تمهيد:
وُلد الإمامُ المهدي المنتظر (عجَّلَ الله فرجه) في ظروفٍ صعبةٍ للغاية، حيث كانت السُلطات عالمةً مترقبةً لولادة هذا الإمام الموعود، ظنًّا منها أنها قادرةٌ على إطفاء نور الحقيقة، وهو دأب من ابتعد عن الإيمان بالله تعالى. فوُلد صلوات الله عليه في ظروفٍ خاصةٍ جدًّا، وبسريةٍ تامة، على أنَّ السلطانَ وجنوده كانوا يداهمون منزل الإمام العسكري (عليه السلام) بين فترةٍ وأخرى، ويفتشونه تفتيشًا دقيقا، ولم تَسلَمْ النساءُ من هذه الاعتداءات، والغاية الأساسية هي الإمام الثاني عشر. ويأبى الله إلا أنْ يتمَّ نوره.
الفترة التي سبقت ولادةَ الإمام المنتظر (عجَّل الله فرجه) كانت من أصعب الفترات على الأئمة (عليهم السلام)، لا سيَّما الأئمة الثلاثة الذين سبقوا ولادته (عليه السلام)، الإمام الجواد والإمام الهادي والإمام العسكري (عليهم السلام)، فقد عاشوا بين السجن والإقامة الجبرية والمراقبة والمداهمة والتفتيش، وكلُّ ذلك لخوف السُلطات منهم ومن الإمام الثاني عشر، فنجد أنهم (عليهم السلام) بدأوا بالتمهيد للفترة اللاحقة من خلال مجموعةٍ من الإجراءات ذات الأبعاد المتعددة، حيث بدأ خفاءُ الأئمة عن الشيعة يتزايد شيئًا فشيئًا كلما اقتربنا من ولادته الشريفة والغيبة الصغرى، فكَثُر الاعتماد على الوكلاء والأصحاب في أداء المهامِّ التي يريدها الأئمة (عليهم السلام)، والتنصيص على وثاقة بعض الأصحاب وجلالة قدرهم، لا سيَّما السفير الأول وابنه السفير الثاني، وغير ذلك من الإجراءات.
هذه الإجراءات والطُرق التي اتبعها أئمتنا (عليهم السلام) أدَّت دورًا عظيمًا في ثبات الأصحاب واطمئنانهم، فلم يَعتدِ الشيعةُ سابقًا على غياب الإمام عنهم، لكنَّ ما حققه الأئمة جعلهم مهيئين لقبول الأمر، فكان الانتقال من حال الظهور إلى حال الغيبة ممكنًا، مع ما فيه من الصعوبات دون شك.
دعاوى السفارةِ في زمن الغيبة الصغرى:
بعد استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام) بدأت الغيبة الصغرى مباشرة، حيث إنَّ الإمام كان يعاني خطر القتل على أيدي السلطة، وهو ما تثبته الكثير من الروايات والوقائع التاريخية، فبدأ مباشرةً بتعيين السفراء، بالإضافة إلى مجموعةٍ أخرى من الوكلاء، فكان هؤلاء لا سيَّما السفراء الأربعة نقطة الاتصال الموثوقة بالإمام المنتظر (عجَّل الله فرجه)، ما أكسبَ هذا المقام قيمةً عظيمة، فصار بطبيعة الحال مطمعًا للكثيرين، فإنَّ فيه من الوجاهة ما فيه، فأصحاب المطامع لا يمكن أنْ يفوتوا مثل هذه الفرص، فينقل التاريخ أنَّ مجموعةً من الرجال ادعوا السفارة عن الإمام المنتظر (عجَّل الله فرجه)، أذكر منهم شخصيتين لطالما سمعنا باسميهما، وهما الحَلَّاج والشلمغاني، وسرُّ الاختيار هو التفاوت بين الشخصيتين، فالحلاج من أصحاب الطُرق الغريبة البعيدة عن الدين، والشلمغاني من علماء الشيعة آنذاك!
