مقدّمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على محمّد النبيّ وآله.
من الزِّيارات الخاصَّة من جهة، والعامَّة من جهة أخرى زيارةُ عاشوراء المشهورة، فهي خاصَّة ورد استحباب قراءتها في يوم عاشوراء، وهي عامَّة لما ورد من الحثِّ على تعاهد قراءتها من قُرب أو بُعد وبلا اختصاص بيوم عاشوراء.
وقد نقل المحدِّث النُّوري في المستدرك[1] زيارة ليوم عاشوراء غير المشهورة عن كتاب المزار القديم، وهي-كما قال المحدّث النوري: "زيارةٌ تشبه الِّزيارة المعروفة في غالب الفقرات، وليس فيها الفصلان الّلذان في اللعن والسَّلام"، وقد ذكر بعد إيراد ثوابها، قال علقمة بن محمد الحضرميّ عن أبي جعفر (عليه السَّلام): ".. إن استطعت يا علقمة أن تزوره في كلَّ يوم، بهذه الِّزيارة في دارك وناحيتك وحيث كنت من البلاد في أرض الله فافعل ذلك، ولك ثواب جميع ذلك، فاجتهدوا في الدِّعاء على قاتله وعدوِّه، ويكون في صدر النَّهار قبل الزَّوال".
وقد ذكر الشَّيخ القميّ (رحمه الله تعالى) في المفاتيح هذه القطعة بعد زيارة عاشوراء المشهورة[2]؛ ولعلَّه لما رآه من تشابه الفقرات بين الزِّيارتين.
وقال المحدِّث النُّوري بعد ذكر فقرة الثَّواب: "قلت: ما تضمَّن هذا الخبر من النعم الجسيمة، فإنَّ العمل المذكور تمام وعد ضمن للزِّيارة الشَّريفة المعروفة، هو في غاية السُّهولة، فخذه واغتنم، وكن لله من الشاكرين".
وهنا نقاط:
التَّحضيض والحثُّ على تعاهد هذه الِّزيارة، والإتيان بها من قرب وبُعد.
ثمَّة ضمان بقبول هذه الِّزيارة، وشكر سعي الزَّائر بها، ووصول سلامه بلا حجب، وقضاء حاجته مهما تعاظمت.
هذا الضَّمان كما قال الصَّادق (عليه السَّلام) في الرِّواية عن أبيه عن جدِّه عن الحسين عن الحسن عن الأمير (عليه السَّلام) عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن جبرئيل عن الله سبحانه، قال الشيخ (رحمه الله تعالى) في المصباح: [وروى محمَّد بن خالد الطيالسيّ عن سيف بن عميرة أنّه قال:] قال لي صفوان: قال لي أبو عبد الله (عليه السَّلام): "تعاهد هذه الِّزيارة وادع بهذا الدُّعاء وزر به فإني ضامن على الله تعالى لكلِّ من زار بهذه الِّزيارة ودعا بهذا الدُّعاء من قرب أو بعد أنَّ زيارتَه مقبولة، وسعيه مشكور، وسلامه واصل غير محجوب، وحاجته مقضية من الله بالغاً ما بلغت ولا يخيبه.
يا صفوان، وجدتُ هذه الِّزيارة مضمونة بهذا الضَّمان عن أبي، وأبي عن أبيه عليِّ بن الحسين (رحمه الله تعالى) مضموناً بهذا الضَّمان، [وعليّ بن الحسين عن أبيه الحسين مضموناً بهذا الضَّمان]، والحسين عن أخيه الحسن مضموناً بهذا الضَّمان، والحسن عن أبيه أمير المؤمنين مضموناً بهذا الضَّمان، وأمير المؤمنين عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) مضموناً بهذا الضَّمان، ورسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن جبرئيل (عليه السَّلام) مضموناً بهذا الضَّمان، وجبرئيل عن الله عزّ وجلّ مضموناً بهذا الضَّمان، قد آلى اللهُ على نفسه عزّ وجلّ أنَّ من زار الحسين (عليه السَّلام) بهذه الِّزيارة من قرب أو بُعد ودعا بهذا الدُّعاء، قبلت منه زيارته وشفّعته في مسألته بالغاً ما بلغ، وأعطيته سؤله، ثمَّ لا ينقلب عنِّي خائباً، وأقلبه مسروراً، قريرا (كذا) عينه بقضاء حاجته والفوز بالجنة والعتق من النَّار، وشفَّعته في كلِّ من شفع خلا ناصب لنا أهلَ البيت، آلى الله تعالى بذلك على نفسه وأشهدنا بما شهدت به ملائكة ملكوته على ذلك، ثمَّ قال جبرئيل: يا رسول الله، أرسلني إليك سروراً وبشرى لك، وسروراً وبشرى لعليّ وفاطمة والحسن والحسين وإلى الأئمة من ولدك إلى يوم القيامة، فدام يا محمّد سرورك وسرور عليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمة وشيعتكم إلى يوم البعث"، ثمَّ قال صفوان: قال لي أبو عبد الله (عليه السَّلام): "يا صفوان، إذا حدث لك إلى الله حاجة فزر بهذه الِّزيارة من حيث كنت، وادع بهذا الدُّعاء وسل ربَّك حاجتك تأتك من الله، والله غير مخلفٍ وعدَه ورسوله(صلَّى الله عليه وآله) بمنِّه، والحمد لله"[3].
ورد في ثواب قراءتها: "فإنَّك إذا قلت ذلك فقد دعوت بما يدعو به زوَّاره من الملائكة، وكتب الله لك مائة ألف ألف درجة، وكنتَ كمن استشهدوا معه تشاركهم في درجاتهم، وما عرفت إلاّ في زمرة الشهداء الذين استشهدوا معه، وكتب لك ثواب زيارة كلِّ نبيٍّ، وكلِّ رسولٍ، وزيارة كلِّ من زار الحسين (عليه السَّلام) منذ يوم قتل (سلام الله عليه وعلى أهل بيته)"[4].
