تمثل نصوص الزيارات الشريفة مصدرا رئيسيا للعقائد والمعارف والمفاهيم الدينية في مدرسة أهل البيت (عليهم السَّلام)، وتكمن أهمية هذه الزيارات في أنها كلامٌ من المعصوم للمعصوم، فهي ليست من نمط نصوص السيرة التي جاءت عن المؤرخين والرواة، وذلك لأن المؤرخين والرواة عرضة للاشتباه والغفلة والسهو في ما ينقلونه عن حياة المعصوم ومجرياتها، وأما حينما يتحدث معصوم لمثله فلا مجال للاشتباه والغفلة، ولا مجال كذلك للمبالغة لأن المعصوم لا يبالغ في كلامه، وعلى هذا فالمضامين الواردة في نصوص الزيارات هي مضامين واقعية تُفصح عن كمالات حقيقية للإمام المَزُوْرِ منهم (عليهم السَّلام)، من هنا جاءت عناية علماء الشيعة بمختلف طبقاتهم بنصوص الزيارات شرحا وتحقيقا وتدريسا، بل إن جملة منهم قد عمل بالاستناد إلى هذه النصوص الشريفة على تنقيح بعض القواعد الفقهية السيالة لأكثر من باب فقهي أو الخاصة بباب الشعائر الحسينية المقدسة.
وحينما ننفتح على الزيارات الواردة للإمام الحسين (عليه السَّلام) وهي زيارات عديدة بعضها عام لكل الأوقات وبعضها خاص لوقت معين، فإننا نجد فيها كما وافرا من المفاهيم والمعارف التي طرحها الأئمة الطاهرون (عليهم السَّلام) وهم يخاطبون جدهم الحسين (عليه السَّلام) في الزيارة، وهذه المفاهيم منها ما يرتبط بكمالاته وفضائله الشخصية، ومنها ما يرتبط بأنصاره وأهل بيته، ومنها ما يتحدث عن أعدائه وقتلته وما هو بانتظارهم من مصير أخروي، ومن أهم ما جاء في زيارات الحسين (عليه السَّلام) من مضامين عقائدية أن دين الله تعالى إنما بقيت معالمه بفضل جهاد الحسين (عليه السَّلام) وجهوده، فقد ورد هذا المضمون مستفيضا في العديد من زياراته (عليه السَّلام) والصلوات عليه، منها:
١- زيارة النصف من رجب، حيث جاء فيها: (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أقَمْتَ الصَّلاة)[1]، فقد ذهب عدد من العلماء إلى أن هذا المقطع الذي تكرر نصا في عدة زيارات يدل على أن الحسين (عليه السَّلام) من خلال تضحيته الكبيرة في سبيل الله أقام فرض الصلاة بعدما كاد أن يمحى، فليس المراد من إقامة الصلاة هو أداء الصلوات المفروضة والمندوبة، بل المراد -بقرينة كون الزيارة بصدد امتداح عمل عظيم صدر من الإمام في سبيل الله- هو الحفاظ على أصل وجود الصلاة من أن يُضيع في الأمة بعد أن ولي أمورها من عمل على إشاعة الفساد وإضاعة ومحو ما فرضه الله على العباد.
٢- زيارة ليلتي عيدي الفطر والأضحى، حيث جاء فيها: (وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيْكَ حَتَّى اسْتَنْقَذَ عِبَاْدَكَ مِنْ الْجَهَاْلَةِ وَحَيْرَةِ الْضَّلَاْلَة)[2]، والمهجة هي دم القلب، ولا بقاء للنفس بعدما تراق مهجتها[3]، فهو (عليه السَّلام) من أجل أن ينقذ عباد الله من الجهالة والضلالة التي خطط لها الأمويون بذل في الله دم قلبه الشريف.
٣- أورد السيد ابن طاووس في كتابه (مصباح الزائر) صلاة على الحسين (عليه السَّلام) جعلها المحدث الشيخ عباس القمي في ضمن آداب الزيارة، وقد جاء فيها: (وَقامَ بَينَ يَدَيكَ يَهدِمُ الجَورَ بِالصَّوابِ وَيُحيِيَ السُّنَّةَ بِالكِتاب).
فتضحيات الحسين (عليه السَّلام) إذاً هي التي حفظت معالم الدين من أن تمحى، وقد جاء عن الأئمة الطاهرين (عليه السَّلام) في غير نصوص الزيارات أيضا ما يؤكد ذلك، فعن عبد الله بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) قال: لما قدم علي بن الحسين (عليه السَّلام) وقد قتل الحسين بن علي (عليه السَّلام) استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله، وقال: يا علي بن الحسين، من غلب؟ وهو مغطى رأسه وهو في المحمل، قال: فقال له علي بن الحسين: إذا أردت أن تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة فأذن ثم أقم[4].
ويكفي لتصور طبيعة الخطر الذي أحدق بدين الله آنذاك وكيف أن الأمة اليوم مدينة للحسين (عليه السَّلام) بالبقاء على الإسلام التعرف على سيرة يزيد بن معاوية ومدى فسقه، ففي كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفاني: (كان يزيد بن معاوية أوَّل من سنَّ الملاهي في الإسلام من الخلفاء، وآوى المغنِّين، وأظهر الفتك، وشرب الخمر، وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه والأخطل الشاعر النصراني)، وفي كتاب (مروج الذهب) للمسعودي: (كان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب)، وفي كتاب (الكامل في التاريخ) لابن الأثير: (حج يزيد في حياة أبيه، فلما بلغ المدينة جلس على شراب)، وفي كتاب (تذكرة الخواص) لسبط بن الجوزي أن من الأبيات الشعرية التي أنشدها يزيد قوله:
أشغلتني نغمة العيدان عن صوت الأذانِ
وتعوضت عن الحور خمورا في الدنانِ
صادق القطان
٢٣ فبراير ٢٠٢٣م
................................................
[1] - (بحار الأنوار) للعلامة المجلسي نقلا عن (المزار) للشيخ المفيد.
[2] - المصدر السابق.
[3] - (لسان العرب) لابن منظور.
[4] - (الأمالي) للشيخ الطوسي.