(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
دعوى التخلُّف
دائماً ما يتبادر إلى مسامعنا أنَّ تخلُّف الأمَّة الإسلاميَّة سببه هيمنة الفكر الديني عليها. وعليه إذا أردنا أن ندحر هذا التخلُّف ونركب قطار التطوُّر والتحضُّر، فلا بدَّ لنا أن نخلع رداء الدين، أو لا أقل أن نحصره في زاوية المسجد.
وعمدة ما يستند عليه أصحاب هذه الدعوى - وهم في العادة أصحاب ميول علمانيَّة - التحول الكبير الذي حصل في القارة الأوروبيَّة قبل ستة قرون، وهو ما يعرف بعصر النهضة، فعصر النهضة هذا هو نقطة التحول بين أوروبا العصور الوسطى، التي كانت تعيش في قمَّة التخلُّف والظلام، وبين أوروبا العصر الحديث، الذي شهدت فيه هذه القارة العجوز تطوراً غير مسبوق على صعيد العديد من المجالات.
فكان عصر النهضة نقطةً فارقةً بين مرحلتين، تمتاز الأولى بالتخلُّف والرجعيَّة، والأخرى بالتطور والحداثة، وقد رافق هذا التحول - بل وهو أحد أسبابه - تقليص سلطة الكنيسة وعزلها نهائياً عن الحياة.
بناء على هذا أصبح حكم الكنيسة الديني رمزاً للتخلُّف والرجعيَّة، وفي المقابل فإنَّ التحرر من قيود هذه السلطة قد نقل الإنسان من قمة الانحدار إلى قمة الرُقِيِّ.
ومن هذا يصل أصحاب الدعوى إلى نتيجة هذا الاستدلال، وهي أنَّ تحرر الإنسان من سلطة الدين عاملٌ أساس وركن محوري في نقل الإنسان من التخلُّف إلى التطوُّر والتحضُّر.
المراد من التخلُّف
في اللغة: تخلَّف بمعنى تأخر([1])، وتخلَّف الرجل عن القوم إذا تأخَّر([2])، وتخلَّف عنه أي بقي خلفه([3])، إذاً فالتخلُّف هو التَّأخر والبقاء في الخلف.
والتخلُّف محمولٌ لا بدَّ له من موضوع يحمل عليه ويتعلَّق به، وإلَّا فالتخلُّف كمفردة لوحدها لا تفيد معنى، إذاً فلا بدَّ لها من نسبتها إلى شيء، نظير: التخلُّف الأخلاقي، التخلُّف الفكري، التخلُّف الاقتصادي، التخلُّف الثقافي، التخلُّف الحضاري، التخلُّف الصناعي، التخلُّف التقني، وهكذا.
تقول: (فلان متخلِّفٌ أخلاقياً)، أي: متأخرٌ أخلاقياً، وتقول: (الأمَّة الفلانيَّة متخلِّفة فكرياً)، أي: متأخرة عن غيرها فكرياً، وتقول: (الدولة الفلانيَّة متخلِّفة اقتصاديَّا)، أي: نموُّ اقتصادها متأخرٌ عن غيرها.
وحينما يقال: (تخلَّفت الأمَّة الإسلاميَّة)، فيعني ذلك أنَّها تأخرت عن غيرها من الأمم في السباق، وبقيت في الخلف لا نصيب لها من الصدارة والوجاهة، ونعني بالسباق حالة التنافس الموجودة دائماً وأبداً بين الأمم اللاهثة وراء اعتلاء عرش سيادة العالم وريادته، وفرض السيطرة على بقيَّة الأمم.
ومن ينال شرف صدارة هذا السباق، يجعل من الآخر تابعاً له، فيغذيه بأفكاره وثقافته، ويصدِّرُ له أسلوب حياته، ويفرضُ عليه نمط معيشته، حتى يُلبِسْه لباسه، ويطعمْه طعامه، ليجعل منه نسخةً مشابهةً له.
فيبقى بذلك المتخلِّف تابعاً للمتصدِّر وخاضعاً له، يرغب في تقليده ومحاكاته، فإنَّ المغلوب مولعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده([4]).
حال الأمم محكومٌ بالسنن التاريخيَّة
إنَّ التخلُّف وما يقابله من تطوُّر لا يحصلان صدفةً، بل لا بدَّ لهما من عوامل وشروط، فإذا لم تتوفَّر للأمَّة شروط التقدُّم والتطوُّر ستبقى في خانة التخلُّف، ويمكن صياغة هذه العلاقة بنحو قضيَّةٍ شرطيَّةٍ متصلةٍ لزوميَّةٍ: (كلَّما توفرت عوامل وشروط التقدُّم والتطوُّر في أمَّةٍ، تقدَّمت الأمَّة وتطورت).
لقد آمن الإنسان بأنَّ هذا الكون محكوم بقوانين لا تتخلف، وقد حاول أن يبحث عنها ويتعرَّف عليها، وقد حصل بالفعل أن تسلَّط الإنسان على كثيرٍ من القوانين الحاكمة للكون، فصار قادراً على أن يتحكم بالكون - بدرجةٍ ما - وأن يتكيَّف مع ظواهره.
