بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِهِ الطيبين الطاهرين
عنوان الورقة: تَوسِعَةُ الغَرَضِ مِنَ الإجَازَةِ الروَائِيَّةِ لِتَشْمَلَ التَّبَانِي العِلمِي وَتَوثِيِقَ المُجَازِ
بقلم: السَّيد محمَّد السَّيد علي العلوي
مكان وزمان الإلقاء: المركز الإسلامي للدراسات والبحوث – قرية المعامير/ مملكة البحرين
مساء الجمعة 20 من ذي القعدة 1444 للهجرة، السَّاعة 20:30
الملخص:
تُقَدِّمُ هذه الورقةُ رُؤيَةً في قابليَّةِ الإجازة في الرواية لِأنْ تَكُونَ وثيقَةً عِلميةً تَشهَدُ بِكَونِ المُجَازِ جُزءًا وَاقعيًّا مِن وجُودٍ قائِمٍ أو مُفتَرَضٍ مِنَ التبَانِي الفِكرِي والإدْرَاكِي تُكَوِّنُهُ شَبَكَةُ الإجَازة. وَقِوَامُهُ:
1/ الأخْلَاقُ 2/ الفَقَاهَةُ 3/ الحِكْمَةُ
فتَكُون الإجازةُ جِهَةَ اقتِضَاءٍ لِكَون المُجَازِ مِنْ طلَبَةِ العِلمِ المَأمُونين الذين يُركَنُ لَهُم بِاطْمِئْنَانِ لِتَحَقُّقِ العنَاوين الثَّلاثَةِ فِيهم، كَمَا وتَربِطُهُ بِمَنْ أجَازَهُ؛ حَيثُ إنَّ المُجيزَ في الرُؤيَةِ التي نُقدِّمُها يَتَحمَّلُ مَسؤُوليَّةَ إجَازَتِهِ لِلمُجَازِ.
تعريف الإجازة في الرواية:
عَرَّفَهَا المُحَقِّقُ الطهرَانِيُّ في الذَّرِيعَةِ: "هُوَ الكَلَامُ الصَّادِرُ عَنِ المُجيزِ المُشْتَمِلُ عَلى إنْشَائِهِ الإذْن في رِوايَةِ الحَديثِ عَنْهُ بَعْدَ إخْبَارِهِ إجْمَالاً بِمَرْويَّاتِهِ، وَيُطْلَقُ شَائِعًا عَلى كِتَابَةِ هَذَا الإذْنِ المشتملة عَلى ذِكْرِ الكُتُبِ والمُصَنَّفَاتِ الَّتِي صَدَرَ الإذْنُ فِي رِوَايَتِهَا عَنِ المُجِيزِ إجْمَالاً أو تَفْصِيلاً، وَعَلَى ذِكْرِ المَشَايِخِ الذِين صَدَرَ للمُجيزِ الإذْنُ في الرِّوَايَةِ عَنْهُمُ، وَكَذَلِكَ ذِكْرِ مَشَايخِ كُلِّ وَاحدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ المَشَايِخِ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ إلى أنْ تَنْتَهِي الأسَانِيدُ إلى المَعْصُومِينَ عَليهِمُ السَّلَامُ".
وفي المقام نُكتَةٌ يَحْسُنُ الالتفاتُ إليها، وهي ثبوتُ اللغويَّة للإجازة الصادرة مِنْ كائنٍ مَن كان مَا لَمْ يَكُنْ مُحيِطًا بِمَادَّتِها وموضوعِها، ولا يُتصوَّرُ عنوان (التبرُّك) الشائع اليوم كمقصد لطلب الإجازة؛ إذ أنَّ الانتظام في سلسلة السند معلول لتحمُّل الحديث ولو على نحو الفهم الخاص، ومجرَّد الإجازة لا تُحقِّق هذه الغاية ما لم تكن كاشفةً كشفًا معتبرًا عن أهلية المُجِيز وكفاءته من جهة، وأنَّه لا يُجيِزُ غير المُؤهَّل الكُفء.
