ملخص مقدمات الحدائق الناضرة (1) المقدمة الأولى
شرعَ الشيخ يوسف بن أحمد آل عصفور البحراني في بداية كتابه (الحدائقُ الناضرةُ في أحكامِ العِترةِ الطاهرة) بتمهيد جملةٍ من المقدمات يتوقَّف عليها الاستدلال في هذا الكتاب القيم، ويمكن اعتبارها بمثابة الأصول لما هو آتٍ من فروعٍ في طيَّاتِ الكتاب، ونظرًا لأهمية هذه المقدمات وما فيها من فوائد جمَّة ارتأيتُ أنْ أُلخصها تحصيلًا لمجموعةٍ من الفوائد المهمة لطالب العالم.
عملي سيكون قائمًا على تلخيص المقدمات الاثني عشر مع المحافظة على الفوائد المذكورة في طياتها، وإنْ كان بعضُها ورد على نحو الاستطراد أو ما شابه، وعنونةُ كلِّ مقدمة، وإضافةِ بعض العناوين الفرعية، بالإضافة للإرجاع للمصادر بما يناسب المقام، ولن تكون ثمَّة مناقشةٍ للمصنف (رحمه الله) في هذا الملخص، وإنْ كنتُ أرجو أنْ أوفق لذلك في قادم الأيام، فبسم الله تعالى أبدأ وعليه أتوكل.
المقدمة الأولى: توسعةُ دائرة التقية، وعدم اختصاصها بوجود قائلٍ من المخالفين:
بعد استشهاد النبي (صلَّى الله عليه وآله) وذهاب الخلافة عن أهلها وتعرُّض الأئمة (عليهم السلام) لشتى أنواع الأذى والضرر، اضطروا (عليهم السلام) للزوم زاوية التقية كما لا يخفى، وحثوا شيعتهم على استشعارها، وصاروا يخالفون بين الأحكام حتى إذا لم يحضرهم أحدٌ من المخالفين، وقد آل الأمر بعد رحيلهم (عليهم السلام) إلى اختلاط أحكام الدين بأخبار التقية، حتى أنَّ ثقةَ الإسلام الكليني (رضوان الله عليه) اعترف بذلك وتخطَّأَ العمل بالمرجِّحات المروية عند تعارض الأخبار ولجأ إلى التسليم والردِّ لأهل البيت (عليهم السلام).
أما الأصحاب (رضوان الله عليهم) فقد خصوا الحمل على التقية بوجود قائلٍ من العامة، وأما شيخنا صاحب الحدائق (رضوان الله عليه) يرى أنَّ دائرةَ التقية أوسع من ذلك، فالتقية لا تختص بوجود قائلٍ من المخالفين، والأدلة على هذا المدعى في الأخبار كثيرة، منها:
ما رواه في الكافي في الموثَّق عن زرارةَ عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: سألتُهُ عن مسألةٍ فأجابني، ثم جاءه رجلٌ فسأله عنها فأجابه بخلافِ ما أجابني، ثم جاء رجلٌ آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلمَّا خرج الرجلان قلت: يا ابن رسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله) رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كلَّ واحدٍ منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة إنَّ هذا خيرٌ لنا وأبقى لكم، ولو اجتمعتم على أمرٍ واحدٍ لصدَّقكم الناس علينا، ولكان أقلَّ لبقائنا وبقائكم. قال: ثم قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): شيعتكم لو حملتموهم على الأسنَّةِ أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين؟ قال: فأجابني بمثل جواب أبيه. [الكليني، الكافي، ج1، باب اختلاف الحديث، ح5].
وما رواه الشيخُ في العُدَّة مرسلًا عن الصادق (عليه السلام) أنَّه: سُئِلَ عن اختلاف أصحابنا في المواقيت؟ فقال: أنا خالفت بينهم. [الطوسي، عدة الأصول، ص130].
وما روي عن أبي الحسن (عليه السلام) أنَّهُ سُئِلَ عن اختلاف أصحابنا فقال: أنا فعلت ذلك بكم، لو اجتمعتم على أمرٍ واحدٍ لأُخِذ برقابكم. [الصدوق، علل الشرائع، ج2].
