ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وأَنْ يُعْرِضَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ … فَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إلى عَوْرَاتِهِمْ، وأَنْ يَنْظُرَ الْمَرْءُ إلى فَرْجِ أَخِيهِ، ويَحْفَظَ فَرْجَهُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ … ويَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ مِنْ أَنْ تَنْظُرَ إِحْدَاهُنَّ إلى فَرْجِ أُخْتِهَا، وتَحْفَظَ فَرْجَهَا مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهَا، وقَالَ: كُلُّ شَيْيءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ الْفَرْجِ فَهُوَ مِنْ الزِّنى إِلَّا هذِهِ الْآيَةَ؛ فَإِنَّهَا مِنَ النَّظَر"، أي حفظ الفرج من النظر.
فالظاهر أن عنوان (ما حرم الله عليه) و(ما لا يحل له) بل وكذا (عوراتهم) في هذا الخبر أعم من تفسير الآية وما ترمي إليه؛ فإنه قد فسرها بما هو أخص وهو الفرج نظرا وكشفا، بل قيدته بنظر الرجل لفرج للرجل، والمرأة لفرج للمرأة.
وحكم النظر للفرج أمر مسلم قطعي، لا خلاف فيه، إنما الكلام في نظر المرأة للرجل، وهذا لا يثبت بصدر هذا الخبر فإنه مجمل ولا بذيله لأنه خارج عن محل البحث.
فضلا على أن الخبر ضعيف الاعتبار لا يصح العمل به بمفرده.
لكن ذيله يوافق المروي صحيحا في التفسير المنسوب للقمي: "حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: كُلُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْفُرُوجِ فَهِيَ مِنَ الزِّنَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّهَا مِنَ النَّظَرِ، فَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُؤْمِنٍ أَنْ يَنْظُرَ إلى فَرْجِ أَخِيهِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلى فَرْجِ أُخْتِهَا"[11].
فالغض والحفظ في الخبرين مخصوصان بنظر الرجل للرجل والمرأة للمرأة.
وأصرح منه ما ذكره الصدوق في الفقيه ثم عقبه برواية، قال: "وَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ ويَسْتُرَ فَرْجَهُ مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ.
وَسُئِلَ الصَّادِقُ ع عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ)، فَقَالَ: كُلُّ مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذِكْرِ حِفْظِ الْفَرْجِ فَهُوَ مِنَ الزِّنَا[12] إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ لِلْحِفْظِ مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ"[13].
وكذا ما رواه في الفقيه: "قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه محمد بن الحنفية: وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عز وجل عليه، فقال عز من قائل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، محرم أن ينظر أحد إلى فرج غيره"[14].
ما تتكفل الآية ببيانه
والذي يقوى في النفس أن الآية نزلت لبيان حكم المعاشرات بين الناس، وسياقها يرشد لهذا، وليست في مقام تحديد ما يجوز النظر إليه من الرجل والمرأة مطلقا، ومر هذا الكلام في قوله تعالى بعد هذه الآية (ولا يبدين زينتهن) الآية، وهي سياق كلامي بياني واحد.
ومن أماكن المعاشرات ما يُكشف فيه مواضع من البدن غير معتادة، كالحمامات، وفي الفقه المنسوب للرضا عليه السلام: "وَ إِيَّاكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ فَإِنَّهُ مِنَ الْإِيمَانِ، وغُضَّ بَصَرَكَ عَنْ عَوْرَةِ النَّاسِ واسْتُرْ عَوْرَتَكَ مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ أَرْوِي أَنَّ النَّاظِرَ والْمَنْظُورَ إِلَيْهِ مَلْعُون"[15].
وقد كان بعض البطالين لا يتحرزون عن كشف عوراتهم، ففي الدعائم عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ، إلى أَنْ قَالَ: والَّذِينَ يَجْلِسُونَ مَعَ الْبَطَّالِينَ والْمُغَنِّينَ، إلى أَنْ قَالَ: ويَكْشِفُونَ عَوْرَاتِهِمْ فِي الْحَمَّامِ وغَيْرِهِ"[16] الْخَبَر.
بل كان -ولا زال- يقع من بعض المؤمنين التساهل في تلك المواضع، ففي موثقة حنان قال: "دخلت أنا وأبي وجدي وعمي حماما بالمدينة، فإذا رجل في بيت المسلخ، فقال لنا: ممن القوم؟ فقلنا: من أهل العراق. فقال: وأي العراق؟ قلنا: كوفيون. فقال: مرحبا بكم يا أهل الكوفة أنتم الشعار دون الدثار. ثم قال: ما يمنعكم من الأزر؟ فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: عورة المؤمن على المؤمن حرام. إلى أن قال: فسألنا عن الرجل، فإذا هو علي بن الحسين (عليهما السلام)"[17].
نعم تمام الاستدلال متوقف على تعيين معنى العورة في اللغة والاستعمال.
معنى العورة
العورة لغة هي كل خلل وثغر مكشوف، وفي الاستعمال كل ما يخشى كشفه وإبداؤه، خوف الملامة إن أبداه أو الافتتان أو طغيان الرغبة على فطرة العقل والاستقامة.
وعورة الرجل للرجل والمرأة للمرأة سوآتاهما، وعورات الناس هي ما يسترونها باللباس والبيوت حياءً لكي لا يعيروا بها في الدين أو بين الخلق.
فالمرأة عورة أمام من لا تحل له لأنه يستحيا إذا بدت أن تمد لها الأعناق راغبة فيها بشهواتها، وعورتها جسدها إلا ما استثني.
وعورة الرجل مواضع الحياء منه وهي سوأتاه يقينا، وقيل ما بين السرة والركبة أمام النساء، وهو غير بعيد.
والحياء سر من اسرار الله عز وجل وفطرة مودعة في سره، فهي مدغمة في حقيقة الإنسان وجزء من الإيمان.
قال ابن منظور في لسان العرب:
"العَوْرات: جمع عَوْرة، وهي كل ما يستحيا منه إِذا ظهر، وهي من الرجل ما بين السرة والركبة، ومن المرأَة الحرة جميعُ جسدها إِلا الوجه واليدين إلى الكوعين، وفي أَخْمَصِها خلاف، ومن الأَمَة مثلُ الرجل، وما يبدو منها في حال الخدمة كالرأْس والرقبة والساعد فليس بِعَوْرة. وسترُ العَوْرة في الصلاة وغيرِ الصلاة واجبٌ، وفيه عند الخلوة خلاف. وفي الحديث: المرأَة عَوْرة؛ جعلها نفسَها عَوْرة لأَنها إِذا ظهرت يستحيا منها كما يستحيا من العَوْرة إِذا ظهرت"[18].
ومن السابق يظهر لنا استعمالان في العاديات والشرعيات لكلمة العورة والتعري بحسب شأن كل، إما للماثل أو لغيره، أما المماثل فهي موضع السوءة منه، وأما غيره فالمرأة عورة لا تنكشف للأجنبي إلا بمقدار ما استثني، وعورة الرجل للمرأة الأجنبية مقدار ما سمح الشارع به وهو محل كلامنا، فلا يصح الاستدلال بأخبار الستر في الطهارة والصلاة أو بأصل الوضع لغة، فإنه في الكل لا يثبت لنا إلا معنى مرددا في الاستعمال بين فردين، أحدهما مجمع على حرمة النظر إليه وكشفه وهو السوءة، والثاني مجهول المعنى والحد، فيكون الاستدلال به مصادرة.
