الأمرُ بالمعروفِ فريضةٌ
تمهيد:
تتشكلُ الشريعةُ الإسلامية من ثلاثة أضلاعٍ رئيسية، وهي العقيدة والفقه والأخلاق، ولكلِّ واحدٍ منها أهميته، وإنْ كانت العقيدة هي أساس كلِّ ذلك، فإنَّنا مطالبون بالإيمان بمجموعةٍ من العقائد وعلى رأسها وحدانية الله تعالى وهي مُنطلَقُ كلِّ شيءٍ آخر، تَتْبَعها أصول الدين والعقائد الحقَّة الأخرى.
ثم يليها ما يتعلق بأفعال المكلَّف من أحكامٍ شرعيةٍ فقهيةٍ وأخلاقية، وهي معلومةٌ إجمالًا عندَ كلِّ المؤمنين، فنعلم وجوبَ الصلاة والصوم والحج وغيرها من الواجبات، ونعرفُ مجموعةً من الأخلاق التي يلزم اكتسابها والعمل على وفقها.
الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر واحدٌ من الأحكام الشرعية حالُه كحال الصلاة والصيام والحج والزكاة، وقد يُعدُّ أهمَ فريضةٍ اجتماعيةٍ في الشريعة الإسلامية، فهو جهادٌ اجتماعيٌّ بالكلمة والفعل، مسبوقٌ بالعمل القلبي حُبًّا للمعروف وإنكارًا للمنكر، ولا ينبغي استنقاص شأن هذه الفريضة أو التخلي عنها في حالِ تحقَّقَت شروط وجوبها.
المراد من (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هو قيامُ المكلَّف بِحَثِّ تاركِ المعروف على فعله وفاعلِ المنكر على تركه، أما المعروف فهو كلُّ فِعلٍ حسنٍ أمرت به الشريعة أو ندبتْ إليه، وأما المنكر فهو كلُّ فعلٍ نهت عنه الشريعة أو كرَّهته.
يُعدُّ هذا الواجبُ من الواجبات الكفائية التي تسقط بفعل مَن تكون به الكفاية، وهو في ذات الوقت مستمرٌ ما دام هناك من يترك المعروف ولا ينتهي عن المنكر، وهو واجبٌ في حالِ ترك الواجب وارتكابِ المحرَّم ومستحبٌ في حالِ ترك المستحب وارتكاب المكروه، كما أنَّه واجبٌ على الجميع حتى لو كان المكلَّف فاسقًا والعياذ بالله، أما مجرد إظهار الكراهة لهذا الفعل فهو عينيٌ على الجميع، ولا يسقط مستوى الإنكار القلبي بأيِّ حال.
وأرى من المناسب وصفَ هذه الفريضة بأنَّها رادعٌ اجتماعيٌّ لكلِّ مخالِفٍ للشريعة وآدابها، كما يُمكن اعتبارُها مقياسًا ومعيارًا لقياس مستوى التدين في المجتمعات.
قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران، 104].
عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) في حديث، قال: "إنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكرِ سبيلُ الأنبياءِ ومنهاجُ الصُلحاءِ، فريضةٌ عظيمةٌ بها تُقامُ الفرائضُ وتَأمنُ المذاهبُ وتَحِلُّ المكاسبُ وتُرَدُّ المظالمُ وتُعْمَرُ الأرضُ ويُنتَصَفُ من الأعداءِ ويستقيمُ الأمرُ، فأنكِرُوا بقلوبِكُم والفِظُوا بألسِنَتِكُم وصُكُّوا بها جِباهَهُم ولا تَخافوا في الله لَومَةَ لائم".
عن أبي عبدِ الله (عليه السلام) أنَّ رجلًا من خَثْعَمٍ جاءَ إلى رسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله) فقال: يا رسولَ الله أخبرني: ما أفضلُ الإسلامِ؟ قال: الإيمانُ بالله، قال: ثمَّ ماذا؟ قال: صِلَةُ الرَّحِمِ، قال: ثمَّ ماذا؟ قال: الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ، قال: فقال الرجلُ: أيُّ الأعمالِ أبغضُ إلى الله؟ فقال: الشِّركُ بالله، قال: ثمَّ ماذا؟ قال: قَطيعةُ الرَّحِمِ، قال: ثمَّ ماذا؟ قال: الأمرُ بالمنكرِ والنهيُ عن المعروف. [الكليني، الكافي، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر].
شروطُه:
الأول: "معرفةُ المعروف والمنكر ولو إجمالًا، فلا يجب الأمر بالمعروف على الجاهل بالمعروف، كما لا يجب النهي عن المنكر على الجاهل بالمنكر، نعم قد يجبُ التعلُّم مقدمةً للأمر بالأول والنهي عن الثاني". [السيستاني، منهاج الصالحين].
