بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآلِه الطيبين الطاهرين
إشكالات حول المسائل العلميَّة الناتِجة عن الجهد العقلي.. أصول الفِقه مِثالًا
رؤيةٌ في منهجية دراستها وتدريسها
لا زلنا نعاني الكثير مِن المشاكل المُعقَّدة بسبب البناء الفكري والسلوكي للكثير مِنَّا على أفهام خاطئة ومفاهيم مختلطة، ومِن ذلك المواقف الانفعاليَّة مِنْ بعض العلوم بشكل عام، وما يُدَرَّس مِنها في الحوزة الشريفة على وجه الخصوص، فكالفلسفةِ، وأصول الفقه، والمنطق، والرجال، وما نحوها مِن علوم يرى بعضٌ محوريتها في الدرس الحوزوي فيما يراها بعضٌ آخر ضلالًا وإفسادًا في الدين!
أمَّا من يكونُ على خلاف ما عليه الخصمان فهو عند كلِّ واحدٍ منهما متذبذبٌ مُشَتَّتُ الذهنِ لا يَقْوَى على صَلَابة الموقف الحق!
إنَّ لهذا التطرف آثارَهُ السيئة على المؤمنين.. يُشوِّهُ أفهامهم، ويُعقِّدُ نفسياتهم، ويُثقِل صدورهم على بعضهم البعض، ولكلِّ ذلك آثار أخرى تظهر في تعب المجتمع من الدين، فيتراخى بعضٌ عن الالتزام بِعُرى التدين، ويتصنَّمُ بعضٌ آخر تَصَنُّمَ تزمُّتٍ وصلافةٍ في جبهة من جبهات الاحتراب الداخلي بين أصولي وإخباري وتفكيكي وفلسفي وعرفاني.. ولا يزالُ الشيطانُ يرمي بِفُرُوخِهِ في جَمَاعَاتٍ وتَحَزُّباتٍ يبتدعها يومًا بعد يوم. ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم..
أتعرَّض في هذه المقالة للخطوط العامَّة وبعض التفاصيل التي تُبَيِّنُ المواقع الطبيعية للعلوم محلِّ الخِلاف مُرَكِّزًا على عِلم أصول الفِقه كنموذج لما نروم تقريره.
فأقول مستعينًا بالله جلَّ في عُلَاه:
فقدان المعصوم (عليه السَّلام) فقدانٌ للركن الوثيق والعَمَد:
لم تتوقَّفُ الخلافات الفكرية منذ بَدَأها إبليس (لعنه الله تعالى) بقوله: (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)[1]، ومنذ ذلك الحين بانَتِ السَّلامةُ في التزام جهة العصمة والتمسُّكِ بِحُجْزَةِ المعصوم (عليه السَّلام)، وما دون ذلك فهو الضلال إلَّا ما وقع منه موافِقًا للهُدى والحقِّ.
إنَّ لحضور المعصوم (عليه السَّلام) ضرورته في حجز المُتمسكين به عن كلِّ ما يُودِي بِهِم إلى طُرق التيه والضياع، وإنَّما يكون ذلك بحسب قوَّة ودقَّة التمسُّك ومدى قُدرَة المتمسِّك على إقصاء رؤاه المخالفة لما يقوله المعصوم (عليه السَّلام).
روى في اختيار معرفة الرجال عن عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السَّلام):
"ارْتَدَّ النَّاسُ إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ؛ سَلْمَانُ وَأَبُو ذَرٍّ وَالْمِقْدَادُ.
قَالَ: قُلْتُ: فَعَمَّارٌ؟!
قَالَ (عليه السَّلام): قَدْ كَانَ جَاضَ جِيضَةً ثُمَّ رَجَعَ.
ثُمَّ قَالَ (عليه السَّلام): إِنْ أَرَدْتَ الَّذِي لَمْ يَشُكَّ وَلَمْ يَدْخُلْهُ شَيءٌ فَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا سَلْمَانُ فَإِنَّهُ عُرِضَ فِي قَلْبِهِ عَارِضٌ أَنَّ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام) اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ لَوْ تَكَلَّمَ بِهِ لَأَخَذَتْهُمُ الْأَرْضُ. وَهُوَ هَكَذَا، فَلُبِّبَ وَوُجِئَتْ عُنُقُهُ حَتَّى تُرِكَتْ كَالسِّلْقَةِ، فَمَرَّ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام) فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَذَا مِنْ ذَاكَ. بَايِعْ! فَبَايَعَ.
وَأَمَّا أَبُو ذَرٍّ فَأَمَرَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام) بِالسُّكُوتِ وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ؛ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ. فَمَرَّ بِهِ عُثْمَانُ فَأَمَرَ بِهِ"[2].
جاء ذكر سلمان وأبي ذر في قِبال المقداد الذي لم يشك ولم يدخله شيءٌ. أمَّا أخواه فكانت لكلٍّ منهما سقطةٌ ظهرَ أثرُها الذي ليس بالضرورة أن يكون عقابًا، ولكنَّه بالضرورة خلاف الأولى، وهذا ما ينبغي التنبُّه له جيِّدًا.
إذًا، كلَّما التَصَقَ المُؤمِنُ بالمعصوم (عليه السَّلام) وألغى نفسه في ما يكون للمعصوم (عليه السَّلام) فيه كلمةٌ كان في وثاقة الأمن والسَّلامة مِن أيِّ سقطةٍ، وكلَّما ابتعدَ واستقلَّ برأيه حتَّى لو كان عن غير قصد فهو حينها عرضةٌ للضرر وِمنه الضلال والضياع والتيه أعاذنا الله تعالى وإيَّاكم من شرور الدنيا والآخرة.
