أوَّل الكلام[1]:
أبارك لكم شهر شعبان المعظَّم ومواليد الأطهار فيه (سلام الله عليهم).. ونهاية الفصل الدراسي للتعطيل مدة شهرين ونصف الشهر لنعود بإذن الله إلى الفصل الجديد في نصف شهر شوال.. وكلمتي حول ما ينبغي للطالب الحوزوي القيام به في هذه الفترة من التعطيل الحوزوي..
في البدء.. إنني أشكر إدارة حوزتنا المباركة الأساتذة الكرام سماحة العلامة الشيخ الفردوسي وسماحة العلامة السيد محمد علي العلوي وسماحة العلامة الشيخ صالح الجمري (حفظهم الله).. وأشكر طلاب الأمس وأساتذة اليوم على تلاقي جهودهم الدراسية ونتاجهم العلمي وتعاونهم الايجابي الذي كل ذلك أثمر الكثير من الانجازات على مدى ثمانية عشر عامًا من عمر التأسيس المبارك.
تمهيد:
نحن في حوزة خاتم الأنبياء (ص) العلمية منهاج عملنا هو آية المبعث النبوي الشريف: (هُوَ ٱلَّذِی بَعَثَ فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلُ لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ) وفيها:
1/ تلاوة آيات المعارف الاعتقادية في وجود الله وتوحيده وصفاته لتوثيق العلاقة بالله. وتكفل بها كتبنا الحوزوية في مجال العقائد والتفسير وعلم الكلام.
2/ تزكية النفس عن الأدران الباطنيّة تخلّيًا عن الرذائل وتحلّيًا بالفضائل. وتكفل بها كتبنا الحوزوية في مجال الأخلاق والآداب وروايات جهاد النفس والعبادات والمستحبات.
3/ تعليم الكتاب في الفقه ومتعلّقاته والفكر ومتشعّباته.. وكتاب الحياة في وعي منعطفاتها وما يحتاج إليه الإنسان في جميع النواحي. وتكفل به كتبنا الحوزوية في مجال الفقه وأصوله ومناهجه ومبادئه بمختلف مستوياته الموسوعية والاستدلالية إلى رسائل الأحكام العملية.
4/ وتعليم الحكمة في حُسْن التصرّف ووضع العلم في محلّه العملي. وهذا لا يتكفّل به كتاب في الحوزة غير كتاب التفكّر ومراقبة النفس وحُبّ الناس والإخلاص في خدمتهم والتواضع كلّما زاد العالِم علمًا واحترامًا. فإذا بلغ العالِم هذه الحكمة سيعمل شغل الإطفائية في المجتمع.. كلّما أوقد الجاهلون والحاقدون نارًا تذكّر ما قاله الإمام زين العابدين (ع) في دعاء (مكارم الأخلاق): {... وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ، فِي بَسْطِ الْعَدْلِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ، وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ، وَإِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ، وَسُكُونِ الرِّيحِ، وَطِيبِ الْمُخَالَقَةِ، وَالسَّبْقِ إِلَى الْفَضِيلَةِ، وَإِيثَارِ التَّفَضُّلِ، وَتَرْكِ التَّعْيِيرِ ...}.
بعد هذه النقاط في التمهيد.. أقول:
على ضوء الحديث القائل {أطْلُبوا العِلمَ مِن المَهْدِ إلى اللّحْد} إن كان مرويًّا عن رسول الله (ص) كما يقول البعض أو مرويًّا عن أمير المؤمنين (ع) كما يقول بعضٌ آخر أو هو مقولة لبعض العلماء فإنّها بالعقل هي كلمةٌ سديدة وتفيد بأنّ الإنسان يجب عليه تحويل حياته كلّها إلى مدرسة لطلب العلم النافع واقترانه بالعمل الصالح وهذا العمل ينتج علمًا جديدًا بحدّ ذاته لأن كما يقول الإمام علي (ع): {التّجارِبُ عِلْمٌ مُستفادٌ} وفي كلمة قال: {وفِي التّجارِبُ عِلْمٌ مُسْتَأنَفٌ}.
فالنتيجة أنّ الحياة كلها مدرسة علم وعمل وعمل وعلم.. فلا ينفع عمل بلا علم كما لا ينفع علم بلا عمل. وفي ذلك قال الإمام علي (عليه السلام): {الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ عَنْهُ}.
وجاء في القرآن الكريم: ( وَقُلِ ٱعۡمَلُوا۟ فَسَیَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ) ولكن هل يتحقّق مفهوم هذه الآية من غير تحقّق مفهوم الآية التالية: (وَقُل رَّبِّ زِدۡنِی عِلۡمࣰا)؟!