أما الحسينُ بن منصور الحَلَّاج الصوفي المشهور فقد عُرِفَ بأقواله وآرائه الغريبة، وادعائه ظهور المعجزات على يديه، وكان يتنقَّل من فئةٍ إلى أخرى ومن مذهبٍ لآخر، وكان يحاول مخادعة كلَّ فرقةٍ من خلال الدخول إليهم من معتقداتهم ثم بإدخالهم وجلبهم لمعتقداته الباطلة، وقيل أنَّ أصله من الشيعة، والظاهر أنَّه ليس منهم باعترافه، وقد ادعى الوكالة لنفسه كخطوةٍ متقدمةٍ لادعاء السفارة، لكنَّ وقوف الشيخ الصدوق الأول وأبي سهلٍ النوبختي في وجهه أبطل خزعبلاته وكذبه، فكان ممن صدر فيهم كتابٌ باللعن من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد وصل به الحال إلى أنَّ السلطة العباسية رفضته في زمن المقتدر، ولم تكتفِ بذلك، بل نُقِل أنها حكمت عليه بالقتل بطريقةٍ قاسية، حيث ضُرِب ألفَ سوطٍ ثم قُطعت أطرافه ثم قتل ثم حُرق ورُمي رمادا، وأُرسل رأسه إلى خراسان.
أما الشلمغاني فهو عالمٌ من علماء الشيعة في زمن الغيبة الصغرى، وقد عيَّنه السفير الثالث ابن رَوْح وكيلًا عنه في إحدى فترات غيابه، لكنه ترك المذهب الحقَّ -حسدًا لابن روح- وصار يقول بالمقالات الغريبة واتبع المذاهب الرديئة، فقاده حسدُه وطمعُه لادعاء السفارة لنفسه عوضًا عن الحسين بن روح (رضوان الله تعالى عليه)، فصدر فيه كتابٌ من الإمام المهدي (عليه السلام) يلعنه، فمات على غير الإيمان -والعياذ بالله- على يدي الراضي بعد أنْ طلب مباهلةَ ابن روح (رضوان الله تعالى عليه). ولك أنْ تتصور أنَّ هذا الرجل كان عظيمَ العلمِ لدرجة أنَّ بيوت الشيعة كانت مليئةً بكتبه حتى سُئِل عنها السفير، ولم يقلْ لهم تخلَّصوا من كتبه، بل قال فيه كما قال الإمام العسكري (عليه السلام) في بني فضال من قبل (خُذُوا ما رَوَوا ودَعُوا ما رَأَوا).
وهذه الدعاوى قَطَعَهَا الإمام (عجَّل الله فرجه) بالتوقيع الذي أصدره للسفير الرابع علي بن محمد السَمَري، وقد جاء فيه: "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، يا عليَّ بنَ محمَّدٍ السَمَري أعظمَ اللهُ أجرَ إخوانِكَ فيكَ فإنَّكَ ميتٌ بينكَ وبينَ ستةِ أيام، فاجمعْ أمركَ ولا توصِ إلى أحدٍ يقومُ مقامَكَ بعدَ وفاتِك، فقدْ وَقعتِ الغَيبةُ الثانيةُ فلا ظهورَ إلا بعدَ إذنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وذلكَ بعدَ طولِ الأمدِ وقسوةِ القلوبِ، وامتلاءِ الأرضِ جورًا، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدةَ، ألا فمَنِ ادَّعى المشاهدةَ قبلَ خروجِ السفياني والصيحةِ فهو كاذبٌ مفترٍ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم".
مواجهةُ الفتنِ والدعاوى الكاذبة:
الفتنُ والدعاوى الكاذبة لم تتوقفْ منذ بدأت الغيبة الصغرى، واشتدَّت مع بَدء الغيبة الكبرى، وهي مستمرةٌ إلى يومنا هذا، بل إلى قيامِ إمامنا المنتظر (عجَّل الله فرجه)، فكيف نواجه هذه الفتن؟
أولا: المعرفة: لا بدَّ أنْ ننتبه جيدًا إلى أنَّ المذهبَ الشيعي قائمٌ على الثوابت المستندة إلى البراهين الواضحة غير القابلة للنقض والزوال، وقضية ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وقيامه، وانتصاره، من القضايا اليقينية التي لا تُمسُّ بحال.
