المصدر: كتاب بيضاء من نور، زيارة أمير الله شرح وتحليل.
لمؤلفه: السيد محمود الموسوي.
جاء في نص الزيارة، السلام عليك...
وَحُجَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ
الحجة: بضم الحاء وتشديد الجيم: الوَجْهُ الذي به يَقَعُ الظَّفَرُ عند الخُصُوْمة، ويقال: حاجَجْتُه فَحَجَجْتُه.
إن لله الحجة البالغة على عباده، قد أتمّها كي لا يتعذر متعذر، ولا يلتوي على الحق ملتوٍ، فقد قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}، ومن مظاهر الحجة البالغة أنه تعالى أرسل الرسل والأنبياء، ثم نصّب من بعدهم أوصياء أمناء على دينه، فأصبحوا بتصدّيهم لشؤون الناس حُججاً على العباد، والحجة هي أن لا يدع حيرة في عقل إلا هداه إلى الصراط المستقيم، ولا يدع مجالاً لتساؤل إلا سدّه بالإجابة الشافية، ولا يدع شكّاً إلا ردمه باليقين والاطمئنان، وهذه حال أمير المؤمنين (ع) حيث جابه كل التحديات بعلمه اللدني النازل من عند الله عزّ وجلّ، فأصبح حجة الله على العباد.
أن يكون الإمام علي (ع) حجة، فهو إذاً القادر على الظفر عند الخصومة، والقادر على التبيين عند الغموض، والقادر على الدلالة عند الضياع والحيرة، ولأنه حجة الله، فالاحتجاج مصدره الله تعالى، فيصبح الإمام هو الملجأ في كل تلك الحاجات، ولذا ورد في زيارته عن الإمام الصادق (ع): "بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَاحُجَّةَ الْخِصَام".
وورد في زيارة أخرى لأمير المؤمنين (ع) "السَّلَامُ عَلَى الصِّرَاطِ الْوَاضِحِ وَالنَّجْمِ اللَّائِحِ وَالْإِمَامِ النَّاصِحِ وَالزِّنَادِ الْقَادِحِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ".
حجة ذاتية
ومن الدلالات المهمة، التي ينبغي ملاحظتها عند السلام على أمير المؤمنين (ع)، بأنه (حجة الله)، أي أن ذات علي (ع) وشخصية علي (ع)، هي حجة الله على العباد، وهذا البعد بالغ الأهمية، فإن المنصف صافي القلب من كل كدر وحقد، لا يحتاج إلى دلائل على إمامة الإمام علي (ع)، وأحقيته، ومكانته في الإسلام، بل في تاريخ البشرية كعظمة منقطعة النظير، فإن سيرة الإمام علي (ع) وشخصيته، هي بذاتها حجة لله على العباد، وهو بذاته دليل على الحق، وهذا المعنى نجده في قول الله تعالى:
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}.
وفي معنى (يتلوه شاهد منه) ورد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَلَّالِ قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (ع)، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ)؟
فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، الشَّاهِدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص)، وَرَسُولُ اللَّهِ (ص) عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ".
فالآية جعلت الإمام علي (ع) شاهداً على صدق النبوة، وهو دليل لرسول الله (ص)، كما أن لرسول الله (ص) بيّنات أخر من ربه، تجلّت في معجزاته، فإن الإمام علياً (ع) هو معجزة لرسول الله (ص)، يمكن لمن تعرّف على شخصيته أن يتعرّف على الحق، وبذلك يكون الإمام حجة الله على العباد.
والإمام (حجة الله على العباد)، يقتضي أن يكون شاهداً عليهم، والشهود هو الحضور الفاعل في الأمة، كما أرسل النبي (ص) وكما يرسل الله تعالى الرسل ليكونوا شهداء على الناس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا}.
دلالة كلمة العباد
التساؤل في كلمة عباده في النص (حجته على عباده)، هو كيف يكون حجة على العباد، ويفترض فيهم أنهم قد وصلتهم الحجة وآمنوا بها فأصبحوا عباداً، وفي المقابل أن الذين يحتاجون إلى الحجة هم الناس كافة، لأن الدين جاء للجميع؟
وفي الإجابة عن هذا التساؤل نقول: إما لأن (العباد) هو وصف يمكن إطلاقه على جميع الخلق باعتبارهم مسبّحين لله تعالى كل بطريقته، وإن كنا لا نعلم تسبيحهم، كما هو مدلول الآية الكريمة: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}.
وقد قيل في بعض آراء العلماء أن التسبيح تسبيحان: تسبيح عن إرادة وعلم، وهو ما يسبح به المؤمنون، وتسبيح قهري تكويني، لعلّه يعبّر عن الدور الذي يؤديه في حياته ضمن النظام الكوني العام.
ومن ضمن المعاني الممكنة، أن الحجة باعتبارها قائمة ومنبلجة للعباد الذين آمنوا بها، أما سائر الناس فينبغي أن ينفتحوا على شخصية أمير المؤمنين ليدخلوا في دائرة العباد، فالحجة قائمة إلى درجة أنها متاحة للجميع، ويمكن لهم أن يستوعبوها، فهي حجة على العباد الذين استقبلوها، أي استحكمت الحجة عليهم.
وقد يكون المعنى أنهم عباد الله بحسب الأصل والفطرة، الذين يفترض أن يكونوا عباده.
وقد يكون التعبير بالعباد لقوة الحجة ومتانتها، التي يمكنها أن تجعل من كل الخلق عباداً إذا تم التعرّف عليه، فنزلهم منزلة العباد.
السلام مع الحجة
التسليم على الإمام أمير المؤمنين (ع) بصفة الحجة، يجعل الزائر متصالحاً مع هذا البُعد، فيكون الإمام حجة عليه في سيرته بعد أن يتعرّف عليها، وينتهج نهجها، في خلقه وتعامله مع الناس، ومع المختلفين، ومع الحكام، ومع سائر الأشياء، فالزائر بهذا السلام يفتح نوافذ عقله لاستقبال المعارف العلوية المقدّسة، التي بهر بها العقول، كي يقدّم الإمام علي (ع) لغيره كحجة بالغة ليهتدي بهديها الناس.
وفي جهة أخرى، يخلق من نفسه أنموذجاً يحتذى في شخصيته، كي يكون مثاراً للإعجاب بالحق، ويصنع من شخصيته، شخصية جذابة للدين، كما كان أمير المؤمنين (ع)، فيسعهم بأخلاقه، فيكون الزائر حجة بعمله في الناس.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
أما البرنامج الذي يستحضره الزائر في شهادته على الناس هو الأساس الذي أسّسه القرآن الكريم في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
وقد انتهج الإمام علي (ع) هذا النهج، فأصبح هو النهج العملي المتفاعل مع الحياة، الذي يُقتفى أثره، ويُنتهج نهجه.