للرد على أي استدلال طريقان، الأول ما يسمى بالجواب الحلِّي، والثاني بالجواب النقضي.
والجواب الحلّي هو حل الاستدلال عن طريق بيان موضع الخطأ فيه، كأن يلحظَ المُجيب مغالطةً في إحدى المقدمات التي استند عليها المستدل، فيقف عليها ويبين عدم صحتها كبرويًا أو صغرويًا، فعليه لا تكون نتيجة الاستدلال التي وصل إليها صحيحة لعدم صحة الاستدلال.
كمن يستدل على عدم عصمة الأنبياء (عليهم السلام)، بحادثة نبينا موسى (على نبينا وآله وعليه السلام) مع القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، وحكى الله سبحانه وتعالى على لسان نبينا موسى (ع): قوله: {فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}[1]، فإشارة نبينا موسى (على نبينا وآله وعليه السلام) لعمله بعمل الشيطان، واضحٌ بمنافاته للعصمة، وعليه تنتفي ضرورة عصمة الأنبياء (عليهم السلام)، فيصاغ استدلاله بقياس كبراه عمل الشيطان مناف للعصمة وصغراه وكز موسى من عمل الشيطان ونتيجته وكز موسى مناف للعصمة.
فيجاب عليه حلًّا، بإن الإشارة ب(هذا) في الآية لا تعود على فعل النبي (ع)، بل هي عائدة على فعل الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين، فتبطل المقدمة الصغرى فلا تصح نتيجة الاستدلال حينئذ لعدم صحة المقدمة التي استند عليها بعود اسم الاشارة لفعل النبي موسى (على نبينا وآله وعليه السلام).
أما الجواب النقضي فهو عبارة عن نقض نفس الاستدلال وبيان عدم صحته، لملازمته لأمرٍ لا يمكن الالتزام به إمًا عقلًا، وإما عند نفس المستدل على الأقل بحسب قواعده ومبانيه، كمن يستَدِلُّ على كون العالَم هو العلة في إيجاد نفسه، فإن لازم ذلك كما قرر في محله هو اجتماع للنقيضين، وهذا اللازم محالٌ عقلًا، فإذا بطل اللازم فالملزوم مثله في البطلان.
أو كمن يستدل مثلًا برواية موثَّقة على حكمٍ معينٍ، مع أنه لا يقول بحجية الروايات الموثقة، فمقدمات الاستدلال وإن كانت صحيحة، إلا أن لازمها هو القول بحجية الروايات الموثقة والفرض أن المستدل لا يقول بحجيتها، فيكون هذا نقضٌ لاستدلاله لما يلزمه من خلاف مبانيه الشخصية.
وهذا الأمر مهم في صحة توجه الجواب النقضي، فمع عدم تحققه لا يكون هناك معنى للجواب بالنسبة للمستدل، ولا يُشكِّل له أي مشكلة تستدعي تراجعه عن استدلاله، لتسليمه باللازم المذكور في الجواب لعدم استحالته عقلًا ولعدم منافاته لمبانيه، وهنا أذكر تطبيقين لعدم صحة توجه الجواب النقضي لعدم ناقضية اللازم بالنسبة للمستدل، الأول عقائدي والثاني أصولي.
التطبيق الأول:
وهو إشكال بعض أهل العامة على الإمامية لما يقولونه بإن الإمامة من أصول الدين لا من فروعه كما هم يذهبون، وحاصل إشكالهم هو لو كانت الإمامة بالشكل الذي يصوره الإمامية بأنها من أصول الدين كما التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، لذُكِرت في القرآن الكريم كما ذكرت سائر الأصول، وإذا أردنا صياغته على هيئة قياس استثنائي نقول: لو كانت الإمامة من أصول الدين، لذكرت في القرآن الكريم، لكنها لم تذكر، فالإمامة ليست من أصول الدين.
وجهة النقض في كلامهم واضحة وهي عدم ذكر الإمامة كما تصورها الشيعة في كتاب الله تعالى.
وعلى فرض التسليم بالمدعى، فإن عدم ورود الإمامة في القرآن الكريم لا يكون ناقضًا لكونها من أصول الدين على مباني الإمامية؛ وذلك لأن نفس أصول الدين لدى الإمامية تثبت بالدليل العقلي لا النقلي، فلا يتوقف إثباتها على ورودها في النقل، فإذا ثبت بالقطع عن طريق العقل كون الإمامة من أصول الدين كان كذلك، وإن لم يرد في القرآن الكريم، فالمراجع لكلماتهم في كتب الكلام يرى إقامتهم الدليل العقلي في باب الإمامة لإثباتها كما في سائر الأبواب، بل حتى ما لا يثبت إلا بالنقل لا يتوقف إثباته على وروده في القرآن بل يكفي وروده في السنة القطعية فقط كعدد الأئمة مثلًا، فالقرآن والسنة سواء من حيث وجوب الأخذ بهما، ولم يقيد ذلك بوروده في كليهما صريحًا.
