مقدمة
كانت ولادة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام) في منطقة الأبواء بين مكة والمدينة عام ١٢٨هـ[1]، فعن أبي بصير قال: "كنت مع أبي عبد الله (عليه السَّلام) في السنة التي ولد فيها ابنه موسى (عليه السَّلام)، فلما نزلنا الأبواء وضع لنا أبو عبد الله (عليه السَّلام) الغداء ولأصحابه وأكثره وأطابه، فبينا نحن نتغدى إذ أتاه رسول حميدة[2] أن الطلق قد ضربني، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا، فقام أبو عبد الله (عليه السَّلام) فرحا مسرورا فلم يلبث أن عاد إلينا حاسرا عن ذراعيه ضاحكا سنه، فقلنا: أضحك الله سنك وأقر عينك، ما صنعت حميدة؟ فقال: وهب الله لي غلاما وهو خير من برأ الله، ولقد خبرتني عنه بأمر كنت أعلم به منها، قلت: جعلت فداك وما خبرتك عنه حميدة؟ قال: ذكرت أنه لما وقع من بطنها وقع واضعا يديه على الأرض رافعا رأسه إلى السماء، فأخبرتها أن تلك أمارة رسول الله (ص) وأمارة الإمام من بعده"[3]، أي أنه لم يولد واضعا يديه على الأرض رافعا رأسه للسماء إلا رسول الله (ص) وأوصياؤه بعده، فذلك من علاماتهم الخاصة.
وهكذا نشأ الإمام الكاظم (عليه السَّلام) في كنف أبيه ملازما له، حتى إذا استشهد الصادق (عليه السَّلام) في سنة ١٤٨هـ[4] بسموم المنصور العباسي تسلم الكاظم (عليه السَّلام) زمام الإمامة الفعلية وكان له من العمر عشرون عاما، فراح يشتغل بالدعوة إلى الله تعالى على خطى أجداده الطاهرين (عليه السَّلام)، فذاع صيته وعرفه المؤالف والمخالف بكل صفة حميدة، فقد قال في حقه كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي: "هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكبير المجتهد، الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهود له بالكرامات، يبيت الليل ساجدا وقائما، ويقطع النهار متصدقا وصائما، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دعي كاظما، كان يجازي المسيء بإحسانه إليه ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يسمى بالعبد الصالح، ويعرف في العراق بباب الحوائج إلى الله لنجح مطالب المتوسلين إلى الله تعالى به، كرامته تحار منها العقول، وتقضي بأن له عند الله تعالى قدم صدق لا تزل ولا تزول"[5]، وقال ابن الأثير: "وكان يلقب بالكاظم لأنه كان يحسن إلى من يسيء إليه، وكان هذا عادته أبدا"[6].
النقطة الأولى: جلالة قدر السيدة حميدة المصفاة
كانت السيدة حميدة قبل وفودها على الإمام الباقر (عليه السَّلام) وتزويجها لولده الصادق (عليه السَّلام) من أهل بلاد البربر، وهي بلاد المغرب[7]، وقيل أيضا أنها أندلسية[8]، وقد بينت كتب السيرة إضافة لبعض روايات المعصومين (عليه السَّلام) أنها كانت على قدر كبير من الطهارة والتقوى والعلم، فقد جاء أنها لما أدخلت على الباقر (عليه السَّلام) قال لها: ما اسمك؟ قالت: حميدة، فقال: حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة[9]، وكان الصادق (عليه السَّلام) يقول: حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إلي كرامة من الله لي والحجة من بعدي[10]، ويظهر من بعض الروايات أن الصادق (عليه السَّلام) كان يرجع لها النساء ليتعلمن منها الفقه[11].
النقطة الثانية: كظم الغيظ إحدى معالي صفات الإمام (عليه السَّلام)
أولى القرآن الكريم اهتماما كبيرا بصناعة البعد الأخلاقي في شخصية الإنسان المسلم، فوجه إليه خطابات عدة في هذا الصدد، منها قوله تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[12]، وقوله: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور)[13]، وقوله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَان)[14].