بناءً على هذه البصيرة ما هو البديل الدرسي للطالب الحوزوي عندما ينتهي فصلُه الدراسي ويكون يصبّ في مَصَبّ الهدف من دراسته ولا ينقطع فترة العطلة فلعلّ ما درسه ينساه أو تضعف ذاكرتُه بسبب هذا الانقطاع؟ وهذا يشبه حال الانسان الرياضي الذي لو انقطع عن تمارينه لا يستطيع العودة إلى لعب الكرة مثلًا بنفس اللياقة التي كان عليها.
فلابد لنا نحن كطلاب علوم الدّين أن نتواصل مع أجوائنا التخصّصية لتحويل العطلة إلى نتاج أفضل في بُعدَيْه العلمي والعملي؟
أنا في السبعينات من القرن الميلادي الماضي لما كنت أدرس في النجف الأشرف كنتُ مع زملائي أدرس حتى في عطلة الخميس والجمعة والعطل الدراسية الأخرى في المناسبات وعلى مدى أربع سنوات عند المرجع الديني سماحة السيد عبد الأعلى السبزواري (قدس سره) في بيته الشريف كتاب (تفسير الصافي) وقصار كلمات (نهج البلاغة) وأحاديث (أصول الكافي) من بدايته (باب العقل والجهل) وأحاديث (تُحَف العقول) والجزء الثامن من (وسائل الشيعة) باب العِشْرة والجزء الحادي عشر منه باب جهاد النفس. وأرى شخصيّتي العلمية والنفسية والسلوكية إنما صيقلتْها هذه الدروس فترة العُطَل أكثر مما درستُ من الفقه والأصول وعلم المنطق وقواعد اللغة العربية وعلم البلاغة وعلم الرجال والدراية في فترة الدراسة الرسمية للحوزة.. ومع أنّي كنتُ أدرس عند أستاذي سماحة آية الله السيد أحمد المددي (دام ظله) تلك الدروس الثابتة من قواعد اللغة وعلم البلاغة وأصول فقه الشيخ المظفر (رحمة الله عليه) وكتاب رسائل الشيخ مرتضى الأنصاري (قدّس سرّه) ثم كتاب المكاسب فقد كنتُ أستفيد من علومه الموسوعية وهو مطّلع في الطب القديم والفلكيّات والرياضيّات والسياسة والتاريخ.. ومعروف بذهنه الوقّاد وذاكرته العجيبة.
طلبة الحوزات العلمية الذين توفّقوا في حياتهم صاروا فقهاء وعلماء ومفكّرين هم الذين استثمروا أوقاتهم كلها وخاصة فترة العطل الدراسية والتي هي كثيرة في الحوزات بسبب المناسبات الدينية وما اعتاد الحوزويّون عليه من "تعطيل ما بين التعطيليْن" أيضًا.. حتى كان يمزح أحد أستاذتي بالقول أنّ: "أيام العطل هي أيام الدراسة".
أيّها الأحبة.. قبل أن أحدّثكم عن البديل في فترة العطلة لابد لي أن أذكّركم ونفسي بالآية التي تبتدأ بأداة الحصر وتقول: (إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟) وهذا شهر شعبان المعظّم شهر الاستغفار وقبله كان شهر رجب الأصبّ بالرحمة وبعده سندخل شهر رمضان المبارك شهر ضيافة الله.. فأيّام هذه الشهور كلّها من أهمّ مراتع العبادة والدعاء لاكتساب الورع والتقوى والخشية الحقيقيّة من الله تعالى. وهي الأساس لسلامة العلم وصحة العمل وقبولهما عنده جلّ عُلاه وإلا فكلّ من نتعلّمه ونعلّمه ونجهد أنفسنا فيه سيكون هباءً منثورًا والعياذ بالله.
لنأخذ بهذا الأساس وهو روح العلم ونذهب إلى عشر مجالات أقترح عليكم الاهتمام بها في هذه العطلة الدراسيّة وكلّ العُطَل وهي تصبّ في ذات الهدف السامي من طلب العلوم الحوزويّة.. خذوا منها حسب حاجتكم الأكثر:
- المجال الأوّل.. حِفْظ القرآن العظيم. اهتمّوا بالحفظ أيّها الإخوة.. ولا تفوتكم بركاتُ الحفظ فإنّها لا تُعَدّ وأهمّها نور القلب.. أنا أعرف بعض مراجع الدّين والفقهاء حافظين بعض القرآن أو حافظين ما يحتاجون إليه من آيات الأحكام. ولكن المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمة الله عليه) كان قد بدأ في حِفْظ القرآن وعمره سبع سنوات كما أخبرني بعض أنجاله ولعلّي أيضًا قرأتُ في سيرة حياته.
إنّ حِفْظ القرآن أيّها الأعزاء ينوّر القلب وينير العقل والسلوك بهذا النور الإلهي يجعل الشخصيّةَ نورانيةً فيشعّ منها النور في فكرها وعطائها.