وبذلك يتَّضِحُ عِظم البلاء الواقع على المؤمنين بغيبة الإمام المعصوم (عليه السَّلام)، ولا سلامة فيها بغير أمرين اثنين؛ أوَّلهما التمسُّك الدقيق بما ورد عنهم من أحاديث محفوظة في أصولنا الروائية الشريفة، وهذا لا قرار له دون العض بالنواجذ على الأمر الثَّاني وهو الاحتياط؛ إذ لا سبيل للسلامة مِن مخالفة لمعصوم (عليه السَّلام) في حال غيبته بغير الاحتياط؛ كيف لا ومِن أخطر سمات الروايات الشريفة الواردة عنهم (عليهم السَّلام) سِمَةُ التعارض الواقع بينها.
عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام): "مَا بَالِي أَسْأَلُكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَتُجِيبُنِي فِيهَا بِالْجَوَابِ ثُمَّ يَجِيئُكَ غَيْرِي فَتُجِيبُه فِيهَا بِجَوَابٍ آخَرَ؟!
فَقَالَ (عليه السَّلام): إِنَّا نُجِيبُ النَّاسَ عَلَى الزِّيَادَةِ والنُّقْصَانِ.
قَالَ: قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) صَدَقُوا عَلَى مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) أَمْ كَذَبُوا؟
قَالَ (عليه السَّلام): بَلْ صَدَقُوا.
قَالَ: قُلْتُ: فَمَا بَالُهُمُ اخْتَلَفُوا؟!
فَقَالَ (عليه السَّلام): أمَا تَعْلَمُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) فَيَسْأَلُه عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَيُجِيبُه فِيهَا بِالْجَوَابِ، ثُمَّ يُجِيبُه بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَنْسَخُ ذَلِكَ الْجَوَابَ، فَنَسَخَتِ الأَحَادِيثُ بَعْضُهَا بَعْضًا"[3].
وعَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَنِي، ثُمَّ جَاءَه رَجُلٌ فَسَأَلَه عَنْهَا فَأَجَابَه بِخِلَافِ مَا أَجَابَنِي، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَأَجَابَه بِخِلَافِ مَا أَجَابَنِي وأَجَابَ صَاحِبِي. فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلَانِ قُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه، رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ شِيعَتِكُمْ قَدِمَا يَسْأَلَانِ فَأَجَبْتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِغَيْرِ مَا أَجَبْتَ بِه صَاحِبَه!
فَقَالَ (عليه السَّلام): يَا زُرَارَةُ، إِنَّ هَذَا خَيْرٌ لَنَا وأَبْقَى لَنَا ولَكُمْ، ولَوِ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَصَدَّقَكُمُ النَّاسُ عَلَيْنَا ولَكَانَ أَقَلَّ لِبَقَائِنَا وبَقَائِكُمْ.
قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام): شِيعَتُكُمْ لَوْ حَمَلْتُمُوهُمْ عَلَى الأَسِنَّةِ أَوْ عَلَى النَّارِ لَمَضَوْا. وهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ عِنْدِكُمْ مُخْتَلِفِينَ؟! قَالَ: فَأَجَابَنِي بِمِثْلِ جَوَابِ أَبِيه"[4].
ولذلك جاءت الروايات الشريفة آمِرَةً بالتوقف تارة، والاحتياط أخرى، والإرجاء إلى لقاء الإمام (عليه السَّلام) في ما إذا غمَّ الأمر أو اشتبه أو ما نحو ذلك، ومنها ما عن أبي بصير، قال: قال أبو جعفر (عليه السَّلام): "حَديثُنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يُؤمِنُ بِهِ إلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أو نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أو عَبْدٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيِمَانِ، فَمَا عَرَفَتْ قُلُوبُكُم فَخُذُوهُ وَمَا أنْكَرَتْ فَرُدُّوهُ إلينَا"[5].
وَعَنْ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ رَجُلٍ اخْتَلَفَ عَلَيْه رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دِينِه فِي أَمْرٍ كِلَاهُمَا يَرْوِيه، أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِأَخْذِه، والآخَرُ يَنْهَاه عَنْه. كَيْفَ يَصْنَعُ؟
فَقَالَ (عليه السَّلام): يُرْجِئُه حَتَّى يَلْقَى مَنْ يُخْبِرُه. فَهُوَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يَلْقَاه". وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "بِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ وَسِعَكَ"[6].
وفي رواية عمر بن حنظلة علَّل الإمام الصادق (عليه السَّلام) الإرجاء للقاء الإمام (عليه السَّلام) في موارد تعارض النصوص وعدم معرفة الطريق لرفع التعارض بقوله: "فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ"[7].
العَقْلُ في زَمَنِ الغَيْبَة:
تطرأ في مسيرة الحياة الدنيا أمورٌ وأحداثٌ في زمنٍ لم تكن في قبله من الأزمان، وهذه سُنَّةٌ طبيعيَّةٌ تقتضيها عوامل مِنها تطوُّر الإدراك البشري بتوسُّع أو تضيُّق البيئة التي ينشأ فيها وغيرها التي يمُرُّ بِها، وقد سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْجَفْرِ، فَقَالَ:
"هُوَ جِلْدُ ثَوْرٍ مَمْلُوءٌ عِلْمًا.