خبر سعد الإسكاف:
وأما خبر سَعْدٍ الْإِسْكَافِ -في سبب نزول الآية- عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ: "اسْتَقْبَلَ شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ امْرَأَةً بِالْمَدِينَةِ وكَانَ النِّسَاءُ يَتَقَنَّعْنَ خَلْفَ آذَانِهِنَّ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وهِيَ مُقْبِلَةٌ، فَلَمَّا جَازَتْ نَظَرَ إِلَيْهَا ودَخَلَ فِي زُقَاقٍ قَدْ سَمَّاهُ بِبَنِي فُلَانٍ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ خَلْفَهَا، وَاعْتَرَضَ وَجْهَهُ عَظْمٌ فِي الْحَائِطِ أو زُجَاجَةٌ فَشَقَّ وَجْهَهُ، فَلَمَّا مَضَتِ الْمَرْأَةُ نَظَرَ فَإِذَا الدِّمَاءُ تَسِيلُ عَلَى صَدْرِهِ وَثَوْبِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لآَتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص وَلَأُخْبِرَنَّهُ، قَالَ: فَأَتَاهُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ص قَالَ لَهُ مَا هَذَا ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ ع بِهَذِهِ الْآيَةِ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُون)"[19].
فهذا الخبر مما أخرج ابن مردويه عن علي عليه السلام قال : "مر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا عقوبة ذنبك وأنزل الله تعالى : ( قل للمؤمنين يَغُضُّوْا منْ أَبْصَارهمْ ) الآية".
وهو مما لم يصح عند العامة، وليس بمشهور الرواية.
وخبر سعد تقدم ضعفه بسعد وتفرده، وعلى تقدير اعتباره، فلو قرن بسبب النزول لكان دالا على وجوب صرف النظر عما لا يحل من الرجل والمرأة تلذذا، لكنك عرفت أنه لا يستجمع شروط الحجية.
والحاصل من العرض السابق، هو إجمال الآية وعدم صلاحية الاستدلال بظاهرها على الحكم المدعى، واقتصار الأخبار في تفسيرها على حرمة النظر للفروج.
آية الحجاب
واستدل جماعة بالآية الشريفة: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذى النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما)[20].
وظاهرها -كما تقدم الحديث فيها- أنها حكم تأدبي في معاملة الجالسين في بيوت النبي صلى الله عليه وآله، حيث نهوا عن الدخول بلا إذن أو الإطالة في الجلوس أو عدم رعاية الأدب والستر مع نسائه صلى الله عليه وآله، فليست أيضا في مقام تحريم نظر المرأة للرجل وليست دالة على مقدار نظرها لا بالإطلاق ولا بغيره، بل مر قول بعضهم أنها قضية في واقعة خاصة لنساء النبي ص مبالغة في أداء حقه وتنزيها لعرضه، يكشف عنه قوله تعالى تعقيبا للأمر (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن)، فأوجب عليهن سترا فوق الستر الأول في سورة النور، وقوله تعالى في نفس سورة الأحزاب: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا، وقرن في بيوتكن) حتى قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) أي في كل شيء ينتسب لكم، وفيه التفات بالضمير والخطاب تأكيدا على إرادته تعالى تطهيرهم في متعلقيهم بمنع نسائهم عن كل ما يشين، لمحلهم من بيت الرسالة، فشدد عليهن ما لم يشدد على أحد.
المراد من آية التطهير هو الاصطفاء لا العصمة
ومن غير البعيد، بل هو المتعين: أنه لا يصح القول بأنه تعالى أراد في هذه الآية إذهاب الرجس المذكور عن نفوسهم الشريفة؛ فإنها غير قابلة لأي رجس تتلوث به، لا بحلول الرجس فيها ولا بتلبس الرجس بها، فلم يبق إلا الرجس الذي عبر الله تعالى عنه بقوله (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) إذ لو لم يفعلوا لكان أوقع لمكامن إبليس وطمع الذي في قلبه مرض وشك الشاكين، فالإرادة هنا تتعلق بدفع الأذى عنهم وتطهير وتنزيه بيتوهم ومقامهم.
ويدل عليه صحيح كتاب المعاني بسنده عن عَبْدِ الْغَفَّارِ الْجَازِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، قَالَ: الرِّجْسُ هُوَ الشَّكُّ".
المحمول على تشكيك الناس في طهرهم وطهارة ذيلهم، ولهذا قدم حرف التعدية عن والضمير تأكيدا، واستعمل (عن) إرادة للدفع، ولم يستعمل (من) الدالة على التخليص وإزالة الشيء من العين، أي ليدفع عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، يقال (يريد أن يدفع عنكم العدو) لا (منكم العدو).
الأخبار في آية التطهير:
وروى الكليني في خبر طويل عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله عليه السلام في النص بالوصية لعلي عليه السلام:
"فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ عَلَمَكَ، وأَعْلِنْ وصِيَّكَ، فَأَعْلِمْهُمْ فَضْلَهُ عَلَانِيَةً، فَقَالَ عليه السلام: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ والِ مَنْ والَاهُ، وعَادِ مَنْ عَادَاهُ؛ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. … (وساق الأدلة والبراهين حتى قال): فَلَمْ يَزَلْ يُلْقِي فَضْلَ أَهْلِ بَيْتِهِ بِالْكَلَامِ، ويُبَيِّنُ لَهُمْ بِالْقُرْآنِ: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)"[21].
فالأظهر والأقوى أن الآية في بيان فضلهم واصطفائهم ونيلهم الرتبة الرفيعة بين الناس أجمع التي استحقوا بها الولاية والإمامة الإلهية، لا في الدلالة على عصمتهم بطريق مباشر؛ فإنه يلتمس من الأدلة الأخرى الصريحة على طهارة أنفسهم من كل دنس بمعنى العصمة، وهذه الآية في تعهد الله تعالى بدفع كل منقصة تدخل عليهم من متعلقيهم، نعم قد تقع مقدمة في إثبات أمر آخر كالعصمة.
ولذا روى الصدوق في المجلس التاسع والسبعون من أماليه هذا المعنى وأن الآية في الاصطفاء لا العصمة والمعلوم من طهارة ذواتهم الشريفة بسند صحيح عن الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ: حَضَرَ الرِّضَا ع مَجْلِسَ الْمَأْمُونِ بِمَرْوَ وقَدِ اجْتَمَعَ فِي مَجْلِسِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وخُرَاسَانَ فَقَالَ الْمَأْمُونُ أَخْبِرُونِي عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)، فَقَالَتِ الْعُلَمَاءُ: أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِذَلِكَ الْأُمَّةَ كُلَّهَا، فَقَالَ الْمَأْمُونُ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ ؟ فَقَالَ الرِّضَا ع: لَا أَقُولُ كَمَا قَالُوا، وَلَكِنِّي أَقُولُ أَرَادَ اللَّهُ الْعِتْرَةَ الطَّاهِرَة".