تُقرأ هذه الِّزيارة لقضاء الحاجة- كما مرَّ في رواية الِّزيارة: "إذا حدث لك إلى الله حاجة فزر بهذه الِّزيارة من حيث كنت، وادع بهذا الدعاء، وسل ربّك حاجتك تأتك من الله، والله غير مخلفٍ وعدَه ورسوله (صلَّى الله عليه وآله) بمنّه".
ثمّ الحاجة مرّةً تكون خاصّة، وأخرى تكون عامّة، كوضع اجتماعي متأزّم، أو وباء عامّ كجائحة (كورونا) الّتي ابتلينا بها، والله المستعان.
ففي كتاب (شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور): ذكر العلامة عظيم الشأن صاحب كتاب (رياض الأنس) عن أستاذه جليل القدر آية الله العظمى الحاجّ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ أعلى الله مقامه الشريف: لمَّا كان [كنَّا] في مدينة سامرّاء نشتغل بالطلب، دخل علينا ذاتَ يومٍ المرحوم آية الله العظمى الأستاذ الكبير السيِّد محمَّد فشاركيّ حلقة الدَّرس، وهو مضطرب الحال؛ لشيوع الهيضة في ذلك الزَّمان، وقد أصاب جماعة من العراقيّين هذا الوباء المري فقضى عليهم، فقال السيِّد المذكور: هل تروني من المجتهدين؟ قلنا: نعم، فقال: ومن العدول؟ قلنا: نعم -وكان غرضه بعد أخذ تأييدنا إصدار الحكم- ثمَّ قال: إنِّي أحكم على الشِّيعة جميعهم القاطنين في سامرّاء من ذكر وأنثى أن يتلو كلُّ واحد منهم زيارة عاشوراء مرَّة واحدة نيابةً عن السيِّدة المكرّمة أمِّ الإمام صاحب الزَّمان (عجَّل اللهمَّ فرجه الشريف)، وأن يجعلوا هذه الأمّ المقدّرة شفيعة عند ولدها المولى سيّدنا المهديّ وليّ العصر وإمام الزمان (عجَّل اللهمَّ فرجه الشريف)؛ ليسأل الله تعالى برفع هذا البلاء عن شيعة سامرّاء، قال المرحوم آية الله الحائريّ: فلمَّا أصدر حكمه، وبما أنَّ الخطر عامّ، فقد أطاعه الشيعة كلّهم، فلم يصب الوباء واحداً منهم، ونجّى الله تعالى من هذا البلاء العامّ ببركة زيارة عاشوراء الشِّيعة جمعاء"[5].
إلى جانب الحثّ والتَّحضيض على زيارة عاشوراء من قبل الإمام(عليه السَّلام)- يوجد التزام وتعاهد من العلماء والمؤمنين غير مألوف منهم بغيرها، وبواقع يوميّ، وربما لأكثر من مرَّة في اليوم، وقد نقل لي ابن أستاذنا آية الله الشيخ مسلم الداوريّ الإصفهانيّ عن والده (دام ظلُّه العالي)، وعمر والده يومها بين يدي السبعين عاماً، وكنت في زيارة له، ثمَّ استأذن في الانصراف لبعض شأنه، فقلت لولده: أخبرني عن أحوال الوالد في المنزل، وقلت له: لا تقل: يصلّي، فالكلّ يصلّي، فسكت قليلا، ثمَّ قال: الوالد مقيَّد -بمعنى ملتزم- بزيارة عاشوراء من قبل البلوغ إلى الآن، فقلت له: لا أريد أكثر من هذا، يكفيني هذا.
هذا التَّعاهد والالتزام بقراءتها جاء من الكرامات والآثار الملموسة لقراءة هذه الِّزيارة، وما أبعدها عن الإحصاء -مضافاً إلى ما أثر من الثَّواب الموعود به-.
إنَّ زيارة عاشوراء تشتمل -مضافاً إلى السَّلام- على إظهارٍ لعِظم المصيبة علينا بقتل الحسين (عليه السَّلام)، وأنَّ هذه المصيبة عظيمة على أهل السَّماوات، وهم الملائكة، و(تشتمل) على لعن المؤسِّسين والممهّدين لقتله ولعن قَتَلَته، وعلى البراءة منهم ومن أتباعهم، وعلى بثِّهم (عليه السَّلام) مسالمة من سالمهم ومعاداة من عاداهم، وعلى التقرُّب إلى الله وأهل البيت (عليه السَّلام) بذلك، وعلى الدُّعاء بطلب الثَّأر، وعلى عرض الموالاة والبراءة عليهم (عليه السَّلام)، وإشهادهم على ذلك، وعلى الدُّعاء بالكون معهم دنيا وآخرة، وبثبات القدم.
وهذا يفتح علينا بأنَّ الزِّيارة بصورة عامَّة ليست مجرَّد إلقاء للتحيّة والسَّلام، بل فيها -إلى جانب ذلك- أمثال هذه الأمور، فهذه الِّزيارة تحمل في طيّاتها معارف مهمّة، وبعضها تمَّ التأكيد عليها لأكثر من مرَّة في نفس هذه الِّزيارة.