فِكْرَةُ التَّوسِعَةِ:
إعادة الاعتبار للإجازة الروائية ضمن ضوابط تُعين على تحقيق ثلاثة أمور مُهِمَّة؛ هي:
1 - الاطمئنان بنسبة معتبرة إلى تَوَفُّر طالب العلم على المادَّة الصحيحة للمستويين الأخلاقي والعلمي؛ بانفتاحٍ على أحاديث أهل البيت (عليهم السَّلام) انفتاحًا يتجاوز حدود النصوص التي يمارس معها الصناعة الخاصَّة، وكذا صناعة الخطابة والوعظ، بل ما يُرابِط في البال هو الانفتاح على الروايات الشريفة على أسُسٍ منهجيةٍ مُعَيَّنَةٍ بِمَا يُوصِلُ إلى غايةِ تَحَوُّلِهَا في حياة الطالب إلى سلوكٍ يستوعب كلَّ جوانبِ حياتِهِ.
2- الاطمئنان بنسبة معتبرة إلى وجود مشتركات وتبانيات ثقافية وفكريَّة صحيحة بين المُجيزِ والمُجاز ثُمَّ بين المُجيزين والمُجازين في شبكة الإجازة، بما يُحقِّقُ الأفضل على مستويات التفاهم والتقارب فيما بين طلبة العلم بعيدًا عن أجواء التَّحزُّب والنزاع وما إلى ذلك مِن اصطفافات مقيتة.
3- خلق حالة مِنَ الأنس العلمي والمعرفي بين الطالب وأحاديث أهل البيت (عليهم السَّلام).
بعد ذاك؛ فإنَّ تَقلُّدَ طالِبِ العِلمِ للعمامة علامَةٌ على كونه طالبَ علمٍ لا أكثر، ولكنَّه إذا أُجيزَ في الرواية بعد اطمئنان أساتذته إلى تحقيقه وإحرازه للأمور الثلاثة المزبورة كانت الإجازة بمثابة الإعلان مِن المُجيز عن نوعِ تَحَمُّلٍ مِنْهُ لِمَسْؤُوليَّةِ مَسَارِ وَسُلُوكِ المُجَازِ في المُجتمع وبين النَّاس، وهذا في الواقع ما يعطي للإجازة اعتبارًا جديدًا هو ما نسعى إليه إن شاء الله تعالى.
تحليل منشأ الفِكرَة:
نَشَأتْ فِكرَةُ الرُّؤيَةِ التي نُقدِّمُها مِن إدْرَاكِنَا لِحَاجَةِ إصلاحِ بعض الخلل والأخطاء المُنكَشِفَة بظواهر سيِّئَةٍ قائِمَةٍ فِعلًا في مساحات المستويات العلميَّة الابتدائيَّة للطلبة في الحوزات العلميَّة الشريفة.
هي ظواهر لم تكن بهذا الحجم في السَّابق، وحتَّى وجودها قبل أربعين سنة مثلًا فقد كان يَفْرِزُهُ الوَاقِعُ العِلْميِّ المُحْكَمِ في الحَوْزَاتِ العِلْميَّة وأجْوَاءُ العُلَمَاءِ في مختلف البلدان.
ما نرصده اليوم مِن مظاهر سيئة:
1/ مسارعة طالب العلم للاستقلال وطرح نفسه، أو البناء في سلوكه الوظيفي على أنَّه شخصية لها كامل الحقِّ في تبني ما تراه وطرح ما تشاء بناءً على تشخيصات وقناعات خاصَّة.
2/ ظهور الجرأة على الآراء العلميَّة وعلى العلماء دون مراعاة لأدنى الاعتبارات والموازين العلميَّة والأدبيَّة.
3/ استعمال النصوص الشريفة للمغالبة وفي الصراعات البينيَّة ونزاعات التوجهات والتيارات الداخليَّة.
4/ بروز حالات متقدِّمة من التعاكس بين التوجهات التي تُقدَّمُ على أنَّها إسلاميَّة تستند إلى النصوص الشريفة، والحال أنَّ مِثل هذا التعاكس لا يمكن أن يُجمَع بين أصحابه في حدود الحق، بل هو متعيِّنٌ في أحد احتمالين؛ فإمَّا أن تكون كُلُّ التوجهات المتعاكسة باطلة، أو أنَّ أحدَها حقٌّ والآخر أو الأخرى باطلة إلَّا ما كان المُخَالِفُ مِنْها لا يَصِلُ إلى حدِّ التعاكس.
5/ ضيق الصدور عن المناقشة والتداول الموضوعي للآراء والنظريات وما نحو ذلك، بل السِّمَة العامَّة للأجواء هي المغالبة وعقليات الجدل والتبكيت وما في حكم ذلك.