قَالَ لَه: فَالْجَامِعَةُ:
قَالَ (عليه السَّلام): تِلْكَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي عَرْضِ الأَدِيمِ مِثْلُ فَخِذِ الْفَالِجِ، فِيهَا كُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه، ولَيْسَ مِنْ قَضِيَّةٍ إِلَّا وهِيَ فِيهَا حَتَّى أَرْشُ الْخَدْشِ.
قَالَ: فَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السَّلام)؟
قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلاً ثُمَّ قَالَ (عليه السَّلام): إِنَّكُمْ لَتَبْحَثُونَ عَمَّا تُرِيدُونَ وعَمَّا لَا تُرِيدُونَ! إِنَّ فَاطِمَةَ مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) خَمْسَةً وسَبْعِينَ يَوْمًا وكَانَ دَخَلَهَا حُزْنٌ شَدِيدٌ عَلَى أَبِيهَا، وكَانَ جَبْرَئِيلُ (عليه السَّلام) يَأْتِيهَا فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا ويُطَيِّبُ نَفْسَهَا ويُخْبِرُهَا عَنْ أَبِيهَا ومَكَانِه ويُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا، وكَانَ عَلِيٌّ (عليه السَّلام) يَكْتُبُ ذَلِكَ، فَهَذَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليه السَّلام)"[8].
فَصَحَّ بِذَلِك ما اشتهر بين الأعلام بأنَّ لله في كلِّ واقعةٍ حًكْمًا، وفي ظرف غيبة المعصوم (عليه السَّلام) وعدم وضوح ما يُستدلُّ به ممَّا ورد عنهم (عليهم السَّلام) يدخل المؤمن في حيرة، ولا يمكن الركون إلى الاحتياط دائمًا، وإلَّا لكان المؤمنون اليوم في زاوية الإقصاء عن هذه الدنيا؛ إذ أنَّهم لن يجدوا نصًّا واضحًا في حكم ركوب الطائرة، أو استعمال مكبرات الصوت، أو استعمال أجهزة الهاتف، وغير ذلك الكثير ممَّا أرجعه العلماء إلى عمومات وإطلاقات وأصالات شرعيَّة.
في خِضَمِّ هذه المتغيرات المضطردة فكَّر العُلَمَاء في السبيل للتعرُّف على النظام العقلي والعقلائي الذي يحكم العلاقة التشريعية والبيانية والخطابيَّة بين الخالق والمخلوق بناءً على كونها مخلوقةً لله جلَّ في عُلاه، وفي هذا المضمار الواسع استفادوا تارةً ممَّا أبدعه غيرهم مِن علوم، وتارةً أخرى أخذوا هم بزمام المبادرة فأبدعوا مِنها ما يعينهم على فهم الواقع وإحراز المُعذريَّة بين يدي الله تبارك ذكره.
فالأصل الذي يقوم عليه البناء العلمي للعلوم المُدَوَّنة التي أسندها علماء الإسلام للإسلام مثل الفلسفة الإسلامية والكلام وأصول الفقه هو النظام العقلي والعقلائي الذي لا يخالفه العقلاء في تشريعاتهم وتقنيناتهم، وحواراتهم وتفاهماتهم، واستدلالاتهم وبراهينهم، وعلى وفقه وموازينه يتعامل الله تعالى مع هذا الوجود بما فيه الإنسان.
إنَّ مِثلَ مبادئ الأحكام، ومثل واقع الأمر في عالم الثبوت، والكشف بالأدلة والبراهين إثباتًا، وقبح العقاب بلا بيان، ومبدأ حق الطاعة.. إنَّما هي الأصول والحدود التي يتحدَّدُ بها هذا الوجود العاقل.
إذًا فَمَسِيرُ العِالِمِ الإسلامي في مثل هذه العلوم المُدَوَّنَة إنَّما هو للكشف عن هذه الأصول وتقريرها لينضبط عليها في استدلالاته واستنباطاته.
الرأي الآخر: لسنا مُكَلَّفينَ بِغَير التمسُّك بما جاء في الثقلين:
قَالَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله): "إِنَّمَا الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ؛ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، ومَا خَلَاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ"[9]. وليس مِنْ آيةٍ مُحْكَمَةٍ وَلَا فَريضَةٍ عادِلَةٍ ولا سُنَّةٍ قائِمَةٍ إلَّا وهي في الكتاب العزيز والحديث الشريف، وما لا يُوصَلُ بِها إليها من مطالب الدنيا ومقاصدها كُفيناه فلا نتكلَّف أمره، بل لا يُؤمَنُ الوقوع في الضلال مع المشي في طريقٍ لم يسُنُّهُ لنا الكتابُ والعِترةُ بشكل واضح وصريح.
وقد ورد عنهم (عليهم السَّلام) بأنَّ العلم إمَّا أن يؤخذ منهم وإلَّا فلا نفع فيه، ومن ذلك ما عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السَّلام) قوله: "فَوَاللَّه لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَبْرَئِيلُ (عليه السَّلام)"[10]، وقال (عليه السَّلام) لِسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ والْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ مُقرِّعًا: "شَرِّقَا وغَرِّبَا فَلَا تَجِدَانِ عِلْمًا صَحِيحًا إِلَّا شَيْئًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ"[11].