وبعد كلِّ ما تقدَّم أعرض إلى جملة من مقاطع الِّزيارة مع تذييلها ببعض ما يستفاد منها من معارف:
"السَّلام عَلَيْكَ وعَلَىٰ الأَرْواحِ الَّتِي حَلَّتْ بِفِنائِكَ، عَلَيْكُمْ مِنِّي جَميعاً سَلامُ اللهِ أَبَداً ما بَقِيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ"، وقد جاء في أواخرها: "السَّلام عَلَيْكَ يا أَبا عَبْدِ اللهِ وَعَلَىٰ الأَرواحِ الَّتِي حَلَّتْ بِفِنائِكَ، عَلَيْكَ مِنِّي سَلامُ اللهِ أَبَداً ما بَقِيتُ، وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ". وهنا نقاط:
* يسلِّم المؤمن على إمامه تارةً بالسَّلام المكرَّر، كما في نفس زيارة عاشوراء- بحسب ما في مزار الشَّهيد الأوّل (رحمه الله تعالى) "..السَّلام على الحسين وعلى عليّ بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين، تقول ذلك مائة مرّة"[6]، وتارةً أخرى يسلّم عليه بسلامٍ أبديٍّ لا انقطاع له ما دامت الدُّنيا، كما في قطعة البحث من زيارة عاشوراء: "عَلَيْكَ مِنِّي سَلامُ اللهِ أَبَداً ما بَقِيتُ، وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ".
* وبموجب هذا النَّحو من السَّلام يتواتر السَّلام على الحسين (عليه السَّلام)، ولو كان المسلِّم به غافلاً أو نائما، بل ولو كان قد فارق الدُّنيا، كما في مسالمة من سالم الحسين (عليه السَّلام) ومعاداة ومحاربة من عاداه وحاربه إلى يوم القيامة، ففي زيارة عاشوراء: "يا أبا عَبدِ اللهِ إنّي سِلمٌ لِمَن سالَمَكُم وَحَربٌ لِمَن حارَبَكُم إلى يَومِ القيامة".
* وهذا السَّلام كما يصل إلى الحسين (عليه السَّلام) وبلا حجب -كما تقدَّم- كذلك يصل إلى نفس المسلِّم به بمقتضى أبديَّته أثره وعائده وبركته لحظةً بلحظة، فهنيئاً للمؤمن هذا الغُنْم الجزيل.
* كما أنَّه بموجب هذا السَّلام يصل إلى المسلِّم به تلك البركات في ساعات الشدَّة، وما أحوجه إليها في هذه السَّاعات، كما في مشهد الاحتضار وساعة سؤال منكَر ونكير وفي عالم البرزخ، الّذي هو عالم مَخُوْف[7]، والله المستعان على ذلك بالحسين (عليه السَّلام).
"يا أَبا عَبْدِ اللهِ، لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِيَّةُ، وَجَلَّتْ وَعَظُمَتِ المُصِيبَةُ بِكَ عَلَيْنا، وَعَلَىٰ جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلامِ، وَجَلَّتْ وَعَظُمَتْ مُصِيبَتُكَ فِي السَّماواتِ عَلَىٰ جَمِيعِ أَهْلِ السَّماواتِ".
* هذا ما يخاطب به المؤمن إمامه (عليه السَّلام) فيقول: رُزأنا بك رزيّة عظيمة، وأصبنا بك مصيبة جليلة وعظيمة.
* وفرقٌ بين هذا التَّعبير وبين أن أقول: رزيّتك عظيمة علينا، ومصيبتك جليلة وعظيمة علينا؛ ذلك لأنَّ التَّعبير الأوّل يعطي اشتراك المؤمن مع إمامه (عليه السَّلام) في الرزيّة والمصيبة، ونقرأ في نفس الِّزيارة: "وَأَسْأَلُ اللهَ بِحَقِّكُمْ، وَبِالشَّأْنِ الَّذِي لَكُمْ عِنْدَهُ، أَنْ يُعْطِيَنِي بِمُصابِي بِكُمْ أَفْضَلَ ما يُعْطِي مُصاباً بِمُصِيبَتِه"، ونقرأ في سجدة زيارة عاشوراء: "الحَمدُ للهِ عَلى عَظِيمِ رَزِيَّتِي".
* ويصدِّق ذلك المأثور عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): "إنَّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا"[8]، نعم حرارة قتله لا يجدها غير المؤمن، وقلوب المؤمنين تتَّقد بهذه الحرارة الّتي لا تبرد أبداً، ولماذا هي كذلك؟ وبأيِّ موجبٍ صار ذلك؟
والجواب: إنَّها المعرفة، ففي المأثور الآخر عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): "إنَّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة"[9]، وما دامت معرفتنا بالحسين معرفة لا تبارح نفوسنا ولا تخرج منها فحرارة قتله- كأثرٍ لتلك المعرفة- لا تبرد أبداً.
"وَعَلَىٰ جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلامِ":
* إنَّ المسلم -كما المؤمن- قد رُزأ بالحسين (عليه السَّلام) رزيّة عظيمة، وأصيب به مصيبة عظيمة وجليلة؛ إذ لا يَفُوته أنَّه ابن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وأنَّه ريحانته، وأنَّه من أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً، وأنَّه من رسول الله ورسول الله منه، كما جاءنا عنه (صلَّى الله عليه وآله): "حسين منّي، وأنا من حسين، أحبَّ اللهُ من أحبَّ حسينا، حسين سبط من الأسباط"[10].
* وأنا أحتاج إلى مراجعة إسلامي إذا لم أُرزأ بالحسين (عليه السَّلام)، وهذه الفقرة تعطي -بالعكس المستوي- أنَّ على إسلامي السَّلام إن لم أرزأ بالحسين (عليه السَّلام).
* كيف لا؟! وصريح فقرة من زيارة عاشوراء أنَّ مصيبة الحسين مصيبة على الإسلام، فما بالي كمسلم لا أعيش رزأ الحسين الذي هو رزء الإسلام؟!: "مُصِيبَةً ما أعظَمَها وَأعظَمَ رَزِيَّتَها في الإسلامِ وَفي جَمِيعِ السَّماواتِ وَالأرض".
* نعم إنَّ مصيبته (عليه السَّلام) قد اتصلت بالملأ الأعلى، وهم الملائكة: "عَلَىٰ جَمِيعِ أَهْلِ السَّماوات"، بل هي مصيبة في السَّماوات والأرض: "وَفي جَمِيعِ السَّماواتِ وَالأرض"، فالحيوان والطَّير والجماد صار مصاباً بالحسين (عليه السَّلام).