وبهذا يتضح أن إشكالهم النقضي ليس بنقضي بحسب مباني الإمامية، وإنما يصح لو كان مناقضًا لحكم العقل، أو لمباني الإمامية على أقل تقدير.
التطبيق الثاني[2]:
ما ذكره الشهيد الصدر إشكالًا على الميرزا النائيني (قدس الله سرهما) في تعريفه لعلم الاصول، بإضافة قيد (الكبروية) إلى التعريف، دفعًا للإشكال الوارد على تعريف المشهور[3]، بعدم مانعيّته من دخول بعض المسائل الخارجة عن علم الأصول فيه، كبعض مسائل اللغة كما في ظهور كلمة (الصعيد) فهي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، لكنها من مسائل اللغة لا أصول الفقه، فمع إضافة قيد الكبروية للتعريف، يجب أن تكون القاعدة الأصولية كبرى في قياس الاستنباط، لكي تكون داخلة في العلم، وأما الصغريات فهي خارجة عنه، وعليه فظهور كلمة الصعيد لا يعمها تعريف علم الاصول، وإن كانت داخلة في طريق الاستنباط؛ لكونها من صغريات الاستنباط لا المقدمات الكبرى.
وحاصل ما أشكل به الشهيد الصدر (قدس) أن جملةً من القواعد الأصولية ليست بقواعد كبرى للاستنباط، كظهور صيغة الامر في الوجوب، أو كظهور بعض الادوات في العموم أو المفهوم، فإن هذه الظهورات تُعد صغريات لكبرى حجية الظهور، فهي بحاجة إليها لتتم عملية الاستنباط، وعليه مع إضافة قيد الكبروية للتعريف تخرج جميع هذا القواعد من موضوع علم الأصول.
فإضافة قيد الكبروية للتعريف وإن كان مانعًا من جهة دخول بعض المسائل غير الأصولية في علم الأصول كظهور كلمة الصعيد، إلا أنه لا يكون جامعًا لجميع مسائله والتي هي ليست بقواعد كبرى للاستنباط، فجهة النقض على المحقق النائيني (قدس) هي لزوم خروج مسائل أصولية من علم الأصول بإضافة قيد الكبروية للتعريف، وعليه لا يصح تقييد التعريف بهذا القيد.
بيد أن هذا النقض لا يرد على الميرزا النائيني (قدس)؛ لأنه يقر بعدم كون هذه المسائل الصغريات من مسائل علم الأصول بل هي من المبادئ للعلم، كما نقل عنه صريحًا في فوائد الأصول حيث قال: "و بذلك يظهر أنّ البحث عن ظهور الأمر والنهي في الوجوب والحرمة لا يرجع إلى علم الأصول، بل هو من المبادي، كالبحث عن أنّ «الصعيد» ظاهر في مطلق وجه الأرض، وإنّما ذكر في علم الأصول استطرادًا، حيث لم يبحث عنه في علم آخر، وبالجملة المائز بين علم الأصول وسائر العلوم، هو أنّ مسائل سائر العلوم إنّما تكون من المبادي والمعدّات لاستنتاج الأحكام الشرعيّة، ولا تقع إلّا في صغرى قياس الاستنباط، وأمّا المسألة الأصوليّة فهي تكون الجزء الأخير لعلّة الاستنباط وتصلح لأن تقع كبرى القياس"[4].
وعليه إخراج قيد الكبروية بعض المسائل كظهور صيغة الأمر في الوجوب والنهي في الحرمة، عن علم الأصول لا يُنقض به على المحقق النائيني (قدس) لأنه يقر ويلتزم بعدم كونها من مسائل علم الأصول أصلًا.
وكذا الحال في غير هذين الموردين، فإن على المُجيب -أو المُشكُل بحسب اللحاظ- نقضًا ملاحظة ما ينقض به على صاحب الاستدلال، فإما أن يكون ما ينقض به باطلًا عقلًا فملزوم هذا المخالف نفسه في البطلان، وإما أن يكون مخالفًا لمباني صاحب الاستدلال الذي يراد الإجابة عليه فينتقض استدلاله جريًا على مبانيه، لا أن يلحظ المجيب نفس مبانيه فيقرر إشكاله بحسبها، فيرى صحته لموافقته ما هو عليه، فيتوهم عند ذلك ابطاله للاستدلال والحاصل خلافه.
.........................................
[1] القصص ١٥.
[2] استفدت هذا التطبيق من درس صوتي للحلقة الثالثة، لسماحة الشيخ حسن فوزي فواز العاملي (حفظه الله تعالى)، وفكرة هذا المكتوب من درسه كذلك.
[3] وتعريف المشهور هو: (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي) كما ذكره الشهيد الصدر (قدس) في الحلقات.
[4] فوائد الوصول ج ٤ ص ٣٠٨، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى.