لقد وصل تراكم المقالات النظرية والتجاذبات الكلامية والصراعات الفلسفية والمحاكمات التاريخية في قضية الإمام الحسين عليه السلام إلى عالي قمم الجبال، ولا تزال في تزايد إلى أن تصل إلى ما شاء الله، ويضاف إلى ذلك التراكم المقالُ الذي بين يديك (الميزان في القضية الحسينية)؛ إذ أنها قضية لا حدود لها ولا منتهى، تترامى في اتساعها لتبلغ ما بين الحدين وتتخطاهما، حتى ملأت الحدود الستة وتجاوزتها، وذلك لكثرة الحُكَّام والنقاد ولاختلاف مشاربهم وتوجهاتهم وتخصصاتهم، فيتدخل هذا المقال لمحاولة لملمة ما يمكن لملمته من المبعثر عسى الله أن يفتح له آفاق التوفيق ليضيف لهذا التراكم نظاما ويجعل لهذا التفاقم حدا ويفتح للقارئ الكريم طريقا يكون نهجا في قراءة السيرة الحسينية.
ونستعين بالله على ذلك آملين منه السداد والرشاد ونحن على بابه لنحدد البداية فنقول..
إن تصنيف السيرة الحسينية تاريخي، وندخل فيها لنجلس بين المتناثر منها في صفحات الكتب التاريخية واضعين أمامنا ميزانًا ذا كفتين؛ كفة للقواعد والثوابت من قبيل عصمة الحسين عليه السلام والأحكام الشرعية الخمسة وما شاكلها من ضروريات المذهب، ثم ننتقل للقضايا التاريخية واحدة تلو الأخرى فنضعها على الكفة الأخرى، فإن تعادلت الكفتان أخذنا بها ووضعنا القضية في صندوق المحتمل، وإن خفَّت إحدى الكفتين أو ثقلت لم نأخذ بها وجعلنا القضية في صندوق غير المحتمل.
ونقف هنا للتعرف على الميزان وطريقة استخدامه.
نقول أولا أن هناك موازين كثيرة ولكل ميزان أغراض وطرق استخدام مختلفة، فهناك ميزان فقهي شرعي، وهناك ميزان أخلاقي، وهناك ميزان اجتماعي، كما أن هناك ميزانًا تاريخيًا، وغيرها من الموازين، غير أن غايتنا وموضوعنا هو الميزان التاريخي، ولا يفوتنا أن الحال ذاته بالنسبة للقضايا؛ فهناك قضايا فقهية شرعية وهناك قضايا أخلاقية، واجتماعية، وتاريخية، وقضايا أخرى كثيرة، كما وتوجد قضايا متداخلة من قسمين أو أكثر كالقضايا الفقهية التاريخية مثلا، وبعد استعراض تعدد الموازين والقضايا نعود لموضوعنا وهو الميزان التاريخي وقضاياه.
إن الميزان التاريخي لا شك أنه مختلف عن باقي الموازين، وكذلك بالنسبة لطريقة استخدامه؛ فالميزان التاريخي معه صندوقان، فهو يقسم القضايا إلى قسمين؛ محتمل وغير محتمل وإن تفاوتت نسبها.
لنعرض قضية تاريخية حية مثارة في الأجواء ونمثل عليها لتتضح الفكرة أكثر..
دعنا نختار قضية علي الأكبر عليه السلام وقطعه لرأس بكر بن غانم، ولنسرد القضية ومن ثم نزنها بميزاننا.
مفاد الروايات أن الأكبر عليه السلام طعن بكر بن غانم فخر صريعا فنزل إليه واحتز رأسه.
نجد أن القضية مصنفة من القضايا التاريخية الفقهية، إذا ينبغي علينا استدعاء الميزان الشرعي، ولكن لنضعها تارة على الميزان التاريخي وتارة على الميزان الشرعي، ولنبدأ بالميزان التاريخي، وقبل ذلك فلنقدم مقدمة مهمة للأمثلة.
يقال أن الأمثال تضرب ولا تناقش؛ إذ أن الأمثلة للتوضيح فقط وليس غايتنا المثال وإنما الميزان والقواعد.