وما رواه في الكافي بسنده فيه عن موسى بن أَشْيَم، قال: كنتُ عند أبي عبد الله (عليه السلام) فسأله رجلٌ عن آيةٍ من كتاب الله عزَّ وجلَّ فأخبره بها، ثم دخل عليه داخلٌ فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول، فدخلني من ذلك ما شاء الله... إلى أنْ قال: فبينما أنا كذلك إذ دخل عليه آخرُ فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي، فسَكنَتْ نفسي وعلمتُ أنَّ ذلك منه تقية... [الكليني، الكافي، ج1، باب التفويض إلى رسول الله (ص) وإلى الأئمة (ع) في أمر الدين، ح2].
يرى الشيخ أنَّ هذه الروايات وغيرها صريحةٌ في اختلاف الأجوبة في مسألةٍ واحدة، مع عدم وجود أحدٍ من المخالفين أو قائلٍ منهم في بعضها، ولعلَّ السرَّ في ذلك أنَّ الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين كلٌّ ينقل عنهم (عليهم السلام) خلاف الآخر سخف مذهبهم في نظر العامة وكذبوهم في نقلهم ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين وهانوا في نظرهم، بخلاف ما لو اتفقت كلمتهم فإنَّ المخالفين يشتدُّ بُغضُهم وعداؤهم لهم ولأئمتهم ومذهبهم.
قال: "ولعلَّك بمعونة ذلك تعلم أنَّ الترجيح بين الأخبار بالتقية -بعد العرض على الكتاب العزيز- أقوى المرجحات. فإنَّ جلَّ الاختلاف الواقع في أخبارنا، بل كلَّهُ عند التأمل والتحقيق إنما نشأ من التقية" [الحدائق الناضرة، ج1، ص8].
اشتباه متأخري الأصحاب، وجواب الشيخ:
أما ما ظنَّه جمهور متأخري الأصحاب (رضوان الله عليهم) من أنَّ هذا الاختلاف حاصلٌ بسبب دسِّ الأخبار الكاذبة في أخبارنا فهو اشتباه، وقوَّى الشبهةَ أمران: أحدهما روايةُ مخالفِ المذهب وظاهر الفسق والكذب ونحوهم، وثانيهما ما ورد عنهم (عليهم السلام) من أنَّ لكلِّ رجلٍ منا رجلًا يكذب عليه وأمثاله مما يدلُّ على دسِّ بعض الأخبار الكاذبة في أحاديثهم (عليهم السلام).
لكنَّه (رحمه الله) يرى أنَّهم غفلوا عن أنَّ هذه الأحاديث التي بين أيدينا قد سهرت العيون في تنقيتها وتنقيحها، وقُطِعت من أجل تحصيلها من معادنها البلدان، وإنَّ المستفاد من تتبع السِير والأخبار أنَّ دأبَ قدماء الأصحاب إلى عصر المحمَّدين الثلاثة (رضوان الله عليهم) في مدةٍ تزيد على ثلاثمائة سنةٍ كان ضبط الأحاديث وتدوينها في مجالس الأئمة، والمسارعة لإثبات ما يسمعونه خوفًا من السهو والنسيان، وعرض ذلك عليهم (عليهم السلام)، وقد صنَّفوا الأصول الأربعمائة المنقولة من أجوبتهم (عليهم السلام)، وأنَّهم ما كانوا يستحلون رواية ما لم يجزموا بصحته، وقد عُرِضت بعض الكتب عليهم (عليهم السلام)، مثل كتاب عُبيد الله بن علي الحلبي وكتاب يونس بن عبد الرحمن وكتاب الفضل بن شاذان فاستحسنوها وأثنوا عليها، كما أنَّهم (عليهم السلام) كانوا يُوقِفون شيعتهم على أحوال الكذابين ويأمرونهم بمجانبتهم، وعرض ما يرد من جهتهم على الكتاب العزيز والسنة النبوية وترك ما خالفهما.
