تمهيد:
إنَّ لكلِّ عملٍ يقوم به العبد أثره عليه وعلى مجتمعه بل وعلى الكون ككل، فالصلاة مثلًا تترك آثارها على الفرد فتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وتؤثر على نظام المجتمع والكون كذلك، قال تعالى: {إنَّ الصلاةَ تنهَى عنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ} [العنكبوت، 45]، وكذلك للصوم آثاره كتحصيل التقوى كما ورد في القرآن الكريم، قال تعالى: {يَأيُّها الذينَ آمَنُوا كُتِبَ عليكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذينَ منْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة، 183]، وعلى الجانب الآخر نجدُ ترك الواجبات وارتكاب المعاصي له آثاره كذلك، فيظهر من بعض الآيات والروايات أنَّ النِّعَم تتغيرُ بفعل الناس، قال تعالى: {إنَّ اللهَ لا يُغيِّرُ مَا بِقَومٍ حتَّى يُغيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم} [الرعد، 11]، وقال عزَّ من قائل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم، 41]، وفي الكافي الشريف عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: "أمَا إنَّه ليس من عرقٍ يضربُ ولا نكبةٍ ولا صداعٍ ولا مرضٍ إلا بذنب، وذلك قولُ الله عزَّ وجلَّ في كتابه: {مَا أَصَابَكُمْ منْ مُصيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيدِيكُمْ ويَعفُو عنْ كثير}. قال: ثمَّ قال: ومَا يَعفُو الله أكثرُ مِمَّا يُؤاخِذُ به"، وفي ثواب الأعمال عن عليٍّ (عليه السلام) قال: إذا غَضبَ الله عزَّ وجلَّ على بلدةٍ ولم ينزلْ بها العذاب، غَلَتْ أسعارها وقَصُرَتْ أعمارها ولم تربحْ تُجَّارها ولم تنزلْ أثمارها ولم تجرِ أنهارها وحبسَ أمطارها وسلّطَ عليها أشرارها. [الصدوق، ثواب الأعمال]، وقد جاء في موت الفجأة أيضًا كما في المحاسن عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): "إذا كَثُرَ الزِّنا كَثُرَ موتُ الفجأة". وغيرها كثيرٌ من الروايات التي تثبت المدعى.
آثارُ تركٍ الأمرٍ بالمعروف والنهي عن المنكر:
أذكر هنا مجموعةً من الآثار التي تترتَّب على ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مدعيًا أنَّ كثيرًا مما نعانيه في هذه الأزمنة إنما هو عائدٌ لهذا، وأرى أنَّ هذه الروايات الشريفة واضحةٌ في ذلك، وأُلفِت النظر أيضًا إلى أنَّ أغلب الآثار الواردة مناسبةٌ لكون هذه الفريضة جماعيةً ومن سنخها:
الأول: استعمالُ الأشرار على الأخيار، وعدمُ استجابة الدعاء: عن محمَّد بن عمرَ بن عرفةَ قال: سَمِعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهُنَّ عن المنكر أو ليستعملَنَّ عليكم شِرارُكُم فيدعو خيارُكُم فلا يُستجابُ لهم. [الكليني، الكافي، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر].
الثاني: هلاكُ الأُمم ونزولُ العقوبات: خَطَبَ أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه وقال: أمَّا بعدُ فإنَّه إنما هلكَ من كان قبلَكُم حيثُ ما عَمِلوا من المعاصي ولم ينهَهُم الربانيُّونَ والأحبارُ عن ذلك وإنَّهم لما تمادوا في المعاصي ولم ينهَهُم الربانيُّونَ والأحبارُ عن ذلك نزلتْ بهم العقوبات...". [الكليني، الكافي، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر].
الثالث: التعرضُ لخذلانِ الله تعالى: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر خَلْقَانِ من خَلقِ الله، فمَن نصرَهُما أعزَّه الله ومن خذلَهُما خَذَلَه الله. [الكليني، الكافي، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر].
الرابع: التعرُّضُ للحربِ من الله تعالى: عن محمَّد بن عمرَ بن عرفةَ قال: سَمِعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: كانَ رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول: إذا أمَّتي تواكلتِ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر فليأذنوا بوِقَاعٍ من الله تعالى. [الكليني، الكافي، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر].