وعليه ما عادت - الكثير من - الظواهر الطبيعيَّة مجهولة بالنسبة لنا، وأصبحنا قادرين على معرفتها والعلم بكيفية حصولها وتحديد زمانها، على سبيل المثال:
- إذا رمينا كرة إلى الأعلى بقوة معيَّنة، بناءً على قوانين الجاذبيَّة، نحن نعلم أقصى ارتفاع ستصل إليه الكرة، ونعلم زمن وصولها إليه، ونعلم سرعة سقوطها، ونعلم الزمن الذي ستحتاجه الكرة إلى أن تلمس الأرض مع نهاية سقوطها، فهذه الظاهرة الفيزيائيَّة أصبحت معلومة لنا بالكامل بعد أن تسلطنا على قوانينها.
- لم يعد حصول الخسوف والكسوف شيئاً فجائياً كما كان، فنحن اليوم نعلم بالدقَّة متى يحصل الكسوف والخسوف، وكم سيستمر، وإن كان جزئياً أو كلياً، والمناطق التي يمكن منها مشاهدتهما، وغير ذلك، فما عادت هذه الظاهرة الفلكيَّة مجهولة بالنسبة لنا.
- لم يعد خافياً على أحد أنَّ الماء إذا سُخِّنَ على مستوى سطح البحر، فإنَّه سيخلي حال وصول درجة حرارته مئة درجة مئويَّة (سيليزيَّة)، إنَّ هذه الظاهرة الكيميائيَّة على بساطتها، إلَّا أنَّها شاهدة على مدى حاكمية القوانين الطبيعيَّة وعدم تخلُّفها.
وكما أنَّ الظواهر الطبيعيَّة - سواء أكانت فيزيائيَّة، أو كيميائيَّة، أو فلكيَّة، أو أحيائيَّة، أو غير ذلك - محكومة بقوانين وسنن صارمة لا تتخلَّف ولا تتبدَّل، فإنَّ الظواهر التاريخيَّة أيضاً محكومةٌ بقوانين وسنن صارمة، لا معنى للتخلُّف والتبدُّل فيها.
ومن هنا تقرر في فلسفة التاريخ([5])، أنَّ حركة التاريخ ليست عبثيَّة، بل هي محكومة لقوانين حقيقيَّة([6])، فدارسة التاريخ ليست لمجرد التعرف على أخبار الماضي والسلام، بل دراسة التاريخ غايته التعرَّف على السنن التي تحكم التاريخ، وعوامل نهوض الأمم واندثارها، فكلُّ ذلك يعود للسنن التاريخيَّة التي جرت في الماضي، وهي تجري اليوم في الحاضر، وستجري في المستقبل بلا شكٍّ.
فلا عجب أن يكون ثلث القرآن قصص وأخبار الأمم السابقة، فلأنَّ التعرُّف على أخبار هذه الأمم والتسلُّط على أسباب تقدُّمها أو تراجعها، مفيد في صياغة حاضرنا وبناء أمَّتنا، يقول تعالى: )لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(([7]).
ويرى الشهيدان الصدر ومطهري – رضوان الله عليهما - أنَّ القرآن الكريم قد بيَّن هذه السنن التاريخيَّة والقوانين الحتميَّة التي ترتبط بهداية الإنسان، والتي ترشده إلى سبيل بناءِ مجتمعه والحفاظ على رُقِّي أمَّته، بحكم كون القرآن الكريم كتاب هداية([8]).
وعليه فإنَّ التخلُّف أو التقدُّم والتطوُّر خاضعٌ لقوانين وسنن تاريخيَّة، حاكمة على حركة الإنسان ومسيره في بناء حضارته.
فينبغي علينا أن نقرأ تاريخ الأمم جيداً، ونبحث عن الأمم السابقة التي حققت أعلى مراتب التقدُّم والرُقِّي، لننظر في عوامل ذلك، ونبحث أيضاً عن الأمم التي اضمحلت وانهزمت وتلاشت من بعد قوَّة، لننظر في أسباب ذلك وعوامله، فيكون نتاج هذا البحث أن تكون بأيدينا عوامل التقدُّم والازدهار، وعوامل التخلُّف والاضمحلال، فنعمل على تفعيل عوامل الأوَّل، والتخلُّص من عوامل الثاني، ولأنَّ هذا خاضعٌ لسنن التاريخ كما أسلفنا، فلا بدَّ أن نحقق ما حقق السابقون من تقدُّم وتطوُّر.
السنن التاريخيَّة في القرآن
في هذه العُجالة نذكر ثلاث سننٍ تاريخيَّةٍ ارتبطت بتقدُّم الأمم وتخلُّفها:
السنَّة الأولى: عدم استثمار نِعَمِ الله سبحانه وتعالى من عوامل التخلُّف.
يقول تعالى: )وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(([9]).
"كفر: الكاف والفاء والراء، أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو الستر والتغطية، يقال لمن غطَّى دِرعَه: قد كفر دِرعَه [...] والكفر: ضد الإيمان، سمِّي لأنَّه تغطية الحق، وكذلك كُفران النعمة: جُحُودها وسَترها"([10]). والجحود والستر للنِعم يحصل بتعطيلها وعدم الاستفادة منها، فيكون وجود النعمة وعدمها واحداً.