ولا يخفى أنَّ الجاهل بالمعروف والمنكَر إذا سعى في أداء هذا الواجب يُحتَملُ احتمالًا معتدًّا به أنْ يجانب الصواب، وأنْ يكون مفسدًا أقربَ من أنْ يكونَ مصلحًا، وهذا يؤكِّد ضرورة التعلُّم والسعي في تحصيل المعرفة الدينية.
الثاني: احتمال ائتمارِ المأمور بالمعروف، وانتهاء المنهيِّ عن المنكر بالنهي، فلا يجب إذا لم يحتمل المكلَّف ذلك، ويحتاطُ بعض الفقهاء بإظهار الكراهة للفعل قولًا أو فعلًا حتى مع عدم احتمال الردع.
فلا ينبغي اتخاذ ضعفِ هذا الاحتمال عذرًا ومبرِّرًا للتخلص من أداء الواجب، بل الأحوط أداء واجبِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع مراعاة جانب الحِكمَة على أيِّ حال.
الثالث: "أنْ يكونَ تاركُ المعروف أو فاعل المنكر بصددِ الاستمرار في ترك المعروف وارتكاب المنكر، فإذا كانت أمارةٌ على ارتداع العاصي عن عصيانه لمْ يجبْ شيء". [السيستاني، منهاج الصالحين].
وهذا يمكن معرفتُهُ من خلال واقع تارك المعروف وفاعل المنكر، فلا يُترك واجب الأمر والنهي إلا بما يصلحُ لأنْ يكونَ أمارةً على أنَّ فاعل المنكر وتارك المعروف في صددِ الرجوع لما ينبغي له من التزام المعروف وترك المنكر.
الرابع: أنْ يكونَ المعروف والمنكر منجَّزًا في حقِّ الفاعل، فإنْ كان معذورًا في فعله المنكر أو تركه المعروف لاعتقاد أنَّ ما فعلَهُ مباحٌ أو أنَّ ما تركه ليس بواجبٍ مع كونه معذورًا لم يجب شيءٌ تجاهه، بل وإنْ لم يكن معذورًا في بعض الأحيان.
ومن الموارد التي تدخلُ تحت هذا الشرط وينبغي مراعاته جيدًا مراعاة ما إذا كان فعلُ المكلَّفِ راجعًا لاجتهاده أو تقليده، فهو في حالِ طاعةٍ لا معصيةٍ فلا يصحُّ التعرُّض له.
الخامس: "أنْ لا يلزمَ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضررٌ على الآمر في نفسه أو عِرضِه أو ماله بالمقدار المعتدِّ به، وكذا لا يلزم منه وقوعه في حرجٍ لا يُحتملُ عادة". [السيستاني، منهاج الصالحين].
وهذا الشرط خطيرٌ جدًّا، لأنَّ نفسَ الإنسان ميالةٌ للراحة والدَّعة، فما أسرعَ أنْ تتركَ واجباتها مع وجود أقلِّ مبرر، فلا يصحُّ -مثلًا- اعتبارُ احتمالِ مجادلةِ ومناقشةِ فاعلِ المنكر وتاركِ المعروف عذرًا ومبرِّرًا لترك الواجب، فإنَّ هذا في الغالب لا يكونُ ضررًا معتدًّا به ولا يسبب حرجًا لا يُحتمَل.
وقد نتمكَّن من جمع هذه الشروط إجمالًا في كلمةٍ واحدة، وهي (الحكمة).
الخاتمة:
هذه الشروط شروطُ وجوب، فإذا تمَّت وجبَ على المكلَّف أيًّا كان أداءُ هذا الواجب، وإلا تثبتُ في حقِّه المؤاخذةُ واستحقاق العقوبة من الله تعالى، حالها تمامًا حال شروط الصلاة كدخول الوقت مثلًا، فإنَّه شرطُ وجوبٍ للصلاة فتكون منجَّزَةً في حقِّ المكلَّف عند اجتماعها مع بقية الشروط، فلا ينبغي التهاون في أداء هذا الواجب، فليس الدينُ هو الصلاة والصوم والحج فقط، بل هناك واجباتٌ أخرى تعادل هذه الواجبات، يُثابُ عليها الفاعل ويًعاقَب عليها التارك، ومن أهمَّ الواجبات التي تتعرَّض للتهاون والترك من المكلَّفين، واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك الواجبات المالية كالزكاة والخمس.
محمود سهلان العكراوي
الجمعة 2 شهر رمضان 1444هـ
الموافق 24 مارس 2023م