الخامس: التعرُّضُ للعنِ الله تعالى: عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: "فإنَّ اللهَ سبحانَه لم يلعنِ القرنَ الماضي بينَ أيديكُم إلا لِتركِهم الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، فلَعنَ اللهُ السفهاءَ لركوبِ المعاصي، والحُلماءَ لترك التناهي". [نهج البلاغة].
السادس: التعرُّض للعقوبة والعذاب: قال أبو جعفرٍ (عليه السلام): أوحَى اللهُ إلى شعيبٍ النبي (عليه السلام) أنَّي لَمعذبٌ من قومِكَ مائةَ ألف، أربعينَ ألفًا من شِرارِهِم وستينَ ألفًا من خِيارِهِم، فقال: يا ربّ هؤلاءِ الأشرارُ فما بالُ الأخيار؟! فأوحَى اللهُ (عزَّ وجلَّ) إليه أنَّهم داهنوا أهلَ المعاصي ولم يغضبُوا لغَضَبي.
السابع: فقدانُ البركات، وتسليطُ الناسِ على بعضهم، وانعدامُ الناصر: رُويَ عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعَتْ منهم البركاتْ وسُلِّطَ بعضُهُم على بعضٍ ولم يكنْ لهم ناصرٌ في الأرض ولا في السماء. [الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام].
الخاتمة:
أقولُ بعد النظر في هذه الروايات وغيرها من الروايات أنَّ الأمر ينبغي أنْ يكونَ واضحًا في بعض ما تعانيه المجتمعات المؤمنة، فالإنسان يعيش في نعمةٍ وأمنٍ وأمانٍ ما دامَ يشكرُ اللهَ تعالى ويؤدي واجباته تجاهه، أما إذا خالفَ أوامرَهُ تعالى فلينتظرْ آثارَ أعماله، ومن الآيات الواضحة في هذا المجال ما قدَّمت به في التمهيد، وهي قوله تعالى: {إنَّ اللهَ لا يُغيِّرُ ما بِقومٍ حتَّى يُغيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم} [الرعد، 11]، وقد وَرَدَتِ الروايات في بيانها، منها ما في الكافي الشريف: "سألَ رجلٌ أبا عبدِ الله (عليه السلام) عن قولِ الله عزَّ وجلَّ: {فقالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَينَ أسفارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُم} الآية، فقال: هؤلاءِ قومٌ كانتْ لَهُم قُرًى مُتصِلَةٌ ينظرُ بعضُهُم إلى بعضٍ وأنهارٌ جاريةٌ وأموالٌ ظاهرةٌ فكَفَرُوا نِعَمَ اللهِ عزَّ وجلَّ وَغَيَّرُوا مَا بِأنفسهم من عافيةِ اللهِ فغيَّر الله ما بهم من نعمة وإنَّ اللهَ لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم، فأرسلَ عليهم سَيلَ العَرِمِ فغرَّقَ قُراهُم وخرَّبَ ديارَهُم وأَذهبَ أموالَهم، وأبدلهم مكانَ جناتِهم جنتينِ ذواتي أُكلٍ خمطٍ وأثل، وشيءٍ من سِدرٍ قليل، ثم قال: {ذلكَ جَزيناهُمْ بِمَا كَفَرُوا وهلْ نُجازِي إلَّا الكَفُور}". [الكليني، الكافي، باب الذنوب].
عندما نراجعُ مثلَ هذه الآيات والروايات، وعندما ننظرُ في التاريخ ونرى كيف فَعَلَ الله تعالى بمن أنكرَ النعمةَ وكفرَ بها، ومن ابتعدَ عمَّا يُرضيه تعالى، يكون كلُّ ذلك داعيًا قويًا لنا لمراجعة أنفسنا أفرادًا وجماعاتٍ، فإنَّ لا يخلو شيئًا في هذه الدنيا من أن يكون معلولًا لعِلَّةٍ ما.
اللَّهمَ اجعلنَا ممَّن يَشكرُ النِّعمَ ولا يكفرُ بها، ولا تغيِّر نِعَمَكَ علينا.
محمود سهلان العكراوي
السبت 3 شهر رمضان 1444هـ
الموافق 25 مارس 2023م