أمامنا الميزان التاريخي وبجانبينا صندوق المحتمل وغير المحتمل وفي كفة من الميزان نضع القواعد، وما أكثرها والتي منها تواجد بكر والأكبر في زمان واحد ومكان واحد، ونقل كل مصادر التاريخ للقضية أو أكثر المصادر أو بعضها أو عدم وجودها في المصادر أو عدم وجود ما هو معارض للقضية في المصادر، وفي الكفة الثانية نضع قضية الأكبر ع وبكر بن غانم. فإذا تحققت جميع القواعد في حق القضية تكون كفتي الميزان متساويتن حكمنا بمعقولية القضية ووضعناها في صندوق المحتمل وأخذنا بها، وإذا لم تتحقق جميع القواعد في شأن القضية لم تكن كفتا الميزان متساويتين ولم نحكم بمعقولية القضية ووضعناها في صندوق غير المحتمل، ولكن لا يمكننا الجزم تماما بكذبها أو صدقها ويبقى تمحيص آخر وآخر وآخر أدق وأدق وأدق وهذا دور المختصين، والكلام نفسه للصندوقين المحتمل وغير المحتمل، وإن صح التعبير يتوزع ما في الصندوقين إلى صناديق متعدد وكثيرة لا يمكن تعيينها بعدد أو بمسمى إلا من قبل المختصين فهي نسب متفاوتة مئوية أو أكثر.
انتهينا من الميزان الأول لمثالنا وإن كان لم ينتهِ واقعا وإنما ابتداء، ولكن هو مثال توضيحي ليس إلا..
نأتي للميزان الثاني؛ وهو الميزان الشرعي الفقهي.
هذا الميزان وكما قدمنا لا يوزن به إلا قضايا من جنسه وهي القضايا الفقهية الشرعية أو ما اختلط بها من غيرها، ومثالنا فيه أمر شرعي وفقهي، وهو حكم قطع الرأس.
بين أيدينا الميزان ذو الكفتين نضع القضية على كفة، وفي الكفة الأخرى الأحكام الشرعية الخمسة؛ حرام وواجب ومكروه ومستحب ومباح..
لنقف برهة ونتأمل؛ ما حكم قطع الرأس؟ أصلا حرام وهناك استثناءات مثل الحدود الشرعية، فيكون واجبا بشروطه.
لنرجع للقضية.. الأكبر عليه السلام قطع رأس بكر بن غانم. هل كان يطبق حدا من حدود الشرع؟ هل كان معتديا؟ هل كان؟ معاهدا؟ هل كان محاربا؟ هل هو من قبيل الإجهاز؟ أترك الأمر للمتخصصين.
هكذا يحاكم المختص القضايا بأدوات كثيرة يصعب حصرها، ونلاحظ أنها عملية كالعمليات الرياضية قد يسهل حلها وقد يصعب حلها وقد تتعقد لدرجعة يتوقف عندها بعض المختصين فضلا عن العوام والمثقفين فلا تحل، وترجئ للحاكم بالعدل تبارك وتعالى.
ونشير إلى القارئ الكريم أن هذا المقال قاصر عن الإحاطة بجميع المسألة ولكنه عسى أن يجمع شتات اللملمة، فما المكتوب بحث تفصيلي بل هو مقال إجمالي بدأ على تراكم الكلام في الخافقين ويختم بدعوة للكرام المؤمنين من العوام والمثقفين، كما تشمل الدعوة المتخصصين، بل وتشمل الكاتب للمقال.. تدعو للتريث في كل قضية نسمعها أو نقرأها، ولا ندع الشيطان يلعب بحواسنا فيهيجنا في كل مسموع ومقروء بدوافع لا تنفع وعجلة من تسرع، وربما كانت القضايا مما لا يترتب عليها أثر عملي، أو مما لا يسئل عنها من ذي العزة والجلال.
كما ندعو أنفسنا إلى وزن أنفسنا أولا ومعرفة مقامنا فلا نخوض في ما ليس لنا بحق فنفتي بغير علم فيحق علينا والعياذ بالله قول ربنا في من هم على هذه الشاكلة ((هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) ولندع كل علم لأصحابه والمختصين فيه.
سلك الله بنا وبكم طريق الرشد والصلاح وسددنا وإياكم إلى سبيل الفوز والنجاح...