والنِعَمُ على نحوين:
النحو الأوَّل: النعم الواقعة في دائرة الإنسان، حيث أنَّ الإنسان مُجهزٌ بقدراتٍ وإمكاناتٍ يستطيع بها أن يرفع الكثير من نقائصه، ويُذَلِّلَ بها الصعاب، ويُخْضِعَ المُلمَّات.
يقول تعالى: )وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(([11]).
النحو الثاني: النعم الواقعة في دائرة الطبيعة، فإنَّ الأرض والسماء فيهما من الخيرات والكنوز ما يعجز اللسان عن عدِّه وإحصائه، وكلُّ هذه النعم قد سُخِرت للإنسان، يقول تعالى: )وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا(([12]).
فأحد أهمِّ عوامل التقدُّم والتطوُّر، أن تفجِّرَ الأمَّةُ طاقاتها وقدراتها، وتُسخِّر إمكاناتها، في استخراج ثروات الأرض وكنوزها، واستثمارها في جميع المجالات - كالصناعة والزراعة والتجارة -، والعمل الدؤوب في إنتاج كلِّ ما من شأنه أن يرتقي بمستوى معيشة الإنسان ويحسِّن جودتها.
والإنسان قادرٌ على ذلك إذا تسلَّح بالعلم، فإنَّ العلم مفتاح تسلُّط الإنسان على النعم الإلهيَّة التي تفيض بها الأرض وتزخر، ودونه لن يكون الإنسان قادراً على أن يستثمر قدراته بالنحو المطلوب، فكلَّما كانت الأمَّة متَّصفةً بالعلم كانت أكثر تقدُّماً وازدهاراً، وكلَّما استولى عليها الجهل وتبعاته كانت أكثر تخلُّفاً واندثاراً.
يقول تعالى: )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(([13]).
وما نهضةُ الغرب في القرون الستَّة الأخيرة، بدءاً بما يعرف بعصر النهضة - في إيطاليا -وحتى اليوم، إلَّا لأنَّهم استنهضوا جميع إمكاناتهم وقدراتهم في الصناعة والتجارة والزراعة، مستندين بذلك للتفوق العلمي الذي يمتازون به، وتسلُّطهم على العلوم الطبيعيَّة أكثر من غيرهم، فأصبحوا متقدِّمين على غيرهم من الأمم والشعوب من هذه الناحية، نعم رافق هذا التطوُّر انحرافٌ كبير في المفاهيم والأفكار، أنتج لنا الثقافة الغربيَّة التي تتعارض في مجمل تفاصيلها مع الرؤية الإسلاميَّة للوجود.
ومن هنا لا بدَّ لنا أن نميِّز بين ما في أيديهم من علوم - ونحاول أن نصل إل ما وصلوا إليه، بل ونتفوق عليهم - وبين الثقافة الغربيَّة التي لا بدَّ وأن نُقْفِلَ أبواب بيوتنا في وجهها.
واعتقد البعض أنَّنا حينما نرفض الثقافة الغربيَّة فإنَّنا نرفض ما وصلوا إليه من تقدُّم، ولذلك يُتَّهم المتدِّين بالتخلُّف، فيقال: (زيدٌ متخلُّف لأنَّه متديِّن)، والواقع أنَّ هذا القول يشتمل على مُغالطةٍ واضحة، فزيدٌ حينما يرفض أن يتجرَّد من ثقافته وهويَّته، ويتلبَّس برداء الثقافة الغربيَّة ويستعير منهم هويَّتهم، فهو لا يرفض الاطلاع على نتاجهم العلمي الذي أوصلهم إلى خانة التقدُّم، فلا عيب أن يتعلَّم في جامعتهم ويتدرَّب في معاهدهم، ويستثمر ذلك كلَّه في بناء مستقل أمَّته وتشييد قواعد حضارته، وهذا ما دعا له الدين.
فالدين لا يمنع الإنسان من التعلُّم، بل قد يكون طلب العلم واجباً كوجوب الصلاة والصيام إذ توقف عليه عزَّة الإسلام والمسلمين، وحماية الدين من أخطار المتربصين والمغرضين.
يقول تعالى: )وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(([14]).
ولذا فكلُّ طلبِ علمٍ يُنْتَفَعُ به في صيانة الأمَّة ورفعة شأنها، وإعلاء شوكتها، والحفاظ على بيضتها، هو جهادٌ في حقيقته، لأنَّ التقدُّم العلمي اليوم هو الذي يقلب المعادلة في أي مواجهة مع العدو، وهو الذي يحدد من سيخرج منتصراً، ومن سيكون ذليلاً ضعيفاً، تابعاً لغيره، لا يحسن الاستقلال عنه ولا الابتعاد عنه.