حتى قال:
"قَالَتِ الْعُلَمَاءُ: فَأَخْبِرْنَا هَلْ فَسَّرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الِاصْطِفَاءَ فِي الْكِتَابِ؟ فَقَالَ الرِّضَا ع: فَسَّرَ الِاصْطِفَاءَ فِي الظَّاهِرِ سِوَى الْبَاطِنِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعاً وَمَوْطِناً؛ فَأَوَّلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ورَهْطَكَ الْمُخْلَصِينَ هَكَذَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وهِيَ ثَابِتَةٌ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وهَذِهِ مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ وفَضْلٌ عَظِيمٌ وشَرَفٌ عَالٍ حِينَ عَنَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِذَلِكَ الْآلَ فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ص، فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ، والْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي الِاصْطِفَاءِ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وهَذَا الْفَضْلُ الَّذِي لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ مُعَانِدٌ أَصْلًا لِأَنَّهُ فَضْلٌ بَعْدَ طَهَارَةٍ تُنْتَظَرُ فَهَذِهِ الثَّانِيَة".
وروى في المجلس الثاني والتسعون بسنده عن عَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَسَمَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمَا قِسْماً، وذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وأَصْحَابِ الشِّمَالِ وأَنَا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وأَنَا خَيْرُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ثُمَّ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ أَثْلَاثاً فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا ثُلُثاً، وذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) وأَنَا مِنَ السَّابِقِينَ وأَنَا خَيْرُ السَّابِقِينَ، ثُمَّ جَعَلَ الْأَثْلَاثَ قَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا قَبِيلَةً وذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: (وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ)، فَأَنَا أَتْقَى وُلْدِ آدَمَ وأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ولا فَخْرَ، ثُمَّ جَعَلَ القَبَائِلَ بُيُوتاً فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا بَيْتاً وذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا)".
وفي أمالي الصدوق أيضا في الموثق: عن أبيه حَدَّثَنَا أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ السَّكُونِيِّ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ ع قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ص يَقِفُ عِنْدَ طُلُوعِ كُلِّ فَجْرٍ عَلَى بَابِ عَلِيٍّ وفَاطِمَةَ ع فَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُحْسِنِ الْمُجْمِلِ الْمُنْعِمِ الْمُفْضِلِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ سَمِيعٌ [سَمِعَ] سَامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ ونِعْمَتِهِ وحُسْنِ بَلَائِهِ عِنْدَنَا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ صَبَاحِ النَّارِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ مَسَاءِ النَّارِ الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً".
ولعله صلى الله عليه وآله أراد أن الله فضلكم عليهم بهذه النعمة دون الباقين، فقوموا له شاكرين، بقرينة الدعاء المذكور على لسانه الشريف صلى الله عليه وآله.
ولأجل ما ذكرنا قال أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي في نقض كتاب الإشهاد لأبي زيد العلوي:
"أنا وجدنا النبي ص قد خص من عترته أهل بيته أمير المؤمنين والحسن والحسين ع بما خص به ودل على جلالة خطرهم وعظم شأنهم وعلو حالهم عند الله عز وجل بما فعله بهم في الموطن بعد الموطن والموقف بعد الموقف مما شهرته تغني عن ذكره بيننا وبين الزيدية ودل الله تبارك وتعالى على ما وصفناه من علو شأنهم بقوله: ( إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )، وبسورة هل أتى وما يشاكل ذلك، فلما قدم ع هذه الأمور وقرر عند أمته أنه ليس في عترته من يتقدمهم في المنزلة والرفعة ولم يكن ع ممن ينسب إلى المحاباة ولا ممن يولي ويقدم إلا على الدين، علِمنا أنهم ع نالوا ذلك منه استحقاقا بما خصهم به فلما قال بعد ذلك كله: قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ وعِتْرَتِي .. علمنا أنه عنى هؤلاء دون غيرهم؛ لأنه لو كان هناك من عترته من له هذه المنزلة لخصه ع ونبه على مكانه ودل على موضعه، لئلا يكون فعله بأمير المؤمنين والحسن والحسين ع محاباة وهذا واضح والحمد لله، ثم دلنا على أن الإمام بعد أمير المؤمنين الحسن باستخلاف أمير المؤمنين ع إياه واتباع أخيه له طوعا"[22].
نعم، روى العياشي عن زرارة عن أبي جعفر ع قال: " ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية ينزل أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء، ثم قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» من ميلاد الجاهلية"[23]، فهذا حديث مفرد محمول على التأويل، ورواه البرقي في المحاسن بلفظ آخر بسنده عن جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ ع عَنْ شَيء مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَأَجَابَنِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ ثَانِيَةً فَأَجَابَنِي بِجَوَابٍ آخَرَ، فَقُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ كُنْتَ أَجَبْتَنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِجَوَابٍ غَيْرِ هَذَا، فَقَالَ لِي: يَا جَابِرُ إِنَّ لِلْقُرْآنِ بَطْناً ولِلْبَطْنِ بَطْناً ولَهُ ظَهْراً ولِلظَّهْرِ ظَهْراً ولَيْسَ شَيء أَبْعَدَ مِنْ عُقُولِ الرِّجَالِ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وإِنَّ الْآيَةَ يَنْزِلُ أَوَّلُهَا فِي شَيء وآخِرُهَا فِي شَيء وهُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ يَتَصَرَّفُ عَنْ وُجُوه"[24].
وفي صحيح علل الشرائع إلى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: "قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع: مَا عَنَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِقَوْلِهِ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً؟ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ وأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ وفَاطِمَةَ ع، فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ نَبِيَّهُ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ الْحَسَنُ ثُمَّ الْحُسَيْنُ ع، ثُمَّ وَقَعَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ ( وأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ ) وكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ع إِمَاماً ثُمَّ جَرَتْ فِي الْأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ الْأَوْصِيَاءِ ع، فَطَاعَتُهُمْ طَاعَةُ اللَّهِ ومَعْصِيَتُهُمْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ عَزَّ وجَل"[25].
وهو محول على استحقاق الإمامة باصطفائهم على الأمة، وأما أن ذواتهم معصومة فمفهوم من أدلة أخرى، وهذه الآية كاشفة عنها.
ويظهر لي أن أول من استدل بظاهرها -لا لزمها- بعض متكلمي الإمامية، ومنهم من المتقدمين الشيخ المفيد -وقد يكون أولهم- حيث سئل في المسائل العكبرية عما استدل به من عصمتهم سلام الله عليهم بما ذكره بقوله:
"عن قول الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، قال السائل: وإذا كانت أشباحهم قديمة وهم في الأصل طاهرون فأي رجس أذهب عنهم؟ قال: وأخرى أنه لا يذهب بالشيء إلا بعد كونه، قال: ونحن مجمعون على أنهم لم يزالوا طاهرين قديمي الأشباح قبل آدم ع.
الجواب عما تضمنه هذه الأسئلة: أن الخبر عن إرادة الله تعالى إذهاب الرجس عن أهل البيت ع والتطهير لهم لا يفيد إرادة عزيمة أو ضميرا أو قصدا على ما يظنه جماعة ضلوا عن السبيل في معنى إرادة الله عز اسمه، وإنما يفيد إيقاع الفعل الذي يذهب الرجس وهو العصمة في الدين أو التوفيق للطاعة التي يقرب العبد بها من رب العالمين، وليس يقتضي الإذهاب للرجس وجوده من قبل كما ظنه السائل، بل قد يذهب بما كان موجودا ويذهب بما لم يحصل له وجود للمنع منه، والإذهاب عبارة عن الصرف وقد يصرف عن الإنسان ما لم يعتره كما يصرف ما اعتراه، أ لا ترى أنه يقال في الدعاء: صرف الله عنك السوء فيقصد إلى المسألة منه تعالى عصمته من السوء دون أن يراد بذلك الخبر عن سوء به والمسألة في صرفه عنه.
