شاء الله أن يراهن سبايا
دور المرأة في نهضة الحسين عليه السلام
الحلقة الأولى: التأصيل القرآني للنهضة الحسينية
نادر الملاح
1 محرم 1445 هـ، 20 يوليو 2023
من بين كلمات الإمام الحسين عليه السلام المشهورة في جوابه على السؤال حول سبب أخذه النساء معه في مسيره إلى أرض كربلاء رغم علمه بما يجري عليه من القتل والتنكيل، قوله: "شاء الله أن يراهن سبايا". وقد نقلت هذا القول عدة مصادر مُعتَبَرة، من بينها ما نقله العلامة المجلسي قدس سره الشريف في بحار الأنوار (ج44، ص364) نقلاً عن كتاب اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس رضوان الله تعالى عليه، حيث قال: "لما كان السَّحَر، ارتحل الحسين عليه السلام فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ بزمام ناقته وقد ركبها، فقال: يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال: بلى، قال: فما حداك على الخروج عاجلا؟! قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ما فارقتك فقال: يا حسين اخرج فإن الله قد شاء أن يراك قتيلاً، فقال محمد ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حَملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟! قال: فقال لي صلى الله عليه وآله: إن الله قد شاء أن يراهن سبايا".
قرأ البعض في هذا القول صورة التسليم المطلق من الحسين عليه السلام لمشيئة الله تعالى، وقرأ آخرون صورة الإخبار بالمُغيَّبات من الأمور تأكيداً على إمامته عليه السلام، وقرأ فريق ثالث صوراً سلبية فمنهم مثلاً من استدل بهذا القول على ما ادعوه من معارضة ابن الحنفية لخروج الحسين عليه السلام، ومنهم من رآه محاولة من الحسين لثني القوم عن قتله لِما هو سائدٌ من أعراف عند العرب بعدم التعرض للنساء، وغير ذلك من الأوهام التي تنم عن عجزٍ حقيقي في فهم السيرة وتحليلها أو جهل بالأحداث وعدم القدرة على ربط أجزائها وتفاصيلها، أو قصور في النظر بسبب النظرة الأحادية للأحداث، وكأن كل جزء منها منفصلٌ عن الآخر. ولو تأمل المتأمل في تلك المواقف والمشاهد بصورة شمولية، لأدرك أن كل تلك القراءات السلبية إنما هي محض أوهام لا تمت للواقع بصلة. فموقفٌ واحد فقط كفيل بنسف كل تلك القراءات، وهو موقف عقيلة بني هاشم سيدتنا ومولاتنا زينب الكبرى عليها وأبيها ونبينا الكريم وآله الطيبين الطاهرين أفضل الصلاة وأزكى السلام، حين قالت مخاطبةً يزيد بن معاوية عليهما اللعنة في مجلسه بكل صلابة وعنفوان: "أَظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ حِينَ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الْأَرْضِ، وَضَيَّقْتَ عَلَيْنَا آفَاقَ السَّمَاءِ، فَأَصْبَحْنَا لَكَ فِي إِسَارٍ، نُسَاقُ إِلَيْكَ سَوْقاً فِي قِطَارٍ، وَأَنْتَ عَلَيْنَا ذُو اقْتِدَارٍ، أَنَّ بِنَا مِنَ اللَّهِ هَوَاناً وَعَلَيْكَ مِنْهُ كَرَامَةً وَامْتِنَاناً؟! وَأَنَّ ذَلِكَ لِعِظَمِ خَطَرِكَ وَجَلَالَةِ قَدْرِكَ؟! فَشَمَخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ فِي عِطْفٍ، تَضْرِبُ أَصْدَرَيْكَ فَرِحاً وَتَنْفُضُ مِدْرَوَيْكَ مَرِحاً، حِينَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا لَكَ مُسْتَوْسِقَةً، وَالْأُمُورَ لَدَيْكَ مُتَّسِقَةً، وَحِينَ صَفِيَ لَكَ مُلْكُنَا، وَخَلَصَ لَكَ سُلْطَانُنَا. فَمَهْلًا مَهْلًا، لَا تَطِشْ جَهْلًا!!"، وليس حال تلك القراءات السلبية أقل جهلاً من جهل يزيد لعنة الله عليه، الذي قرأ في وقوف النسوة بين يديه انتصاراً، قبل أن يتبين له واقعاً أن مشيئة الله تعالى في سبي نساء بيت النبوة هي افتضاح أمره وتقويض مشروعه الذي رام بلوغه بقتل الحسين عليه السلام.
إن أي تغييرٍ رساليٍ إنما يتألف من مرحلتين أساسيتين، الأولى مرحلة التأسيس، والثانية مرحلة التعزيز. أما مرحلة التأسيس فهي مهمة الأنبياء والمرسلين، وفق ما أكدت عليه الكثير من الآيات القرآنية الكريمة، إذ أن الهدف الأسمى لكل نبي ومرسل من الله جل شأنه هو الدعوة إلى التوحيد، وهي أساس التغيير المجتمعي. قال تعالى "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ…" (النحل:36)، وقال في شأن عيسى عليه السلام: "مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ…" (المائدة:117)، وفي شأن نوحٍ عليه السلام: "أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ" (نوح:3)، وفي شأن صالح عليه السلام "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ…" (النمل:45)، وفي شأن هود عليه السلام: "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ" (الأعراف:65)، وهكذا هي الحال مع كل الأنبياء والمرسلين في دعوتهم للتوحيد "أن اعبدوا الله". أما الهدف الآخر من أهداف الرسل والأنبياء فهو التعليم وخلق الوعي. قال تعالى: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ" (البقرة:129)، وقال عز من قائل: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (آل عمران:164)، و"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (الجمعة:2)، وقال جل في علاه: "لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ" (الحاقة:12).