عن الرسول (صل الله عليه وآله): (إِمَاطَتُكَ اَلْأَذَى عَنِ اَلطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)([15])، لا ينبغي لنا أن نفهم من كلام رسول الله (صل الله عليه وآله) أنَّ الموضوعيَّة لإماطة الأذى، بل كلُّ عملٍ حسنٍ يقوم به الإنسان في سبيل مساعدة الآخرين هو الصدقة، وإماطة الأذى مثالٌ لذلك، إذا فهمنا ذلك، وعلمنا أنَّ مساعدة الآخرين اليوم وتحسين أوضاعهم المعيشيَّة على جميع أصعدتها، ولا سيَّما الصحيَّة، يتوقف بشكل كبير على التسلُّط على العلوم الطبيعيَّة كالفيزياء والأحياء والكيمياء وغيرها من العلوم والتخصصات الهندسيَّة، فسنصل إلى نتيجة أنَّ طلب هذه العلوم ينفع الإنسان دنيوياً وأخروياً، ولمن الخطأ اعتبار هذه العلوم دنيويَّة في قبال العلوم الدينيَّة، بمعنى أنَّ هذه العلوم نفعها دنيوي بحت، وتلك نفعها أخروي بحت، بل نحن نعتقد أنَّ العلوم ما دامت تنفع الإنسان وتحقق له غرض الاستخلاف والاستعمار([16]) وتوصله إلى القرب الإلهي فهي علوم شريفة في طلبها رضا الله سبحانه وتعالى.
آخر ما أقوله هنا: إنَّ الحال الذي وصلت له الأمَّة الإسلاميَّة اليوم بعد ما كانت في عزِّ تقدُّمها واعتلائها الأمم، ليس إلَّا لأنَّها عطلت إمكاناتها وقدراتها، وحجرت على خيرات الأرض وثرواتها، فأوقفت تكاملها ونموها، وبدأت تخسر مكانتها لمن آمن بقدراته وإمكاناته، وفجَّر طاقاته، وذلَّل الأرض وما عليها لتلبية حاجاته.
وقد بقيت الأمَّة الإسلاميَّة منذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا عديمة الثقة بنفسها، تخاف أن تخطوَ خطوةً واحدةً في سباق التقدُّم والرقي، لا تستشعر الاستقلال عن غيرها، تهاب الاعتماد على نفسها، وعليه فإن أرادت الأمَّة أن تنهض من جديد فلا بدَّ لها من الإيمان بما أعطاها الله سبحانه وتعالى من نِعَمٍ، ثمَّ تَعْمَلُ على تفعيل هذه النِعَمِ والاستفادةِ منها في سلوك طريق التقدُّم والتطوُّر.
السنَّة الثانية: انتشار الفسق و الفساد والظلم في الأمَّة عاملٌ من عوامل تخلُّفها، وإقامة العدل فيها عاملٌ من عوامل تقدُّمها.
يقول تعالى: )وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(([17]).
تشير الآية المباركة إلى أحد القوانين والسنن التاريخيَّة المسيطرة على حركة الإنسان([18])، ويمكن أن نقرر هذه القانون في القضيَّة الشرطيَّة المتصلة: (كلَّما فسد مترفو الأمَّة، حل الخراب والدمار فيها).
والمراد بالأمر في الآية المباركة ليس هو الأمر التشريعي، أي شرَّعنا لهم الإفساد، بل المراد هو الأمر التكويني، أي أوجدنا فيهم القدرة على الإفساد، فلَّما أفسدوا باختيارهم وإرادتهم، كان ذلك سبب حلول الخراب والدمار عليهم، ويصح نسبة التدمير إليه سبحانه وتعالى لأنَّه هو الذي أوجد هذه السنَّة التاريخيَّة، ولأنَّه هو الذي يوجد الفاعليَّة في الإنسان، إذ بلا الإذن الإلهي لما كان الإنسان قادراً على أن يرفع يده من محلَّها.
وفي سورة الفجر، يقول تعالى: )إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(([19]).
فهذه الآيات المباركة تحكي عن أقوام بلغوا ذروة التقدُّم والتطوُّر في زمانهم، وكانوا أسياداً فعلاً، يقول تعالى عنه في آيات أخرى: )أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(([20]).
لقد كانوا مقتدرين لدرجة أنَّهم نحتوا الجبال وجعلوها بيوتاً لهم([21])، ومع ذلك جرت عليه سنَّة الله سبحانه وتعالى، فكان فسادهم وطغيانهم سبب سقوطهم واندثارهم، وما بقيت إلَّا آثارهم شاهدة على سنن الله سبحانه وتعالى، )إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ(([22]).
وفي موضعٍ آخر من القرآن الكريم، يظهر الارتباط بين الإفساد في الأرض والعلو، وبين الوعد الإلهي بالسقوط والانهزام، يقول تعالى: )وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولً(([23]).
وقد جاءت قصَّة قوم شعيب (عليه السلام) حاكيةً هذه السنَّة التاريخيَّة، فقد كان قوم شعيب (عليه السلام) رفضاً لإقامة العدل والقسط، وراغباً في انتشار الفساد والظلم والغش بين أفراده، فاستحق بذلك أن يسقط من موقعه المرموق إلى الهاوية.
يقول تعالى: )وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(([24])، إلى أن قال: )وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ(([25]).
فحلول العذاب على قوم شعيب (عليه السلام)، نتيجة وجود آفات ذميمة فيهم، وأبرز هذه الآفات غياب العدل فيهم وشياع الفساد والغش. ولا ينبغي أن نحصر ألوان العذاب في الصواعق والزلال والصيحات، فهذه مصاديق لحلول العذاب، وهناك مصاديق أخرى أيضاً، منها انحطاط المجتمع وتفككه وسقوطه من القمَّة إلى القعر كما حصل للاتحاد السوفييتي.