ومن ذلك ما رواه الكَشِّي (رحمه الله) بإسناده عن محمد بن عيسى بن عُبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، أنَّ بعض أصحابنا سأله وأنا حاضرٌ فقال: يا أبا محمد ما أشدَّك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على ردِّ الحديث؟ فقال: حدَّثني هشام بن الحكم أنَّه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا تقبلوا علينا حديثًا إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدًا من أحاديثنا المتقدمة، فإنَّ المغيرة بن سعيد (لعنه الله) دسَّ في كتب أبي أحاديث لم يحدِّث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربِّنا وسنَّة نبينا (صلَّى الله عليه وآله). قال يونس: وافيتُ العراق فوجدت بها قطعةً من أصحاب أبي جعفرٍ (عليه السلام) ووجدت أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) متوافرين، فسمعتُ منهم، وأخذت كتبهم وعرضتها على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فأنكر منها أحاديث كثيرةً أنْ تكونَ من أحاديث أبي عبد الله (عليه السلام)، وقال: إنَّ أبا الخطَّاب كذب على أبي عبد الله (عليه السلام)، لعن الله أبا الخطاب وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتبِ أصحابِ أبي عبد الله (عليه السلام)، فلا تقبلوا خِلافَ القرآن، فإنَّا إنْ تحدَّثنا بموافقةِ القرآن وموافقةِ السنَّة، إنَّا عن الله وعن رسوله نُحدِّث ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقضُ كلامُنا، إنَّ كلامَ آخِرِنا مثل كلام أوَّلِنا وكلامَ أوَّلِنا مصداقٌ لكلام آخرنا، فإذا أتاكم من يُحدِّثكم بخلاف ذلك فرُدُّوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به، فإنَّ لكلامنا حقيقةً وعليه نورًا، فما لا حقيقةَ له ولا عليه نور فذلك قول الشيطان. [الكشي، رجال الكشي، 103: المغيرة بن سعيد].
توجيهاتُ الأئمة (عيهم السلام) والتزام الأصحاب:
ولا يجوز من أمثال هؤلاء الثقات العدول بعد ما سمعوه من أئمتهم (عليهم السلام) أنْ يستحِلُّوا نقل ما لا يثقون بصحته ولا يعتمدون على حقيقته، بل من المقطوع والمعلوم من أمثالهم أنَّهم لا يروون في مصنفاتهم إلا ما اتضح لهم فيه الحال.
وقد كان دأبُهم (عليهم السلام) إيقاف شيعتهم على ما وقع أو عسى أنْ يقعَ من تغييرٍ أو تبديلٍ في الشريعة، وكان لهم نوابٌ ثقاتٌ من أصحابهم وخواص رواتهم يوحون إليهم أسرار الأحكام، ويوقفونهم على غوامض كلِّ حلالٍ وحرام، كما رُوي بأسانيد عديدة، على أنَّ المفهوم من جملةٍ من الأخبار أنَّ الأحاديث المكذوبة كلَّها كانت من أحاديث الكفر والزندقة والإخبار بالغرائب.
على أنَّ مقتضى الحكمة الربانية وشفقة الأئمة (صلوات الله عليهم) على من هم في أصلاب الرجال من شيعتهم تمنع من أنْ يتركوهم هَمَلًا يمشون على غير طريقٍ واضح، فلا يميزون الغثَّ من السمين، ولا يهدونهم إلى الجادَّة، ولا يوقفونهم على ما يقع في الشريعة من تغييرٍ وتبديل، وما يُحدثه الكذَّابون من البِدع والتضليل، كلَّا بل أوضحوا الدين المبين نهاية الإيضاح، وصَفَّوه من شَوبِ كلِّ كدر.
وتذكرُ لنا السِيرُ والأخبار أنَّ الأصحاب قد التزموا بتدوين الحديث وكتابته عنهم (عليهم السلام)، وتجنَّبوا الكذَّابين والمتهمين والملعونين، وقد تشدَّدوا في ذلك حتى أنَّهم ربَّما تجاوزوا المقام، كما وقع لأحمد بن محمد بن عيسى مع أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ومع سُهيل بن زياد الآدمي، واستثناء محمد بن الحسن بن الوليد جملةً من الرواة، وعدُّوا جماعةً من الضعفاء، ونسبوا بعضَهم إلى الكذب والافتراء، وغير ذلك كثير.
ومن الظاهر البين أنَّه مع شهرةِ الأمر في بعض الكذَّابين والمفترين والملعونين فإنَّه لا يعتمد أحدٌ ممَّن اطلعَ على أحوالهم على رواياتهم، ولا يدونونها في أصولهم إلا مع اقترانها بما يُوجِب صحتها ويؤذِنُ بثبوتها كما صرَّح به الشيخ البهائي (رحمه الله)، وتدلُّ عليه مجموعةٌ من الشواهد في كتب أصحابنا المتقدمين، فالنظر في كتبهم والخوض في كتب الرجال يفيد الجزم بما مر ذكره.