* وماذا لمن أصيب بالحسين (عليه السَّلام)، وما الّذي ينتظره؟ نقرأ في زيارة عاشوراء: "وَأسألُ اللهَ بِحَقِّكُم وَبِالَّشأنِ الَّذي لَكُم عِندَهُ أن يُعطِيَني بِمُصابي بِكُم أفضَلَ ما يُعطي مُصاباً بِمُصِيبَتِهِ، مُصِيبَةً ما أعظَمَها وَأعظَمَ رَزِيَّتَها في الإسلامِ وَفي جَمِيعِ السَّماواتِ وَالأرضِ، اللهُمَّ اجعَلني في مَقامي هذا مِمَّن تَنالَهُ مِنكَ صَلَواتٌ وَرَحمَةٌ وَمَغفِرَة"، انطلاقاً من الآية الكريمة: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون) -البقرة: 156- 157-، ولعلّ المغفرة في الِّزيارة بيان للرَّحمة في الآية.
"يا أَبا عَبْدِ اللهِ، إِنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سالَمَكُمْ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حارَبَكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ القِيامَة".
* تعورف من أصحاب الأئمة (عليه السَّلام) عرضهم دينهم عليهم (عليه السَّلام)، وإمضاء الأئمة لما عرض عليهم، وهناك ضرب آخر وهو ما تكثَّر في الزِّيارات وهو إشهاد المزور بواقع بعض ما عقدت عليه قلبي، ولا بدَّ أن أكون حينها صادقاً فيما أشهدهم عليه.
* من ذلك قولك للحسين (عليه السَّلام): "يا أَبا عَبْدِ اللهِ، إِنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سالَمَكُمْ.. إِلَىٰ يَوْمِ القِيامَة"، "إِنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سالَمَكُمْ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حارَبَكُمْ، وَوَلِيُّ لِمَنْ وَالاكُمْ.."، ولمّا كان أخوك المؤمن مسالماً للحسين ويتولاه فلا بدَّ -ومن منطلق هذا الالتزام- أن تسالمه وأن يسلم منك وإن اختلفت معه، وإن قدَّرتَ كونك محقّاً وكونه مبطلاً، فلا تكِد له، ولا تمكر به، ولا تغدر به، ولا تؤذيه، ولا ولا إلى آخره، ولا بدَّ أن تواليه، ولا تعاديه.
* ضع في اعتبارك أنَّ مسالمتك لأخيك المؤمن شعبة من شُعَب تولّيك للحسين (عليه السَّلام)، وأنَّ الإخلال بهذه الشُّعبة إخلال بنفس تولّيك وإيمانك، فلا يسلم للمؤمن إيمانه وهو يحارب أخاه المؤمن ويضادُّه وينادُّه ووو.
* ثمَّ إنَّ ضريبة عدم مسالمتك لأخيك المؤمن ليست بالهيِّنة؛ إذ ما دامت تتصل بإيمانك وتولّيك للحسين ولأهل البيت (عليه السَّلام)، فقد تخرجك من الإيمان، ففي صحيحة محمد بن حكيم قال: قلت: لأبي الحسن (عليه السَّلام): الكبائر تخرج من الإيمان؟ فقال: "نعم، وما دون الكبائر؛ قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن"[11].
وثمَّة روايات وإن دلَّت على عدم بقاء الإيمان ما دام يقارف الكبيرة مثلاً[12]، ولكن ما هي الضَّمانة لعود الإيمان بعد ارتفاعه؟ فالحذر الحذر من العبث بإيمانك.
* ثمَّ إنَّ تولِّيك لأخيك المؤمن -كتولّيك لأهل البيت (عليه السَّلام) وتَبَرِّيك من أعدائهم- أمرٌ يقرِّبك إلى الله سبحانه وإلى أهل البيت (عليه السَّلام)، فأنت تقرأ في نفس زيارة عاشوراء: "وَأَتَقَرَّبُ إِلَىٰ اللهِ ثُمَّ إِلَيْكُمْ بِمُوالاتِكُمْ، وَمُوالاةِ وَلِيِّكُمْ، وَبِالبَراءَةِ مِنْ أَعْدائِكُمْ"، فالعكس -أعني عدم تولّيك لأخيك المؤمن -بالعكس- أعني يبعِّدك عن الله وعن أهل البيت (عليه السَّلام).
* وكما أنَّ إيمانك ومعرفتك بالحسين (عليه السَّلام) وبأهل البيت (عليه السَّلام) نعمةٌ لا يضاهيها شيءٌ مهما تعاظم، وهي كرامة أكرمك الله بها فكذلك رعايتك لحقِّ أخيك المؤمن- من منطلق معرفتك بهذا الحقّ- نعمةٌ وكرامة أكرمك الله بها، فأنت تقرأ في زيارة عاشوراء: "فَأَسْأَلُ اللهَ الَّذِي أَكْرَمَنِي بِمَعْرِفَتِكُمْ، وَمَعْرِفَةِ أَوْلِيائِكُمْ، وَرَزَقَنِي البَراءَةَ مِنْ أَعْدائِكُمْ، أَنْ يَجْعَلَنِي مَعَكُمْ فِي الدُّنيا وَالآخِرةِ"، بل وتتوسّل إلى بها وبمعرفتهم (عليه السَّلام) وبما رزقك من البراءة من أعدائهم أن يجعلك معهم في الدُّنيا والآخرة، وهذا هو الثبات على الإيمان، ختم الله لنا ولكم بخير.
"بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَقَدْ عَظُمَ مُصابِي بِكَ، فَأَسْأَلُ اللهَ الَّذِي أَكْرَمَ مَقامَكَ، وَأَكْرَمَنِي بك (أن يكرمني بك، و) أَنْ يَرْزُقَنِي طَلَبَ ثارِكَ مَعَ إِمامٍ مَنْصُورٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ".
