إن الحديث عن الأخلاق العسكرية – أو أدب الحرب- لهو من الأحاديث الغريبة؛ إذ إن القتال في حد ذاته قيمة سلبية لا تليق بالإنسانية ولا تتوافق مع العقل والحكمة، إلا أن الإنسان بما هو مزيج من النوازع المختلطة بين الخير والشر وبما فيه من القوة الغضبية السبعية – كما يسميها علماء الأخلاق – فإنه يقدم عليها، أو يُضطر إليها لدفع خصم تهيج به هذه القوة.
وعلى الرغم من إقدام الإنسان على القتال إلا أنه يظل يتذكر إنسانيته وعقله وهو في خضمّ هذا الصراع؛ فيظل متمسكًا بأهداب الأخلاق والعقل والحكمة – إن كان في الصراع عقل وحكمة-.
فالحرب مثلُ كلِّ الأشياء التي يمارسها الإنسان لها أدب وأخلاق؛ بعضها بدافع الفروسية والنبل كما هو في أخلاق الفرسان عند العرب وغيرهم، أو بقية مروءة وشهامة، أو هو قوانين للحماية تضبط صراع الإنسان، أو قد تكون أدبا دينيا وشرائع سماوية، ولعل الفلسفة العامة في آداب الحروب تتمثل في الكف عن الضعفاء ومعاملة القتال معاملة الجيفة لا يُتناول منها إلا ما يحتاج إليه في الحد الأدنى للبقاء، والترفع عن الصغائر من الأمور وحفظ الحرمات التي لا يحتاج إلى انتهاكها أو يستطيع ألا ينتهكها في الحرب.
وقد عرفت البشرية نماذج كثيرة من الالتزام بهذه الآداب أهمها بالنسبة إلينا ما ورد عن النبي (ص) وآل بيته من النهي عن ملاحقة الهارب وقتل الأسير والإجهاز على الجريح وقتل النساء والأطفال وضربهم، ومن النهي عن الفساد في الأرض بتخريب البيوت أو قلع الأشجار أو تلويث المياه أو قطع الطريق.
إلا أن ما هو أهم من النصوص المرشدة إلى هذه الأخلاق هو نماذج الالتزام بها؛ ذلك أن الإرشادات المماثلة قد تكون موجودة في معظم الأديان والمبادئ؛ ولكن الالتزام بالمبدأ في حالات القتال ـ التي هي حالات عصيبة وأوضاع قاهرة ـ يعد من أصعب الأمور، ويمثل الالتزام بها تجسيدا نادرا وصبرا عزيزا على الالتزام بالمبدأ.
والحسين (ع) يقدم لنا في هذا المجال درسا عظيما وفريدا من نوعه؛ ذلك لأن معظم ما ورد من القيم في النصوص وما ورد من التطبيقات لها إنما كان يروى عن معارك كان الحق فيها غالبا، والإسلام قاهرا لخصمه، وأما في حال الحسين فإن الوضع مختلف تماما، فالحسين (ع) كان محاطا بأعدائه في يوم يصفه الأئمة (ع) بأنه يوم قَلَّ ناصره وكثُر واترُه، ولسان حاله كما حكى القرآن على لسان نوح (ع) إذ دعا ربه قائلا: ()إني مغلوب فانتصر()، وفي مثل هذا الوضع وعلى مثل هذه الحال يضرب الحسين (ع) أروع الأمثلة في الصبر على المبدأ والالتزام بالأخلاق.