محمود سهلان العكراوي
الخميس 24 من ذي الحجة 1444هـ
الموافق 13 يوليو 2023م
.............................................
ملخص مقدمات الحدائق الناضرة (2) المقدمة الثانية
المقدمة الثانية: صحةُ الأخبار في كتب المتقدِّمين، وتنويعُ الحديث:
معنى الخبر الصحيح:
صرَّح جملةٌ من المتأخرين أنَّ الأصل في تنويع الحديث الرباعي هو العلَّامة أو شيخه ابن طاووس (رحمهما الله)، أما المتقدمون فالصحيح عندهم ما اعتضد بما يوجب الاعتماد على القرائن والأمارات التي ذكرها الشيخ (رحمه الله) في كتاب العُدَّة.
وقد اتسع الخلاف بين المجتهدين من أصحابنا والأخباريين في جُملٍ عديدةٍ من مسائل الأصول، والحق الحقيق بالاتباع ما سلكه طائفةٌ من متأخري المتأخرين كالشيخ المجلسي (طاب ثراه) وطائفةٌ ممن أخذ عنه، من سلوك طريقٍ وسطًا بين القولين. ولما كان الشيخ يوسف البحراني (رحمه الله) يرى ذلك شرع في ذكر بعض الدلائل على ثبوت صحة تلك الأخبار عنده والوثوق بورودها عن المعصومين (صلوات الله عليهم).
ويظهر من كلمات بعض الأعلام كالشيخ البهائي والشيخ حسن صاحب المعالم (رحمهما الله) أنَّ السبب الداعي لتنويع الحديث الرباعي هو بُعدُ الزمن عن المتقدِّمين وخفاءُ القرائن الموجبة لصحة الأخبار عند المتقدِّمين. وبسبب التباس الأخبار غثِّها بسمينها لجأوا إلى هذا الاصطلاح الجديد، لكنَّ شيخنا صاحب الحدائق (رحمه الله) يرى بطلانه.
الوجوه والأدلة على ثبوت صحة الأخبار وبطلان الاصطلاح المُستحدَث في تنويع الحديث:
الأول: ما مر في المقدمة الأولى من أنَّ منشأ الاختلاف في أخبارنا هو التقية لا من دسِّ الأخبار المكذوبة، فلا تعود حاجةٌ لتنويع الحديث. على أنَّه لو كان السبب الداعي هو دسُّ الأحاديث المكذوبة فلا حاجة لهذا الاصطلاح أيضا، وينبغي امتثال أمر أهل البيت (عليهم السلام) بعرض ما يُشكُّ فيه من الأخبار على الكتاب والسنة.
الثاني: أنَّ الجرح والتعديل الذي بنوا عليه تنويع الأخبار إنما أخذوه من كلام القدماء، وكذلك الأخبار التي رُويت في أحوال الرواة من المدح والذم، وإذا اعتمدوا عليهم في مثل ذلك فلماذا لا يعتمدون عليهم في تصحيح ما صححوه من الأخبار واعتمدوه؟! وقد صرَّح جملةٌ من المتقدِّمين بصحة ما نقلوه في كتبهم، كما هو الحال في الكافي والفقيه وكتابي الشيخ وعُدَّته، فإنْ كانوا ثقاتًا عدولًا ففي الجميع.
ولا يقال إنَّ إخبارهم بصحة ما رووه في كتبهم يحتمل الحمل على الظن، لأنَّا نقول: إنَّ أصحاب الاصطلاح يصرِّحون بكون مفاد الأخبار عند المتقدِّمين هو القطع واليقين، بالإضافة إلى ما تضمنته عبارات المتقدِّمين مما هو صريحٌ في صحة الأخبار بمعنى القطع واليقين بثبوتها عن المعصومين (عليهم السلام).
الثالث: تصريح جملةٍ من العلماء الأعلام بصحة هذه الأخبار وثبوتها عن الأئمة الأبرار (عليهم السلام)، منهم من هم من أرباب هذا الاصطلاح.