لذا نرى المُحدِّثَ الحُرَّ العامليَّ (نوَّر الله مرقده الشريف) وقد بذل الجهود العظيمة في تصنيف الروايات الشريفة بحسب العلوم التي يحتاجها النَّاس راميًا إلى بيان عدم الحاجة لغير ما ورد عنهم (عليهم السَّلام)، ودون القارئ الكريم كتاب الفصول المهمَّة في أصول الأئمة (عليهم السَّلام)، وكتاب هداية الأمَّة إلى أحكام الأئمة (عليهم السَّلام) وغيرهما مِن مصنَّفات الشَّيخ أبي جعفر محمَّد بن الحسن الحرِّ العامليِّ (علا برهانه).
الواقِعُ النفسيُّ للصراع:
نتمكَّن مِن حلِّ الكثير من مشاكل الخِلاف الواقعة بيننا لو لا بروز رُؤوسٍ ذات عصبيَّةٍ تُعقِّدُ المُشكِلَةَ وتُصلِّبُ العِلاقات بين أطراف الخِلاف، وإن كان صاحِبُ العصبيَّة أو الاستهزاء بالآخر أو التعالي عليه بأي نحو من الأنحاء اسمًا كبيرًا بارزًا فإنَّ تَطَرُّفَهُ في الرأي ليس بأقلِّ مِن إسفين يدقُّه دقًّا في قلب الطائفة فيفلقه فيتشظَّى المؤمنون طوائِف وأحزابًا، والمصيبة أنَّه لا يرى نفسه متطرِّفًا ولا ذا عصبيةٍ ممقوتة، بل يرى أنَّه ينتصرُ للحقِّ ويُقصي الباطل متقرِّبًا بذلك إلى الله تعالى!
مُقتَضَى الحِكمَة:
هناك واقِعٌ عِلميٌّ قائِمٌ فعلًا وعليه علماء أجِلَّاء لا يُنكَر فضلُهُم، وهو ليس على طريقةٍ واحدةٍ، فعندنا الأخباري، والأصولي، وعندنا الفيلسوف والمتكلِّم، وعندنا التفكيكي.. وكلٌّ مِن هذه التوجُّهات والمسالك العلميَّة يزخر ويزدهي بأعلامه من ذوي الفقاهة والفهم، وليس منهم من خرج بمسلكه خارج الحدود الحافظة للتشيُّع والولاية لأهل البيت (عليهم السَّلام) عقيدة وفقهًا وخُلُقًا، فهي مَسَالِكُ عِلْمِيَّةٌ في مسار واحِدٍ مُحدَّدٍ بأصول وثوابت عقديَّة وفقهيَّة وأخلاقيَّة، وأمَّا النزاعات الواقعة فليست إلَّا نتيجة للتعصُّب وضيق الأفق وحرج الصدور عن استيعاب هذا الحدِّ من الاختلاف الطبيعي بين أبناء المذهب الحق والطائفة المرحومة، لا سيَّما مع ملاحظة طوفان الضغط الثقافي والاجتماعي الذي يضع المجتمع بشكل عام وقياداته وكبرائه على وجه الخصوص تحت مسؤوليَّة عظمى وهي مسؤولية التعامل الحكيم مع ثنائيَّة المحافظة على الأصول من جهة وتجنُّب العُزلة عن العالم مِن جِهةٍ أخرى.
إنَّ مذهبَ أهل البيت (عليهم السَّلام) مذهبٌ أصيلٌ له ثقله البالغ ما جعله محطًّا لنظر الآخرين بحثًا ونقدًا، كيف وفي الأمر أبعاد عقدية من جانب وسياسيَّة من جوانب؟
يقول الشَّيخُ الطُّوسِيُّ في مقدمة كتابه (تهذيب الأحكام): "ذَاكَرَنِي بَعْضُ الأصْدِقَاءِ مِمَّنْ وَجَبَ حَقُّهُ عَلَينَا بِأحَادِيثَ أصْحَابِنَا وَمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الاخْتِلافِ وَالتَّبَايُنِ وَالمُنَافَاةِ وَالتَّضَادِّ حَتَّى لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ خَبَرٌ إلَّا وَبِإزَائِهِ مَا يُضَادهُ، وَلَا يَسْلَمُ حَديثٌ إلَّا وَفِي مُقَابَلَتِهِ مَا يُنَافِيه، حَتَّى جَعَلَ مُخَالِفُونَا ذَلِكَ مِنْ أعْظَمِ الطُّعُونِ عَلَى مَذْهَبِنَا، وَتطَرَّقُوا بِذَلِكَ إلى إبْطَالِ مُعْتَقَدِنَا، وَذَكَرُوا أنَّه لَمْ يَزَلْ شُيُوخُكُمُ السَّلَفُ وَالخَلَفُ يَطْعَنُونَ عَلَى مُخَالِفِيهم بِالاخْتِلَافِ الذينَ يدينُونَ اللهَ بِهِ وَيُشَنِّعُونَ عَليهم بافْتِرَاقِ كَلِمَتِهِم فِي الفُرُوعِ، وَيَذْكُرُونَ أنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ أنْ يَتَعَبَّدَ بِهِ الحَكيمُ وَلَا أنْ يُبيحَ العَمَلَ بِهِ العَليمُ، وَقَدْ وَجَدْنَاكُم أشَدَّ اخْتِلَافًا مِنْ مُخَالِفِيكُم وَأكثَرَ تَبَايُنًا مِنْ مُبَايِنِيكُم، وَوجُودُ هَذَا الاخْتِلَافِ مِنْكُم مَعَ اعْتِقَادِكُم بُطْلَانَ ذَلِكَ دَليلٌ عَلَى فَسَادِ الأصْلِ... فَقَصَدتُ إلى عَمَلِ هَذَا الكِتَاب الذي يَحْتَوي عَلَى الأخْبَارِ المُخْتَلِفَةِ وَالرِّوَاياتِ المُتَعَارِضَةِ وَأُبَيِّنُ الوَجْهَ فِيهَا إمَّا بِتَأويلٍ أَجْمَعُ بَينَهَا أو أذْكُرُ وَجْهَ الفَسَادِ فِيهَا إمَّا مِنْ ضَعْفِ أسْنَادِهَا أو عَمَلِ العِصَابَةِ بِخِلَافِ مُتَضَمنهَا".