ومن آيات الأخلاق التي تجسدت في شخصية الإمام الكاظم (عليه السَّلام) قوله تعالى: (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين)[15]، وقد ذهب الطبري في تفسيره إلى أن معنى "وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ" هو: (الجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم)، فهم متمكنون ممن غاظهم غير أنهم لا يبتدرون له بشيء، وقد كانت هذه الصفة حاضرة في العديد من مواقف الإمام (عليه السَّلام) مع أعدائه ومناوئيه، فقد جاء في كتاب "الإرشاد" للشيخ المفيد أن رجلا في المدينة كان كلما رأى الإمام (عليه السَّلام) يؤذيه ويسبه ويشتم أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، فقال له يوما بعض أصحابه: دعنا نقتل هذا الفاجر، إلا أنه نهاهم عن ذلك، ثم سأل عنه فقيل أنه في مزرعته، فذهب له الإمام (عليه السَّلام) على حمار له، فلما وصل صاح به الرجل: لا تطأ زرعنا، فتوجه إليه الإمام (عليه السَّلام) وجلس عنده يلاطفه، ثم قال له: كم غرمت في زرعك هذا؟ فقال: مائة دينار، قال: وكم ترجو أن تصيب فيه؟ قال: لست أعلم الغيب، قال: إنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه، قال: أرجو فيه مائتي دينار، فأخرج الإمام (عليه السَّلام) صرة فيها ثلاث مائة دينار وأعطاها إياه وقال: هذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو، وإذا بالرجل يقبل رأس الإمام (عليه السَّلام) ويسأله أن يصفح عنه.
إن هذه الرواية تبين من جهة لأي حد كان الإمام (عليه السَّلام) يكظم غيظه، وتبين من جهة ثانية كيف أن هذا النمط من ردود الفعل قادر على تحويل الأعداء إلى أصدقاء، وإلى هذا تشير الآية المباركة: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم)[16].
النقطة الثالثة: يا أسد الله خذ عدو الله
حينما نقرأ سير أنبياء الله والأئمة الطاهرين نجد أنهم برغم ما عانوه في سبيل الدعوة إلا أنهم كانوا يأبون إلا أن تجري الأمور على وفق مقاديرها الطبيعية، فكانوا لا يلجؤون عادة إلى طريق المعجز، غير أن عناد أهل الضلال وتجبرهم لا يقهره في بعض الأحيان إلا هذا الطريق، ومن تلك الأحيان ما جاء في كتاب (مناقب آل أبي طالب) لابن شهر آشوب عن علي بن يقطين أن هارون قد استدعى الإمام (عليه السَّلام) ذات يوم إلى مجلسه، وكان قد أحضر إلى المجلس مُعزِّما طلب منه أن يصنع ما يُخْجِلُ الإمامَ (عليه السَّلام) أمام الجالسين، فلما أحضرت المائدة مد خادم الإمام (عليه السَّلام) يده نحو خبز كان عليها، فأطار ذلك المُعزِّمُ الخبز من بين يديه، وهكذا كلما أراد الخادم التقاطه طار عن يده، فأخذ هارون بالضحك، فلم يلبث الإمام (عليه السَّلام) أن رفع رأسه إلى أسد مصوَّر على بعض الستور فقال له: يا أسد الله خذ عدو الله، فوثب ذلك الأسد كأعظم ما يكون وافترس المُعزِّم، فخر هارون وندماؤه على وجوههم مغشيا عليهم وطارت عقولهم خوفا من هول ما رأوه، فلما أفاقوا من ذلك بعد حين قال هارون للإمام (عليه السَّلام): أسألك بحقي عليك لما سألت الصورة أن ترد الرجل، فقال (عليه السَّلام): إن كانت عصا موسى ردت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيهم فإن هذه الصورة ترد ما ابتلعته من هذا الرجل.
صادق القطان
١٥ فبراير ٢٠٢٣م
..........................................
[1] - (الأنوار البهية) للشيخ عباس القمي
[2] - أي: حميدة المصفاة، والدة الإمام الكاظم (عليه السَّلام)
[3] - (بصائر الدرجات) لمحمد بن الحسن الصفار
[4] - (الأنوار البهية) للشيخ عباس القمي
[5] - (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول) لمحمد بن طلحة الشافعي
[6] - (الكامل في التاريخ) لابن الأثير
[7] - (أمهات المعصومين) للسيد محمد الشيرازي
[8] - المصدر السابق
[9] - (الكافي) للشيخ الكليني
[10] - المصدر السابق
[11] - تدل على ذلك رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق (عليه السَّلام)، وقد أوردها الحر العاملي في كتاب الحج من (وسائل الشيعة)
[12] - سورة لقمان - الآية ١٨
[13] - سورة الشورى - الآية ٤٣
[14] - سورة المائدة - الآية ٢
[15] - سورة آل عمران - الآية ١٣٤
[16] - سورة قصلت - الآية ٣٤