* نقرأ في زيارة عاشوراء وغيرها من الزِّيارات لسيِّد الشُّهداء(عليه السَّلام): "السَّلام عَلَيكَ يا ثارَ اللهِ وَابنَ ثأرِهِ وَالوِترَ المَوتُور"، فالحسين -ومن قبله أبوه أمير المؤمنين (عليه السَّلام)- ثأر الله، وهذا -كما يقول الأدباء-: من باب الإضافة إلى الفاعل، فهو (عليه السَّلام) ثأرٌ يطلبه الله ويأخذ به، ولكن الّذي سيقيّضه الله للأخذ بثأره، بحيث يكون أخذه به هو أخذَ الله به هو المهديّ (عليه السَّلام)، نقرأ في دعاء الندبة: "أينَ الطّالِبُ بِذُحُولِ الأنبياءِ وَأبناءِ الأنبياء ِ-والحسين من أبناء الأنبياء-، أينَ الطَّالِبُ بِدَمِ المَقتُولِ بِكَربَلاءَ، أينَ المَنصُورُ عَلى مَن اعتَدى عَلَيهِ وَافتَرى»، فهناك من اعتدى على الحسين (عليه السَّلام) اعتداءً جسديا، وهناك من اعتدى على شخصيّته لا على شخصه، ومارس الافتراء عليه، والمهديّ (عليه السَّلام) كما يأخذ بثأر الحسين ممّن اعتدى على شخصه كذلك يأخذ بثأره ممّن افترى عليه، بأن ألصق به الظلم أو المروق من الدين أو تجاوز الحدّ أو استحقاق القتل وما شاكل ذلك.
إذن طلب الثأر لدم الحسين (عليه السَّلام) ولما استحلَّ منه أحد المشاريع الكبرى للإمام المهديّ (عليه السَّلام)، وواحد من أهمِّ أدواره.
ثمَّ لو قدِّر لشخصٍ كالمختار أن يأخذ بثأره (عليه السَّلام) فليس هو ثأر الله له.
* ما من مؤمن إلا وأمنيّته أن ينجح مشروع المهديّ (عليه السَّلام)، وأن يكون في ركبه الآخذ بثأر الحسين (عليه السَّلام)، وقد رُسم للمؤمن أن يقول -كما في الفقرة الِّزيارة: "فَأَسْأَلُ اللهَ الَّذِي أَكْرَمَ مَقامَكَ، وَأَكْرَمَنِي بك (أن يكرمني بك، و) أَنْ يَرْزُقَنِي طَلَبَ ثارِكَ مَعَ إِمامٍ مَنْصُورٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ"، وفي فقرة أخرى من نفس زيارة عاشوراء: "وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُبَلِّغَنِي المَقامَ المَحْمُودَ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ، وَأَنْ يَرْزُقَنِي طَلَبَ ثارِي (ثاركم) مَعَ إِمامِ هُدَىً(إمامٍ مهديٍّ) ظاهِرٍ ناطِقٍ بِالحَقِّ مِنْكُمْ".
* يتوسّل المؤمن إلى الله سبحانه بإكرامه لمقام الحسين: "فَأَسْأَلُ اللهَ الَّذِي أَكْرَمَ مَقامَكَ"، ويتوسل إليه بإكرامه بالحسين (عليه السَّلام): "وَأَكْرَمَنِي بك" نعم يتوسّل المؤمن إلى الله بذلك في أن يكرمه، ويرزقه طلب ثار الحسين (عليه السَّلام) مع المهديّ (عليه السَّلام).
* عبّرت زيارة عاشوراء عن هذا الثأر مرّة بأنّه (ثارك)- أي ثار الحسين (عليه السَّلام)، وأخرى بأنّه (ثاري)- أي ثار المؤمن، فمُصاب الحسين وما وقع عليه مصابُ المؤمن وواقع عليه أيضاً.
* وصفت قطعةٌ من زيارة عاشوراء- وقد أوردتها سَلَفَاً- طالب الثار بأنّه أوّلاً: إِمام هُدَىً (إمام مهديٍّ)، وثانياً: بأنّه ظاهِر، وثالثاً: بأنّه ناطِق بِالحَقِّ، ورابعاً: بأنّه مِنْكُمْ أي من أهل البيت (عليه السَّلام). ووصفت القطعة -الّتي نحن بصدد بحثها- من زيارة عاشوراء طالب الثار بأنّه أوّلاً: إِمامٌ مَنْصُور، أي سيدرك لا محالة الثار، وثانياً: بأنّه مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، هذه إذن أوصاف طالب الثار.
"اللهُمَّ اجْعَلْنِي عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ (عليه السَّلام) فِي الدُّنيا وَالآخِرة".
وبين يَدَي الحديث عن هذه القطعة أسوق مقدّمتين:
* تحدَّث اللهُ سبحانه عن كليمه موسى (عليه السَّلام) فقال: (.. وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا)[13]، فهو ذو منزلة ومقام عند الله، وتحدَّث عن نبيِّه عيسى (عليه السَّلام) فقال: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِيْن)[14].
* وإذا رغب المؤمن إلى الله أن يجعله عنده وجيها بالحسين (عليه السَّلام) فلا شكَّ في أنَّ الحسين (عليه السَّلام) واجد لتلك الكرامة وذلك المقام.
* ثمَّ إنَّ بوابة الوجاهة للمؤمن عند الله في الدُّنيا والآخرة هي الحسين (عليه السَّلام)، فالمؤمن يتمنّى على الله أن يكون وجيهاً عنده في الدُّنيا والآخرة بالكريم على الله والوجيه عنده وهو الحسين (عليه السَّلام).