وقد بيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا العامل – الفسق و الفساد والظلم – ومدى ارتباطه بهلاك الأمم وسقوطها، ومما ورد عنه في ذلك:
⦁ (اَلظُّلْمُ يُزِلُّ اَلْقَدَمَ وَ يَسْلُبُ اَلنِّعَمَ وَ يُهْلِكُ اَلْأُمَمَ)([26]).
⦁ (لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اَللَّهِ وَ تَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ اَلْمُضْطَهَدِينَ وَ هُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ)([27]).
وبما أنَّ انتشار الفسق والفساد والظلم في الأمَّة يناقضه إقامة العدل والقسط بين الناس، وبما أنّهما نقيضان، فهما لا يرتفعان معاً، فإذا زال عامل التخلُّف وجد عامل التقدُّم والازدهار، وعليه فالأمَّة التي يقام فيها العدل والقسط بين الناس، ويغيب عنها الفساد والظلم، لا بدَّ أن يخضرَّ زرعها ويُثمرَ شجرها.
وقد بيَّنت الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم) قيمة العدل في بناء الأمَّة المزدهرة واستقرارها:
⦁ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (مَا عُمِّرَتِ اَلْبُلْدَانِ بِمِثْلِ اَلْعَدْلِ)([28]).
⦁ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (اَلْعَدْلُ أَسَاسٌ بِهِ قِوَامُ اَلْعَالَمِ)([29]).
⦁ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (اَلْعَدْلُ جُنَّةُ اَلدُّوَلِ)([30]).
⦁ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ اَلْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ)([31]).
⦁ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (بِالْعَدْلِ تَتَضَاعَفُ اَلْبَرَكَاتُ)([32]).
⦁ عن الإمام الرضا (عليه السلام): (في قوله تعالى )يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا(، قَالَ: لَيْسَ يُحْيِيهَا بِالْقَطْرِ وَ لَكِنْ يَبْعَثُ اَللَّهُ رِجَالاً فَيُحْيُونَ اَلْعَدْلَ فَتُحْيَا اَلْأَرْضُ لِإِحْيَاءِ اَلْعَدْلِ وَ لَإِقَامَةُ اَلْحَدِّ لِلَّهِ أَنْفَعُ فِي اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْقَطْرِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً)([33]).
⦁ عن محمد الحلبي، أنَّه سأل الإمام الصادق (عليه السلام)، في قوله تعالى )اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا(: (قَالَ اَلْعَدْلَ بَعْدَ اَلْجَوْرِ)([34]).
ومن هنا جاءت الدعوى القرآنيَّة بالحث على تطبيق العدل والقسط بين الناس:
⦁ يقول تعالى: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(([35]).
⦁ يقول تعالى: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ(([36]).
⦁ يقول تعالى: )وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ(([37]).
⦁ يقول تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ(([38]).
السنَّة الثالثة: عدم رد الانحطاط الأخلاقي والنهي عنه عاملٌ من عوامل التخلُّف.
يقول تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(([39]).
وفي موضع آخر: )فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(([40]).
وقد ورد عن رسول الله (صل الله عليه وآله): (لاَ يَزَالُ اَلنَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نُزِعَتْ عَنْهُمُ اَلْبَرَكَاتُ وَ سُلِّطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَاصِرٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ)([41]).
من أبرز العوامل التي تأخذ بالأمَّة إلى الهاوية، هو انتشار الانحطاط الأخلاقي، مع عدم إنكاره وردِّه، نعم قد يوجد في مجتمعٍ ما انحطاطٌ أخلاقي، إلَّا أنَّه مخفي وغير ظاهر، هذا ليس محل الكلام، وإنَّما الكلام عن انتشار الفواحش في المجتمع بنحو ظاهر وبارز ومع عدم إنكارها أو ردِّها، فهذا يأخذ بالأمَّة إلى أرذل مراحل التخلُّف.
وفي قصَّة نبي الله لوط (عليه السلام) خير شاهدٍ على هذه السنَّة التاريخيَّة، يقول تعالى: )وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ(([42]).
وفي آيةٍ أخرى تحكي عذاب قوم لوط (عليه السلام): )إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(([43]).
وقد يُسأل هنا: نجد أنَّ المجتمعات الغربيَّة تعيش أرقى درجات التطوُّر والتقدُّم، في حين أنَّهم يعيشون في انحلالٍ أخلاقي لا مثيل له في التاريخ، فكيف أنَّ عامل التخلُّف والسقوط قد وجد فيهم، ولم يتحقق الوعد الإلهي؟
وفي الجواب نقول: إنَّ السنن التاريخيَّة لا يمكن أن تتخلَّف، فلا بدَّ من تحققها، إلَّا أنَّ زمن تحققها محكوم بعوامل أخرى أيضاً، وأحدُ أهمِّ هذه العوامل هو عامل الإمهال – الإملاء – الإلهي، فحينما نقرأ قصص الأقوام السابقين، نجد أنَّهم أوجدوا عوامل التخلُّف والسقوط فيهم، إلَّا أنَّ اندثارهم وانحدارهم لم يكن مباشراً، بل أُمهلوا إلى أن يصلوا إلى أقصى مراتب الانحلال، فإذا وصلوا إلى ذلك، جاءهم العذاب بغتة.