لا يستهين بهذا الضغط الذي يتعرَّض له الشِّيعة إلَّا جاهِلٌ بموازينه وحيثياته، أمَّا العالِمُ فيفهم جيِّدًا معنى أن تكون السُّلُطَاتُ السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة روافِعَ ودوافِعَ لِما ينتمي إليها مِن دينٍ أو معتنقٍ أو ثقافةٍ أو ما نحو ذلك، فهي حينها عولمةٌ ذات ضغط كبير في نطاق سلطة تلك القوى، والشواهد تفوق حدَّ الحصر، ولا أجد حاجةً لذكرها بعد هذا البيان المتقدِّم.
لاحظوا قولَ شيخِ الطائِفَةِ (طاب رمسُه) في مقدِّمة كتابه (عدَّة الأصول):
"قَدْ سَألتُم أيَّدَكُمُ اللهُ إمْلَاءَ مُخْتَصَرٍ فِي أُصُولِ الفِقْهِ يُحيِطُ بِجَمِيعِ أبْوَابِهِ عَلَى وَجْهِ الاخْتِصَارِ وَالإيِجَازِ عَلَى مَا تَقْتَضيِهِ مَذَاهِبُنَا وَتُوْجِبُهُ أُصُولُنَا؛ فَإنَّ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا البَابِ سَلَكَ كُلُّ قَومٍ مِنْهُم المَسَالِكَ الَّتِي اقْتَضَاهَا[12] أُصُولُهُم، وَلَمْ يُصَنِّفْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا المَعْنَى، إلَّا مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا أبُو عَبْدِ اللهِ رَحِمَهُ اللهُ[13] فِي المُخْتَصَرِ الَّذِي لَهُ فِي أُصُولِ الفِقْهِ وَلَمْ يَسْتَقْصِيه، وَشَذَّ مِنْهُ أَشْيَاءُ يَحْتَاجُ إلي اسْتِدْرَاكِهَا، وَتَحْرِيرَاتٍ غَير مَا حَرَّرَهَا؛ فَإنَّ سَيِّدَنَا الأجَلَّ المُرْتَضَى (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) وَإنْ كَثُرَ فِي أمَاليه، وَمَا يُقِرُّ عَليهِ، شَرَحَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُصَنِّفْ فِي هَذَا المَعْنَى شَيْئًا يُرْجَعُ إليهِ، وَيَجْعَلْ ظَهْرًا يُسْتَنَدُ إليه.
وَقُلْتُم: إنَّ هَذَا فَنٌّ مِنَ العِلْمِ، لَابُدَّ مِنْ شِدَّةِ الاهْتِمَامِ بِهِ؛ لِأنَّ الشَّرِيعَةَ كُلهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَيهِ وَلَا يَتُمُّ العِلْمُ بِشَيءٍ مِنْهَا مِنْ دُونِ إحْكَامِ أُصُولِهَا، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ أُصُولَهَا فَإنَّمَا يَكُونُ حَاكيًا وَمُقَلِّدًا، وَلَا يَكُونُ عَالِمًا. وَهَذا مَنْزِلَةٌ يَرْغَبُ أهْلُ الفَضْلِ عَنْهَا.
وَأنَا مُجِيبُكُم إلى مَا سَألْتُم عَنْهُ، مُسْتَعِينًا بِاللهِ وَحَولِهِ وَقُوَّتِهِ وَأسْأَلُهُ أنْ يُعِنِّي عَلَى مَا يُقَرِّبُ مِنْ ثَوَابِهِ وَيُبَعِّدُ مِنْ عِقَابِهِ".
بِحَسَبِ الشَّيخ الطوسيِّ (نوَّر الله مرقده الشريف) فإنَّ الشيعة لم ينشغلوا في ذلك العصر بعلم أصول الفقه، بل لم يُعهد انشغالهم بغير التفسير والفِقه والحديث، وإن صنَّفوا في الرِّجال والدراية فإنَّهم لم يُكثِروا، أمَّا غيرهما مِن مِثل المنطق والفلسفة والكلام وأصول الفقه وما نحوها فندرة لا ظهور لها بين عموم انشغالاتهم العِلميَّة.
كما والظاهر أنَّ طفرَةً ثقافيَّة لَبَسَتْ مَن جاؤوا سائِلين الشَّيخ الطوسي (رحمه الله تعالى) التأليف في أصول الفِقه؛ فمِن نَقْلِهِ (قَدَّسَ اللهُ نَفْسَه) يَظْهَرُ قَولُهُم بِمحوريَّة هذا العلم، بل وانهدام الفقه بدونه! ما يبين لنا سطوةً ثقافيَّة له قد بدأت بالسيطرة على المدارس العلميَّة مِنْ بغداد إلى نواحي وأطراف الحاضرة القائمة آنذاك.