فمرحلة التأسيس إذن تقوم على أساس صناعة التغيير في المجتمع من خلال توجيه النفوس إلى توحيد الله تعالى ونبذ الشرك، وخلق الوعي والإدراك العقلي والقلبي بتزكية النفس وتعليمها. ويُورد لنا القرآن الكريم الكثير من قَصَص الأولين ليُثبِّت من خلال هذا القصص حقيقة عدم كفاية مرحلة التأسيس، حيث سرعان ما يَدُبُّ في الأمة الانحراف والتحريف الذي يسوق الأمة إلى الضلال والهلاك، ما يستلزم مرحلة لاحقةً بعد مضي الأنبياء والمرسلين يكون الهدف الأساس فيها هو تعزيز ما تحقق من تغيير في المرحلة السابقة، والحفاظ على استمرارية هذا التغيير وتجذيره في النفوس، واللاعبون في هذه المرحلة هم الأوصياء والأولياء والصالحون. قال تعالى: "…إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" (الرعد:7). قال صاحب الميزان في معرض تفسيره لهذه الآية الكريمة: "والآية تدل على أن الأرض لا تخلو من هاد يهدي الناس إلى الحق، إما نبيٌّ مُنذِر، وإما هادٍ غَيره يهدي بأمر الله".
من خلال هذا التأصيل القرآني لمرحلتي التأسيس والتعزيز في صناعة التغيير المجتمعي، يُمكن أن نفهم سبب تأكيد الحسين عليه السلام المتكرر على وصف نهضته بالإصلاح: "وأني لم أخرج أشراً ولا بطرا، ولا مفسداً ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله، أريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي…" (بحار الأنوار، ج44 ص329)، كما نفهم قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "حسين مني، وأنا من حسين" وهو حديث يُجمع على نقله وصحته كل المسلمين (كامل الزيارات ص52، المصنف لابن أبي شيبة، ح12244، صحيح الترمذي ح3775، وغيرها)، حيث يمثل الحسين عليه السلام الامتداد الرباني للرسالة المحمدية السامية.
ولأن هذه النهضة الحسينية الرسالية هي نهضة تغيير وتصحيح للانحراف عن الصراط السوي، كان لابد وأن تتخذ ذات المنهج الرباني في صناعة التغيير، لاسيما مع عِظَم حالة الانحراف والحاجة الماسة إلى التغيير الجذري، والتي وصفها عليه السلام بندائه: "ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، لِيرغب المؤمنُ في لقاء ربه حقاً حقا؟!" (صحيفة الحسين عليه السلام، الشيخ جواد القيومي، ص278). لذا، كان لزاماً أن يأخذ الحراك التصحيحي الذي نهض به الحسين عليه السلام ذات المنهجية والتركيب، فينطلق من التأسيس إلى التعزيز. ولما كانت مرحلة التأسيس تنتهي بقتل الحسين عليه السلام وجميع من ناصره من الرجال، كان لابد للمرأة أن تقود مرحلة التعزيز، وهذا ما كان بالفعل، حيث قلبت المرأة الحسينية معادلة الانتصار والهزيمة قلباً تاماً، فصيَّرت انتصارَ السيفِ هزيمة، والدَّمَ المُراقَ انتصاراً لاتزال أصداؤه وآثاره التصحيحية تفعل فعلها، متمردة على قيود الزمان والمكان.
ونظراً لأهمية دور المرأة في النهضة الحسينية المجيدة، كان من الأهمية بمكان أن يتم تسليط بعض الضوء على نماذج من هذا العطاء والتفاني، باعتبار الشراكة الحقيقية للمرأة الحسينية في حركة الإصلاح والتصحيح، وهو ما سنتناوله بإذن الله تعالى في حلقات هذه السلسلة العاشورائية: رسائل عاشوراء، سعياً لكسر الصورة النمطية التي اقتصرت في سردها لأحداث واقعة الطف على إيراد بعض الجوانب المحدودة أو المواقف العابرة لهذه النماذج المشرفة بما يقتضيه السرد القصصي غالباً، مُستحضرين في ذلك حَثَّ القرآن الكريم على الاقتداء بالنماذج النسوية المؤمنة، حيث قال عز من قائل: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ" (التحريم:11-12).
وحيث لا يتسع المقام لاستعراض سيرة جميع النساء اللائي حضرن أحداث واقعة الطف أو أولئك اللائي كان لهُنَّ دورٌ فيما قبل أو بعد أحداث كربلاء، فإن اقتصارنا على عرض بعض النماذج لا يُقلل من دور بقية النساء، سواءً من خلال المشاركة في صناعة الأحداث بما في ذلك الجهاد ومداواة الجرحى وشحذ همم الأنصار في أرض المعركة، أو قلب حالة السبي إلى حالة من التمرد على الظلم والطغيان بعد المعركة، أو في نقل مجريات الملحمة الحسينية، أو في إيصال النداء وإبراز القيم والمبادئ التي من أجلها نهض الحسين عليه السلام.
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وسلم وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.