* ما أكرم الحسين على الله، فليتمنَّى المؤمن على الله بالحسين أن يتحفه ويكرمه بكرامة وتحفة عظيمة، وهي أن يكون عند الله ذا جاه ومنزلة وشأن، كيف لا؟! وقد منّ الله عليه بمعرفته ومعرفة أهل بيته (عليه السَّلام).
* الوجاهة عند الله في الدُّنيا والآخرة وإن كانت مقاماً لنبي، بل لبعض الأنبياء إلا أنَّه يمكن للمؤمن أن يتبوأ هذا المقام ببركة الحسين وجاهه عند الله سبحانه.
* وقد ذكر بعض العلماء بأنَّ المنزلة أمَّا في الدُّنيا فبالعلم والعمل والتمسك بالسنة النبوية والطريقة العلويّة، وأمَّا في الآخرة فبالمقامات الرفيعة والدرجات العليّة[15].
* لا ينبغي أن يُتوهَّم أنَّ المؤمن هنا يسأل من الله وجاهة دنيوية، بل يسأله وجاهة عنده سبحانه وإن كانت في الدُّنيا.
* ثمَّ إنَّ وجاهة الدُّنيا من العلم والغنى والحسب والنسب مما يُسأل عنه العبد يوم القيامة كما يُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؛ ففي الحديث النبويّ: "إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عبيده فيقف بين يديه، فيسأله عن جاهه كما يسأله عن ماله"[16].
"يا أبا عَبدِ اللهِ إنّي أتَقَرَّبُ إلى اللهِ وَإلى رَسُولِهِ وَإلى أمِيرِ المُؤمِنِينَ وَإلى فاطِمَةَ وَإلى الحَسَنِ وَإلَيكَ بِمُوالاتِكَ وَبِالبَراءَةِ مِمَّنْ قاتَلَكَ وَنَصَبَ لَكَ الحَرْبَ وَبِالبَراءةِ مِمَّنْ أَسَّسَ أَساسَ الظُّلْمِ وَالجَوْرِ عَلَيْكُم".
وبين يَدَي الحديث عن هذه القطعة أقدَّم أموراً:
* يوجدُ في الشَّريعة ما يعبِّر عنه بالعبادات أو التعبّديّ وهو الذي أخذ فيه إضافته إلى الله سبحانه أو التقرِّب به إليه، فلا يصحُّ ولا يتحقَّق الامتثال بدون ذلك، وقد يكون واجباً كالصلاة اليوميّة، وصيام شهر رمضان، والحجّ، وقد يكون مستحبّاً كصلاة النافلة والصوم المندوب، بخلاف ما يعبَّر عنه بالتوصّليّات، فإنّها تصحّ وتفرغ العهدة من تبعتها سواء تقرّب إلى الله بإتيانها أم لا، ولا فرق في ذلك أيضاً بين الواجبات منها والمستحبّات.
* يمكن للعبد أن يتقرَّب إلى الله بفعلِ غير العبادات وإن كانت مباحاتٍ في الشَّريعة، كشرب الماء حيث يكون فيه جهة رجحان، أو يلتفت إليها العبد، فما عليه إلا أن يضيفه إلى الله، وأن يفعله لأجله سبحانه.
* من الواجبات غير العباديّة ولاية أهل البيت (عليه السَّلام) -وكذا البراءة من أعدائهم والّتي هي من لوازم الولاية ومستبَعاتها-، ومن الأحاديث في وجوب الولاية حديث بناء الإسلام على خمس-المستفيض-[17]، ومن ألفاظه صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السَّلام) قال: "بُنِي الإسلام على خمسة أشياء: على الصَّلاة، والزَّكاة، والحجّ، والصَّوم، والولاية"، قال زرارة: فقلت: وأيّ شيء من ذلك أفضل؟ فقال: "الولاية أفضل؛ لأنّها مفتاحهن، والوالي هو الدَّليل عليهن.."[18]، وصحيحة أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السَّلام) قال: "بني الإسلام على خمس: على الصَّلاة، والزَّكاة، والصَّوم، والحجّ، والولاية، ولم يناد بشيء ما (كما) نودي بالولاية"[19]، ورواية أبي حمزة الثماليّ قال: قال أبو جعفر (عليه السَّلام): "بني الإسلام على خمس: إقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وحجِّ البيت، وصوم شهر رمضان، والولاية لنا أهلَ البيت، فجعل في أربع منها رخصة، ولم يجعل في الولاية رخصة، من لم يكن له مال لم تكن عليه الزكاة، ومن لم يكن له مال فليس عليه حجّ، ومن كان مريضاً صلَّى قاعداً، وأفطر شهر رمضان، والولايةُ صحيحاً كان أو مريضاً أو ذا مال أو لا مال له فهي لازمة"[20].
* رغم أنَّ وجوب التولّي والتبرّي توصّليٌّ وليس تعبديّاً إلا أنَّه يمكن إضافة التولّي والتبرّي إلى الله سبحانه، والتقرُّب بهما إليه.
* ثمَّ الّذي تطالعنا به فقرة البحث من زيارة عاشوراء ليس هو التقرّب إلى الله بالولاية للحسين (عليه السَّلام) والبراءة من أعدائه وحسب، بل هو التقرّب بذلك إلى رسول الله وأهل بيته أيضاً.
إذن كما يُتقرَّب ببعض الأفعال إلى الله سبحانه- يمكن التقرّب بها إلى النبيّ وأهل بيته (عليه السَّلام)، كولاية الحسين والبراءة من أعدائه، وكما ورد في زيارة الحمزة: "بِأبي أنتَ وَأُمّي أتَيتُكَ مُتَقَرِّباً إلى رَسُولِ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) بِذلِك".