6/ استشراء بعض السلوكيات السَّيئة كالغيبة والوقيعة، وأكثر مِن ذلك. ناهيك عن التدابر في بعض المواطن، والتحارب السافر في مواطن أخرى.
7/ انسداد آفاق التطلع والطموح عن مراتب الفقاهة، والتحجُّم في حدود وظائف التبليغ المعتادة مِن خطابة وإمامة جماعة وما نحوها.
لم تستدعِ مِثلُ هذه الحالات في السابق التفكيرَ في إجراءات تُصلحها؛ وذلك لِنُدْرَتِهِا مِن جِهة، ولوقوعها تحت القوَّة الحاكمة للعلماء وأجوائهم العلميَّة مِن جهة أخرى، فطلبة العلم قبل أربعين سنة كانوا في حدود سلطة العلماء وأجوائهم. وهذا على خلاف ما عليه الحال اليوم مِن زيادةٍ مُطَّرِدَةٍ ومُتَسَارِعَةٍ في أعداد طلبة العلم مع غلبة غاية التبليغ المنبري وما نحوه على أهدافهم وغايات ما يريدونه من طلب العلم ما يُؤثِّرُ سلبًا في سعة وعمق الفقاهة بمعناها الدقيق الذي يمكن فهمه مِنَ النصوص الشريفة.
بالقياس النِّسْبِي نَقِفُ على زيادة عدد طلبة العلم على حدود استيعاب سُلْطَةِ العُلمَاء وأجوائهم العلميَّة، فضلًا عن عوامل أخرى أدَّت جميعها إلى نتائج غير محمودة.
إنَّ لهذا الواقع انعكاسه الواقعي على النَّاس وأحوال المجتمع، وفي نظرنا أنَّه مَن أهمِّ أسباب سلوك الاستهانة بالعلماء والجرأة عليهم وعلى العلم، وهو سلوكٌ آخِذٌ في البروز وفرض نفسه كواقع ثقافي تشمله فلسفات ونظريات التعدُّديَّة وحريَّة الرأيِّ وما نحوها!
حديث الثقلين وإشكال العقل الجمعي، ودور الإجازة الروائيَّة في نظرية التباني الثقافي والفكري:
أمَّا العقل الجمعي فهو في الواقع ظاهرة نفسيَّة اجتماعيَّة يظهر فيها الفرد مِن جهة كونه جزءًا مِنَ الجماعة وهي الكلُّ الذي يحيط به ويحميه ويُظهِر شخصيته المتميِّزة حتَّى لو كان التميِّزُ آنيًّا، لذا فإنَّ "العقل الفردي يختلِفُ عن العقل الجمعي في التفكير، فالأوَّل قد يصل إلى قرارات منطقية، ولكنَّه إذا انجرف مع العقل الجمعي فقد يتصرَّفُ بِصورَةٍ سَلبيَّةٍ"[1]، وهذا ما يُبرِّرُ تساوي البرُوفِيسور والجَاهِلُ الأُمِّيُّ تحت سلطة التحريض الاستفزازي، ولا فرق بين أن يكون في السِّياسةِ أو في مباراة كبرة قدم، أو في فَصلٍ عشائري.. أو في غير ذلك من الموارد التي يحضر فيها التحريض العاطفي بأيِّ شكلٍ مِنَ الأشكالِ.
إذا اتَّضح ذلك، قلنا:
قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فِي آخِرِ خُطْبَتِه يَوْمَ قَبَضَه اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَيْه:
"إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا؛ كِتَابَ اللَّه وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ كَهَاتَيْنِ - وجَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيْه - ولَا أَقُولُ كَهَاتَيْنِ - وجَمَعَ بَيْنَ الْمُسَبِّحَةِ والْوُسْطَى - فَتَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَا تَزِلُّوا ولَا تَضِلُّوا ولَا تَقَدَّمُوهُمْ فَتَضِلُّوا"[2].