ثُمَّ أنَّنا نُفِيدُ مِن بيان شيخ الطائِفَةِ (رحمه الله تعالى) بأنَّ لكلِّ قومٍ مَسلَكُهم في بحثهم وتدوينهم لمسائل أصول الفقه الخاص بهم، فلا ينفع أصول الفقه المدون بيد علماء المذهب (أ) للعمل به في استنباطات علماء المذهب (ب) لأحكامهم الشرعية.
تنبيه:
لو أنَّنا نرفع عنوان (أصول الفقه) ونبقي على مادَّته العلميَّة دون جمع وتدوين فحينها سوف نرى استناد طُرق الاستنباط إلى قواعِدَ وكليَّات لا بُدَّ للفقيه أن يُحيط بها ويُتقنها لتثبت فقاهته ويكون أهلًا لمقام الفقاهة.
روى ثِقَةُ الإسلام (علا برهانه) بسنده عن سُليم بن قيس، عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) في حديث طويل، قال: "فَإِنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله) مِثْلُ الْقُرْآنِ؛ نَاسِخٌ ومَنْسُوخٌ، وخَاصٌّ وعَامٌّ، ومُحْكَمٌ ومُتَشَابِهٌ، قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) الْكَلَامُ لَه وَجْهَانِ كَلَامٌ عَامٌّ وكَلَامٌ خَاصٌّ مِثْلُ الْقُرْآنِ"[14]. "ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا حَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرَهُ وَتَفْسِيرَ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَنَاسِخَهَا وَمَنْسُوخَهَا إِلَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)"[15].
وقد عقد الشَّيخ الحُرُّ العامليُّ (طيَّب الله مرقده الشريف) في كتابه الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة (عليهم السَّلام) فصلًا حوى أحادِيثَ في الكُلِّيَّات المتعلِّقة بأصول الفقه وما يناسبها[16]، ومِن ذلك: (باب وجوب التوقُّف والاحتياط في كلِّ ما لم يُعلم حكمه بنصٍّ منهم (عليهم السَّلام) وترك كلِّ ما يَحْتَمِلُ التحريمَ مِنَ الشبهات)، و(باب وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة)، و(باب وجوب العمل بالنَّصِّ المُطلقِ وعدم جواز تقييده بغير دليل)، وغيرها مِنَ الأبواب التي انتزع الشَّيخ (رضوان الله تعالى عليه) من أحاديثها كلِّيَّات تُبحَثُ في أصول الفِقه المُدَوَّن.
إنَّ علوم أصول الفقه والكلام والفلسفة، وكلَّ علم وقع فيه خِلافٌ مِنْ حيثُ كونه ليس ممَّا جاء به أهل البيت (عليهم السَّلام) هو في واقع مادَّتِهِ العِلْمِيَّة مسائِل يتعاطاها النَّاس في حياتهم الطبيعيَّة، وإنَّما نشأ الإشكال مِن عمليَّة التدوين العلمي لهذه المسائل بما يجعلها منتظمةً في عِلمٍ مُسمَّى[17]، وإلَّا فالفقيه بغض النظر عن مسلكه في الاستنباط يعملُ مُحتَكِمًا إلى قواعد علميَّة ثابتة لم يبتدعها هو، بل أخذها بحسب أصول النظر والبحث مِن واقع الحياة وقواعدها الأعم مِن القواعد الخاصَّة بالمجتمع البشري وغيرها حتَّى لو وجدها في النصوص الشريفة الواردة في الثقلين الشريفين فهذه من تلك.
مسألة الدرس الحوزوي:
إذا اتَّضحَ ما مرَّ وفَهِمَه القارئ الكريم فهمًا صحيحًا.. قلتُ:
إنَّ التعمُّقَ والانحصارَ في أيِّ عِلمٍ مِنَ العلومِ لا ينتهي في الغالب إلى غير التطرُّف والقصور في النظر بقدر التعمُّق والانحصار؛ وسَبَبُ ذلِك أمران؛ أوَّلُهُمَا أنَّ كلَّ بيان أعم من العلميِّ وغيره لا يخلو غالِبًا مِن مرتكزات النَّاس وأعرافهم والمقاصد المرادة لصاحب البيان في حال وظرف بيانه، وثانيهما عدم الالتزام الدقيق دائِمًا للمتكلَّم بالقواعد العلميَّة المدوَّنة، وهو عدمُ التِزَامٍ عَاديٍّ ولا يُخْرِجُ خِطَابَهُ عن كونه ذا جودةٍ بيانيَّة، لا سيَّما في الموارد التي لا يكون فيها المُخَاطَبُ ولا نفس المورد والمقام يستدعيان الالتزام بتلك الدِّقَّة.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ فهمَ النَّصِّ يستندُ بطبيعة الحال إلى نظر الشخص وما يقوم عليه فهمُهُ مِنْ مَشَارِبَ ثقافية وفكرية وما يتعلَّق بِها ويرجع إليها مِن مكونات النَّظر والفهم بما يُؤثِّر بشكل طبيعي في فهمه، لذا فإنَّنا نرى طريقة تفكير الفيلسوف في فهمه لآيات الكتاب العزيز ونصوص الأحاديث الشريفة تقوم على الفلسفة أو تداخلها الفلسفةُ بشكل واضح، ومثله الأصولي وغيرهما ممَّن عُرِفوا بلونٍ عِلميٍّ تلبَّسُوه بعد تعمُّق كلِّ واحدٍ منهم فيه، ودونك على سبيل المثال شرح الفيلسوف الملَّا صدرا لأحاديث الأصول من الكافي للشَّيخ الكليني، وشرح الأصولي الأغا ضياء الدين العراقي لتبصرة المتعلِّمين للعلَّامة الحلي. وكذا نرى أثر المذهب السِّياسي في فهم آيات الكتاب العزيز وتفسير أحادث التاريخ، بل ومحاكمتها بحسب الموازين والنظريات السياسيَّة، ومن ذلك كتاب اليمين واليسار في الإسلام لليساريِّ المِصريِّ أحمد عبَّاس صالح.