⦁ يقول تعالى: )وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ(([44]).
⦁ يقول تعالى: )وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا(([45]).
⦁ يقول تعالى: )وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(([46]).
⦁ يقول تعالى: )وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَىٰ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(([47]).
⦁ يقول تعالى: )وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(([48]).
⦁ يقول تعالى: )وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(([49]).
ولذا فإنَّ الأقوام السابقين كانوا يستعجلون الأنبياء (عليهم السلام) بالعذاب، لاعتقادهم بعدم حلوله نتيجة المدَّة الطويلة أمهلوا فيها، حتى اعتقدوا أنَّ العذاب لن يجلَّ أبداً، ولم يعلموا أنَّ الله سبحانه وتعالى كان يملي لهم ويستدرجهم وهم لا يشعرون.
⦁ يقول تعالى: )وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(([50]).
⦁ يقول تعالى: )وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(([51]).
إذاً فحلول الوعد الإلهي وتحقق السنَّة التاريخيَّة له وقته المحدد، فإذا جاء هذا الوقت لن يتأخروا ساعةً ولن يتقدَّموا:
⦁ يقول تعالى: )وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا(([52]).
⦁ يقول تعالى: )ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ(([53]).
⦁ يقول تعالى: )وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(([54]).
وقد شَهِدَ آباؤنا وأجدادنا سقوط الاتحاد السوفييتي، القوة العظمى التي كانت تسيطر على ما يقارب اثنين وعشرين مليون كيلومتر مربع، أي أنَّها كانت أكبر دولةٍ حينها، وقد كانت ترسانتها العسكريَّة تتفوَّق على الجميع في ثمانينيات القرن الماضي، فكانت تملك من الدبابات والأسلحة النوويَّة والقوات العسكريَّة والأسلحة المتنوِّعة الشيء الذي لا يوصف، ومع ذلك سقط هذا الاتحاد.
ولم يُصَدِّق الناس الذي عاصروا تلك الفترة سقوط العملاق السوفييتي بهذه البساطة، فهم لم يكونوا يحلموا ذلك حتى، غير أنَّ الأمام الخميني – رضوان الله تعالى عليه – قد تنبأ بسقوطه في رسالته الشهيرة لـ (ميخائيل غورباتشوف) زعيم الاتحاد السوفييتي آنذاك، إذ قال فيها: "لقد اتّضح للجميع أنَّ البحث عن الشيوعية ينبغي أن يتوجَّه من الآن فصاعداً إلى متاحف التاريخ السياسي العالمي؛ ذلك لأنَّ الماركسية لا تلبِّي شيئاً من احتياجات الإنسان الحقيقية، فهي مذهب مادي، ومُحال أن تستطيع المادية إنقاذ البشرية من الأزمة التي خلقها فقدان الإيمان بالمعنويات، الذي يمثل العلة الرئيسية لما تعانيه المجتمعات البشرية شرقية أو غربية.
إنَّ الدول الحليفة لكم التي تخفق قلوبها لمصالح بلدانها وشعوبها لن تكون على استعداد بعد الآن لأن تهدر ثرواتها الوطنية بكلا نوعيها الظاهر والخزين من أجل أثبات نجاح الشيوعية؛ بعد أن وصل صرير تهشّم عظام الشيوعية إلى أسماع أبناء تلك البلدان".
وقد شخَّص الأمام الخميني – رضوان الله تعالى عليه – علَّتهم: " الواجب هو التوجُّه نحو الحقيقة الواقعية، إنَّ العلّة الأساسية لمشاكل بلدكم لا تكمن في مشكلة الملكية والأزمة الاقتصادية وقضية الحريات، إنَّ علَّتكم الأساسية هي في فقدان الإيمان الحقيقي بالله، وهذه هي نفس علَّة العالم الغربي التي قادته إلى الابتذال والطريق المسدود أو ستجرّه، إنَّ أزمتكم الحقيقية تكمن في محاربتكم الطويلة العقيمة لله مبدأ الوجود والخلق".
السنن التاريخيَّة في نهج البلاغة
لقد أثبت القرآن الكريم حقيقة قانونيَّة التاريخ – أي أنَّ التاريخ محكوم بسنن وقوانين –، ونجد أنَّ أئمَّة الهدى (عليهم أفضل الصلاة والسلام) قد تعرَّضوا لهذه الحقيقة أيضاً وبيَّنوها، وقد احتوت الخطبة المسماة بـ (القاصعة) بيان ذلك، يقول عليه السلام:
((وَ اِحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ اَلْمَثُلاَتِ بِسُوءِ اَلْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ اَلْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي اَلْخَيْرِ وَ اَلشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ اِحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ))
إنَّ ازدهار الأمَّة أو اندثارها، يرتبط بسلوك الأمَّة، فكلُّ أمَّةٍ هي من يقرر حاضرها ويرسم مستقبلها، فمتى ما أوجدت في نفسها عوامل الازدهار والتقدَّم عاشت عزيزةً مُقتدرة، ومتى أوجدت في نفسها أسباب الاندثار والتخلُّف ماتت بذلَّةٍ ومهانة، والأمام (عليه السلام) يبيِّن ذلك ويحذِّر من السير حذو تلك الأمم التي أخمدت أنفاسها، حرقت زهرة شبابها، وهدمت حضارتها، وتسببت في خرابها ودمارها، بسبب سوء فعلها وذميم عملها، فإن جرينا على ما جروا عليه وصلنا إلى ما وصلوا إليه من انحطاط وتسافل.
((فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ اَلْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ وَ زَاحَتِ اَلْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ اَلْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ اِنْقَادَتِ اَلنِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ اَلْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ اَلاِجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اَللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ اَلتَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ اَلتَّوَاصِي بِهَا وَ اِجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ اَلْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ اَلصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ اَلنُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ اَلْأَيْدِي))
فقد تجدُ أمَّةً كانت في زمنٍ من الأزمان ذات بأسٍ وقوَّة، تتصف بالعزَّةِ والرفعة، ومع ذلك فإنَّها سرعان ما تتهاوى وتتسافل وتموت عزَّتُها، وتعيش ذلَّتَها وانكسارها، وليس ذلك إلَّا لأنَّهم أوجدوا عوامل التقدُّم في الزمن الأوَّل – زمن العزَّة –، وأوجدوا عوامل التخلُّف في الزمن الثاني – زمن الاندثار –.
وقد أشار (عليه السلام) لأحد عوامل التقدُّم، وهو الاتحاد والتجانس والإتلاف بين أطياف الأمَّة وأفرادها، وعلى النقيض فإنَّ الفرقة، والتناحر، والتخالف، عامل الانكسار والتخلُّف.
((وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ اَلْمَاضِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ اَلتَّمْحِيصِ وَ اَلْبَلاَءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ اَلْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ اَلْعِبَادِ بَلاَءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ اَلدُّنْيَا حَالاً اِتَّخَذَتْهُمُ اَلْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ اَلْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمُ اَلْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ اَلْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ اَلْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ اَلْغَلَبَةِ لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي اِمْتِنَاعٍ وَ لاَ سَبِيلاً إِلَى دِفَاعٍ حَتَّى إِذَا رَأَى اَللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ اَلصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى اَلْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ اَلاِحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ اَلْبَلاَءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ اَلْعِزَّ مَكَانَ اَلذُّلِّ وَ اَلْأَمْنَ مَكَانَ اَلْخَوْفِ فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلاَماً وَ قَدْ بَلَغَتِ اَلْكَرَامَةُ مِنَ اَللَّهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ اَلْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ))
وحتى تكون الصورة أوقع في النفوس، فإنَّه (عليه السلام) يذكر مثلاً حيّاً لأمّةٍ – وهي أمَّة بني إسرائيل – عاشت محنة العبوديَّة والاستضعاف، وكانت تعاني من القهر والغلبة، إلَّا أنَّها أوجدت في نفسها عوامل الازدهار والتقدُّم، فنالت بذلك السيادة والعزَّة والرفعة، فتحوَّل حالها من ذلك الحال إلى هذا الحال.
((فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ اَلْأَمْلاَءُ مُجْتَمِعَةً وَ اَلْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ اَلْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ اَلْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ اَلسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ اَلْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ اَلْعَزَائِمُ وَاحِدَةً أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ اَلْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ اَلْعَالَمِينَ فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ اَلْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ اَلْأُلْفَةُ وَ اِخْتَلَفَتِ اَلْكَلِمَةُ وَ اَلْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، قَدْ خَلَعَ اَللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ([55])))
إنَّ تلك الأمَّة التي وصلت قمَّة العزَّة والرفعة، سرعان ما تخلَّت عن عوامل ازدهارها، وأوجدت في نفسها عوامل الاندثار والتخلُّف، فانقلب حالها مرةً أخرى، وعاد كما كان، فخسرت عزَّتها وكرامتها، ولبست ثوب المذلَّة والانكسار.
السنن التاريخيَّة لا تستثني أحد
بعد أن تعرَّفنا على بعض السنن التاريخيَّة التي ذكرها القرآن الكريم، وأشرنا إلى ما ورد في نهج البلاغة كذلك، لا بدَّ أن نلتفت إلى أمر مهم، وهو أنَّ هذه السنن التاريخيَّة لا يمكن أن تتخلَّف مطلقاً، فمتى ما توفرت ستكون النتيجة حتميَّة، ولا يستثنى أحدٌ من ذلك، وحتى حال الأمَّة الإسلاميَّة فهو محكوم لهذه السنن والقوانين.
يقول تعالى: )فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا(([56])، فالله سبحانه وتعالى لن يجعل لأحدٍ استثناءً من جريان السنن التاريخيَّة عليه، أنظر ما حصل في بدرٍ وأُحد، وكيف تحقق النصر في بدرٍ ولم يتحقق في أُحد، القرآن يجيب: )بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ(([57])، فإنَّ النصر مشروط بسنَّة، وهي إحراز الصبر والتقوى، وهذا ما فقد في أُحُد، ووجد في بدر، فتحقق النصر في بدر ولم يتحقق في أحد.
الجواب على الدعوى
إذا تمَّ الكلام حول السنن التاريخيَّة نعود للدعوى التي قررناها أوَّل الحديث، وهي دعوى أنَّ الإسلام سبب تخلُّف الأمَّة الإسلاميَّة اليوم، والتي تستند على الاستشهاد بما حصل في أوروبا قبل ستَّة قرون، حينما نُزِعت السلطة من يد الكنسية فتحوَّل حال الأوروبيين من التخلُّف والانحطاط، إلى التقدُّم والازدهار.