و إذا كان الإذهاب والصرف بمعنى واحد فقد بطل ما توهمه السائل فيه وثبت أنه قد يذهب بالرجس عمن لم يعتره قط الرجس على معنى العصمة له منه والتوفيق لما يبعده من حصوله به، فكان تقدير الآية حينئذ إنما يذهب الله عنكم الرجس الذي قد اعترى سواكم بعصمتكم منه ويطهركم أهل البيت من تعلقه بكم على ما بيناه.
و أما القول بأن أشباحهم ع قديمة فهو منكر لا يطلق، والقديم في الحقيقة هو الله تعالى الواحد الذي لم يزل وكل ما سواه محدث مصنوع مبتدأ له أول، والقول بأنهم لم يزالوا طاهرين قديمي الأشباح قبل آدم كالأول في الخطأ، ولا يقال لبشر إنه لم يزل قديما"[26] إلى آخر كلامه رفع الله مقامه.
وما أبعد ما ذهب إليه قدس الله نفسه مع جودة الوجه الذي ذكره في نفسه؛ فإن الاستدلال بالآية بظاهرها لا بلازمها، وتبين لك أنها -بدلالتها على الاصطفاء والاختصاص- تقع في مقدمات الاستدلال على العصمة، والإرادة في قوله تعالى لها متعلق من نفس الآية المسوقة لإذهاب الشك وتطهير الذيل ولا موجب للخروج عنها، والرجس هو الإثم، والشك في طهارتهم رجس، وكونهم صلوات الله عليهم أوعية غير قابلة للتلوث بالآثام بدءا كما هم بقاء، فكما لا يصح أن يقال في حقهم أنه أذهب عنهم الرجس في الحال الأول فكذا في الثاني لعدم القابلية أصلا، فقطع الآية عن سياقها فتغير معناها، وقصرَ الكلام على تفسير الإرادة تأثرا بطريقتهم في مسائل الكلام، وكأنه رحمه الله غفل عن كونه ملزما بالآية ظاهرا أو تفسيرا.
وأما تفسير آية الحجاب وسبب نزولها المروي:
ففي التفسير المعروف بالقمي قولا بغير رواية: "وَ أَمَّا قَوْلُهُ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ)، فَإِنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ -وَ كَانَ يُحِبُّهَا- فَأَوْلَمَ وَدَعَا أَصْحَابَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُهُ إِذَا أَكَلُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ص، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْلُوَ مَعَ زَيْنَبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ)، وذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ بِلَا إِذْن"[27].
وفي مختصر تفسير القمي لابن العتايقي: "قوله: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبي إلّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ)، فإنّ الرجال كانوا يدخلون بيوت النبيّ وغير بيوت النبيّ بلا إذن، فلمّا هاجر رسول اللَّه ضرب الحجاب على النساء، فلم يأذن لأحد أن يدخل بيت أحد إلّا بإذن، وضرب الحجاب على النساء من الرجال في سورة النور، في قوله: (ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ)…الآية"[28].
وفي المجمع روى السبب مفصلا قريبا من السابق عن أنس وسعيد بن جبير عن ابن عباس.
ثم روى عن مجاهد قال: "وقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطعم معه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، وكانت معهم، فكره صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فنزلت آية الحجاب، عن مجاهد"[29].
وليس في المذكورات آنفا شيء يحتج به.
رواية ابن أم مكتوم
نعم اشتهر الاستدلال بالآية لاقترانها بحديث ابن أم مكتوم الأعمى، مؤذن النبي صلى الله عليه وآله، ومن نزلت فيه آية ذم العابس في وجهه، وكان يدخل على النبي صلى الله عليه وآله أوقات الصلوات، روى البرقي في الموثق عن الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الْوُضُوءِ بَعْدَ الطَّعَامِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَانَ يَأْكُلُ فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ص كَتِفٌ يَأْكُلُ مِنْهَا، فَوَضَعَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْهَا ثُمَّ قَامَ إلى الصَّلَاةِ ولَمْ يَتَوَضَّأْ، فَلَيْسَ فِيهِ طَهُور"[30].
وأما خبره فهو:
ما رواه الكليني في الكافي عن العدة عن أحمد بن أبي عبد الله مرسلا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "استأذن ابن أم مكتوم على النبي صلى الله عليه وآله وعنده عائشة وحفصة، فقال لهما: قوما فادخلا البيت، فقالتا: إنه أعمى، فقال: إن لم يركما فإنكما تريانه"[31].
لكنها – مع تفردها وإرسالها- لا تدفع احتمال اختصاصها بنساء النبي صلى الله عليه وآله، خاصة مع ظهور الآية في ذلك.
وفي جوامع الجامع عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: "كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد ان أمرنا بالحجاب، فقال: احتجبا فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أ فعمياوان أنتما، أ لستما تبصرانه؟".
وروى الطبرسي في كتاب مكارم الأخلاق عن أم سلمة قالت: "كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وآله أ ليس أعمى لا يبصرنا، فقال: أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه".
وحديث الجوامع بعينه هو الذي رواه أحمد في مسنده (6/296) بسنده فقال:
"حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ نَبْهَانَ حَدَّثَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَيْمُونَةُ فَأَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَنَا بِالْحِجَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَجِبَا مِنْهُ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ أعمى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا؟ قَالَ: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا، ألَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ".
ورواها بعض رواتهم كأبي بكر الشافعي في " الفوائد " كما رواه البرقي في عائشة وحفصة.
والاطمئنان حاصل بأن الثلاثة خبر واحد في واقعة واحدة، ولو كان مشتهرا بين الرواة مقطوعا به لما حدث هذا الاختلاف في ضبط أسماء نسائه من الرواة.
ولما كان الكليني رحمه الله متفردا بالخبر عن البرقي وفيه تساهل في الحديث فما بالك بمرسلاته، بل لم نقف على ناقل له من الإمامية في كتب الحديث عن إمامي بعده، فدخوله في ضعف الاعتبار مما لا ارتياب فيه.
أخبار أخرى
واستدل إضافة لتلك الأخبار بأخبار أخرى، منها:
ما رواه علي بن عيسى في (كشف الغمة) نقلا من كتاب (أخبار فاطمة عليه السَّلام) لابن بابويه عن علي (عليه السَّلام) قال: كنا عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فقال: أخبروني أي شيء خير للنساء؟ فعيينا بذلك كلنا حتى تفرقنا، فرجعت إلى فاطمة (عليها السَّلام) فأخبرتها بالذي قال لنا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وليس أحد منا علمه ولا عرفه، فقالت: ولكنّي أعرفه: خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال، فرجعت إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله سألتنا أي شيء خير للنساء؟ خير لهن أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال، فقال: من أخبرك، فلم تعلمه وأنت عندي؟ فقلت: فاطمة، فأعجب ذلك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وقال: إن فاطمة بضعة مني"[32].