مِنَ الواضح ما للتمسُّك بالثقلين؛ الكتاب والعِترة مِنْ حَسمٍ في حماية الإنسان مِن الوقوع في مزالق الانحرافات والزيغ والضلال، ولكنَّ خطاب التمسُّك يصطدم بواقع سِمَةِ التهافت الذهني والنَّفسي في المجتمعات البشرية؛ فالإنسان الفرد مِن جهة كونه واحِدًا مِن مجموع المجتمع كثيرًا ما يقع في الترديد بين استقلاله الذهني والنفسي كفرد، وبين وقوعه تحت السيطرة الشديدة للعقل الجمعي، ولذلك كانت الإمامةُ تقديرًا وقضاءً إلهيًّا حكيمًا، ومن جهات حكمتها حفظ المؤمنين وصيانة مكتسباتهم الفكرية والنفسيَّة وحمايتها مِن أمرين:
1/ الوارد من ثقافات وأفكار مخالفة للإسلام ومقاصده الشريفة. ومِن أمثلة ذلك ما واجهه الأئمةُ المعصومون (عليهم السَّلام) في عصور ترجمة الكتب والمصنَّفات اليونانيَّة والفارسية وغيرها، فقد حملوا (عليهم السَّلام) مسؤوليَّة إبطال وبيان ما في تلك الكتب من ضلال، وصدِّها أو صدِّ آثارها عن المؤمنين.
2/ نفس جماعات المسلمين إذا وقع عقلهم الجمعي تحت سلطة الواردات التحريضيَّة. ومن أمثلة ذلك ما حدث في صفِّين بعد فتنة رفع المصاحف وخديعة التحكيم إذ كانت السلطة حينذاك للعقل الجمعي الذي سرعان ما انقلب ثانية بعد انقلابه الأوَّل، وهذه الانقلابات سمة من سماته، والوجه فيها خضوعه الفطري لقوَّة التحريض والاستفزاز.
إنَّ لقوَّة الولاية الإلهيَّة قدرتها على عصمة مَن يلتزمها. قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ)[3]، وقال جلَّ في علاه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[4].
نَرَى أنَّ لمقاصد الأصول الإسلاميِّة الأعم مِن العقديَّة وغيرها وجودًا في نفس المعصومين (عليهم السَّلام) يمتدُّ ليحقِّق وجودًا يناسِبُ غيبة المعصوم (عليه السَّلام) يتجسَّدُ في النصوص الشريفة مِنَ الكتاب العزيز وأحاديث العِترة الطَّاهِرَة، وبناءً على هذا الامتداد يتَّضح خطر ترك النصوص الشريفة في يد المجتمع أفرادًا أو جماعات، والمحذور هو وقوعها تحت سطوة متغيرات العقل الجمعي.
نعتقد برجوع الكثير من النزاعات الداخليَّة إلى سلطة ما عليه العقل الجمعي على النصوص الشريفة، ولذلك نجد المشتغلين بالنصوص الشريفة دون مسبقات وبعيدًا عن ضغوط الجماعات والتيارات وما في حكمها قد نأوا بأنفسهم عن واقع النزاعات المُفشِلة لأطرافها، والسرُّ في ذلك أنَّهم جعلوا النصوص إمامًا لهم يُكَوِّنُونَ أذهانهم ونفسياتهم بحسبها، وكلَّما قويت قواعدهم على أسس النصوص، قويت جماعاتهم وتأكَّد رسوخها.
تقوم فِكرَة الإجازة الروائية على تحقيق التباني الثقافي والفكري والنَّفسي بين حملتها من مُجِزِين وَمُجَازِين، حيثُ إنَّها لا ينغي أن تصدر إلَّا لِمَن يتلمَّذ على شيخه ويقرأ عليه ويُمتحن فهمه بين يديه بما يكشف عن تحقُّق الاشتراك بينهما في الأصول الإسلاميَّة الفكريَّة بما يضمن درجات متقدِّمة من الضمانة عن الوقوع في نزاعات تكشف عن ضعفٍ أو خللٍ في التباني المشار إليه.