- إشكال الدرس:
وهنا أقول بأنَّ الخلل والمشكلة ليسا في دراسة هذه العلوم ولا في التخصُّص فيها، وإنَّما هي في دراستها بناءً على كونِ قواعِدها هي الميزان والحاكم في الفهم والنظر بِحَيثُ أنْ يَضَعَ القَائِمُ بِهَا مادَّتَه العِلميَّة في آلتها ويأخذُ النتيجة ويكون بوقًا لها!
تقدَّمَ أنَّ مسائِل العلوم مأخوذة من واقع الحياة ولم يبتكرها أو يخلقها عبقريٌّ، ولكنَّ عالِمًا جمعها ونظمها نظمًا علميًّا لتكون عِلمًا قائمًا بذاته، وفي النظر القاصر أرى خطأ دراسةِ مسائل العلوم على اعتبارها مسائل مُدوَّنة؛ وعِلَّةُ ذلك أنَّ دِراسَة المسائلَ من حيث كونِها المُنْتِجَةَ لِقَوَاعِدَ عِلميَّةٍ حَاكِمَةٍ تُورِثُ في المتعلِّم سلوك التفكير من خلالها، وهذا خطأ؛ والصحيح أنَّ يتعلَّمها لتكون مِنْ مُكَوِّنِهِ الفكري الذي يُفكِّر به لا مِن خِلاله، وهذه حيثيَّة في غاية الأهميَّة وهي في ما أرى المُشكِلُ المُعضِلُ في الدرس الحوزوي.
نُلاحِظُ إشارةَ وتنبيهَ المُحدِّثُ البحرانيُّ (علا برهانه) في غير مكانٍ على عدم جواز تحكيم القواعد العقلية في الشرع عند عدم النَّص، ومن ذلك ما تعرَّض إليه في بحث (اشتراط الإباحة في مكان المُصَلِّي)، ومرجع المسألة عند علمائنا الأصوليين إلى مبحث (اجتماع الأمر والنهي)، وبعد ما ناقش بعضَ الأقوال، قال: "وبالجملة فالمسألة لخلوِّها منَ النصوص لا تخلو من شوب إشكال، والاعتماد على التعليلات العقليَّة في الأحكام الشرعيَّة مجازفةٌ، بل جرأةٌ على ذي الجلال، ولا سيَّما مع ما عرفتَ مِنْ قبول الأمور العقليَّة للاختلاف باختلاف الأفكار والأفهام وتَطَرُّقِ الاختلال"[18].
إنَّ مبحث (اجتماع الأمر والنهي) من المباحث المهمَّة في أصول الفِقه، وهي مِنَ الموارد الكثيرة التي ينظر فيها الباحِث في مبادئ وموازين صدور الحكم الشرعي قاصِدًا الخروج بقواعِد حاكِمة عند عدم النَّص، بل وحاكمة على النص؛ حيث إنَّ الفرض عدم جواز مخالفة النَّص لها!
إنَّ دراسَة المسألة الأصوليَّة على أنَّها مِنَ القضايا التي يعيشها الأنسان ويمارسها عن وعي وعن غير وعي، والنظر في خلفياتها وجهاتها مِنَ الأهميَّة بمكان، لا سيَّما لدخول هذا الدرس في تحسين عقليَّة الطالب وإنضاجها وتدريبها على التريث والتأنِّي في قراءة ما بين يديه من أحداث ووقائع، ونصوص، ولكنَّ هذا مُحدَّدٌ بما له سلطةٌ عليه، أمَّا ما أُمِر باتِّبَاعِهِ والتسليمِ له فحاكِمٌ على ما يدرسه، وعند عدم النص يتوقَّف أو يعمل بحسب ما أَمَرَتْ بِهِ النُّصوصُ مِنْ براءةٍ شَرعيَّةٍ أو احتِيَاطٍ أو تَخييرٍ في الموارد التي يصدق عليها النص الخاص.
ثُمَّ إنَّ المسائل العلميَّة في أصول الفقه وغيره من العلوم محلِّ الكلام بَحَثَهَا العُلمَاءُ على مدى قرون وعقود من الزمن، وكلَّما صِيغَتْ المسألة وتقرَّرت بتنقيحات وتصحيحات جديدة وَاكَبَتْهَا أَفْهَامُ وإدْرَاكَاتُ وتَعَقُّلَاتُ مَنْ يَدْرُسُونَها في حُقْبَتِهَا الأخيرة لِيُواصِلُوا مِنْ حَيثُ انتهى الأعلامُ إلى أن ينضجوا ويتمكَّنوا من تصور المسائل تصوُّرًا علميًّا صحيحًا فَيُعْمِلُونَ حِينَهَا نَظَرُ البَحْثِ والنقضِ والإبرام لينقلوها منقَّحةً مُصحَّحة لِمَن يأتي بعدهم من طلبة العلم.. وهكذا يَتَكَوَّنُ التباني العلمي ويتواصل في طلبة العلم إلى أن يكبروا ويواصلوا حمل الأمانة.