أما كتاب الأربلي فهو كتاب ضعيف التأليف والرواية والاعتبار، لا يستدل بما رواه وتفرد به، ولم يكن غرض مؤلفه إلا جمع الفضائل بأي نحو ومن أي طريق.
وكتاب أخبار فاطمة عليها السلام قد يسمى مولد فاطمة عليها السلام كما في البحار.
وقولها عليها السلام: "خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال"، فإن الأخبار متفقة على نسبة هذا القول للزهراء عليها السلام، ومختلفة في سرد القصة، وفيه دلالة على أنه لو خيرت المرأة بين التحرز عن مقابلة الرجال والاختلاط بهم وأقله أن يقع نظرهم عليها أو بالعكس وبين التعرض لذلك، لاستحب لها التحرز دفعا للمضار في الدنيا والدين، لضعفها التكويني والنفسي وتعرض دينهن لهجمة إبليس اللعين ومن أطماع من في قلوبهم مرض من المتعدين، ونقضا لسيرة أهل الجاهلية من التداخل بين الرجال والنساء واستضعافهن حتى يسلبوهن كل خير وعفة.
وأما ذيل الخبر، ففي البحار رواية ابن بطريق في كتابه المستدرك ِبِإِسْنَادِهِ إلى كِتَابِ حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاء عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ: "مَا خَيْرُ النِّسَاء؟ قَالَتْ: (لَا يَرَيْنَ النِّسَاءَ) [كذا] وأَنْ لَا يَرَيْنَ الرِّجَالَ ولا يَرَوْنَهُنَّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ص فَقَال: إِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي"[33].
ونحوه روى القاضي في الدعائم عن علي عليه السلام أنه قال: "قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله: أي شيء خير للمرأة؟ فلم يجبه أحد منا، فذكرت ذلك لفاطمة عليها السلام فقالت: ما من شيء خير للمرأة من أن لا ترى رجلا ولا يراها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله فقال: صدقت، إنها بضعة مني"[34].
وفي الجعفريات -وذكرنا ضعف الاعتماد على نسخته المتداولة اليوم وأنه لم يعرف إلا زمن الراوندي عن شيخه الرؤياني الشافعي وأن الأشعثيات هو المعروف وقد زيد فيه ونقص وغير- أخبرنا عبد الله أخبرنا محمد حدثني موسى قال: حدثنا أبي عن أبيه عن جده جعفر بن محمد عن أبيه أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله دخل عليها علي عليه السلام وبه كآبة شديدة، فقالت: ما هذه الكآبة؟ فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله عن مسألة ولم يكن عندنا جواب لها، فقالت: وما المسألة؟ قال: سألنا عن المرأة ما هي؟ قلنا: عورة، قال: فمتى تكون أدنى من ربها؟ فلم ندر، فقالت: ارجع عليه فأعلمه أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها، فانطلق فأخبر النبي صلى الله عليه وآله ذلك، فقال: ماذا من تلقاء نفسك يا علي، فأخبره أن فاطمة أخبرته، فقال: صَدَقَت، إن فاطمة بضعة مني عليها السلام".
ورواه السيد فضل الله الراوندي في نوادره باسناده عنه صلى الله عليه وآله (مثله).
وفي هذا ما لا يوافق اعتقادنا في علي عليه السلام من كمال المعرفة التي قد تكون في فاطمة عليه السلام ولا تكون فيه صلوات الله عليه، وليس في الخبر ما يدل على أنها قضية في واقعة خاصة أراد الله أن يبين فضل فاطمة عند الناس فحجب العلم عن علي حتى صار كأصغر صبي بين الناس، وكذلك لم ترد هذه القصة بهذا النحو إلا في الكتب غير المعتمدة وبعض كتب العامة.
وعلى أي حال، فهو لا يمنعنا من التمسك بمؤدى قول فاطمة صلوات الله وسلامه عليها، لكنه مع هذا لا يفي لمدعي الحرمة دليلا؛ لأن الخير قد يجامع المستحب والواجب، بل لا يراد به هنا إلا الاستحباب؛ لعدم المانع من الأخبار -بعد الفحص- عن الرؤية مطلقا، مع عموم الابتلاء بهذا الأمر على مر العصور، والردع عن شيء يجب أن يتناسب وقوة المردوع عنه، فإذا لم يتناسبا كشف عن كونه حكما غير إلزامي، ولم نستدل بنفس الحكاية المساقة في الخبر لضعف اعتباره كما تقدم.
وفي الجعفريّات بإسناده عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليّ بن الحسين عن أبيه: "أنّ فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله استأذن عليها أعمى فحجبته، فقال لها النبيّ صلّى اللّه عليه وآله" لِمَ حجبته وهو لا يراك ؟، فقالت: يا رسول اللّه، إن لم يكن يراني فأنا أراه، وهو يشم الريح، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله: أشهد أنّك بضعة منى".
ومثله في الدعائم: عن جعفر بن محمّد عليهما السلام أ نّه قال: "استأذن أعمى على فاطمة عليها السلام فحجبته"[35] (وذكر نحوه).
وهو كسابقه، ضعيف الاعتبار مجمل؛ لأن الفعل أعم من الحكم وجوبا أو استحبابا، بل تعجب النبي صلى الله عليه وآله من فعل فاطمة عليها السلام أقوى شاهد على عدم لزومه.
رواية أبي سعيد:
ومنه ما رواه الشيخ بسنده عن مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ خُرَّزَادَ عَنِ الْحَسَينِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: "إذا مَاتَتِ الْمَرْأَةُ مَعَ قَوْمٍ لَيْسَ لَهَا فِيهِمْ مَحْرَمٌ يَصُبُّونَ الْمَاءَ عَلَيْهَا صَبّاً، وَرَجُلٌ مَاتَ مَعَ نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ لَهُ مَحْرَمٌ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصْبُبْنَ الْمَاءَ عَلَيْهِ صَبّاً، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع: بَلْ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَمْسَسْنَ مِنْهُ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَنْظُرْنَ إِلَيْهِ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ، فَإِذَا بَلَغْنَ الْمَوْضِعَ الَّذِي لَا يَحِلُّ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَلَا مَسُّهُ وَهُوَ حَيٌّ صَبَبْنَ الْمَاءَ عَلَيْهِ صَبّاً"[36].
السند:
محمد بن أحمد بن يحيى صاحب نوادر الحكمة المعروف عند القميين بدبة شبيب لكثرة فوائده، وقيل فيه: "إلا أنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل".
الحسن بن علي بن خرزاد أو خرذاد كما عن العلامة، ومعنى (خُرْ) بالفارسية القديمة (الكبير)، "كثير الحديث" مهمل عن النجاشي، أخباره قليلة، وهذا لا يجتمع إلا مع الضعف في الغالب، وقيل في وجه توثيقه أنه لم يستثنه ابن الوليد من رواة أخبار نوادر الحكمة، لكنه وجه ضعيف؛ إذ ليس متيقنا أن الرواية من كتاب نوادر الحكمة، بل استثناء ابن الوليد لأولئك أقصى ما يدل عليه عدم ثبوت وثاقتهم عند ابن الوليد، وهو وإن كان قرينة قوية على عدم الوثاقة، إلا أنها ليست مورثة لليقين كما ثبت بالتتبع في أحوال جمع منهم كسهل بن زياد أبو سعيد الآدمي وميزنا بين أخباره في المعارف والفضائل وأخباره في الفروع، وهذا من قبيل التعارض الحكمي لشهادة ابن الوليد، لا التعارض الحقيقي الذي يكون بين الشهادتين.