من ذلك ما صرَّح به الشهيد الثاني (رحمه الله) في شرح الدراية حيث قال: "كان قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنَّفٍ سموها أصولًا فكان عليها اعتمادهم، [ثم] تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الأصول، ولخَّصها جماعةٌ في كتبٍ خاصةٍ تقريبًا على المتناول، وأحسن ما جُمِع منها: الكافي، والتهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه". [الشهيد الثاني، الرعاية في علم الدراية، ص72].
ومن ذلك ما صرَّح به الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني (رضوان الله عليهما) حيث قال في بحث الإجازة من العالم ما صورته: "أنَّ أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنما يظهر حيث لا يكون متعلقها معلومًا بالتواتر ونحوه ككتب أخبارنا، فإنَّها متواترةٌ إجمالا، والعلم بصحة مضامينها تفصيلًا يستفاد من قرائن الأحوال ولا مدخل للإجازة فيه غالبا". [الشيخ حسن، معالم الدين وملاذ المجتهدين، ص212].
ومن ذلك ما صرَّح به الشيخ البهائي (نوَّر الله مضجعه) في وجيزته حيث قال: "جميع أحاديثنا – إلا ما ندر – ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر (عليهم السلام) وهم ينتهون فيها إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله) ... إلى أنْ قال: وكان قد جمع قدماء محدثينا ما وصل إليهم من كلام أئمتنا (عليهم السلام) في أربعمائة كتابٍ تسمى الأصول، ثم تصدى جماعةٌ من المتأخرين (شكر الله سعيهم) لجمع تلك الكتب وترتيبها تقليلًا للانتشار وتسهيلًا على طالبي تلك الأخبار، فألفوا كتبًا مضبوطةً مهذبةً مشتملةً على الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة (عليهم السلام) كالكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار، ومدينة العلم، والخصال، والأمالي، وعيون الأخبار، وغيرها". [الشيخ البهائي، الوجيزة، 6-7].
ولا يذهب عليك أنَّ ارتكاز الشيخ صاحب الحدائق (رضوان الله عليه) على أنَّ ما في الأصول الأربعمائة مقطوعٌ بصدوره عنهم (عليهم السلام)، وأنَّ المجاميع الحديثية بالجملة تعتمد على هذه الأصول الأربعمائة.
أما ذهاب هذه الأصول فهو راجعٌ للاستغناء عنها بالمجاميع الحديثية.
وأما كلام المتقدِّمين كالمحمدين الثلاثة في كتبهم، وعلم الهدى، وغيرهم، فهو ظاهر البيان في هذا الشأن.
ثم أشار (رحمه الله) لطريقة أصحابنا الرواة في التعاطي مع المخالفين لنا في المذهب، لا سيَّما من كان من الشيعة ثم أنكر إمامة أحدِ الأئمة (عليهم السلام)، من اعتزالهم وعدم مجالستهم، وعدم الأخذ منهم إلا بما يُورث الاطمئنان، وما شابه من سلوكٍ اتخذوه، مما يُبين أنَّهم لا ينقلون أيَّ شيءٍ في أصولهم وكتبهم، وأنَّ أيَّ حديثٍ ينقله علماؤنا عن مثل أولئك فلا بدَّ أنْ يكون مبتنيًا على وجهٍ صحيحٍ لا يتطرق إليه القدح.
الرابع: لزوم فساد الشريعة وإبطال الدين، لأنَّ الاقتصار في العمل على الصحيح أو مع الحسن والموثق ورمي الضعيف بحسب اصطلاحهم يلزم منه ذلك، لأنَّ جُلَّ الأخبار من هذا القسم حتى في مثل الكافي. كما يتوجه -أيضًا- ما طعن به العامة من أنَّ جُلَّ أحاديث شريعتنا مكذوبةٌ مزورةٌ.
الخامس: أنَّ ما اعتمدوه من ذلك الاصطلاح غير منضبطِ القواعد والبنيان ولا مشيد الجوانب والأركان، وذلك لما يلي:
أولا: اعتمادهم في التمييز بين أسماء الرواة المشتركة على الأوصاف والألقاب والنسب والراوي والمروي عنه ونحوها، ولِمَ لا يجوز اشتراك هذه الأشياء؟ لا سيَّما مع كثرة من رووا عنهم (عليهم السلام)، وقد ذكروا أنَّ أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) خاصةً من الثقات كانوا أربعة آلاف رجل، فما بالك بمجموع كلِّ الرواة عنهم (عليهم السلام).