شواهد مِن مقدمات بعض الإجازات:
مِن إجازة الشَّيخ محمَّد بن أبي جمهور الإحسائي للسَّيد الفاضل السَّيد مُحسن الرضوي (رحمهما الله تعالى) في رواية كتابه (غوالي اللئالي)، قال:
"وقد أجزتُ له الكتاب المذكور وجميع ما هو فيه مزبور ومسطور بطريق السماع منِّي.." إلى أن قال: "وكان سماعه سماع العالم العارف، وتلقيه له تلقي الفاهم الواقف على ما اشتمل عليه من أسرار الروايات الصادرة عن أطايب البريات.."، وقال: "وقد سأل وقتَ سماعه منِّي وروايته عنِّي عن جميع مشكلاته وفحص بذهنه الذكي عن سائر معضلاته ومبهماته، فأجبتُه عن كلِّ ما سأل عنه وفحص عن معناه بجواب شاف، وأوضحتُ له ما تغطَّى عليه بإيضاح حسن واف، وبينتُ له ما خفي منه ببيان كامل ضاف.."[5]
ومن إجازة الشَّيخ علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي للشَّيخ أحمد بن أبي جامع العاملي (رحمهما الله تعالى)، قال:
"فإنَّ الوَلَدَ الصَّالِحَ الفَاضِلَ الكَامِلَ، التَّقيَّ النَّقيَّ الأريَحيَّ، قدوةُ الفُضَلاءِ في الزَّمان، الشَّيخ جمال الدين أحمد بن الشيخ الصالح الشهير بابن أبى جامع العاملي، أدام الله تعالى توفيقه وتسديده، وأجزل من كل عَارِفَةٍ حظَّه ومزيده وَرَدَ إلينا إلى المشهد المُقَدَّس الغروي على مُشَرِّفِهِ الصَّلاة والسَّلام، وانتظم في سِلْكِ المُجَاورين بِتِلْكَ البقعة المقدَّسة بُرْهَةً من الزَّمان، وفي خلال ذلك قرأ على هذا الضعيف الكاتب لهذه الأحرف، الرسالة المشهورة بالألفية في فقه الصلاة الواجبة من مصنفات شيخنا الأعظم شيخ الطائفة المحقة في زمانه، علامة المتقدمين وعلم المتأخرين، خاتمة المجتهدين، شمس الملة والحق والدين، أبى عبد الله محمد بن مكي قدس الله روحه الطاهرة الزكية، وأفاض على تربته المراحم القدسية، من أولها إلى آخرها، مع نبذة من الحواشي التي جرى بها قلم هذا الضعيف، في خلال مذاكرة بعض الطلبة، قراءة شهدت بفضله، وآذنت بنبله وجودة استعداده، وقد أجزت له روايتها، ورواية غيرها من مصنفات مؤلفها بالأسانيد التي لي إليه"[6].
وقال المُحدِّث البحراني الشيخ يُوسف بن الشيخ أحمد آل عصفور (علا برهانه) في إجازته لولدي أخويه حسين وخلف:
"وحيثُ إنَّ الولدين الأعَزَّينِ الفَاضِلَينِ، الكامِلَينِ، نُورَي العينِ والنَاظِرِ، وبُهْجَتَي القلبِ والخَاطِرِ، خَلَفَ ابن أخي المُقَدَّس المَبْرُور الشيخ عبد علي، وحُسَينَ ابن أخي الأمجد والأسعد الشيخ محمَّد – سلَّمهما الله تعالى وأبقاهما، وبعين عنايته حاطهما ورعاهما – مِمَّنْ فَازَا بالمُعَلَّى والرقيب من قِداح العلوم الفاخرة، وحازا أوفر نصيب من سنا جواهرها الزاهرة، مضافًا الى ما هُمَا عليه من الورع والتقوى، والتمسك بتلك العروة الوثقى، وَفَّقَهُمَا اللهُ تَعَالى للصعود الى غايتها العُليا، ونهايتها القصوى، وقد استجازاني – أمَدَّ اللهُ لهُمَا في العمر السعيد، ومَتَّعهما بالعيش الرغيد – قبل هذه الأيام، (فأجزتُ لهما) حيثُ رأيتُهما أهلًا لذلك المقام، …"[7].
تكشف الإجازة في الرواية عن تقارب بين المُجيز والمُجاز تُحقِّقه أو تُهيء له قواعدُ التَّلَمُّذِ والقراءة والمناقشة بينهما، ولا شكَّ في أنَّنا لا نقول بكونها علَّةً تامَّةً لِهَذِهِ الغايات المرجوة، إلَّا أنَّنا نؤكِّد ونُصِرُّ على قُدْرَةِ الإجازة على تحقيق درجات متقدِّمة مِن التباني الفكري والنفسي بين المُجِزين والمُجازين بِمَا يَحُدُّ مِن المشاكل التي أشرنا إلى بعضها مُسبَقًا.