والأقوى تصحيف الحسين بن راشد عن "الحسن"، وقيل بتعدده، إلا أنه هنا الحسن بن راشد الطفاوي البصري بشهادة من يروي عنه، وضعفه ابن الغضائري والنجاشي، إلا أن الغضائري قال: "يروي عن الضعفاء ويروون عنه، وهو فاسد المذهب، ولا أعرف له شيئا أصلح فيه إلا روايته كتاب علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم وقد رواه عنه غيره"، مما يدل على استثناء روايته عن علي بن إسماعيل وشهادة ابن الغضائري بشهرة الكتاب وأخذ الرواة عنه، مع استبعاد تعمده الوضع فيه، وهذا كاف في الوثوق بأخباره عن علي بن إسماعيل.
وعلي بن إسماعيل، قال فيه النجاشي: "وكان من وجوه المتكلمين من أصحابنا كلم أبا الهذيل والنظام. له مجالس وكتب منها: كتاب الإمامة كتاب الطلاق كتاب النكاح كتاب مجالس هشام بن الحكم كتاب المتعة"[37]، وقال فيه الشيخ: "علي هذا أول من تكلم على مذهب الإمامية وصنف كتابا في الإمامة سماه الكامل وله كتاب الاستحقاق"[38]، وروى الكشي أنه كان ومحمد بن سليمان النوفلي في حبس هارون[39]، وتكلما في مناظرة هشام بما يظهر منه صحة اعتقاد علي بن إسماعيل واتباعه لهشام بن الحكم.
وأما أبو سعيد، فهو مردد بين عدة أشخاص:
فيحتمل أنه منصور بن يونس بُزُرج -أي الكبير معرب (بزرگ) بالفارسية- قال النجاشي: "أبو يحيى وقيل أبو سعيد كوفي ثقة روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام. له كتاب أخبرنا الحسين قال: حدثنا أحمد بن جعفر قال: حدثنا حميد قال: حدثنا ابن سماعة عن عبيس عن منصور بكتابه"[40]، لأن علي بن إسماعيل روى عنه، كما في خبر الاختصاص: " يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ عَمَّنْ رَوَاهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمِيثَمِيِّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِي ِّ قَالَ:كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ع فِي دَارِه"[41] الحديث.
أو عبيد الله بن الوليد الوصافي، قال النجاشي: "عربي ثقة يكنى أبا سعيد، روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، ذكره أصحاب كتب الرجال"[42].
فإن كان أبو سعيد أحد هذين فلا إشكال في اعتبار الرواية.
وأبو سعيد كنية كثير من الرجال، منهم حبيب بن المعلل الخثعمي؛ فإنه وإن لم تذكر كنيته، إلا أنه ممن روى عنه الحسن بن راشد عن علي بن إسماعيل أو هو أبو سعيد المكاري صاحب الكتاب.
والنتيجة أنه لم يتعين لنا صاحب هذه الكنية، فلو كان كتاب علي بن إسماعيل معتمدا وفي درجة اعتبار كتاب حريز وأمثاله لأمكن الركون إليه، إلا أنه لم يثبت ذلك.
والشيخ الحر رحمه الله نقلها عن نسخته عن علي بن إسماعيل عن أبي بصير، وقال في الهامش "في نسخة: أبي سعيد"، لكن لم تثبت رواية علي بن إسماعيل عن أبي بصير.
الدلالة:
قال الشيخ في الاستبصار بعد أن ذكره: "فما تضمن هذا الخبر من جواز غسل المرأة للرجل المواضع التي كان يحل لها النظر وهو حي محمول على الاستحباب والأصل ما قدمناه"[43].
وقال النراقي في المستند: "دلّت على حلّية النظر إلى بعض أعضائه، ولا أقلّ من الوجه والكفّين إجماعا".
ومع تسليم دلالتها على جواز نظرها في الجملة للرجل، لكنها شاذة في بابها، إضافة لاحتمال ورودها في موضع ضرورة، واحتمال عدم الإرادة الجدية للتقية وارد أيضا.
أما شذوذها فإن الأخبار في عدم جواز مس بدن الميت غير المحرم للمرأة معارضة لها، ومنها عن سعد بن عبد الله، عن ابى الجوزاء المنبه بن عبد الله، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن على، عن آبائه، عن على عليه السلام قال: "إذا مات الرجل فى السفر مع النساء ليس فيهنّ امرأته ولا ذو محرم من نسائه، قال: يؤزّرنه إلى الرّكبتين ويصببن عليه الماء صبّاً، ولا ينظرن إلى عورته ولا يلمسنه بأيديهنّ، ويطهّرنه"[44].
وقال الشيخ في التهذيب: "فَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ سِرْحَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع فِي الرَّجُلِ يَمُوتُ فِي السَّفَرِ أو فِي الْأَرْضِ لَيْسَ مَعَهُ فِيهَا إِلَّا النِّسَاءُ، قَالَ: يُدْفَنُ وَلَا يُغَسَّلُ.
فَالْمُرَادُ بِهِ إِذَا كَانَ عُرْيَاناً يُدْفَنُ وَلَا يُغَسَّلُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ شَيء مِنَ الثِّيَابِ فَلَا بُدَّ مِنْ غُسْلِهِ، يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةِ شَيء مِنْ أَعْضَائِهِ حَسَبَ مَا ذَكَرْنَاه"[45].
والمتحصل، أن هذا الخبر لا يمكن التمسك به لضعفه وشذوذه وإجماله.
هذه جملة ما يمكن الاستدلال به من الروايات.
السيرة المستمرة الممضاة:
وأما دعوى أن السيرة كانت واستمرت على المنع من نظر المرأة للرجل مطلقا أو بضم ما استثني في المرأة كالرجل تسوية؛ فالقول بتشديدها في نساء النبي صلى الله عليه وآله غير بعيد، وأما استمرارها في غيرهن فالقطع بثبوتها أو الركون إليها في الاستدلال في غاية الإشكال ونسبتها لإمضاء الشارع غير معلوم.
ويمكن التفصيل في السيرة؛ فما يكون ذا الغرض في المعاشرات المعتادة والمخالطات التي عليها قوام الحياة وطريقة الناس، فتنظر المرأة لما يكشفه الرجل عادة وهو المعبر عنه في بعض الكلمات بالذي عند المهنة والاشتغال المعتاد، وأدناه كشف الذراع والرقبة وشيء من الساق، فهذا ليس في الظن أحد ينكر قيام السيرة القطعية عليه وإمضاء الشارع له، وإلا لتكثرت الأخبار في النهي عنه مع أن الابتلاء فيه دائمي.
وأما الأعمال أو الحالات التي يضطر فيها الرجل لكشف أكثر ما يكشف في العادة حتى أن في بعضها ما تستر فيه العورة فقط كالبحارة والغائص، فلم يدع أحد انعقاد السيرة عليه فضلا عن استظهاره من الأخبار.