إن الكثير من الناس قد يتشدقون بالأخلاق في حالات اليسر أو في وقت الغلبة؛ ولكنهم يتنصلون من المبادئ إذا خافوا الهزيمة، فلا يتركون حينئذ وسيلة مشروعة أو غير مشروعة إلا ارتكبوها رجاء الفوز وطلبا للظفر؛ بما في ذلك الفجور في الخصومة؛ فهم كما يصفهم (ع): "إذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون"، وأين هذا الموقف من موقف الإمام الحسين (ع) الذي يمثل مقولة أمير المؤمنين (ع) العظيمة ((الغالب بالإثم مغلوب)) والذي لا يقف الأمر عنده عند حد الصبر على الموت الذي لا مفر منه حتى يقتل صبرا، بل يتعداه إلى عدم الإقدام على مخالفة أخلاقية أو الإقدام على فعل يعاب به صاحبه إذ يقول:
الموت أولى من ركوب العار
إن موقف الإمام الحسين (ع) هو موقف جميع الأنبياء وأصحاب الرسالات وجميع الأولياء الذين كانوا يلتزمون الأخلاق مهما كان ما يقع عليهم من الظلم والجور والاعتداء؛ وليس ذلك ضعفا في الرأي يحبسهم عن المكيدة والغدر؛ بل ترفعا عن مجاراة الغادر بغدره والسفيه بسفاهته، أليس أمير المؤمنين (ع) يقول : "ما معاوية بأدهى مني"، وكذلك الحسين (ع) الذي لم يكن عاجزا أن يمني الناس الأماني الباطلة، ويعدهم الدنيا وزخارفها، ألم يكن يستطيع أن يخفي عنهم أمر مقتله الذي ما انفك يبشرهم به في كل مورد بقوله: "وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات"، أليس كل من أراد أن يجمع الناس حوله فإن عليه أن يَنظِم صفوفهم، ويرفعَ من معنوياتهم؟! بل هل يصح في حسابات السياسة لمن يريد أن يقوم بثورة على حكم أن يعلن قبل انطلاقها للناس نهايتها وعدم تحقق الغلبة لها والقضاء على قائدها؟! وأعجب من ذلك أن يدعوَ من التف حوله إلى تركه والانطلاق في حال سبيله بقوله:" هذا الليل قد أرخى سدوله فاتخذوه جملا "، فهل يجوز لصاحب ثورة أن يدعوَ الناس إلى التفرق عنه؟ بل إن هذا الموقف الغريب لسبب ما لم نسمع به حتى عند بعض الأنبياء والرسل الذين قتلوا مثل زكريا ويحيى وغيرهم من الأنبياء الذين كانوا يدعون الناس إلى الالتفاف حول دعوتهم.
وإذا كان الفقه (الشريعة) يمثل الحد الأدنى الواجب من الأخلاق، بينما تمثل الآداب (ما يتضمنه علم الأخلاق) المثل الأعلى والحد الأقصى من الأخلاق، فإن الإمام الحسين (ع) يمثل الثاني، وهو الحد الأعلى من مكارم الأخلاق والمثل العليا حتى بكى على أعدائه أنهم يدخلون النار بسبب قتلهم إياه.
لقد كان في نهضة الحسين(ع) ومن معه عدد من المواقف الأخلاقية التي تثير العجب والإعجاب عند التأمل، ومن أولها موقف سفيره العظيم مسلم بن عقيل الذي رفض أن يقتل ابن زياد غدرا بسبب أخلاقي واضح يرفض ركوب التأويلات وهو أن الإيمان قيد الفتك، فجسد مسلم بن عقيل (ع) أخلاق الحسين في الواقعة كلها وكان عنوانًا جميلا لها، وتتابعت بعده مواقف الواقعة من قبل وصول الحسين إلى كربلاء ابتداء من لقائه جيش الحر وسقيهم الماء الذي هو عين موقف أمير المؤمنين في صفين الذي رفض أن يقابل الخصم بالمِـثْـل إذ إن داعي الغلبه عنده لا يجيز احتكار الماء.
إن أهم ما يشار إليه في هذا المقام هو أن الحسين في معركته كان مهتما بالسلوك أكثر من اهتمامه بالنتيجة المادية، وهذه الحقيقة هي جوهر الأديان إذ إن الله لا يحاسب الناس على نتائج أفعالهم بمقدار ما يحاسبهم على أعمالهم نفسها وإخلاصهم لله.
ولو كان الأنبياء والأوصياء يهتمون بالنتائج أكثر مما يهتمون بالسلوك لما كان الطغاة والكافرون والمعاندون أقدر منهم ولا أسبق لنيل الدنيا والسيطرة عليها، فالغاية لا تبرر الوسيلة، وإنما كما يقول شيخنا رحمه الله: "كلما شرفت الغاية شرفت الوسيلة"، فالغاية دعوى والوسيلة دليل؛ لأن الغاية لا يمكن كشف الصدق والكذب فيها، ولكن الوسيلة الشريفة تكشف عن صلاح الغاية.