مِثَالٌ تَطبيقيِّ:
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ رِبْعِيٍّ، رَفَعَه عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السَّلام)، قَالَ:
"واللَّهِ، لَا يَخْرُجُ وَاحِدٌ مِنَّا قَبْلَ خُرُوجِ الْقَائِمِ (عليه السَّلام) إِلَّا كَانَ مَثَلُه مَثَلَ فَرْخٍ طَارَ مِنْ وَكْرِه قَبْلَ أَنْ يَسْتَويَ جَنَاحَاه فَأَخَذَه الصِّبْيَانُ فَعَبِثُوا بِه"[8].
في هذه الرواية الشريفة بحوث مهمَّة تتحدَّد بها أمورٌ، مِنها التوجُّهات الفكرية السياسيَّة في زمن غيبة الإمام المهدي المنتظر (عليه السَّلام)؛ فنبحثُ:
1/ مَفْهُومَ الخروج.
2/ دلالات كلمة (مِنَّا).
3/ البحث في توجُّه وعدمِ تَوجُّه الخطاب لِمَن أحرز عدم الوقوع في أيدي مَن شبَّههم الإمام (عليه السَّلام) في الرواية الشريفة بـ(الصبيان).
4/ جَمْعَ الروايات الشريفة التي يمكن ضمَّها لهذه الرواية والخروج بنتائج أدق وأقرب إلى الصواب.
عندما يقرأ شيخُ الإجازةِ الروايةَ ويبدأ بشرحها وبيان مضامينها، ثَمَّ يُناقش طلبته ويسمع منهم، فيُصحِّحُ كلُّ واحِدٍ مِن أهل الحلقة العلميَّة ما يحمل مِن أفكار وقناعات، ويبلور غيرها، فإنَّ ذلك يؤسِّس إلى التقارب الفكري والنفسي أوَّلًا تمهيدًا للتباني ثانيًا، وإذا شَعَرَ الشَّيخُ بتحقُّق تلك المقاصد ووقَفَ على اتِّساع رقعة العلم وتعمُّقها في طلبته أجاز المُستَجيز منهم بناءً على المعطيات التي أشرنا لها تصريحًا وتلميحًا، فيكون حينها الوجودُ الفكريُّ والنَّفْسِيُّ لِلمُجَازِ انعكاسًا إيجابيًّا له عند المُجِيز، وهكذا يستمرُّ الانعكاس العلمي الأعم مِن الفكري والنفسي في شبكة الإجازة.
أصل الوقت ومحورية الانتظار والصبر لملاحظة النتائج ورصد التغيير وتحقُّق الغاية:
عندما يكون الحديثُ عن تبانيات فكريَّة ونفسيَّة فلا بدَّ حينها مِن فهمِ حاجة المسألة إلى وقت يستوعب أكثر مِن جِيل (33 سنة)، لا سيَّما مع كون مادَّة التباني إسلاميَّة؛ والإسلام يواجه طوفانًا معاديًا يحتوشه من الجهات الست، لِذا فإنَّ العملَ على المشروعِ مَحَلِّ الكَلَام ضَعيفُ الثَّمَرَةِ مَا لم يَقْتَرِنْ اقترانًا أكيدًا بطول النَّفَسِ وسعة البال والصدر، والصبر على النتائج.
الإجابة على إشكالات مُقَدَّرَة:
تُعتَبر العِمامةُ علامةً على كون مُتقلّدها طالبَ علمٍ، ولا تعني تزكيته أو ما في حكم ذلك، غير أنَّ هذا لا يفهمه العامَّة من المؤمنين (رفع الله كلمة الإيمان فيهم)، ومن جهة أخرى فإنَّنا لا نجد طريقًا لضبط مسألة لُبس العِمامة، لا سيَّما مع تعدُّد المسالك وإطلاق حقِّ تقليدها. ولضبط الأمر وجدنا في إعادة الاعتبار للإجازة في الرواية تحقيقًا لِغَايَةٍ طَالَمَا طَلَبَهَا من يَشْعُرُ بالمسؤولية تجاه المؤمنين.
إنَّ ما نَتَطَلَّعُ إليه هو التأسيس لواقع المائز الجوهري بين إجازة من يجيز بناءً على الاعتبار العلمي والأخلاقي والأدبي للمُجَازِ، وبين غَيرِهِ مِمَّن يُجيزُ للبركة! وبهذا التأسيس ونَشْرِهِ في المجتمع يكون لهذه الإجازة الخاصَّة واقِعُ الضَبْطِ المنشود.