نعم، الكلام كله في حكم نظرها للرجل مع وجود مسوغ للنظر ولو كان عاديا، وأما بدونه، فهي والرجل في الحرمة سواء؛ لأن ما في الرجل من علة فيها؛ كيف وهي منشأ اعتلاله!، والخوف من افتتانها أعظم من افتتانه، والأمر بتحصينها ومنعها عن الرجال آكد فيها منه، فما لا يكون بغرض صحيح وإنما هو لمجرد النظر، فلا نعلم شيئا يكون كذلك إلا كان فيه ريبة وتلذذ عادة، فدعوى انعقاد السيرة على كشفه على مدعيها.
ويثبت بهذا أن العورة -بالمعنى الثاني الذي ذكرناه عند البحث عن معنى العورة، وهي الأعم من السوءة للرجل والمرأة والتي وقع البحث عنها هنا- التي لا يجوز للمرأة خاصة النظر إليها هي ما سترته ثياب الرجل بحسب ما جرت العادة في الستر بين بني البشر.
وبعد القول بالملازمة بين النظر والستر، وجب كذلك على الرجل التستر أمام المرأة من إبداء ما لم تجر العادة على إبدائه، ولهذا يقال لمن ستر أقل مما جرت عليه العادة من جسده وطاف بالبيت أنه طاف عاريا؛ والدليل في المسألة هو الأصل والسيرة الجارية على التحفظ من التكشف للرجل أمام الناس، نعم هو في المرأة آكد بالنصوص الصريحة.
الستر في الحج
نعم، أقرب الموارد التي يمكن تعدية حكمها لمسألة نظر المرأة للرجل -بل فيما يجب ستره على المرأة أيضا عند النظر في أخبار الحج والكفن والصلاة- ويرتفع بها الإجمال في مقولة (ما تعارف ستره)، هي مسألة لبس الإزار عند التكفين والحج وتغطية المنكبين في الأخير في مسألة ثوبي الإحرام؛ فإنه لم يرد تخصيص لأدلة النظر بالنسبة لحال الحج، فيثبت أن ما حرم في الحج كشفه حرم في غيره، وما لم يجز في الحج النظر إليه لم يجز في غيره، وهذا من التطبيقات لا القياسات.
كلام الشيخ يوسف في مسألة التوشح والتردي:
ويناسب أن ننقل كلام عمنا المحدث البحراني أعلى الله مقامه في كتاب الحج في مسألة كيفية لبس ثوبي الإحرام وتقويته للتردي قبال التوشح، قال رحمه الله:
"ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على أنه يتزر بأحد الثوبين، وأما الآخر فهل يتردى به أو يتخير بين أن يتردى به أو يتوشح؟ قولان، وبالأول صرح العلامة في المنتهى والتذكرة، وبالثاني الشهيدان في الدروس والمسالك والروضة، وقبلهما الشيخان في المقنعة والمبسوط.
و التوشح تغطية أحد المنكبين، والارتداء تغطيتهما معا، وبه صرح في المسالك والروضة.
و ذكر ابن حمزة في الوسيلة أنه لا بد في الإزار من كونه ساترا لما بين السرة والركبة، وبذلك صرح في المسالك أيضا.
والذي صرح به أهل اللغة في معنى التوشح هو أنه عبارة عن إدخال الثوب تحت اليد اليمنى وإلقاء طرفيه على المنكب الأيسر، قال في المغرب: توشح الرجل، وهو أن يدخل ثوبه تحت يده اليمنى ويلقيه على منكبه الأيسر، كما يفعل المحرم، وكذلك الرجل يتوشح بحمائل سيفه، فتقع الحمائل على عاتقه اليسرى فتكون اليمنى مكشوفة.
وقال في كتاب المصباح المنير: وتوشح بثوبه، وهو أن يدخله تحت إبطه الأيمن ويلقيه على منكبه الأيسر، كما يفعله المحرم.
والذي وقفت عليه من الأخبار في المقام:
صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة في كيفية التلبيات الأربع، وفيها: (و التجرد في إزار ورداء، أو إزار وعمامة يضعها على عاتقه لمن لم يكن له رداء).
و في رواية محمد بن مسلم: (يلبس المحرم القباء إذا لم يكن له رداء).
و في صحيحة معاوية بن عمار: (ولا سراويل إلا أن يكون له إزار).
و المستفاد من هذه الأخبار أن الثوبين أحدهما إزار والآخر رداء، ومن الظاهر أن الذي جرت به العادة في لبسهما هو شد الإزار من السرة ووضع الرداء على المنكبين، والظاهر انه في حال الإحرام كذلك أيضا.
فالقول بالتوشح بالرداء -كما ذكروه- لا أعرف له وجها، ومجرد ذكر أهل اللغة -في بيان التوشح أنه كما يفعل المحرم- لا يصلح دليلا، إذ لعله مخصوص بمذهب المخالفين المصرحين بذلك.
وقال في المدارك: ويعتبر في الإزار ستر ما بين السرة والركبة، وفي الرداء كونه من ما يستر المنكبين، ويمكن الرجوع فيه إلى العرف، ولا يعتبر في وضعه كيفية مخصوصة.
وظاهره جواز الاتشاح كما تقدم، وبالجملة فالواجب حمل إطلاق الأخبار المذكورة على ما جرت به العادة من لبس الثوبين المذكورين، وبه يظهر قوة القول الأول"[46].
وما ذهب إليه رحمه الله في غاية السداد، لكنه لو حمل الأمر بالثوبين على ما يظهر من الأخبار من كونها في معنى لبس الساتر المتعارف في قبال العري أمام الناس خاصة النساء لارتاح من البحث في الكيفية، وهو السر في ترك تفصيله في الأخبار، ومنها أيضا يظهر أن من قَصُر رداؤه عما بين السرة والركبة أو كشف صدره أو كتفه ولم يرتد برداء، عُدَّ عاريا مأثوما وإن لم يكن شرطا في صحة إحرامه كما هو المشهور؛ لانعقاده بالتلبيات، إلا أن يكون كاشفا لها أمام المماثلين في غير أداء نسك فعورته سوأتاه، وأما في النسك فظاهر الأخبار وجوب التستر أمام الناظرين مطلقا عند التمكن.
ونزيد على ما ذكره المحدث رحمه الله ما ينفع في المقام ويؤيد قولنا الآنف:
بما رواه الطبرسي في الاحتجاج في السؤال عن المئزر وهيئته وما يجب ستره: "إن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري كتب إلى صاحب الزمان (عليه السلام) يسأله: هل يجوز أن يشد عليه مكان العقد تكة؟ فأجاب (عليه السلام): لا يجوز شد المئزر بشيء سواه من تكة أو غيرها، وكتب أيضا يسأله: هل يجوز أن يشد المئزر على عنقه بالطول أو يرفع من طرفيه إلى حقويه ويجمعهما في خاصرته ويعقدهما ويخرج الطرفين الآخرين بين رجليه ويرفعهما إلى خاصرته وشد طرفه إلى وركيه، فيكون مثل السراويل يستر ما هناك؛ فإن المئزر الأول كنا نتزر به إذا ركب الرجل جَملَه انكشف ما هناك وهذا أستر، فأجاب (عليه السلام): جائز أن يتزر الإنسان كيف شاء إذا لم يحدث في المئزر حدثا بمقراض ولا إبرة يخرجه عن حد المئزر، وغرزه غرزا ولم يعقده ولم يشد بعضه ببعض، وإذا غطى السرة والركبة كليهما، فإن السُّنة المجمع عليها بغير خلاف تغطية السرة والركبة، والأحب إلينا والأكمل لكل أحد شده على السبيل المعروفة المألوفة للناس جميعا إن شاء الله تعالى ).