* ومن ذلك التقرّب إليهم (عليه السَّلام) بموالاة وليهم، ففي زيارة عاشوراء: "وَأتَقَرَّبُ إلى اللهِ ثُمَّ إلَيكُم بِمُوالاتِكُم وَمُوالاةِ وَلِيِّكُم وَبالبَراءَةِ مِن أعدائِكُم وَالنَّاصِبِينَ لَكُم الحَربَ وَبِالبَراءَةِ مِن أشياعِهِم وَأتباعِهِم".
"اللهُمَّ العَن أوَّلَ ظالِمٍ ظَلَمَ حَقَّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَآخِرَ تابِعٍ لَهُ عَلى ذلِك".
مقدّمتان:
* من لوازم التولّي لأهل البيت (عليه السَّلام) ومستتبَعاته، ومن مظاهر التبرّي من أعدائهم هو طلب اللعن من الله على أعدائهم، مثلما أنّ من مظاهر تولّيهم (عليه السَّلام) هو طلب الصلاة من الله عليهم، (اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد).
* للنبيّ وأهل بيته (عليه السَّلام) حقوق على الأمّة، ومن باب الاستئناس نقرأ في الصلوات الشعبانيّة: "اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الطَيِّبينَ الأبرارِ الأخيارِ الَّذينَ أوجَبتَ حُقوقَهُم، وَفَرَضتَ طاعَتَهُم وَوِلايَتَهُم"، وقد يضيّع المسلم أو المؤمن واحداً أو أكثر من حقوقهم (عليه السَّلام) أو يفوته تأديته فقد يُستدرَك ذلك بمثل: "اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ صَلاةً كَثيرَةً تَكونُ لَهُم رِضاً وَلِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ أداءً وَقَضاءً بِحَولٍ مِنكَ وَقوَّةٍ يا رَبَّ العالَمين".
* ثمّ بموجب قطعة البحث من زيارة عاشوراء يعود ظلم حقّ آل محمّد (عليه السَّلام) ظلماً لحقّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله)، فانتقاص حقّهم (عليه السَّلام) انتقاص لحقّه (صلَّى الله عليه وآله).
* يستوي فاتحُ باب ظلم حقّ محمّد وآله (عليه السَّلام) وآخِرُ تابع له على ذلك- في استحقاق اللعن، وأنّ الآخِر وإن تأخّر بِقُرونٍ عن الفاتح لا يعفيه تأخّره عن طائلة اللعن.
* إنَّ الآخِر في قطعة الِّزيارة ليس بمعنى الأخير ليكون خاتماً وبالتالي واحدا، بل هو متعدِّد بتوالي الأزمان، ويختلف باختلافها.
"اللهُمَّ العَنْ العِصابَةَ الَّتِي جاهَدَتِ الحُسَيْنَ، وَشايَعَتْ وَبايَعَتْ، وَتابَعَتْ (وتايعت) عَلَىٰ قَتْلِهِ، اللهُمَّ العَنْهُمْ جَميعا".
* إنَّ العصابة الّتي قاتلت الحسين (عليه السَّلام) أو بعضها قاتلته عن سبق إصرار وترصّدٍ -كما في لغة القانون الجنائي-؛ إذ ثمَّة من أخذ قرار قتل الحسين، وأخذ في إنفاذه، وتلكم العصابة شايعته وتابعته على ذلك، بل وأعطت البيعة سَلَفَاً على ذلك.
* وهذا النَّحو من القتل لا يكون -من حيثُ الجزاء الدُّنيوي وإن كان وضعيّاً ومن تشريع البشر، فضلاً عن الأُخروي- على حدِّ سائر أنحاء القتل، لذا استحق قَتَلَة الحسين (عليه السَّلام) الطرد من رحمة الله سبحانه، وساغ للمؤمن أن يطلب من الله لعنهم وإبعادهم عن رحمته.
* لو لم يباشر قتال الحسين إلا القليل، ولكن ما أكثر من شايع على قتله، بل وأعطى بيعةً على قتله، لذا فاللعن يتناول الجميع، "اللهُمَّ العَنْهُمْ جَميعاً".
* نعم لا استثناء ما دام قد أكثر كلّ واحد منهم من السَّواد على الحسين (عليه السَّلام)، وصار مستضعَفاً غريباً، وفي الرواية: "بأبي المستضعَف الغريب"[21]، بل طال جميعهم لعنٌ مكرّر لمائة مرّة.
* ذكر السيّد محمّد باقر الداماد (رحمه الله تعالى) في رواشحه أنّ كلمة (تابَعَتْ) مصحّفة عن (تايعت) بالياء[22]، والمتايعة هي المسارعة والتهافت على الشيء، وبموجبها فالعصابة الّتي جاهدت الحسين وقاتلته وفي حالة من التهافت على ذلك لا محالة كانت نفوسهم تزدحم بالكثير من الأفكار والدوافع الجاهليّة، فكانوا مغرضين بقتالهم له.
"السَّلام عَلى الحُسَينِ، وَعَلى عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ، وَعَلى أولادِ الحُسَينِ، وَعَلى أصحابِ الحُسَين".
* (عَلِيّ بن الحُسَين) في هذه القطعة هو الأكبر الشهيد، وقد يشهد لذلك ما في زيارة عاشوراء غير المشهورة: "السَّلام عَلى الحُسَينِ بنِ عَلي الشَّهِيدِ، السَّلام عَلى عَلِيّ بن الحُسَينِ الشَّهِيدِ، السَّلام عَلى العَبَّاسِ بنِ أمِيرِ المُؤمِنِينَ الشَّهِيدِ، السَّلام عَلى الشُّهَداءِ مِن وُلدِ أمِيرِ المُؤمِنِينَ، السَّلام عَلى الشُّهَداءِ مِن وُلدِ جَعفَرٍ وَعَقِيلٍ، السَّلام عَلى كُلِّ مُستَشهَدٍ مِنَ المُؤمِنِينَ"[23]، وهذه الِّزيارة كما أسلفنا ذلك تشبه الِّزيارة المشهورة في أغلب فقراتها.