ثانيا: أنَّ مبنى تصحيح الحديث عندهم على نقل توثيق رجاله في أحد كتب المتقدِّمين، نظرًا إلى أنَّ نقلهم ذلك شهادةٌ منهم بالتوثيق، وهذا لا يمكن اعتماده، فأنت خبيرٌ بما بين مصنفي كتب الرجال وبين الرواة من مدةٍ متطاولةٍ، فكيف اطلعوا على أحوالهم الموجب للشهادة بالعدالة أو الفسق؟
ثم أخذ (رحمه الله) في مناقشة موضوع صحة هذه الشهادة من عدمها على نحو الاختصار، ولا أجد داعيًا لذكره هنا. وأضاف "هبْ أنَّا سلمنا الاكتفاء به في ذلك [الشهادة في العدالة والفسق]، فما الفرق بين هذا النقل في هذه الكتب وبين نقل أولئك -الأجلاء الذين هم أساطين المذهب- صحة كتبهم وأنَّها مأخوذةٌ عن الصادقين (عليهم السلام)؟ فيُعتمد عليهم في أحدهما دون الآخر". [الشيخ يوسف البحراني، الحدائق الناضرة، ج1، ص23].
ثالثا: مخالفتهم أنفسهم فيما قرَّروه من الاصطلاح من حكمهم بصحة أحاديثَ هي باصطلاحهم ضعيفة، كمراسيل ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى وغيرهما، زعمًا منهم أنَّ هؤلاء لا يرسلون إلا عن ثقة. وكذلك تصحيح جملةٍ من أحاديث مشايخ الإجازة ممن لم يُوثَّق في كتب الرجال، مثل أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، وأحمد بن محمد بن يحيى العطار، وابن أبي جِيد، وغيرهم، زعمًا منهم استغناء هؤلاء عن التوثيق.
رابعا: اضطراب كلامهم في الجرح والتعديل على وجهٍ لا يقبل الجمع والتأويل، فيخالف الواحد منهم نفسه. وترى أحدهم يقدِّم الجرح على التعديل، وغيره يقدِّم النجاشي على الشيخ، وآخر ينازعه ويطلب الدليل، وما إلى ذلك.
السادس: أنَّ أصحاب هذا الاصطلاح قد اتفقوا على أنَّ مورد التقسيم إلى الأنواع الأربعة إنما هو خبر الواحد العاري عن القرائن، وقد عرفتَ -كما صرَّح الفضلاء من علمائنا- أنَّ أخبار كتبنا المشهورة محفوفةٌ بالقرائن الدالة على صحتها، وحينئذٍ يظهر عدم وجود مورد التقسيم المذكور في أخبار هذه الكتب.
أضاف (رحمه الله) وجوهًا أخرى في حاشية الكتاب مما ذكره في كتاب المسائل. [الشيخ يوسف البحراني، الحدائق الناضرة، ج1، ص24].
تتمةٌ مهمة:
اشتهر بين أكثر متأخري الأصحاب (رضوان الله عليهم) قصرُ العمل بالأخبار على ما في هذه الكتب الأربعة المشهورة، زعمًا منهم أنَّ غيرها لم يبلغ من الضبط والانتقاد على وجهٍ يوجب الاعتماد على مثله. وقد عَلِمت مما تقدَّم في مثل كلام الشيخ البهائي (رحمه الله)، وغيره، عدم الانحصار في الكتب الأربعة المشار إليها، وهو الحق الحقيق بالاتباع، بل ذهب المحدث السيد نعمة الله الجزائري إلى أنَّ الكتب الأربعة لم تستوفِ الأحكام كلَّها، فلا غنى عن مراجعة غيرها كعيون أخبار الرضا والأمالي وكتاب الاحتجاج وغيرها.
ثم إنَّ الشيخ صاحب الحدائق (رحمه الله) أشار لعمل صاحب البحار (رحمه الله) وأثنى عليه، ثم قال: "وقد اعتمدنا في الاستدلال في كتابنا هذا على ما اعتمده شيخنا المذكور من الكتب المعدودة في كتابه". [الشيخ يوسف البحراني، الحدائق الناضرة، ج1، ص26].
محمود سهلان العكراوي
الاثنين 28 من ذي الحجة 1444هـ
الموافق 17 يوليو 2023م