والبرهان يتشكلُ من قضايا يقينية، ترجع هذه القضايا في تسلسلها إلى القضية البديهية الأولية (اجتماعُ النقيضينِ محال).
ويؤدي إلى نتائجَ يقينيةٍ على نحوٍ من الإحكام لا يمكن نقضه بأيَّ حال، فاليقين الذي نقصده يتركب كما يلي:
- الاعتقادُ الجازم بمضمون القضية، وهي (ولادةُ الإمام المنتظر وقيامه انتصاره).
- أنَّ هذا الاعتقاد الأوَّل لا يمكن نقضه.
- أنَّ الاعتقادين الأول والثاني لا يمكن زوالهما.
هذا هو المستوى الذي ينبغي أنْ نكونَ عليه جميعًا فلا تزلزلنا أيُّ فتنةٍ أو دعوى تتجدَّدُ في أيِّ زمانٍ ومكان.
ثانيا: الاطمئنان بالتعلم: تعلُّم العقيدة بالمستوى المناسب لدرءِ مثل هذه الفتن والشبهات، أيْ بالمستوى الذي يؤدي للاطمئنان، فلست أعني تخصَّص الجميع في العقيدة وعلوم الدين -وإنْ كنتُ أدعو كلَّ مؤهلٍ للسعي في طريق التخصُّص- لكنْ لا يصحُّ أنْ نتركَ مجالًا لمثل هذه الفتن والدعاوى لكي تغزونا.
ثالثا: الرجوع للمختص: الرجوع إلى أهل الاختصاص -كما تقتضيه سيرةُ العقلاء- من علمائنا الأجلاء الموثوقين، لا إلى مَن ادَّعى أنَّه من أهل العلم والصلاح وهو لا يمتُّ إلى العلم والصلاح بصلة، وهي من الأمور التي أرشدنا إليها أئمتنا (عليهم السلام)، لا سيَّما إمامنا المنتظر (عجَّل الله فرجه)، فإنهم المرابطونَ الذين يدفعون إبليسَ وشياطينه عن هذا الدين والمذهب الحق.
وممَّا ورد في هذا الباب عنهم (صلوات الله عليهم):
- في التوقيعِ الشريفِ للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) المنقولِ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه)، قال: "وأمَّا الحوادثُ الواقعةُ فارجعوا فيها إلى رواةِ حديثِنَا فإنَّهم حُجَّتي عليكم وأنا حُجَّةُ الله عليهم".
- نقل الشيخ الطَبَرسي في الاحتجاج عن الإمام العسكري (عليه السلام) قوله: "فأمَّا مَنْ كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه، مخالفًا على هواه، مُطيعًا لأمرِ مولاه، فللعوامِّ أنْ يقلِّدُوه".
- وفي الاحتجاج -أيضًا- عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: "علماءُ شيعتنا مرابطونَ في الثغرِ الذي يلي إبليسَ وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أنْ يتسلَّطَ عليهم إبليسُ وشيعته والنواصب، ألا فمن انتصبَ لذلك من شيعتنا كان أفضلَ ممَّنْ جاهدَ الرومَ والتُركَ والخَزَرَ ألفَ ألفَ مرَّةٍ لأنَّه يدفعُ عن أديان مُحبينا وذلك يدفعَ عن أبدانهم".
هذه الأمور الثلاثة من شأنها أنْ تحمينا من الوقوع في شِراك إبليس، وتعيننا على النجاة من الفِتن والدعاوى الباطلة. وتاجُ كلِّ ذلك هو التسليم للنبي وأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يستكملَ الإيمانَ كلَّه فليقل: القولُ مني في جميعِ الأشياءِ قولُ آلِ محمَّد، فيما أَسَرُّوا وما أَعلنوا وفيما بَلَغَني عنهم وفيما لمْ يَبْلُغني".
محمود سهلان العكراوي
الاثنين 13 شعبان 1444هـ
الموافق 6 مارس 2023م
سترة - البحرين المحروسة
ملاحظة: أَلقيتُ هذه الكلمةَ في مسجد العسكريين (عليهما السلام) في قرية إسكان مهزة، في قرية سترة.