* ذُكِر الأكبر الشهيد باسمه بالخصوص بينما ذكر سائر الشهداء في ضمن عنوانين عامّين: (أولاد الحُسَين) و(أصحابِ الحُسَين)، وهذا الذكر بالخصوص يعطي مزيد اهتمام بالمخصوص بالذكر، والحكمة تقتضي وجود مزيّة فيه وامتيازاً له، وقد اقتضت المزيّة والامتياز أن يفرده المعصوم (عليه السَّلام) بقبر أيضاً.
من امتيازاته:
أنّه -كجدّه الأمير (عليه السَّلام)[24] - ممسوس في الله سبحانه[25]، فلا يرى غيره.
معرفته الّتي تنزّلت من عقله إلى قلبه، فقال: لا نبالي أن نموت محقّين[26].
صدّيقيّته وموافقة قوله فعله، فهو -كما هو المعروف- أول من استشهد من الهاشميين[27].
خُلُقه النبويّ؛ فإنّه- كما أثر عن أبيه (عليه السَّلام)- أشبه النَّاس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسول الله (صلَّى الله عليه وآله)[28]، فإنّ مشابهته للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله) في الخلقة والمنطق وإن لم يكن أمراً اختياريّاً للأكبر الشهيد (عليه السَّلام)، إلا أنّ مشابهته لجدّه المصطفى (صلَّى الله عليه وآله) في الخُلُق أمرٌ بالاختيار.
ويكفيه ويغنينا عمّا سواه من الامتيازات تطبيق المعصوم (عليه السَّلام) آيتي الاصطفاء عليه[29]، أعني قوله سبحانه: (إِنَّ الله اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيم)[30]، ولنسمح لأفكارنا أن تسرح مع هذا التطبيق فلن تقف به عند غير العصمة والطهارة[31].
والحمد لله أوّلاً وآخرا، وصلّى الله على النبيّ محمّد وآله الطاهرين.
..........................................
[1] - انظر: مستدرك الوسائل، ج١٠، ص٣0٨- ٣٠٩، ٤١٢- ٤١٦.
[2] - انظر: مفاتيح الجنان- نسخة تطبيق (مكتبة أهل البيت عليهم السَّلام)، ص669.
[3] - مصباح المتهجّد، ص٧٨١، ٧٨٢.
[4] - مصباح المتهجّد، ص٧73.
[5] - كتاب شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور للشيخ أبو الفضل الطهرانيّ الكلانتريّ (رحمه الله تعالى)، ص١٤.
[6] - المزار للشهيد الأوّل (رحمه الله تعالى)، ص183.
[7] - ولأجل الذكرى والعظة أورد روايتين، إحداهما: في الأمالي للمفيد260، 265، المجلس31 ح3- لمّا ولّى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسَّلام محمّد بن أبي بكر مصر وأعمالها كتب له كتابا، وأمره أن يقرأه على أهل مصر، وليعمل بما وصّاه به فيه، فكان الكتاب: وكان منه: "يا عباد الله، ما بعد الموت لمن لم يغفر له أشدُّ من الموت، القبر، فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته، إنَّ القبر يقول كلَّ يوم: أنا بيت الغربة، أنا بيت التراب، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود والهوامّ"، وثانيتهما: في الكافي-3: 236، كتاب الجنائز، باب المسألة في القبر ح6- بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السَّلام): أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ قال: فقال: "نعوذ بالله منها، ما أقلُّ من يفلت من ضغطة القبر..".
[8] - مستدرك الوسائل، ج10، ص318، ب48 من أبواب المزار، ح13.
[9] - الخرائج والجرائح للراونديّ (رحمه الله تعالى)، ج2، ص842، ب16، ح60، وعنه في بحار الأنوار، ج43، ص272، ب12، ح39.
[10] - كامل الزيارات، ص116، 118، ب14، ح11، 12(126، 127)، مسند أحمد، ج4، ص172، سنن ابن ماجة، ج1، ص51، باب في فضائل أصحاب رسول اللهe، ح144، سنن الترمذيّ، ج5: ص324 (3864)، المستدرك للحاكم، ج3، ص177.
[11] - الكافي، ج٢، ص٢٨٤، ٢٨٥، باب الكبائر، ح٢١.
[12] - الكافي، ج2، ص278، 281، باب الكبائر، ح6، 12، 13.
[13] - سورة الأحزاب: ٦٩.
[14] - سورة آل عمران: ٤٥.
[15] - انظر: شرح الكافي للمازندرانيّ (رحمه الله تعالى)، ج10، ص369.
[16] - كنز العمّال، ج3، ص459، ح7430.
[17] - وسائل الشيعة، ج١، ص١٣- ٢٨، ب١ مقدّمة العبادات، ح١، ٢، ٥، ١٠، ١١، ١٨، ٢٤، ٢٩، ٣١، ٣٣، ٣٥.
[18] - المصدر: ح2.
[19]- المصدر: ح10.
[20] - المصدر: ح24.
[21] - الكافي، ج4، ص147، باب صوم عرفة وعاشورا، ح7.
[22] - انظر: الرواشح السماويّة، ص216، 217.
[23] - مستدرك الوسائل، ج10، ص415، ب86 من أبواب المزار، ح16.
[24] - انظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب، ج3، ص21، كنز العمّال، ج11: ص621، (33017).
[25] - معالي السبطين للحائريّ، 416/ 1.
[26] - الإرشاد للمفيد (رحمه الله تعالى)، ج2، ص82.
[27] - المصدر نفسه.
[28]- انظر: بحار الأنوار، ج45، ص43.
[29] - المصدر نفسه.
[30] - سورة آل عمران: ٣٣، ٣٤.
[31] - ألقيتها في عشر حلقات في مأتم المرخ لعشرة محرّم الحسينg من عام 1442 هـ، وقد أتممت تبييضها في اليوم الثاني منه.