بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف رسله وسفرائه المقرّبين، محمّدٍ وآله الغرّ الميامين.
وبعدُ، فهذه سطورٌ تتعلّق بفرع من مسائل زكاة الفطرة؛ ممَّا يرتبط بمسألة العيلولة، وبالتحديد:
(حكم الشك في صدق العيلولة)
ولا بأس من بيان أمر قبل الشروع في بيان حكم هذا الفرع، وحاصله:
لا خلاف -من الناحية الفقهية- في وجوب زكاة الفطرة على كل مكلّفٍ مستجمع لشرائط الوجوب، بأن يخرجها عن نفسه، وعمّن يعوله من زوجةٍ وولدٍ وغيرهما، حتى لو لم يكن من واجبي النفقة، وهذا محلّ تسالمٍ واتفاقٍ بين فقهائنا (رضوان الله عليهم)، ويدلّ عليه -قبل الاتفاق- النصوص المتعددة، منها:
صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عمّا يجب على الرجل في أهله من صدقة الفطرة. قال: تصدّق عن جميع من تعوله من حرٍّ، أو عبدٍ، أو صغيرٍ، أو كبيرٍ). وسائل الشيعة، كتاب الزكاة، الباب٥، ح ٤.
والمقصود من العيلولة هي: تبعية الشخص لآخر في أمور معيشته؛ من مأكله، ومشربه، وملبسه، ومسكنه، وعلاجه، وسائر احتياجاته الحياتية، سواء كان ذلك على وجه الإلزام الشرعي؛ كنفقة الزوجة، أو نفقة الأقارب في بعض الحالات، أم كان على وجه التبرع؛ كنفقة من يتبرع بعيلولتهم.
ولو لم يكن هناك إلزامٌ من الشرع بنفقتهم -كما لو ضمّ إلى عائلته محتاجًا، أو غير محتاج من المؤمنين، وتعهّد بجميع نفقته من مأكل، ومشرب، وملبس، وسكن، وعلاج، وسائر احتياجاته الحياتية- فيجب إخراج زكاة الفطرة عن كل من يعوله ممن يتحمّل مسؤولية الإنفاق عليه، فالمقصود بالعيلولة هو: كون الشخص في مسؤولية شخصٍ آخر من جهة النفقة.
إذا اتضح هذا الأمر، فيقع الكلام في حكم الفرع الذي عنونّا هذه السطور به؛ وهو: بيان حكم الشك في موارد صدق العيلولة، فنقول -وعليه التكلان، وبه المستعان-:
هناك حالات لا خفاء -ولا شكّ- في صدق عنوان العيلولة عليها؛ كما إذا كان الشخص المعال في مسؤولية آخر؛ بحيث يكون هو الملزم بجميع نفقاته مما يحتاج إليه في تيسير أمور حياته؛ مثل الزوجة التي تكون في بيت زوجها، وهو يصرف عليها، وتكون مسؤولية تأمين احتياجاتها في عهدة الزوج، أو الولد، أو البنت، وهذه الموارد مما لا شك في نظر العرف في صدق العيلولة عليها.
وقد تكون العيلولة مشترَكةً بين شخصين؛ كما في حالة الأبناء مع أمّهم، أو أبيهم؛ بحيث يأمّن كلُّ واحدٍ من الولدين نفقة أمه، أو نفقة أبيه.
وفي مثل هذه الحالة يصدق على كلّ واحدٍ من الولدين أنه يعيل أباه، أو أمَّه، فيجب عليهما -معًا- دفع الفطرة عنهما، إمّا بنسبةٍ متساويةٍ إذا كانت النفقة منهما متساوية، أو بالتفاضل لو كانت النفقة منهما غير متساوية؛ كما لو تعهّد أحد الولدين -أو صرف فعلا- ثلثي النفقة للأب أو الأم، وتعهّد الولد الآخر -أو صرف فعلا- الثلثَ الآخر، فتكون زكاة الفطرة بنسبة متفاوتة؛ بحيث يتحمّل من يدفع ثلثي النفقة ثلثي الزكاة، والآخر -الذي يدفع الثلث- يتحمّل ثلثها.
وهناك موارد أخرى يحصل الشك في صدق العيلولة لسببٍ من الأسباب؛
كما لو لم يكن الولد مع أبيه، كما لو كان مسافرا للدراسة، والأب لا يتكفّل بنفقاته، ولكنّه يرسل له بعض المساعدات على فتراتٍ، فهنا قد يُشَكّ في صدق عنوان: (المعيل) على الأب.