- المجال الثاني.. حِفْظ نصوص الروايات الشريفة. التقيتُ أحدَ الخطباء الروائيين في مكتب المرجع الديني سماحة السيد محمد تقي المدرّسي (دام ظله العالي) قبل ما يقارب عشرين عامًا بالعالم المحدّث الشيخ احمد الرحماني (رحمة الله عليه) كان حافظًا لعشرة آلاف رواية وبعضها مع أسنادها كما أكّده لي تلميذه سماحة الشيخ علي صحّت.. وقيل أقلّ من العشرة آلاف.
- المجال الثالث.. حِفْظ الشواهد التاريخيّة وأخبار الماضين والأشعار والإحصائيّات الرقميّة. وخاصة اذا كان هدف الطالب ارتقاء المنبر الحسيني، فالعطلة فرصته الثمينة لاختزان أكثر ما يحتاج إليه إذا أراد أن يكون خطيبًا لامعًا.
- المجال الرابع.. توسيع مساحة المعلومات العامة بكثرة المطالعة.. لابد من التخزين الثقافي والقراءة في مختلف الأمور. فالناس بمختلف توجّهاتهم يميلون إلى عالِم يفهم من تلك التوجّهات ولو قليلًا.
- المجال الخامس.. ترتيب دروس فرعيّة مع الأساتذة فيها.. مثل فنّ الكتابة والتأليف وفنّ الخطابة والقاء المحاضرة.. ومثل درس في الأدب العربي وصناعة الشعر.. وتعلُّم اللغة الأجنبية لاسيّما الإنجليزية لخوض ساحات التبليغ الديني واليوم ممكن تسجيل كلمة باللغات الأخرى وبثّها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
- المجال السادس.. أخْذ دروس تقوية في المواد الحوزويّة التي يرى الطالب نفسَه ضعيفًا فيها أو قد فاتـتْه مثلًا.
- المجال السابع.. السفر عند الإمكان إلى مختلف البلدان للاستطلاع المباشر على أحوال الشعوب والتعرّف على آفاق جديدة في الحياة، وهذا يفتح أفق الذّهن ويجعل عالمَ الدّين عارفًا بزمانه فلا يقدّم رأيًا شاذًّا عن حياة الناس واحتياجاتهم.
- المجال الثامن.. زيارة الأرحام لتقوية الأواصر مع الأقارب الذين بسبب الاشتغال في الفترة الدراسية قَلّ التواصل معهم ولا ننسى أنّ العالِم يطير بجناح عشيرته في الناس.
- المجال التاسع.. مَدّ جسور العلاقات مع الأصدقاء والعمل أيضًا على كسب أصدقاء جُدُد.
- المجال العاشر.. بذل المزيد من الاهتمام بالأسرة.. فالعالم يجب أن لا يغفل عن زوجته وأطفاله ويعيش في البيت بعيدًا عنهم. فإنّ عدم الاهتمام بهم والجلوس معهم ومتابعة أمورهم يشكّل خطرًا مستقبليًّا حينما يجد نفسه في واد وأبناءه وبناتِه في واد آخر.. أو يجد زوجته باردةً معه وربما لا تطيقه وإذا تسقط حياته في أزمات عائليّة تخرّب أجواء دراسته وما درسه سنوات ويخسر أهداف عمله التبليغي بين الناس.. خاصةً إذا انحرف بنه أو بنته إلى ضدّ الدّين.. هنالك سيندم على سنوات الغفلة التي قضاها بعيدًا عن تربيتهم في البدايات.. لذا يقول الله لنا نحن المؤمنين: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارࣰا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا مَلَـٰۤئكَةٌ غِلَاظࣱ شِدَادࣱ لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ).
فالمطلوب من كلّ طالب متزوّج حديثًا أن يتصادق مع زوجته ومع الاستمرار يزداد صداقةً معها بدل اهمالها والاشتغال المفرط بهاتفه وتصفّح المواقع التي خرّبتْ حياة أكثر الناس.. وإذا كان الطالب لديه أطفال أن يجلس معهم يلاعِبهم ويتشاور مع أمّهم في رسم خطط مستقبل أطفالهما.. فقد قال رسولُ الله (ص): {خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنِسَائِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِنِسَائِي} و قال: {خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي}.
شكرًا لكم على حضوركم وجزاكم الله خيرًا على جهودكم العلميّة التي جعلتْ حوزتكم المباركة من الحوزات الناجحة في البحرين..
اَلْلَّهُمَّ أدخِلنا في كُلِّ خَيْرٍ أَدْخَلْتَ فيه مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ وَأَخْرجْنا مِنْ كُلِّ سُوءٍ أخْرَجْتَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ، (صلواتك عليه وعليهم أجمعين).
[1] - كلمة ألقاها صاحب السَّماحة الشَّيخ عبد العظيم المهتدي البحراني (حفظه الله تعالى) على طلبة العلم في حوزة خاتم الأنبياء (صلَّى الله عليه وآله) بمناسبة نهاية العام الدراسي الحوزوي 1443 – 1444 للهجرة