يَبْقَى التنْبيهُ على أنَّ إشكالَ انْكِسَارِ مَنْ لا يُجاز من طلبة العلم في قِبَال المُجَاز مردودٌ بأنَّ نَفْسَ هذا الانكسار أَمَارَةٌ مُعتَبَرَةٌ على عدم استحقاقه للإجازة، وإلَّا فمِن حُسن الخُلُق وجمال الحكمة أن يفرح مِن لا يُجاز لأخيه المُجَاز، ثُمَّ أنَّه يسعى لإصلاح واقعه حتَّى يكون مُستحقًّا للإجازة.
تَمَام الفِكرَة:
لا شكَّ في أنَّ توقُّف قوَّة ونفاذِ سُلطة العلماء وأجوائهم العلميَّة على السَّعة والمساحة الجغرافيَّة التي يشغلها الوجود العلمي الأعم لطلبة العلم، ومِن هنا أُثِرَ عن بعض الأعلام مِن الأكابر والأعاظم قوله بضرورة أن "يكون في كُلِّ صُقْعٍ مِنْ صُقَاعِ الأرضِ فَقيهٌ"، وقد نُفِيدُ مساحة النَّاحيَة مِنَ الأرض بما رود عنهم (عليهم السَّلام) في ما يخصُّ المسافة الشرعيَّة بين الجمعتين، وهي فرسخ واحد من جميع الجهات، وهو ما يساوي خمسة كيلومترات ونصف تقريبًا، أي أن يكون في كلِّ 30,25 كيلومتر مربَّعًا فقيهٌ يُؤمِن بأهميَّة الإجازة الروائية وما لها من دور في صيانة الساحة العلميَّة وحماية المؤمنين[9].
وتقوم الإجازة بربط العلماء وطلبة العلم ببعضهم البعض برباط الأخلاق والفقاهة والحِكمة، وهو ما يُرجى مِنْ أنْ يتبانى عليه أهلُ الإجازة الشريفة.
تصحيح مسار الدَّرس:
نُؤسِّسُ على ما نرى أهميَّةَ وضرورةَ أن يكون أصلًا في المقام، وهو إيقاع كُتب الحديث في منهج الدَّرس الحوزوي منذ اليوم الأوَّل لطالب العِلم، فكما يُطَالَب بضبط الكتب المنتخبة في اللغة وعلومها، والفقه وأصوله، والرجال والدراية، وفي بعض المناهج الفلسفة والكلام، يُطالَب بضبط محاسن البرقي مثلًا، والخصال، وكُتُبٍ منتخبة مِن أصول الكافي، والوسائل، وغيرها ممَّا يكون له الأثر في تحقيق الغاية المرجوة بحسب سعتها وضيقها كما يراه المُجيزُ أو المُجيزون أو مَن في حكمهم.
دَفْعُ وَهْمٍ:
باختِصَارٍ ودُونَ إطَالَةٍ نَقْطَعُ بعدمِ حاجَةِ (توسعة الغرض من الإجازة الروائيَّة) إلى تغييرٍ في المناهج الدراسيَّة الحوزويَّة تغييرَ حذفٍ واستبدال، فَعَنْ وَاقِعِ تَجْرِبَةٍ وَعلمٍ نَقُولُ بأنَّ إضافةَ كُتُبٍ تشكِّل الأصل والأساس للمادَّة العلميَّة التي تقوم عليها فِكرة الإجازة لن يضرَّ على الإطلاق بالواقع القائم للكتب الحوزويَّة المشهورة والتي عليها مدار الدرس الحوزوي لا سيَّما في مرحلة السطحين، وما قد يقال خلافًا لذلك فهو محض توهُّمٍ لا أكثر.
خاتِمة:
لو أنَّ العِلمَ يتجسَّدُ رجلًا ذا إدراك ومشاعر لما تصورتُه إلَّا فرِحًا مسرورًا يتفاخرُ بأيِّ حِراكٍ علميٍّ موضوعيٍّ يُقصَدُ به التكامل والتقدُّم في مدارج العلم والمعرِفة، وإذا تمثَّل العالِمُ وطالِبُ العِلمِ بما نتصوَّرُه في العِلم بما هو عِلمٌ فإنَّه لن يبرحَ مواطِنَ الحِراك العلمي المتوقَّع ليَدْخُلَ فيه مُلاحِظًا وناقِدًا ومُناقِشًا طلبًا للتكامل، والتبلور، والتنقيح، والنضج.
لِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الظروفِ التي ألمَّتْ بالمؤمنين على مدى قرون وعقود في مختلف المواقع والمواطن أثَّرتْ في إحداث حالةٍ من التراجع في تحقُّقِ وقِيامِ فضيلة طلب التكامل العلمي إلَّا في ضمن شروط مُعقَّدة تَفْرُضُها خصائِصُ الحواضِر العلميَّة بما هي حواضِر.
لذا، فإنَّ ما نطرحه هنا يواجِهُ حالةً مِن البُرُود المُتعِب في التعاطي مع الفِكرة ولو في أدنى المستويات، ونحن إذ نعذُرُ الجميع ولا نشعر بإحباط أو ما شابه، نُبَيِّنُ بوضوح تامٍّ أنَّنا لن نَفْتُرَ عن تحمُّل مسؤوليَّة هذه الرؤية وتطويرها والعمل على إيجاد الطرق المناسبة لطرحها وتطبيقها بحسب ما تسمح به الظروف والإمكانات.
أبدى بعضُ الأكارم استغرابًا مِمَّا وجدوه تحميلًا مِنَّا للإجازة الروائيَّة بما لا تحتمل، وقد حاولنا توضيح الأمر بأنَّنا لا نُحمِّلها ما لا تحتمل؛ ولكنَّنا في محاولة لإعادة اعتبارها العلمي الذي كانت عليه في الأزمان السابقة، وإنْ عَنْوَنَّا الرُؤيةَ بعنوان (التوسِعة) فذلك بملاحظة ما هي عليه مِن بعد زمن إحكامها تدَرُّجًا إلى زمننا هذا الذي باتت فيه مبذولةً دون أقلِّ مراعاة للموازين الضابطة، ما أفقدها أدنى درجات الاعتبار.
مِن بعد تقديم هذه الورقة، وما كتبناه خلال السنوات الفائِتة مِن مقالات نُشِرَتْ في بعض المواقع الإلكترونيَّة[10]، فإنَّنا ندعو الكِرام مِن أهل الاهتمام إلى ملاحظة ما في الإجازة الروائيَّة مِن قابليَّاتٍ لها قوَّةُ الإصلاح والتصحيح في بعض مواقع الخَلل في البناء العلمي الأعم في شخصية طالب العِلمِ فردًا وجماعةً، وإنَّ مِن أهمِّ ما تُنتِجه تِلك الملاحظة العلميَّة توجيه الأقلام الوازنة للنقد والمناقشة والتنقيح طلبًا للإتقان والكمال بما ينساب مقام ما نحن فيه.
كما ونُوصي بقراءة كُتُب الإجازة وما أُثبِتَ مِن إجازات في مِثل بعض أجزاء بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي، ولؤلؤة البحرين للشَّيخ يُوسُف آل عصفور البحراني (نوَّرَ الله سبحانه مَرقَدَهُمَا) قراءةَ درسٍ وتدبُّرٍ وفهمٍ، آمِلينَ أنْ يَقِفُوا على دَقَائِق ما في الإجَازَةِ المُعْتَبَرَةِ مِنْ عَوامِل حفظٍ للعِلمِ والعالِم.
والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والرسلين محمَّد وآلِهِ الطيبين الطاهرين.
السَّيد محمَّد السَّيد علي العلوي
17 من ذي القعدة 1444 للهجرة
المراجعة والتنقيح: 20 من ذي القعدة 1444 للهجرة
البحرين المحروسة
..............................................
[1] - سيكولوجية الجماهير – غوستاف لوبون
[2] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 415
[3] - الآية 55 من سورة المائدة
[4] - الآية 59 من سورة النِّساء
[5] - بحار الأنوار – المجلسي – كتاب الإجازات، ج105 ص5-6
[6] - المصدر السابق ص42
[7] - لؤلؤة البحرين – الشَّيخ يُوسُف آل عصفور – ص6
[8] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 8 - ص 264
[9] - هذه نظرة استحسانيَّة مِنَ الكاتب لا أكثر، وربَّما كان بناؤها على القول بوجوب الفقاهة في إمام الجمعة كما على ذلك بعض الأعاظم.
[10] - يمكنكم مراجعة موقع صوت الغدير: حِفظُ العِلمِ والعالِمِ.. مقالات في إجازة الرواية: https://alghadeer-voice.com/archives/6010