أو كالأفراد المعتقلين في السجن، الذين يودع لهم آباؤهم في حساباتهم بعض المبالغ لبعض احتياجاتهم.
أو مثل الفتاة المخطوبة، والتي لم تنتقل لبيت الزوجية، فخطيبها يدفع لها مصروفا، ولكنها تأكل -وتشرب، وتسكن- في بيت أبيها، فقد يحصل الشكّ في صدق عنوان العيلولة على الخاطب بمجرد دفع مبلغ شهريٍّ لها.
أو من يسكن مع أبيه في المنزل، ولكنه يتحمّل جميع مصاريفه من المأكل، والمشرب، واللباس، والعلاج، ويدفع حتّى حصّته من فواتير الخدمات الحكومية العامّة، ولكنّه يسكن مع أبيه فقط لا غير، فقد يُشَكّ في صدق عنوان العيلولة على الأب.
وغير ذلك من حالاتٍ يحصل الشكُّ لدى العُرف في صدق عنوان العيلولة عليها، فما هو الحكم الشرعي في هذه الحالات؟
نقول: إنه في موارد الشك لا تجب زكاة الفطرة على الشخص الذي يشك في انطباق عنوان المعيل عليه، وذلك بأحد وجهين، أو أكثر، ولكنّ ما نرتضيه هو أحد الوجهين الآتيين:
الوجه الأوّل:
التمسّك بالقاعدة الميرزائيّة، -والتي التزم بها المحقّق الميرزا النائيني (رحمه الله)، أستاذ الجيل المتأخّر لفقهائنا العظام؛ كالسيد محسن الحكيم، والسيد الشاهرودي، والسيد الخوئي، والسيد الميلاني، رحمهم الله جميعا-
وخلاصة هذه القاعدة: أنّ كلّ عنوانٍ وجوديٍّ أخذه الشارع في دليل الحكم، فلابدّ من إحرازه، ومع عدم إحرازه لا يمكن التمسّك بالحكم؛ لأنّ إثبات الحكم مع عدم إحراز الموضوع -أو العنوان المأخوذ في لسان الدليل- يكون من التمسّك بالحكم مع عدم تحقّق الموضوع أو العنوان.
وتطبيق هذه القاعدة على محلّ البحث هو: أنّ الشارع أخذ في عنوان وجوب الزكاة على المكلّف عنوان كونه معيلا، وعائلا، فلابدّ من إحرازه حتى نحكم بالوجوب على المكلّف، ومع الشكّ في انطباق عنوان المعيل في بعض الحالات، لا يمكن إثبات الوجوب عليه؛ لأنّنا لو حكمنا بوجوب الزكاة عليه -مع الشكّ- كان ذلك من موارد إثبات الحكم مع عدم إحراز الموضوع أو العنوان.
الوجه الثاني:
وحاصله أنّ الشكّ في صدق العنوان الوارد في لسان الدليل من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر، وفي مثله تجري البراءة عن وجوب الأكثر.
وتطبيق هذا الكلام على محلّ البحث بأن يُقال:
إنّ الشخص بالنسبة إلى عنوان العيال والأهل على قسمين:
الأول: من يعلم جزمًا أنهم عياله؛ كالزوجة التي تكون معه، وفي عهدته، وكفالتها -من جهة جميع ما تحتاجه في أمور حياتها- عليه، أو الولد كذلك.
فهذا القسم لا إشكال في وجوب دفع الزكاة عنه؛ لأن حال أفراده معلومٌ، ومتيقَّنٌ من حيث صدق عنوان العيال عليهم.
الثاني: وهي الحالات السابقة المتقدّمة، وفيها يحصل لنا شكٌّ في الأكثر، وهذا غير معلومٍ، وقد تقرّر في الأصول أنه عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، تجري البراءة عن وجوب الأكثر.
والحمد لله أوّلا وآخرًا
تمّت كتابة هذه السطور صبيحة يوم العشرين من أيام المصيبة الكبرى للإسلام؛ أيام ضربة أمير المؤمنين، وسيّد المتقين، صلوات الله وسلامه عليه.
العبد الفقير
محمود بن الحاج حسن بن علي العالي المعني البحراني