وجواب هذا الدعوى: كما تبيَّن أنَّ التخلُّف والتقدُّم محكومٌ بقوانين وسنن، وإذا نظرنا لما حصل في أوروبا إبَّان عصر النهضة، سنجد أنَّهم قد أوجدوا في أنفسهم عوامل التقدَّم وتخلُّوا عن عوامل التخلُّف التي قد تشرَّبت في نفوسهم.
وأحد عومل التخلُّف التي كانت موجودة في أوروبا العصور الوسطى، هو هيمنة الكنسية على إمكانات الأمَّة الأوروبيّة والحجر على عقولهم وقدراتهم، مما أدرى لضعف الإنسان الأوروبي، بل وشلله.
وهذا الفعل من الكنيسة – ولا أقول من المسيحيَّة، لأنَّ المسيحيَّة تختلف عن الكنيسة – يستند على منظومتها الفكريَّة وفهمها للحياة والوجود، وهو فهمٌ مختلفٌ تماماً عن الإسلام، بل الإسلام لا يرتضي هذا الفهم مطلقاً.
فعليه، إنَّ محاولة المقارنة بين الكنيسة والإسلام، وجعلهما شيئاً واحداً أمرٌ ليس صحيحاً، لأنَّ الإسلام له رؤيته وفهمه المختلف تماماً عن الوجود، وإدارة الحياة، وكيفيَّة بناء الأمَّة.
فالمنظومة الإسلاميَّة لا تحجرُ على الإنسان ولا تُقيَّد قدراته وإمكاناته، بل على العكس تماماً، هي تدعوه لأن يعمر الأرض ويبني الحضارة، تدعوه لأن يتعلَّم ويُسيطر ويتسلَّط على الأرض وخيراتها ويستهلكها بالوجه الذي يعود عليه بالنفع.
إذاً فعوامل التخلُّف لا يمكن أن يكون سببها الإسلام، كما كانت الكنيسة سببها، لأنَّهما متباينان أصلاً، وعليه فهذه الدعوى لا تستند على دليلٍ معتبر، وهي في الواقع دعوى بلا دليل، يحاول العلمانيون أن يزرعوها في عقول ونفوس أبناء المجتمع، ترويجاً لفلسفهم العلمانيَّة التي لا تتناسب مع الدين في أصول
........................................
([1]) القاموس المحيط، مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ص653.
([2]) تاج العروس من جواهر القاموس، السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي، ج12، ص196.
([3]) المغرب في ترتيب المعرب، أبو الفتح ناصر الدين المطرزي، ج1، 268.
([4]) مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، ج1، ص283.
([5]) فلسفة التاريخ، هو العلم الباحث في المسائل الرئيسيَّة التالية:
- ما معنى التاريخ؟
- هل الظواهر التاريخيَّة محكومة بقوانين؟
- هل للتاريخ اتجاه؟ وما هو هذا الاتجاه؟
نقلاً بالمعنى من: (موسوعة الفلسفة، الدكتور عبد الرحمن بدوي، ج2 ص157).
([6]) النظرة القرآنيَّة للمجتمع والتاريخ، الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، ص177.
([8]) راجع: (السنن التاريخيَّة في القرآن، السيد محمد باقر الصدر، أعاد صياغة عباراته وترتيب أفكاره الشيخ محمد جعفر شمس الدين)، (المجتمع والتاريخ (1-2)، الشهيد الشيخ مرتضى مطهري، ص243).
([10]) معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ص780.
([12]) سورة الجاثية، الآية ١٣.
([14]) سورة الأنفال، الآية ٦٠.
([15]) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، محمد باقر المجلسي، ج72، ص50.
([16]) يقول تعالى: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً(، (سورة البقرة، الآية30)، ويقول تعالى: ) وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ(، (سورة هود، الآية 61).
([17]) سورة الإسراء، الآية 16.
([18]) ونقصد بحركة الإنسان، الإنسان كمجتمع وأمَّة لا كفرد.
([19]) سورة الفجر، الآيات 7 – 14.
([21]) يقول تعالى: ) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ(، (سروة الحجر، الآية 82).
([23]) سورة الإسراء، الآيات 4 – 5.
([24]) سورة هود، الآيات84 – 85.
([26]) غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدي التميمي، ص92.
([28]) غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدي التميمي، ص688.
([29]) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، محمد باقر المجلسي، ج75، ص83.
([30]) غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدي التميمي، ص102.
([32]) غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدي التميمي، ص297.
([33]) الكافي، ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، ج7، ص174.
([34]) الكافي، ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، ج8، ص267.
([40]) سورة هود، الآيات 116 – 117.
([41]) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، محمد باقر المجلسي، ج97، ص94.
([42]) سورة العنكبوت، الآيات 28 – 31.
([43]) سورة العنكبوت، الآية 34.
([49]) سورة الرعد، الآيات 31 – 32.
([50]) سورة العنكبوت، الآية 53.
([53]) سورة الحجر، الآيات 3 – 5.
([54]) سورة الأعراف، الآية 34.