وجاء ذكر الطيلسان في بعض الأخبار بما يؤنس به لمعرفة حال الرداء أيضا، كصحيحة صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الْمُحْرِمِ يَلْبَسُ الطَّيْلَسَانَ الْمَزْرُورَ، فَقَالَ: نَعَمْ، وفِي كِتَابِ عَلِيٍّ ع: لَا يُلْبَسُ طَيْلَسَانٌ حَتَّى يُنْزَعَ أَزْرَارُهُ، فَحَدَّثَنِي أَبِي إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَزُرَّهُ الْجَاهِلُ عَلَيْهِ"[47].
وفي المجمع: "(الطَّيْلَسَان) مثلّثة اللام واحد الطَّيَالِسَة، وهو ثوب يُحِيط بالبدن يُنْسَج للُّبْس خالٍ عن التفصيل والخِياطة، وهو من لباس العَجَم، والهاء في الجمع للعجمة لأنه فارسيّ معرّب تَالِشَان".
قال المطرزي: "الطيلسان: تعريب تالشان، وجمعه: طيالسة، وهو من لباس العجم مدوّر أسود". وقال المجلسي: "و الطيلسان، بتثليث اللام: ثوب من قطن".
وفي المرآة وقال العلّامة المجلسي: "قال صاحب كتاب مطالع الأنوار: الطيلسان: شبه الأردية يوضع على الرأس والكتفين والظهر"، أي كما يلبسه اليهود.
وهو المسمى الآن عندهم (شال) لكنه كبير واسع، وهو ما يغطي المنكبين وأكثر الظهر والبطن، كالرداء تماما الذي يلبس الآن بين حجيجنا.
ويستحب للمماثل أيضا أن يستر ما بين سرته وركبته، ويدل عليه خبر بشير النبال قال: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الحمام فقال: تريد الحمام؟ قلت: نعم، فأمر بإسخان الماء ثم دخل فاتزر فغطى ركبتيه وسرّته، ثم أمر صاحب الحمام فطلى ما كان خارجاً عن الإزار، ثم قال: اخرج عني ثم طلى هو ما تحته بيده، ثم قال: هكذا فافعل".
وحديث الأربعمائة المروي في الخصال عن علي (عليه السلام) "إذا تعرى أحدكم (الرجل) نظر إليه الشيطان فطمع فيه، فاستتروا ليس للرجل أن يكشف ثيابه عن فخذيه ويجلس بين قوم"، المحمول النهي فيه على الكراهة والتنزه، ولإشعار التعليل بما يناسب الكراهة، ولضعفها ومعارضتها للأخبار المعرفة للعورة، كمرسلة الصدوق عن الصادق (عليه السلام) "الفخذ ليس من العورة"، ومرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: "العورة عورتان: القبل والدبر، والدبر مستور بالأليتين فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة"، ومرسلة الكليني: "أما الدبر فقد سترته الأليتان، وأما القبل فاستره بيدك".
الحاصل:
والمتحصل: أم الأقوى جواز نظر المرأة للرجل للمواضع التي يكشفها عادة في المخالطات والاشتغالات المتعارفة إذا كان لها سبب سائغ ولو عرفا، وحدوده كحدود الإحرام والكفن التي يحيط بها الثوبان، من أعلى الكتف إلى الركبة، وكما لا يجوز لها النظر لا يجوز له التكشف للمفهوم من التلازم بينهما، ويحرم عليها النظر لغير تلك المواضع في غير ضرورة ولو عرفية حتى ما يكشف الرجال في حال اشتغالهم ببعض الأشغال كالبحار أو الألعاب كالسباحة؛ لصدق التعري وكشف العورة على المقدار الزائد على المعتاد أمام النساء، ولعدم العلم بشمول السيرة الممضاة بغير تقية على جواز كشفها أمام المرأة أو نظرها لتلك المواضع، وفي المسألة مجال لتجديد النظر.
ويستحب ستر ما بين السرة والركبة أمام المماثل، ويكره كراهة مغلظة كشفها عدا العورة فإنه يحرم.
تم الكراس الرابع من بحث النكاح
والحمد لله رب العالمين
محمد علي حسين العريبي
1436 هـ – 2015 م
.............................................
[1] - أجوبة المسائل المهنائية: 41
[2] - مرآة العقول 20: 272
[3] - كشف اللثام 7: 26-27
[4] - الحدائق 23: 65
[5] - وسيلة النجاة 3: 147/ م19
[6] - النور: 24-25
[7] - الكافي 2: 35/ ح1 ب فِي أَنَّ الْإِيمَانَ مَبْثُوثٌ لِجَوَارِحِ الْبَدَنِ كُلِّهَا
[8] - الدعائم 1: 4
[9] - فهرست النجاشي: 339/ ر909
[10] - فهرست النجاشي: 220/ ر 575
[11] - تفسير القمي 2: 101
[12] - أي حفظ الفرج من الزنا، وهنا حفظ الفرج من النظر إليه
[13] - الفقيه 1: 114/ ح235
[14] - الفقيه 2: 626/ 3215
[15] - فقه الرضا: 87/ ب3 الغسل من الجنابة
[16] - الدعائم 2/ 513، فصل 2 ذكر من يجوز شهادته
[17] - الكافي 3: 157/ ح8 ب الحمام
[18] - لسان العرب 4: 617
[19] - الكافي 11: 197/ ح5 ب ما يحل النظر إليه من المرأة
[20] - الأحزاب: 53
[21] - الكافي 2: 26/ ب65 الإشارة والنص على أمير المؤمنين ع
[22] - إكمال الدين: 95
[23] - تفسير العياشي 1: 17
[24] - تفسير العياشي 1: 11، تفسير الناسخ والمنسوخ
[25] - علل الشرائع 1: 205/ ب156 العلة التي من أجلها صارت الإمامة في ولد الحسين دون الحسن عليهما السلام
[26] - المسائل العكبرية 26-27، المسألة الأولى
[27] - تفسير القمي 2: 195
[28] - مختصر تفسير القمي: 417
[29] - مجمع البيان 8: 174
[30] - المحاسن 2: 427/ ح235
[31] - الكافي 5: 534/ ب في نحو ذلك
[32] - كشف الغمة 1: 466/ منزلتها عند النبي ص
[33] البحار 37: 69/ ب50 مناقب أصحاب الكساء
[34] - الدعائم 2: 215
[35] - الدعائم 2: 214
[36] - التهذيب 1: 342/ ح169 ب تلقين المحتضرين …
[37] - فهرست النجاشي: 251/ ر 661
[38] - فهرست الشيخ: 263/ ر374
[39] - الكشي: 262/ ر477
[40] - النجاشي: 412/ ر1100
[41] - الاختصاص: 292
[42] - النجاشي: 231/ ر613
[43] - الاستبصار 1: 205/ ح721 ب الرجل يموت في السفر وليس معه رجل
[44] - التهذيب 1: 342/ ح 1000 ب تقلين المحتضرين وتوجيههم
[45] - التهذيب 1: 343/ ح1003 ب تلقين المحتضرين وتوجيههم
[46] - الحدائق 15: 97-80
[47] - الكافي 4: 340/ ح7 ب ما يلبس المحرم من الثياب