لذا فإنَّ دراسة آراء الأعلام وبحثها والنظر فيها ليس تضييعًا للجهود، بل هو من صُلْبِ مَنْهَجيَّةِ البناء الذهني والفكري لطالب العلم، وقد أشرنا مِن قبل إلى أنَّ العمل الأصولي سُلُوكٌ عِلْمِيٌّ طبيعيٌّ سابقٌ على تدوين علم الأصول، وبالتالي فإنَّ المَسَائِلَ التي تُبحَّثُ فيه مِنها ما لا يُستغنى عنه في مقامات استنباط الأحكام الشرعيَّة، ومنها ما لا يدخل مباشرة في عملية الاستنباط إلَّا أنَّ لدراساتها وبحثها اهميَّة بالغة في فهم منظومة الأصول، كما ومنها ما يحتاجه طالب العلم في بناءِ الذهنيَّة العلميَّة الوازنة. وكيف كان فإنَّ دراسة وفهم العلوم التي يقوم عليها الدرس الحوزوي ضرورة لاستقامة المباحثات العلميَّة الموضوعيَّة الصحيحة، وخير مِثال بين أيادينا العالِمُ البارِعُ الفَقيهُ المُحدِّثُ الشَّيخُ يُوسُف آل عصفور البحراني صاحب الحدائق الناضِرة (أعلى الله مقامه)؛ فقد كانت له سلطتُهُ وهيمَنَتُه على مسائل العلوم بحيثُ لا يُقَصِّرُ في مناقشة الأعلام والنقض والإبرام حتَّى ينتهي إلى النتيجة الموافقة للنصوص الشريفة، وإلَّا فالتوقُّف وإمساك القلم. وللمنصِف المتواضِع للعلمِ أن يدرس مقدمات الحدائق ليقف على عظمةِ صاحبِها وعلو كعبه في ميادين العلم.
كان الشَّيخُ يُوسُفُ (قدَّسَ اللهُ نَفْسَهُ) واحِدًا مِنْ نجوم المذهب الحقِّ على مدى التاريخ، فلم أذكره إلَّا مِثالًا مِن أمثِلَةٍ ونماذج عاليةٍ لِفُقَهَاء قَذَفَ اللهُ تَعَالى نُورَ العِلمِ في صُدُورِهِم وآتَاهُمُ الحِكْمَةَ (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)[19].
زُبدَةُ المخاض:
إنَّ للعلوم محلِّ الكلام واقِعًا قائِمًا بالفِعل وعليها أعلامٌ وأسَاطِينُ، وكذا مَنْ يُعارِضها؛ فالمُعارِضُ وجودٌ قائِمٌ فِعلًا بأعلام وأساطين، ولا يمكن، بل لا يصحُّ تجاوزهم إلَّا مِمَّنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وقد خلصنا إلى أنَّ الخطأ في فهم طبيعة العلم، ويترتب عليه طبيعة وطريقة دراسته وتدريسه. وهنا أختم بالتنبيه إلى أمرين:
الأوَّل: لا يَضَعُ المَقَالُ نفسَه في قِبال تاريخ الدرس الحوزوي والقائمين عليه مِن علماء وفضلاء أخذوا طريقته كابرًا عن كابر، ولكنَّه يقدِّم رؤيةً ناشِئة عن مجموعةٍ مِنْ رَصْدٍ ومُلاحَظَاتٍ لِوَاقِعِ حالٍ لسنا بصدد فتح أبواب الحديث عنه، ولكن هناك مشاكل فعلًا وعلى أصعدة مختلفة.
الثَّاني: ما قُرِّرَ في هذا المقال يقتضي العنايةَ الفائِقَةَ في اختيار مَن يتصدَّى لتدريس العلوم محلِّ الكلام مِن أوَّل كتبها الدراسيَّة في الحوزة، وقد اتَّضح أنَّ ضَبْطَ المَسَائِلِ والكُتُبِ ليس هو الميزان منفردًا، وإلَّا رجعنا إلى أوَّل الكلام.
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق للخير والصَّلاح.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
ليلة النصف من شهر رمضان 1444 للهجرة
البحرين المحروسة
......................................
[1] - الآية 12 من سورة الأعراف
[2] - اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي، الشَّيخ الطوسي، ج1 ص11
[3] - الكافي، الشَّيخ الكليني، ج 1 ص 113
[4] - المصدر السابق
[5] - بصائر الدرجات - محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار) - ص 41
[6] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 66
[7] - المصدر السابق ص68
[8] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 241
[9] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 32
[10] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 400
[11] - المصدر السابق
[12] - الظاهر أنَّ الصحيح هو (المسلك الذي اقتضته أصوله)
[13] - هو الشَّيخ المُفيد محمَّد بن محمَّد بن النعمان
[14] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 63 - 64
[15] - الفصول المهمَّة في أصول الأئمة - الشَّيخ الحرُّ العاملي - ج1 - ص598
[16] - ج1 ص453
[17] - راجع للكتاب مقالةَ: مُنعطَفُ تدوين الفلسفة كعِلم: https://alghadeer-voice.com/archives/4368
[18] - الحدائق الناضرة في أحكام العِترة الطاهرة – الشَّيخ يُوسُف العصفور البحراني – ج7 – ص169-170
[19] - الآية 269 من صورة البقرة